الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: الرجل يدع رمي جمرة العقبة يوم النحر ثم يرميها بعد ذلك
ش: أي هذا باب في بيان حكم الرجل الذي يترك رمي جمرة العقبة بعد طلوع الشمس يوم النحر ثم يرميها بعد يوم النحر كيف يكون حكمه.
ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: حدثنى عمر بن قيس، عن عطاء، عن ابن عباس، أن رسول الله عليه السلام قال:"الراعي يرعى بالنهار ويرمي بالليل".
ش: يونس هو ابن عبد الأعلى شيخ مسلم أيضًا، وابن وهب هو عبد الله بن وهب المصري روى له الجماعة، وعمر بن قيس المكي المعروف بسندل فيه مقال، فعن أحمد: متروك الحديث ليس يسوى حديثه شيئًا، لم يكن حديثه بصحيح، أحاديثه بواطيل. وعن يحيى: ضعيف الحديث. وقال النسائي: متروك الحديث.
روى له ابن ماجه حديثين، أحدهما:"الحج واجب والعمرة تطوع"، والآخر:"وإذا أحدث في الصلاة فليأخذ بأنفه".
وعطاء هو ابن أبي رباح المكي.
وأخرجه البيهقي فى "سننه"(1) من حديث عبد الله بن وهب، أخبرني عمر بن قيس، عن عطاء، سمعت ابن عباس يقول: قال رسول الله عليه السلام: "الراعي يرمي بالليل ويرعى بالنهار".
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب أبو حنيفة رضي الله عنه إلى أن في هذا الحديث دلالة على أن الليل والنهار وقت واحد للرمي، فقال: إن ترك رجل رمي جمرة العقبة في يوم النحر، ثم رماها بعد ذلك في الليلة التي بعدها فلا شيء عليه، وان لم يرمها حتى أصبح من غد رَماها وعليه دم، لتأخيره إياها إلى خروج وقتها وهو طلوع الفجر من يومئذ، وخالفه في ذلك أبو يوسف ومحمد -رحمهما الله- فقالا: إذا ذكرها في شيء
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 151 رقم 9459).
من أيام الرمي رماها ولا شيء عليه غير ذلك من دم ولا غيره، وإن لم يذكرها حتى مضت أيام الرمي فذكرها لم يرمها وكان عليه في تركها دم.
ش: استدل أبو حنيفة بالحديث المذكور على أن الليل وقت للرمي كالنهار، فقال: لو رمى جمرة العقبة في الليلة التي بعدها يوم النحر جاز ولا شيء عليه، وإن أخرها من هذه الليلة حتى أصبح من اليوم الثاني رماها ولكن عليه دم لتأخيره إياها عن وقتها.
وقال أبو يوسف ومحمد: لا شيء عليه.
والخلاف يرجع في ذلك إلى أن الرمي مؤقت عند أبي حنيفة، وعندهما ليس بمؤقت، حتى لا يجب الدم عندهما إلَاّ بتأخيره عن أيام الرمي كلها، وبه قال الشافعي وأحمد وإسحاق، وذكر في شرح "الموطإ" للإِشبيلي، وقال الشافعي: من أخر أو نسي شيئًا من الرمي أيام منى قضى ذلك أيام منى، فإن مضت أيام منى ولم يرم أراق دمًا إن كان الذي ترك ثلاث حصيات، وإن كان أقل تصدق عن كل حصاة بِمُدٍّ، وقال الزهري وعطاء بن أبي رباح: من نسي أن يرمي نهارًا فليرم ليلاً، فإن مضت أيام منى أهراق دمًا، وقال عطاء: إذا غابت الشمس من آخر أيام التشريق فقد انقطع الرمي، وقد روي أن الرمي يفوت بطلوع الفجر في آخر أيام التشريق، وهي رواية شاذة، وقال عروة: من فاته الرمي بالنهار لم يرم ليلاً وأخره إلى الغد؛ لأنه لما أرخص النبي عليه السلام للرعاء في الرمي ليلاً دل على أن الرمي بالنهار أفضل.
وقال مالك: إن رمى جمرة العقبة بعد الغروب فأحبّ إلَّي أن يهريق دمًا، وإن أخرها إلى أيام التشريق كان عليه هدي، وسئل مالك عمن نسي رمي جمرة من الجمار في بعض أيام منى حتى يمسي قال: ليرم آية ساعة ذكر من ليلى أو نهار، كما يصلي الصلاة إذا نسيها، فإن كان ذلك بعذر بعدما صدر وهو بمكة، أو بعدما يخرج منها فعليه هدي، وفي "الأحكام" لابن بزيزة: رمي جمرة العقبة هل هو ركن أم لا؟ فيه قولان، والمشهور أن من حج ولم يرمها فحجه
صحيح ويؤمر بالرمي ما لم تفت أيام الرمي، والشاذ بطلان حجه، وبه يقول عبد الملك، وإذا ترك الرمي عند الجمرة الأولى والوسطى، فهل يعيد ما بعدها إذا أداها أو إنما يعد المتروك فقط؟ فيه قولان، والمشهور أن الترتيب غير واجب، وإذا ترك حصاة واحدة فهل يعيد الجمرة كلها أو يرمي حصاة واحدة فقط؟ فيه قولان في المذهب، والأقيس أن يعيد الحصاة وحدها، وقيل: يعيد الجمرة كلها، وفيه قول ثالث: أنه إذا تذكرها يوم الأداء أعاد الجمرة وحدها، وإن تذكرها يوم القضاء أعاد الجمرة من أصلها، وإذا ترك حصاة ولم يدر موضعها، فقيل: لا يعيد شيء، وقيل: يجعل الجميع عن واحدة، وقال أهل الظاهر: من ترك رمي الجمار فلا شيء عليه.
فإن قيل: كيف يستدل أبو حنيفة رحمه الله: بالحديث المذكور وهو ضعيف كما بيناه؟!.
قلت: روي الحديث المذكور من طرق متعددة عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهم فيشد ما ضعف منها بما قوى، فيصح الاحتجاج حينئذ.
وأخرج الطبراني في "الكبير"(1): ثنا معاذ بن المثنى، نا مسدد، نا خالد، عن عبد الرحمن بن إسحاق، عن إسحاق بن عبد الله بن أبي قرة، عن عطاء، عن ابن عباس:"أن رسول الله عليه السلام رخص للرعاء أن يرموا ليلاً".
وأخرج البيهقي في "سننه"(2): من حديث الصغاني، ثنا عبد الأعلى بن حماد، ثنا مسلم بن خالد، عن عبد الله، عن نافع، عن ابن عمر:"أن النبي عليه السلام رخص للرعاء أن يرموا بالليل".
قال الذهبي: مسلم ليّن.
(1)"المعجم الكبير"(11/ 166 رقم 11379).
(2)
"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 151 رقم 9461).
وقال مالك في "موطإه"(1): حدثني يحيى بن سعيد، عن عطاء بن أبي رباح، أنه سمعه يذكر "أنه أرخص للرعاء أن يرموا بالليل".
وقال الإِشبيلي في "شرحه": روى الحديث المذكور يحيى القطان، عن مالك بإسناده:"أنه عليه السلام رخص للرعاء في البيتوتة، يرمون يوم النحر واليومين اللذين بعده، يجمعونها في أحدهما".
وقال ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): ثنا ابن عيينة، عن ابن جريج، عن عطاء:"أن النبي عليه السلام رخص للرعاء أن يرموا ليلًا".
وثئا حماد (3) بن خالد، عن ابن أبي ذئب، عن عطاء:"أن عمر رضي الله عنه رخص للرعاء أن يبيتوا عن منى، قال: فذكرت ذلك [للزهري فقال] (4): الرعاء يرمون ليلاً ولا يبيتون".
وفي "الأحكام" لابن بزيزة: وقد صح أن رسول الله عليه السلام رخص لرعاة الإِبل أن يرموا ليلاً وأن يرموا من الغد.
ص: واحتج محمد بن الحسن في ذلك على أبي حنيفة بما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: أخبرني محمد بن أبي بكر، عن أبيه، عن أبي البداح، عن عاصم بن عدي:"أن النبي عليه السلام رخص للرعاء أن يتعاقبوا، وكانوا يرمون غدوة يوم النحر، ويدعون ليلة ويومًا، ثم يرموا في الغد".
ففي هذا الحديث أنهم كانوا يرمون غدوة يوم النحر، ثم يدعون يومًا وليلة ثم يرمون من الغد، فقد كانوا يرمون رمي اليوم الثاني في اليوم الثالث، ولم يكن ذلك بموجب عليهم دمًا، ولا بموجب أن حكم اليوم الثالث في الرمي لليوم الثاني
(1)"موطأ مالك"(1/ 409 رقم 920).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 271 رقم 14111).
(3)
"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 271 رقم 14112).
(4)
كذا في "الأصل، ك" وفي "المصنف": "لإبراهيم وللزهري فقالا".
خلاف حكم اليوم الرابع، ففي ذلك دليل أن من ترك رمي جمرة العقبة في يوم النحر فذكرها في شيء من أيام التشريق أن يرمي ولا شيء عليه.
ش: أي احتج محمد بن الحسن الشيباني على أبي حنيفة في قوله: "إذا أخر رمي جمرة العقبة حتى أصبح من غد اليوم الثاني من النحر رماها ولكن عليه دم" بحديث عاصم بن عدي، فإنه يخبر أن الرعاء كانوا يرمون غدوة يوم النحر، ثم يتركون يومًا وليلة ثم يرمون من الغد، فقد كان رميهم اليوم الثاني في اليوم الثالث ولم يكن ذلك يوجب عليهم دمًا، ففيه دليل على أن ترك رمي جمرة العقبة في يوم النحر فذكرها في شيء من أيام التشريق أن يرميها ولا شيء عليه.
ولقائل أن يقول: هذه رخصة للرعاء أن يجمعوا رمي يومين في يوم واحد، قدموا ذلك أو أخروه، وهذا يستلزم وجوب الدم في حق غيرهم إذا تركوا رمي جمرة العقبة إلى غد اليوم الثاني؛ لأن تأخير الرمي عن وقته بمنزلة تركه، ورمي جمرة العقبة يوم النحر نسك تام فكما أن تركه يوجب الدم، كذلك تأخيره عن وقته.
ثم إنه أخرج حديث عاصم بن عدي بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن عبد الملك بن جريج، عن محمد بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم بن زيد الأنصاري المدني قاضي المدينة أخي عبد الله بن أبي بكر، وكان إكبر من عبد الله، وثقه غير واحد، وروى له الشيخان وأبو داود وابن ماجه.
عن أبيه أبي بكر بن محمد الأنصاري المدني، يقال: إن اسمه أبو بكر وكنيته أبو محمد، ويقال: اسمه وكنيته واحد، روى له الجماعة.
عن أبي البداح -بفتح الباء الموحدة وتشديد الدال المهملة وفي آخره حاء مهملة- واسمه عدي بن عاصم بن عدي الأنصاري، ويقال: أبو البداح لقب عليه ويكنى أبا عمرو، وقال ابن سعد: كان ثقة. روى له الأربعة.
عن عاصم بن عدي بن الجدِّ بن العجلان القضاعي شهد أُحدًا ولم يشهد بدرًا، وكان رسول الله عليه السلام استعمله على أهل قباء وأهل العالية، وضرب له سهمه، فكان كمن شهدها، وأخرجه الأئمة الأربعة، وأخرجه البيهقي (1) بإسناد الطحاوي من حديث ابن جريح، ثنا محمد بن أبي بكر، عن أبيه، عن أبي البداح، عن عاصم بن عدي:"أن النبي عليه السلام رخص للرعاء أن يتعاقبوا فيرموا يوم النحر، ثم يدعوا يومًا وليلة، ثم يرموا الغد".
وقال أبو داود (2): ثنا ابن السرح، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني مالك، عن عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن أبي البداح بن عاصم، عن أبيه:"أن رسول الله عليه السلام أرخص لرعاء الإِبل في البيتوتة، يرمون [يوم] (3) النحر، ثم يرمون الغد ومن بعد الغد ليومين، ثم يرمون يوم النفر".
ثئا مسدد (4)، قال: نا سفيان، عن عبد الله بن أبي بكر ومحمد، عن أبيهما، عن أبي البداح بن عدي، عن أبيه:"أن النبي عليه السلام أرخص للرعاء أن يرموا يومًا ويدعوا يومًا".
وقال الترمذي (5): نا ابن أبي عمر، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن عبد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم، عن أبيه، عن أبي البداح بن عاصم [بن](6) عدي، عن أبيه:"أن النبي عليه السلام أرخص للرعاء أن يرموا يومًا ويدعوا يومًا".
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 150 رقم 9456).
(2)
"سنن أبي داود"(2/ 202 رقم 1975).
(3)
ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن أبي داود".
(4)
"سنن أبي داود"(2/ 202 رقم 1976).
(5)
"جامع الترمذي"(3/ 289 رقم 954).
(6)
في "الأصل، ك": "عن"، وهو خطأ، والمثبت من "جامع الترمذي".
قال أبو عيسى: هكذا رواه ابن عيينة، ورواه مالك (1): عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه، عن أبي البداح بن عاصم بن عدي، عن أبيه، ورواية مالك أصح.
وقال النسائي (2): أنا الحسن بن حريث ومحمد بن المثنى، عن سفيان، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه، عن أبي البداح بن عاصم بن عدي، عن أبيه:"أن النبي عليه السلام رخص للرعاء أن يرموا يومًا ويدعوا يومًا".
وأخرجه أيضًا (3) عن عمرو بن علي، عن يحيى، عن مالك
…
إلى آخره نحو رواية أبي داود.
وقال ابن ماجه (4): نا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا سفيان بن عيينة، عن عبد الله بن أبي بكر، عن عبد الملك بن أبي بكر، عن أبي البداح بن [عاصم](5)، عن أبيه:"أن النبي عليه السلام رخص للرعاء أن يرموا يومًا ويدعوا يومًا".
وأخرجه (6) عن محمد بن يحيى، عن عبد الرزاق، عن مالك أيضًا، وعن أحمد بن سنان، عن عبد الرحمن بن مهدي، عن مالك.
وأخرجه الحاكم في "مستدركه"(7): ثنا أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ، نا محمد بن عبد الوهاب بن حبيب، نا خالد بن مخلد، ثنا مالك بن أنس.
وأنا أبو عبد الله الصفار، نا إسماعيل بن إسحاق القاضي، ثنا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن عبد الله بن أبي بكر.
(1)"موطأ مالك"(1/ 408 رقم 919).
(2)
"المجتبى"(5/ 273 رقم 3068).
(3)
"المجتبى"(5/ 273 رقم 3069).
(4)
"سنن ابن ماجه"(2/ 1010 رقم 3036).
(5)
في "الأصل، ك": "عدي"، وهو سبق قلم من المؤلف، أو يكون سقط منه، أو يكون نسبه إلى جده، فأبو البداح هو عدي بن عاصم بن عدي كما تقدم مرارًا، والمثبت من "سنن ابن ماجه".
(6)
"سنن ابن ماجه"(2/ 1010 رقم 3037).
(7)
"المستدرك"(1/ 652 رقم 1758).
ونا أبو بكر بن إسحاق الفقية، نا بشر بن موسى، ثنا الحميدي، عن سفيان، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبيه، عن أبي البداح بن عدي، عن أبيه:"أن رسول الله عليه السلام رخص للرعاء أن يرموا يومًا ويدعوا يومًا".
هذا حديث صحيح الإِسناد، ولم يخرجاه.
وقال الترمذي أيضًا: هذا حديث حسن صحيح.
قوله: "للرعاء" بكسر الراء، جمع راعي الغنم، وقد يجمع على رُعاء بالضم.
قوله: "أن يتعاقبوا" أي بأن يتعاقبوا و"أن" مصدرية، والمعنى: رخص لهم بالتعاقب وهو التناوب بينهم في الرمي، وهو أن يرموا نوبة ويتركوه أخرى، وأصل التعقيب أن يعمل عمل ثم يعاد فيه.
قوله: "يدعون" أي يتركون.
قوله:"يرمون الغد وبعد الغد" في رواية أبي داود يعني الغد من يوم النحر.
قوله: "ثم يرمون يوم النفر" يحتمل أن يريد ثاني أيام منى، يريد النفر الأول، وأراد به تفسير أحد اليومن اللذين يرمي لهما، ويكون فائدة قوله:"ثم يرمون ليوم النفر" أنه لا يجوز أن يرمي لليوم الثاني حتى يكمل رمي الأول، ويحتمل أن يريد بقوله:"ثم يرمون يوم النفر" اليوم الثالث لمن لم يتعجل.
ص: ثم النظر في ذلك يشهد لهذا القول أيضًا، وذلك أنا رأينا أشياء تفعل في الحج الدهر كله، وقت لها منها السعي بين الصفا والمروة، وطواف الصدر ومنها أشياء تفعل في وقت خاص هو وقتها خاصة، منها رمي الجمار، وكان ما الدهر وقت له من هذه الأشياء متى فُعل فلا شيء على فاعله مع فعله إياه من دم ولا غيره، وما كان منها له وقت خاص من الدهر إذا لم يفعل في وقته وجب على تاركه الدم، وكان ما كان منها يفعل لبقاء وقته فلا شيء على فاعله غير فعله إياه، وما كان منها لا يفعل لعدم وقته وجب مكانه الدم، وكانت جمرة العقبة إذا
رُميت من غد يوم النحر قضاء عن رمي يوم النحر فقد رُميت في يوم هو من وقتها، ولولا ذلك لما أمر برميها كما لا يؤمر تاركها إلى بعد انقضاء أيام التشريق برميها بعد ذلك، فلما كان اليوم الثاني من أيام النحر هو وقت لها، وقد ذكرنا ما قد أجمعوا عليه أن ما فعل في وقته من أمور الحج فلا شيء على فاعله، كان كذلك هذا الرامي لما رماها في وقتها فلا شيء عليه.
ش: أي ثم النظر وهو القياس "في ذلك" أي الخلاف المذكور "يشهد لهذا القول" أي قول محمد في أن من أخر رمي جمرة العقبة إلى غد اليوم الثاني أنه يرميها ولا شيء عليه.
قوله: "الدهر" مرفوع بالابتداء، وكله مرفوع لأنه تابع وخبره قوله:"وقت لها".
قوله: "منها السعي بين الصفا والمروة" أراد أنه ليس له وقت مخصوص، فأي وقت فعله جاز، ولكن أجمعوا أن السنة الخروج إلى الصفا عند انقضاء الطواف وركعتيه.
وفي "شرح الموطإ" للإِشبيلي: ومن طاف فلا ينصرف إلى بيته حتى يسعى إلا من ضرورة يخاف فواتها أو يتعذر المصير لها ويرجو بالخروج ذهابها كالخوف على المنزل، وكره الخروج للمرض لأنه لا يذهب بالخروج، فإن فعل، فروي عن محمد عن مالك يبتدئ طوافه، والظاهر من المذهب أنه إن لم يبتد حين رجع فعليه دم.
قلت: فهم من هذا أن السعي بين الصفا والمروة له وقت مخصوص عند مالك، ألا ترى كيف أوجب الدم إذا لم يبتدئه عقيب الطواف من غير ضرورة، ونوقش في كلام الطحاوي من وجه آخر، وهو أنه يفهم من كلامه أنه إذا سعى بين الصفا والمروة قبل طوافه بالبيت ينبغي أن يعتد به، لأنه ليس له وقت مخصوص، مع أنهم قالوا: لا يعتد به ويعيد بعد طوافه.
قال أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا عبد الرحمن بن مهدي، عن سفيان، عن ابن جريج، عن عطاء "في رجل بدأ بالصفا والمروة قبل البيت، قال: يعيد".
قلت: هذا ليس بشيء؛ لأن ما ذكره من أن السعي بين الصفا والمروة ليس له وقت مخصوص معناه بعد حلول ابتداء أوانه لا يكون له وقت مخصوص بيوم، وأوان ابتدائه عقيب الطواف بالبيت، ثم بعد ذلك أي وقت كان يسعى فيه بينهما ولا يعين له وقت معلوم، على أنه إذا قدّم السعي على الطواف ثم بعد ذلك أي وقت كان يسعى فيه بينهما أمسى عليه، قالوا: قد قضى ما عليه ولا شيء عليه.
قال ابن أبي شيبة (2): حدثنا محمد بن جعفر، عن أشعث، عن الحسن قال:"لا يعتد بالسعي بين الصفا والمروة قبل الطواف بالبيت، يطوف بالبيت ثم يطوف بين الصفا والمروة، فإن لم يفعل حتى يمسي قال: قد قضى ما عليه ولا شيء عليه".
قوله: "وكان ما الدهر" أي وكان الشيء الذي الدهر وقت له.
ص: فإن قال قائل: إنما أوجبنا عليه الدم بتركه رميها يوم النحر وفي الليلة التي بعده للإِساءة التي كانت منه في ذلك.
قيل له: فقد رأينا تارك طواف الصدر حتى يرجع إلى أهله وتارك السعي بين الصفا والمروة حتى يرجع إلى أهله مسيئين، وأنت تقول إنهما إذا رجعا ففعلا ما تركا من ذلك أن إساءتهما لا توجب عليهما دمًا، لأنهما قد فعلا ما فعلا من ذلك في وقته، فكذلك الرامي في اليوم الثاني من أيام منى جمرة العقبة، لما كان وجب عليه في يوم النحر يكون راميًا لها في وقتها، فلا
(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 251 رقم 13928).
(2)
"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 251 رقم 13927).
شيء عليه في ذلك غير رميها، هذا هو النظر في هذا الباب، وهو قول أبي يوسف ومحمد رحمهم الله.
ش: هذا السؤال وجوابه ظاهران، ولقائل أن يقول: كان ينبغي أن يجب الدم لتأخيره، وإن كان قد أتى به كما في الصلاة إذا أخر شيئًا من واجباتها فإن سجدة السهو لا تسقط عنه وإن كان يأتي بما يتركه.
قوله: "مسيئين" بالنصب لأنه مفعول ثان لرأينا، وهو تثنية مسيء، لأنه في الحقيقة خبر عن اثنين وهما قوله:"تارك طواف الصدر"، وقوله:"تارك السعي".
قوله: "لما كان وجب عليه" بلام التعليل و"ما" مصدرية، أي لأجل كون وجوب الرمي عليه في يوم النحر، فافهم.
***