المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: من قدم من حجه نسكا قبل نسك - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ١٠

[بدر الدين العيني]

فهرس الكتاب

- ‌ص: باب: الجمع بين الصلاتين كيف هو

- ‌ص: باب: وقت رمي جمرة العقبة للضعفاء الذين يرخص لهم في ترك الوقوف بمزدلفة

- ‌ص: باب: رمي جمرة العقبة ليلة النحر قبل طلوع الفجر

- ‌ص: باب: الرجل يدع رمي جمرة العقبة يوم النحر ثم يرميها بعد ذلك

- ‌ص: باب: التلبية متى يقطعها الحاج

- ‌ص: باب: اللباس والطيب متى يحلان للمحرم

- ‌ص: باب: المرأة تحيض بعدما طافت للزيارة قبل أن تطوف للصدر

- ‌ص: باب: من قدم من حجه نسكًا قبل نسك

- ‌ص: باب: المكيّ يريد العمرة من أين ينبغي له أن يحرم

- ‌ص: باب: الهدي يصد عن الحرم هل ينبغي أن يذبح في غير الحرم

- ‌ص: باب: المتمتع الذي لا يجد هديًا ولا يصوم في العشر

- ‌ص: باب: حكم المحصر بالحج

- ‌ص: باب: حج الصغير

- ‌ص: باب: دخول الحرم هل يصلح بغير إحرام

- ‌ص: باب: الرجل يوجه بالهدي إلى مكة ويقيم في أهله هل يتجرد إذا قلد الهدي

- ‌ص: باب: نكاح المحرم

- ‌ص: كتاب النكاح

- ‌ص: باب: بيان ما نهى عنه من سوم الرجل على سوم أخيه وخطبته على خطبة أخيه

- ‌ص: باب: نكاح المتعة

- ‌ص: باب: مقدار ما يقيم الرجل عند الثيب أو البكر إذا تزوجها

- ‌ص: باب: العزل

- ‌ص: باب: الحائض ما يحل لزوجها منها

- ‌ص: باب: وطء النساء في أدبارهنَّ

- ‌ص: باب: وطء الحُبالى

- ‌ص: باب: انتهاب ما ينثر على القوم مما يفعله الناس في النكاح

الفصل: ‌ص: باب: من قدم من حجه نسكا قبل نسك

‌ص: باب: من قدم من حجه نسكًا قبل نسك

ش: أي هذا باب في بيان حكم من يقدم في حجه نسكًا على نُسُك، والنُسُك بضمتين، والنُّسيكة أمر من أمور الحج، وأمور الحج كلها تسمى مناسك، وقد استوفينا الكلام فيه في أول كتاب الحج.

ص: حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو أحمد، قال: ثنا سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري، عن عبد الرحمن بن الحارث بن أبي ربيعة، عن زيد بن علي، عن أبيه، عن عُبيد الله بن أبي رافع، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال:"أتى رسول الله عليه السلام رجل فقال: يا رسول الله، إني أفضت قبل أن أحلق، فقال: احلق ولا حرج، قال: وجاءه آخر وقال: يا رسول الله، إني ذبحت قبل أن أرمي، قال: أرم ولا حرج".

ش: إسناده صحيح، وأبو بكرة بكار القاضي، وأبو أحمد محمد بن عبد الله ابن الزبير الزبيري الأسدي الكوفي روى له الجماعة، وعبد الرحمن بن الحارث ابن عبد الله بن عباس بن أبي ربيعة -واسمه عمرو- بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم القرشي المخزومي أبو الحارث المدني، وثقه ابن حبان، وعن يحيى: صالح. وروى له الأربعة، وزيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وثقه بن حبان وقال: رأى جماعة من الصحابة، وروى له الأربعة النسائي في "مسند علي" رضي الله عنه.

وأبوه علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب روى له الجماعة، وعُبيد الله بن أبي رافع المدني مولى النبي عليه السلام روى له الجماعة، واسم أبي رافع إبراهيم أو أسلم أو هرمز أو ثابت.

وأخرجه عبد الله بن أحمد في "مسنده"(1) مطولاً: حدثني أحمد بن عبدة البصري، نا المغيرة بن عبد الرحمن بن الحارث المخزومي، حدثني أبي: عبد الرحمن بن

(1)"مسند أحمد"(1/ 76 رقم 564).

ص: 135

الحارث، عن زيد بن علي بن حسين بن علي، عن أبيه علي بن حسين بن علي، عن عبيد الله بن أبي رافع مولى رسول الله عليه السلام، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه:"أن النبي عليه السلام وقف بعرفة وهو مردف أسامة بن زيد فقال: هذا الموقف، وكل عرفة موقف، ثم دفع يسير العَنَق، وجعل الناس يضربون يمينًا وشمالًا وهو يلتفت ويقول: أيها الناس، السكينة السكينة، أيها الناس، حتى جاز المزدلفة، وجمع بين الصلاتين، ثم وقف بالمزدلفة، ثم وقف على قزح وأردف الفضل بن عباس رضي الله عنهما وقال: هذا الموقف وكل مزدلفة موقف، ودفع وجعل يسير العَنَق، والناس يضربون يمينًا وشمالًا وهو يلتفت ويقول: السكينة السكينة أيها الناس، حتى جاء مُحَسِّرَ يقرع راحلته فخبب حتى خرج، ثم عاد لسيره الأول حتى رمى الجمرة، ثم جاء المنحر، فقال: هذا المنحر وكل منى منحر، ثم جاءته امرأة شابة من خثعم، فقالت: إن أبي كبير قد أفند، وقد أدركته فريضة الله تعالى في الحج ولا يستطيع أداءها (فيجزؤها) (1) عنه أن أؤديها عنه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: نعم، وجعل يصرف وجه الفضل بن عباس عنها، ثم أتاه رجل فقال: إني رميت الجمرة وأفضت ولبست ولم أحلق، قال: فلا حرج فاحلق، ثم أتاه رجل آخر فقال: إني رميت وحلقت ونسيت ولم أنحر، فقال: لا حرج فانحر، ثم أفاض رسول الله عليه السلام فدعا بسجل من ماء زمزم فشرب منه وتوضأ، ثم قال: يا بني عبد المطلب، انزعوا فلولا أن تغلبوا عليها لنزعت، قال العباس: يا رسول الله إني رأيتك تصرف وجه ابن عمك! فقال: إني رأيت غلامًا شابًا وجارية شابة؛ فخشيت عليهما الشيطان".

قوله: "إني أفضت قبل أن أحلق" أي إني ذهبت إلي مكة لطواف الإِفاضة قبل أن أحلق رأسي، فقال عليه السلام: احلق ولا حرج -أو ولا إثم وخطيئة- عليك في تقديمك الإِفاضة على الحلق، واستدل أبو يوسف ومحمد به أن الحلق لا يختص بزمان، حتى لو أخر الحلق عن طواف الزيارة لا يجب عليه شيء، ولا يختص بالمكان

(1) كذا في "الأصل، ك"، وفي "مسند أحمد":"فيجزئ".

ص: 136

أيضًا عند أبي يوسف، حتى لو حلق خارج الحرم لا شيء عليه، وقال زفر: يختص بالزمان لا بالمكان، وقال أبو حنيفة: يختص بهما جميعًا.

واستدل زفر بما روي أنه عليه السلام حلق عام الحديبية وأمر أصحابه بالحلق، وحديبية من الحل فلو اختص الحلق بالمكان وهو الحرم لما جاز في غيره.

والجواب أن الحديبية بعضها في الحل وبعضها في الحرم، فيحتمل أنهم حلقوا بالحرم فلا يكون حجة مع الاحتمال، مع أنه روي أنه عليه السلام كان نزل بالحديبية بالحل وكان يصلي في الحرم، فالظاهر أنه لم يحلق في الحل وله سبل الحلق في الحرم.

وأما الجواب عما احتج به أبو يوسف ومحمد فنقول بموجبه: إنه لا حرج عليه بظاهر الحديث وهو الإِثم، ولكن انتفاء الإِثم لا يوجب انتفاء الكفارة، كما في كفارة الحلق عند الأذى، وكفارة قتل الخطأ.

وقال أبو عمر: اختلف في من قدم نسكًا على نسك أو آخره مما يصنعه الحاج يوم النحر خاصة، فأما اختلافهم فيمن حلق قبل أن يرمي، فإن مالكًا وأصحابه اختلفوا في إيجاب الفدية، وروي عن ابن عباس "أنه من قدم شيئًا أو أخر فعليه دم" ولا يصح ذلك عنه.

وعن إبراهيم وجابر بن زيد مثل قول مالك في إيجاب الفدية على من حلق قبل أن يرمي، وهو قول الكوفيين.

وقال الشافعي وأبو ثور وأحمد وإسحاق والطبري وداود: لا شيء على من حلق قبل أن يرمي، ولا على من قدم شيئًا أو أخره ساهيًا مما يفعل يوم النحر.

وعن الحسن وطاوس: لا شيء على من حلق قبل أن يرمي، مثل قول الشافعي ومن تابعه.

وعن عطاء بن أبي رباح: من قدم نسكًا قبل نسك فلا حرج، وروي ذلك عن سعيد بن جبير وطاوس ومجاهد وعكرمة وقتادة.

ص: 137

وذكر ابن المنذر عن الشافعي: من حلق قبل أن يرمي أن عليه دمًا، وزعم أن ذلك حفظه عن الشافعي، وهو خطأ عن الشافعي، والمشهور من مذهبه: أنه لا شيء على من قدم أو أخر شيئًا من أعمال الحج كلها إذا كان ساهيًا.

وأما اختلافهم فيمن حلق قبل أن يذبح، فجمهور العلماء على أنه لا شيء عليه كذلك، قال عطاء وطاوس وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد والحسن وقتادة، وهو قول مالك والأوزاعي والثوري والشافعي وأبي ثور وأحمد وإسحاق وداود ومحمد ابن جرير، وقال إبراهيم: من حلق قبل أن يذبح اهراق دمًا. وقال أبو الشعثاء: عليه الفداء. وقال أبو حنيفة عليه دم، وإن كان قارنًا فدمان، وقال زفر: على القارن إذا حلق قبل أن ينحر ثلاثة دماء: دم للقران، ودمان للحلق قبل النحر، وقال أبو عمر: لا أعلم خلافًا فيمن نحو قبل أن يرمي أنه لا شيء عليه، قال: واختلفوا فيمن أفاض قبل أن يحلق بعد الرمي، فكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول يرجع فيحلق أو يقصر، ثم يرجع إلى البيت فيفيض، وقال عطاء ومالك والشافعي وسائر الفقهاء: تجزئه الإِفاضة، ويحلق أو يقصر ولا شيء عليه، وفي "شرح الموطأ" للإِشبيلي: وقال ابن عبد الحكم عن مالك فيمن طاف للإِفاضة قبل أن يرمي يوم النحر: إنه يرمي ثم يحلق ثم يعيد الطواف، قال: ومن رمى ثم طاف قبل الحلاق حلق وأعاد الطواف، وقال الشافعي: وإن طاف الإِفاضة قبل الرمي أجزأه، وقال الأوزاعي: إن أصاب أهله اهراق دمًا.

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: ففي هذا الحديث: أن رسول الله عليه السلام سئل عن الطواف قبل الحلق، فقال: احلق ولا حرج، فاحتمل أن يكون ذلك إباحة منه للطواف قبل الحلق، وتوسعة منه في ذلك، فجعل للحاج أن يقدم ما شاء من هذين على صاحبه، وفيه أيضًا: أن آخر جاءه فقال: إني ذبحت قبل [أن](1) أرمي، فقال: ارم ولا حرج، فذلك أيضًا يحتمل ما ذكرنا في جوابه في السؤال الأول.

(1) ليس في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ص: 138

ش: أي ففي حديث علي رضي الله عنه المذكور: أن رسول الله عليه السلام، بيانه أن هذا له احتمالان: أحدهما: أنه يحتمل أن يكون عليه السلام أباح ذلك توسعة وترفيها في حقه، فيكون للحاج أن يقدم ما شاء من الإِفاضة والحلق، فإن شاء أفاض ثم حلق، وإن شاء حلق ثم أفاض، وكذلك التخيير بين الذبح والرمي.

والآخر: يحتمل أن يكون قوله عليه السلام: "إلا حرج" معناه: لا إثم عليكم فيما فعلتموه من هذا؛ لأنكم فعلتموه على الجهل منكم به، لا على القصد منكم خلاف السنة وكانت السنة خلاف هذا، وقد دلت على هذين الاحتمالين أحاديث كثيرة، على كل واحد منهما أحاديث مصرحة في هذا الباب على ما تقف عليه إن شاء الله، فلما احتمل الكلام هذين الاحتمالين نظريًّا، فوجدنا الحكم على الاحتمال الثاني وهو أنه عليه السلام أسقط عنهم الحرج وأعذرهم لأجل النسيان وعدم العلم، لا أنه أباح لهم ذلك حتى إن لهم أن يفعلوا ذلك في العمد، والدليل على ذلك ما رواه أبو سعيد الخدري قال:"سئل رسول الله عليه السلام وهو بين الجمرتين عن رجل حلق قبل أن يرمي، قال: لا حرج، وعن رجل ذبح قبل أن يرمي، قال: لا حرج، ثم قال: عباد الله، وضع الله عز وجل الحرج والضيق، وتعلموا مناسككم فإنها من دينكم".

فدل ذلك أن الحرج الذي رفعه الله عنهم إنما كان لجهلهم بأمر المناسك لا لغير ذلك، وذلك لأن السائلين عن ذلك كانوا ناسًا أعرابًا لا علم لهم بالمناسك، فأجابهم رسول الله عليه السلام بقوله:"لا حرج" يعني فيما فعلتم بالجهل، لا أنه أباح لهم ذلك فيما بعد، ألا ترى إلى ما روي عن ابن عباس أنه قال:"من قدم شيئًا من حجه أو أخره فليهرق لذلك دمًا" فثبت بذلك أن الذي رفع عنهم من الحرج كان لأجل جهلهم بأمور المناسك، وأنهم أمروا بعد ذلك بتعلم المناسك كما في حديث أبي سعيد، وأنه لا يباح بعد ذلك تقديم نسك يقتضي التأخير على نسك

ص: 139

يقتضي التقديم، وأن من فعل ذلك فعليه دم، هذا خلاصة ما ذكره الطحاوي في هذا الباب، والله أعلم.

ص: وقد روي عن ابن عباس، عن رسول الله عليه السلام من ذلك شيء:

حدثنا علي بن شبية، قال: ثنا يحيى بن يحيى، قال: ثنا هشيم، عن منصور، عن عطاء، عن ابن عباس:"أن رسول الله عليه السلام سئل عمن حلق قبل أن يذبح، أو ذبح قبل أن يحلق، فقال: لا حرج، لا حرج".

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا المعلى بن أسد، قال: ثنا وهيب، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، عن النبي عليه السلام:"أنه قيل له يوم النحر وهو بمنى، في النحر والحلق والرمي والتقديم والتأخير، فقال: لا حرج".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا حبان بن هلال، قال: ثنا وهيب بن خالد، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، قال:"ما سئل رسول الله عليه السلام يومئذ عمن قدم شيئًا قبل شيء إلا قال: لا حرج لا حرج فذلك يحتمل ما يحتمله الحديث الأول".

ش: هذه ثلاث طرق صحاح دالة على الاحتمال الأول الذي ذكرناه عن قريب.

الأول: عن علي بن شيبة، عن يحيى بن يحيى النيسابوري شيخ مسلم، عن هشيم بن بشير، عن منصور بن زاذان، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس.

وأخرجه البخاري (1): نا محمد بن عبد الله بن حوشب، ثنا هشيم، عن منصور، عن عطاء، عن ابن عباس:"سئل رسول الله عليه السلام عمن حلق قبل أن يذبح ونحوه، فقال: لا حرج لا حرج".

الثاني: عن محمد بن خزيمة، عن المعلى بن أسد العمي البصري شيخ البخاري، عن وهيب بن خالد، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه طاوس، عن عبد الله بن عباس.

(1)"صحيح البخاري"(2/ 615 رقم 1634).

ص: 140

وأخرجه مسلم (1): حدثني محمد بن حاتم، قال: نا بهز، قال: نا وهيب، قال: ثنا عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس:"أن النبي عليه السلام قيل له في الذبح والحلق والرمي والتقديم والتأخير، فقال: لا حرج".

الثالث: عن إبراهيم بن مرزوق، عن حبان -بفتح الحاء- بن هلال، عن وهيب بن خالد

إلى آخره.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): ثنا عفان، قال: ثنا وهيب، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس:"أن النبي عليه السلام سئل عن الرجل يذبح قبل أن يحلق، فقال: لا حرج".

وأخرجه أبو داود (3) من وجه آخر: ثنا نصر بن علي، قال: نا يزيد بن زريع، قال: أنا خالد، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي عليه السلام:"كان يسأل يوم منى، فيقول: لا حرج، فسأله رجل فقال: إني حلقت قبل أن أذبح، قال: اذبح ولا حرج، قال: إني أمسيت ولم أرم، قال: ارم ولا حرج".

وأخرجه النسائي (4) أيضًا نحوه.

قوله: "فذلك يحتمل ما يحتمله الحديث الأول" أي فذلك الحديث وهو حديث ابن عباس يحتمل ما يحتمل حديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأراد الاحتمال الأول من الاحتمالين اللذين ذكرناهما.

ص: وقد روي عن جابر بن عبد الله من ذلك شيء:

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن قيس، عن عطاء، عن جابر بن عبد الله: "أن رجلاً قال: يا رسول الله، ذبحت قبل أن

(1)"صحيح مسلم"(2/ 950 رقم 1307).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 364 رقم 14968).

(3)

"سنن أبي داود"(2/ 203 رقم 1983).

(4)

"المجتبى"(5/ 272 رقم 3067).

ص: 141

أرمي، قال: ارم ولا حرج، قال آخر: يا رسول الله، حلقت قبل أن أذبح، قال: اذبح ولا حرج، قال آخر: يا رسول الله، طفت بالبيت قبل أن أذبح، قال: اذبح ولا حرج".

فهلا أيضًا مثل ما قبله.

ش: أي قد روي عن جابر مما دل عليه حديث علي وابن عباس رضي الله عنهم شيء وهذا أيضًا مما يدل على الاحتمال الأول، وإليه أشار بقوله: فهذا أيضًا مثل ما قبل.

وإسناده صحيح، وحجاج هو ابن منهال شيخ البخاري، وحماد هو ابن سلمة، وقيس هو ابن سعد المكي، وعطاء هو ابن أبي رباح.

ورواه البخاري معلقًا (1) وقال: قال حماد بن سلمة، عن قيس بن سعد وعباد بن منصور عن عطاء عن جابر، عن النبي عليه السلام.

وطريق عباد بن منصور أخرجه الإِسماعيلي في "صحيحه": عن القاسم، ثنا محمد بن إسحاق، قال: ثنا يحيى بن إسحاق، ثنا حماد بن سلمة، عن عباد بن منصور، عن عطاء، عن جابر:"أن النبي عليه السلام سئل عن رجل رمى قبل أن يحلق وحلق قبل أن يرمي وذبح قبل أن يحلق، فقال عليه السلام: افعل ولا حرج".

ص: وقد روي عن أسامة بن شريك، عن النبي عليه السلام من ذلك شيء:

حدثنا أحمد بن الحسن -هو ابن القاسم- الكوفي، قال: ثنا أسباط بن محمد، قال: ثنا أبو إسحاق الشيباني، عن زياد بن علاقة، عن أسامة بن شريك رضي الله عنه قال:"حججنا مع رسول الله عليه السلام، فسئل عمن حلق قبل أن يذبح أو يذبح قبل أن يحلق، فقال: لا حرج، لا حرج، فلما أكثروا عليه قال: أيها الناس قد رفع الحرج إلَاّ من اقترض من أخيه شيئًا ظلمًا فذلك الحرج".

فهذا أيضًا مثل ما قبله.

(1)"صحيح البخاري"(2/ 615 رقم 1635).

ص: 142

ش: أي وقد روي عن أسامة بن شريك التغلبي رضي الله عنه مما دل عليه معنى الأحاديث المذكورة شيء، وهذا أيضًا مما يدل على الاحتمال الأول، وإليه أشار بقوله:"فهذا أيضًا مثل ما قبله".

وإسناده صحيح، وأبو إسحاق الشيباني اسمه سليمان بن أبي سليمان فيروز الكوفي.

وأخرجه الطبراني في "الكبير"(1): ثنا عُبيد بن غنام، ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا أسباط بن محمد (ح).

وثنا الحسين بن إسحاق التستري، ثنا عثمان بن أبي شيبة، ثنا جرير، كلاهما عن الشيباني، عن زياد بن علاقة، عن أسامة بن شريك:"قال: خرجت مع النبي عليه السلام حاجًّا فكان الناس يأتون، فقال قائل: يا رسول الله، سعيت قبل أن أطوف -أو أخرت شيئًا أو قدمت شيئًا- فكان يقول لهم: لا حرج إلَاّ على رجل اقترض من عرض رجل مسلم وهو ظالم فذلك الذي حرج وهلك".

قوله: "إلَّا من اقترض من أخيه شيئًا ظلمًا" وهَا هنا روايات: في رواية: "من اقترض من أخيه مظلومًا" وفي أخرى: "إلَاّ على رجل اقترض من عرض رجل" وفي رواية: "اقترض عرض رجل" وفي رواية: "وضع الحرج إلَاّ امرءًا اقترض أمرءًا مسلمًا" وفي رواية: "إلَاّ من اقترض مسلمًا ظلمًا" وفي رواية: "من اقترض من عرض أخيه شيئًا" وفي رواية: "إلَاّ من اقترض من أخيه عرضًا" والكل يرجع إلى معنى واحد، وهو أن ينال منه وقطعه بالغيب، وهو افتعال من القرض وهو القطع، ومنه سمي المقراض؛ لأنه يقطع، وقرض الفأر: قطعه، ويروى بالفاء والضاد المعجمة من "الفرض" وهو القطع أيضًا، لأن أصل الفرض: القطع، ومنه المفرض وهي الحديدة التي بجز بها، ويروى بالفاء والصاد المهملة من "الفرص" وهو القطع أيضًا، ومنه "المفراص" وهو

(1)"المعجم الكبير"(1/ 181 رقم 472).

ص: 143

الذي تقطع به الفضة، قال الجوهري: الفَرْص بالفتح: القطع، والمفرص والمفراص الذي تقطع به الفضة.

ص: وقد يحتمل أيضًا أن يكون قوله: "لا حرج" هو على الإِثم، أي لا حرج عليكم فيما فعلتموه في هذا، لأنكم فعلتموه على الجهل منكم به لا على التعمد بخلاف السنة، فلا حرج عليكم في ذلك.

ش: هذا هو الاحتمال الثاني الذي ذكرناه وهو ظاهر.

ص: وقد روي ذلك مبينًا مشروحًا عن رسول الله عليه السلام.

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو ثابت محمد بن عُبيد الله، قال: ثنا عبد العزيز ابن محمد، أراه عن عبد الرحمن بن الحارث، عن زيد بن علي بن حسين بن علي، عن ابن عبيد الله بن أبي رافع، عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه:"أن رسول الله عليه السلام سأله رجل في حجته فقال: أني رميت وأفضت ونسيت ولم أحلق، قال فاحلق ولا حرج، ثم جاء رجل آخر فقال: إني رميت وحلقت ونسيت أن أنحر، فقال: انحر ولا حرج".

ش: إسناده صحيح، أي قد روي معنى الاحتمال الثاني ظاهرًا صريحًا في الحديث، وذلك لأن السائل في هذا الحديث قيّد ما فعله من الأمور بالنسيان، فقال له رسول الله عليه السلام في جوابه:"لا حرج" لأنك ما تعمدته، ولا قصدت خلاف السنة وحديث عليّ قد ذكر في أول الباب من وجه آخر، وأبو ثابت شيخ البخاري، وعبد العزيز هو الدراوردي.

ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا ويونس حدثاه، عن ابن شهاب، عن عيسى بن طلحة بن عبيد الله، عن عبد الله بن عمرو أنه قال: "وقف رسول الله عليه السلام في حجة الوداع للناس يسألونه، فجاء رجل فقال: يا رسول الله، لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح، قال: اذبح ولا حرج، فجاءه آخر فقال: يا رسول الله

ص: 144

لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي، قال: ارم ولا حرج، قال: فما سئل رسول الله عليه السلام يومئذ عن شيء قُدِّم ولا أُخِّر إلَاّ قال: افعل ولا حرج".

حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن الزهري، عن عيسى بن طلحة، عن عبد الله بن عمرو قال:"سأل رجل رسول الله عليه السلام فقال: حلقت قبل أن أذبح، قال: اذبح ولا حرج، قال آخر: ذبحت قبل أن أرمي، قال: ارم ولا حرج".

ش: هذان طريقان صحيحان، رجالهما كلهم رجال الصحيح، يدلان على معنى الاحتمال الثاني أيضاً، لأن السائل قال فيه:"لم أشعر" أي لم أعلم، فأجاب عليه السلام بقوله:"لا حرج" لأنك ما علمته.

الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، ويونس ابن يزيد الأيلي، كلاهما عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري

إلى آخره.

وأخرجه البخاري (1): ثنا عبد الله بن يوسف، ثنا مالك، عن ابن شهاب، عن عيسى بن طلحة، عن عبد الله بن عمرو:"أن رسول الله عليه السلام وقف في حجة الوداع فجعلوا يسألونه، فقال رجل: لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح، فقال: اذبح ولا حرج، فجاء آخر فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي، قال: ارم ولا حرج، فما سئل يومئذ عن شيء قُدَّم ولا أُخِّر إلَاّ قال: افعل ولا حرج".

ومسلم (2): نا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن ابن شهاب

إلى آخره نحوه.

وقال أيضًا (2): حدثني حرملة بن يحيى، قال: أنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، قال: حدثني عيسى بن طلحة التيمي، أنه سمع عبد الله [بن] (3) عمرو بن العاص يقول: "وقف رسول الله عليه السلام على راحلته، فطفق ناس

(1)"صحيح البخاري"(2/ 618 رقم 1649).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 948 رقم 1306).

(3)

ليست في "الأصل، ك" والمثبت من "صحيح مسلم".

ص: 145

يسألونه، فيقول القائل منهم: يا رسول الله، إني لم أكن أشعر أن الرمي قبل النحر فنحرت قبل الرمي، فقال رسول الله عليه السلام: فارم فلا حرج، قال: وطفق آخر يقول: إني لم أشعر أن النحر قبل الحلق فحلقت قبل أن أنحر، فيقول: انحر ولا حرج، قال: فما سمعته سئل يومئذ عن أمر مما ينسى به المرء ويجهل من تقديم بعض الأمور قبل بعض وأشباهها إلَاّ قال: رسول الله عليه السلام: افعلوا ذلك ولا حرج.

وأبو داود (1): نا القعنبي، عن مالك، عن ابن شهاب

نحوه.

والترمذي (2): نا سعيد بن عبد الرحمن المخزومي وابن أبي عمر، قالا: ثنا سفيان ابن عُيينة، عن الزهري، عن عيسى بن طلحة، عن عبد الله بن عمرو:"أن رجلاً سأل رسول الله عليه السلام فقال: حلقت قبل أن أذبح، قال: اذبح ولا حرج، وسأله آخر فقال: نحرت قبل أن أرمي، قال: ارم ولا حرج".

وابن ماجه (3): ثنا علي بن محمد، قال: ثنا سفيان بن عُيينة، عن الزهري، عن عيسى بن طلحة .... إلى آخره نحوه.

الطريق الثاني: عن يونس أيضًا، عن سفيان بن عُيينة، عن محمد بن مسلم الزهري

إلى آخره.

ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني أسامة بن زيد، أن عطاء بن أبي رباح حدثه، أنه سمع جابر بن عبد الله يحدث عن رسول الله عليه السلام مثله، يعني: "أنه وقف للناس عام حجة الوداع يسألونه، فجاء رجل فقال: لم أشعر فنحرت قبل أن أرمي، قال: ارم ولا حرج، قال آخر: يا رسول الله، لم أشعر فحلقت قبل أن أذبح، قال: اذبح ولا حرج، قال: فما سئل رسول الله عليه السلام عن شيء قُدَّم ولا أُخِّر إلَاّ قال: افعل ولا حرج.

(1)"سنن أبي داود"(2/ 211 رقم 2014).

(2)

"جامع الترمذي"(3/ 258 رقم 916).

(3)

"سنن ابن ماجه"(2/ 1014 رقم 3051).

ص: 146

فدل ما ذكرنا على أنه عليه السلام أسقط الحرج عنهم في ذلك للنسيان؛ لا أنه أباح ذلك لهم حتى يكون لهم مباح أن يفعلوا ذلك في العمد.

ش: إسناده صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح.

وأخرجه البيهقي نحوه (1): من حديث أسامة بن زيد، عن عطاء، عن جابر: "أن رسول الله عليه السلام رمى، ثم جلس للناس، فجاء رجل فقال: حلقت قبل أن أنحر، فقال: لا حرج، ثم جآءه آخر فقال: حلقت قبل أن أرمي قال: لا حرج، فما سئل عن شيء إلَّا قال: لا حرج.

قوله: "فدل ما ذكرنا" أي من هذه الأحاديث الدالة على الاحتمال الثاني؛ أنه عليه السلام قد أسقط الحرج عنهم في ذلك لأجل النسيان وعدم الشعور، لا للأجل أن يكون لهم مباحًا يفعلون ذلك أيضًا في حال العمد.

ص: وقد روى أبو سعيد الخدري عن النبي عليه السلام ما يدل على ذلك أيضًا:

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا المقدمي، قال: ثنا عمر بن علي، عن الحجاج، عن عُبادة بن نسي، قال: حدثني أبو زُبيد قال: سمعت أبا سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "سئل رسول الله عليه السلام وهو بين الجمرتين عن رجل حلق قبل أن يرمي، قال: لا حرج، وعن رجل ذبح قبل أن يرمي، قال: لا حرج، ثم قال: عباد الله وضع الله عز وجل الحرج والضيق، وتعلموا مناسككم؛ فإنها من دينكم". أفلا تَرى أن أمرهم بتعلم مناسكهم لأنهم كانوا لا يحسنونها؟ فدل ذلك أن الحرج الذي رفعه الله عنهم هو لجهلهم بأمر مناسكهم لا لغير ذلك.

ش: أي قد روى أبو سعيد سعد بن مالك الخدري عن النبي عليه السلام ما يدل على المعنى الذي ذكرناه وَبَيَّنَ ذلك بقوله: "أفلا ترى أنه

إلى آخره".

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 143 رقم 9412).

ص: 147

وأخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمد بن أبي بكر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي البصري شيخ البخاري ومسلم، عن عمه عمر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدمي روى له الجماعة، عن الحجاج بن أرطاة النخعي، فيه لين، عن عبادة بن نُسي -بالضم في أولهما- وثقه العجلي والنسائي ويحيى، وروى له الأربعة، عن أبي زبيد.

ص: وقد روي في حديث أسامة بن شريك الذي ذكرناه فيما تقدم من هذا الباب ما يدل على هذا المعنى أيضًا.

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب وسعيد بن عامر، قالا: ثنا شعبة، عن زياد بن علاقة، عن أسامة بن شريك: "أن الأعراب سألوا رسول الله عليه السلام عن أشياء، ثم قالوا: هل علينا حرج في كذا، وهل علينا حرج في كذا؟ فقال رسول الله عليه السلام: إن الله تعالى قد رفع الحرج عن عباده؛ إلَاّ من اقترض من أخيه مظلومًا، فذلك الذي حرج وهلك.

أفلا ترى أن السائلين لرسول الله عليه السلام إنما كانوا أعرابًا لا علم لهم بمناسك الحج؟ فأجاجهم رسول الله عليه السلام بقوله: [لا حرج](1) لا على الإِباحة منه لهم التقديم في ذلك والتأخير فيما قدموا من ذلك وأخروا، ثم قال لهم ما قد ذكر أبو سعيد في حديثه "وتعلموا مناسككم".

ش: أخرج حديث أسامة فيما تقدم من هذا الباب عن أحمد بن الحسن، عن أسباط بن محمد، عن أبي إسحاق الشيباني، عن زياد بن علاقة، كما ذكرنا.

وها هنا أخرج عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير وسعيد بن عامر الضبعي، كلاهما عن شعبة، عن الحجاج، عن زياد بن علاقة

إلى آخره.

وهذا أيضًا إسناد صحيح.

(1) في "الأصل، ك": "لا على حرج"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ص: 148

وأخرجه أبو داود (1): نا عثمان بن أبي شيبة، قال: ثنا جرير، عن الشيباني، عن زياد بن علاقة، عن أسامة بن شريك قال:"خرجت مع النبي عليه السلام حاجًّا، فكان الناس يأتونه، فمن قائل: يا رسول الله، سعيت قبل أن أطوف، أو أخرت شيئاً، أو قدمت شيئًا، فكان يقول: لا حرج، لا حرج إلَاّ على رجل اقترض عرض رجل مسلم وهو ظالم، فذلك الذي حرج وهلك".

قوله: "حرج" بكسر الراء أي إثم.

قوله: "أفلا ترى

إلى آخره" ظاهر وقد أوضحناه فيما مضى.

ص: وقد جاء عن ابن عباس ما يدل على هذا المعنى أيضًا:

حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا يحيى بن يحيى، قال: ثنا أبو الأحوص، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"من قدم شيئًا من حجه أو أخره فليهرق لذلك دمًا".

حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا الخصيب، قال: ثنا وهيب، عن أيوب، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مثله.

فهذا ابن عباس يوجب على من قدم شيئًا من نسكه أو أخره دمًا، وهو أحد من روى عن النبي عليه السلام أنه ما سئل يومئذ عن شيء قدم ولا أخر من أمر الحج إلَاّ قال: لا حرج، فلم يكن معنى ذلك عنده [معنى الإِباحة في تقديم ما قدموا، ولا تأخير ما أخروا مما ذكرنا إذ كان يوجب في ذلك دمًا ولكن كان معنى ذلك عنده](2) على أن الذي فعلوه في حجة النبي عليه السلام كان على الجهل منهم بالحكم فيه، كيف هو؟ فعذرهم بجهلهم، وأمرهم في المستأنف أن يتعلموا مناسكهم.

ش: أي ثم قد جاء عن عبد الله بن عباس ما يدل على المعنى المذكور، وهو أن نفي الحرج عنهم إنما كان للنسيان والجهل، والدليل على ذلك: أن ابن عباس

(1)"سنن أبي داود"(2/ 211 رقم 2015).

(2)

ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ص: 149

قد أوجب الدم على من قدم ما كان حقه التأخير أو أخر ما كان حقه التقديم، والحال أنه أحد من روى عن النبي عليه السلام أنه ما سئل يومئذ عن شيء قدم ولا أخر من أمور الحج إلَاّ قال: لا حرج، ولو لم يعلم من النبي عليه السلام ما ذكرناه من المعنى لما أوجب دمًا على من قدم شيئًا في حجه أو أخره.

وأخرجه من طريقين صحيحين موقوفين:

الأول: عن علي بن شيبة، عن يحيى بن يحيى النيسابوري شيخ مسلم، عن أبي الأحوص سلام بن سليم الكوفي، عن إبراهيم بن مهاجر البجلي الكوفي، عن مجاهد، عن ابن عباس.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا سلام بن سليم، عن إبراهيم بن مهاجر

إلى آخره نحوه سواء.

الثاني: عن نصر بن مرزوق، عن الخصيب بن ناصح، عن وهيب بن خالد، عن أيوب السختياني، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.

أخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): عن جرير، عن منصور، عن سعيد بن جبير

إلى آخره نحوه.

ص: وتكلم الناس بعد هذا في القارن إذا حلق قبل أن يذبح، فقال أبو حنيفة: عليه دم. وقال: زفر عليه دمان. وقال أبو يوسف ومحمد: لا شيء عليه. واحتجا في ذلك بقول رسول الله عليه السلام للذين سألوه عن ذلك على ما قد روينا في الآثار المتقدمة وبجوابه لهم أن لا حرج عليهم في ذلك، وكان من الحجة عليهما لأبي حنيفة وزفر ما ذكرنا من شرح معاني هذه الآثار.

ش: قد بينا فيما مضى اختلاف العلماء من التابعين ومن بعدهم فيمن قدم نسكا على نسك في حجه، وإنما خص القارن بالذكر؛ لأن المفرد لا ذبح عليه،

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 363 رقم 14958).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 363 رقم 14959).

ص: 150

فلا يتأتى فيه الخلاف، غير أنه إذا تبرع بالذبح فالأفضل فيه أن يقدمه على الحلق متابعة للسنة.

فإن قلت: فلِمَ لم يذكر المتمتع مع أن حكمه مثل القارن في وجوب الذبح عليه؟

قلت: القارن يطلق على المتمتع من حيث إن كلا منهما جامع بين عبادتين،

وداخل في حرمتين، غير أنه يفرق بينهما في كيفية الصدر، ولأن المتمتع إذا قدم الحلق على الذبح يجب عليه دم واحد بلا خلاف بين أبي حنيفة وزفر.

قوله: "وكان من الحجة عليهما" أي على أبي يوسف ومحمد، وأراد بشرح معاني هذه الآثار: هو أن نفي الحرج لا ينافي وجوب الفدية، وقد حققناه فيما مضى.

ص: وحجة أخرى وهي: أن السائل لرسول الله عليه السلام لم يعلم هل كان قارنًا أو مفردًا أو متمتعًا؟ فإن كان مفردًا فأبو حنيفة وزفر لا ينكران أن يكون لا يجب عليه في ذلك دم؛ لأن ذلك [الذبح](1) الذي قدم عليه الحلق ذبح غير واجب، ولكن كان الأفضل له أن يقدم الذبح قبل الحلق، ولكنه إذا قدم الحلق أجزأه، ولا شيء عليه، وإن كان قارنًا أو متمتعًا فكان جواب النبي عليه السلام له في ذلك على ما ذكرنا، فقد ذكرنا عن ابن عباس في التقديم في الحج والتأخير أن فيه دمًا، وأن قول النبي عليه السلام "لا حرج" لا يدفع ذلك، فلما كان قول النبي عليه السلام في ذلك "لا حرج" لا ينفي عند ابن عباس وجوب الدم، كان كذلك أيضًا لا ينفيه عند أبي حنيفة وزفر، وكان القارن ذبحه ذبح واجب يحل به، فأردنا أن ننظر في الأشياء التي يحل بها [الحاج](2) إذا أخرها حتى يحل، كيف حكمها؟ فوجدنا الله تعالى قد قال:{وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (3) فكان المحصر يحلق بعد بلوغ الهدى محله فيحل بذلك، وإن حلق قبل بلوغه محله وجب عليه دم، هذا إجماع.

(1) في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

(2)

في "الأصل، ك": "الجماع"، وهو سبق قلم من المؤلف رحمه الله، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

(3)

سورة البقرة، آية:[196].

ص: 151

فكان النظر على ذلك أن يكون كذلك القارن إذا قدم الحلق قبل الذبح الذي يحل به أن يكون عليه دم؛ قياسًا ونظرًا على ما ذكرنا من ذلك، فبطل بهذا ما ذهب إليه أبو يوسف ومحمد، وثبت ما قال أبو حنيفة أو ما قال زفر.

ش: أي حُجة أخرى على أبي يوسف ومحمد في وجوب الدم على من قدم نسكًا أو آخره وهي

إلى آخره، ظاهر.

قوله: "ولكن الأفضل له" أي للمفرد أن يقدم الذبح متابعة للسنة.

قوله: "وإن قول النبي عليه السلام لا حرج لا يدفع ذلك" أي وجوب الدم؛ لما ذكرنا من عدم الملازمة بين نفي الحرج ووجوب الفدية.

قوله: "وكان القارن" كان هذه تامة.

وقوله: "ذبحه" مبتدأ، وخبره "ذبح واجب".

وقوله: "يحل به" صفة بعد صفة.

قوله: "فأردنا

إلى آخره" بيان وجه النظر والقياس في وجوب الدم، وهو ظاهر.

قوله: "هذا إجماع" أي وجوب الدم على المحصر الذي يحلق رأسه قبل بلوغ الهدى محله.

ص: فنظرنا في ذلك، فإذا هذا القارن قد حلق رأسه في وقتٍ الحلقُ عليه حرام، وهو في حرمة حجة وفي حرمة عمرة، وكان القارن ما أصاب في قرانه مما لو أصابه وهو في حجة أو في عمرة مفردة وجب عليه دم، فإذا أصابه وهو قارن وجب عليه دمان، فاحتمل أن يكون حلقه أيضًا قبل وقته يوجب عليه أيضًا دمين كما قال زفر، فنظرنا في ذلك، فوجدنا الأشياء التي توجب على القارن دمين فيما أصاب في قرانه هي الأشياء التي لو أصابها وهو في حرمة حجة أو في حرمة عمرة وجب عليه دم، فإذا أصابهما في حرمتهما وجب عليه دمان لجماع وما أشبهه، وكان حلقه قبل أن يذبح لم يحرم بسبب العمرة خاصة ولا بسبب الحجة خاصة إنما وجب عليه بسببهما

ص: 152

وبحرمة الجمع بينهما، لا بحرمة الحجة خاصة ولا بحرمة العمرة خاصة، فأردنا أن ننظر أي ننظر في حكم ما يجب بالجمع هل هو شيئان أو شيء واحد، فنظرنا في ذلك، فوجدنا الرجل إذا أحرم بحجة مفردة أو بعمرة مفردة لم يجب عليه شيء، وإذا جمعهما جميعًا وجب عليه لجمعه بينهما شيء لم يكن يجب عليه في إفراده كل واحدة منهما، فكان ذلك الشيء دمًا واحدًا، فالنظر على ذلك أن يكون كذلك الحلق قبل الذبح الذي منع منه الجمع بين العمرة والحج ولا تمتع منه واحدة منها لو كانت مفردة، أن يكون الذي يجب به فيه دم واحد، فيكون أصل ما يجب على القارن في انتهاكه الحرم في قرانه أن ينظر، فما كان من تلك الحرم يحرم بالحجة خاصة أو بالعمرة خاصة فإذا جمعتا جميعًا فتلك الحرمة محرمة بشيئين مختلفين، فيكون على من انتهكهما كفارتان.

وكل حرمة لا تحرمها الحجة على الانفراد ولا العمرة على الانفراد، إنما يحرمها الجمع بينهما، فإذا انتهكت فعلى الذي انتهكها دم واحد؛ لأنه انتهك حرمة حرمت عليه بسبب واحد وهو الجمع بينهما، فهذا هو النظر في هذا الباب، وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه وبه نأخذ.

ش: لما بين أن وجه النظر والقياس أيضًا اقتضى وجوب الدم على القارن إذا حلق قبل الذبح، وأنه دم واحد عند أبي حنيفة، ودمان عند زفر، شرع يبين أن وجه القياس أيضًا لا يقتضي إلَاّ وجوب دم واحد كما ذهب إليه أبو حنيفة، ولا يقتضي وجوب دمين كما ذهب إليه زفر، وهو ظاهر غني عن مزيد البيان، وحاصله أن نظر زفر في أنه أدخل نقصًا في حرمة الإِحرامين؛ فيجب عليه دمان، ونظر أبي حنيفة في أن السبب هو حرمة الجمع بين الحجة والعمرة فالسبب واحد فلا يجب إلَاّ دم واحد، وقد نقل أبو عمر بن عبد البر عن أبي حنيفة: أنه يجب عليه دمان، وعن زفر: أنه يجب عليه ثلاثة دماء كما قد ذكرناه فيما مضى، وهو غير صحيح، بل الصحيح الذي بَيَّنَهُ الطحاوي واختاره بقوله:"وبه نأخذ" أي بقول أبي حنيفة نأخذ.

ص: 153

قوله: "فإذا هذا القارن" أشار به إلى القارن الذي حلق قبل أن يذبح.

قوله: "في وقت" بالتنوين.

وقوله: "الحلق عليه حرام" جملة وقعت صفة للوقت، والتقدير: في وقتٍ فيه الحلق عليه حرام، والواو في قوله:"وهو في حجة" للحال.

قوله: "فأردنا أن ننظر في حكم ما يجب بالجمع

إلى آخره" إشارة إلى بيان الفرق في النظر والقياس بين ما إذا حلق القارن قبل الذبح حيث يجب دم واحد، وبين ما إذا جنى جناية حيث يجب عليه دمان؛ لأنه مذهب أبي حنيفة: أن كل ما يجب فيه على المفرد دم، فعلى القارن دمان، فليتدبر فإنه فرق دقيق، والله أعلم.

***

ص: 154