المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: دخول الحرم هل يصلح بغير إحرام - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ١٠

[بدر الدين العيني]

فهرس الكتاب

- ‌ص: باب: الجمع بين الصلاتين كيف هو

- ‌ص: باب: وقت رمي جمرة العقبة للضعفاء الذين يرخص لهم في ترك الوقوف بمزدلفة

- ‌ص: باب: رمي جمرة العقبة ليلة النحر قبل طلوع الفجر

- ‌ص: باب: الرجل يدع رمي جمرة العقبة يوم النحر ثم يرميها بعد ذلك

- ‌ص: باب: التلبية متى يقطعها الحاج

- ‌ص: باب: اللباس والطيب متى يحلان للمحرم

- ‌ص: باب: المرأة تحيض بعدما طافت للزيارة قبل أن تطوف للصدر

- ‌ص: باب: من قدم من حجه نسكًا قبل نسك

- ‌ص: باب: المكيّ يريد العمرة من أين ينبغي له أن يحرم

- ‌ص: باب: الهدي يصد عن الحرم هل ينبغي أن يذبح في غير الحرم

- ‌ص: باب: المتمتع الذي لا يجد هديًا ولا يصوم في العشر

- ‌ص: باب: حكم المحصر بالحج

- ‌ص: باب: حج الصغير

- ‌ص: باب: دخول الحرم هل يصلح بغير إحرام

- ‌ص: باب: الرجل يوجه بالهدي إلى مكة ويقيم في أهله هل يتجرد إذا قلد الهدي

- ‌ص: باب: نكاح المحرم

- ‌ص: كتاب النكاح

- ‌ص: باب: بيان ما نهى عنه من سوم الرجل على سوم أخيه وخطبته على خطبة أخيه

- ‌ص: باب: نكاح المتعة

- ‌ص: باب: مقدار ما يقيم الرجل عند الثيب أو البكر إذا تزوجها

- ‌ص: باب: العزل

- ‌ص: باب: الحائض ما يحل لزوجها منها

- ‌ص: باب: وطء النساء في أدبارهنَّ

- ‌ص: باب: وطء الحُبالى

- ‌ص: باب: انتهاب ما ينثر على القوم مما يفعله الناس في النكاح

الفصل: ‌ص: باب: دخول الحرم هل يصلح بغير إحرام

‌ص: باب: دخول الحرم هل يصلح بغير إحرام

ش: أي هذا باب في بيان دخول حرم مكة هل يجوز بغير إحرام؟ وقد ذكرنا مقدار حدود الحرم فيما قبل.

ص: حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا معلى بن منصور (ح).

وحدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: حدثنا على بن حكيم الأودي (ح).

وحدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن سعيد، قالوا: ثنا شريك، عن عمار الدهني، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه:"أن رسول الله عليه السلام دخل مكة يوم الفتح وعلى رأسه عمامة سوداء".

حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم (ح).

وحدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قالا: ثنا حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله، عن النبي عليه السلام مثله.

ش: هذه خمسة طرق صحاح:

الأول: عن علي بن معبد بن نوح المصري، عن معلى بن منصور الرازي شيخ البخاري في غير الصحيح وأحد أصحاب أبي حنيفة، عن شريك بن عبد الله النخعي، عن عمار بن معاوية الدهني الكوفي روى له الجماعة سوى البخاري، عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي عن جابر رضي الله عنه.

وأخرجه النسائي (1): أنا قتيبة، قال: نا معاوية بن عمار، قال: حدثني أبو الزبير المكي، عن جابر بن عبد الله:"أن رسول الله عليه السلام دخل يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء بغير إحرام".

(1)"المجتبى"(5/ 201 رقم 2869).

ص: 252

الثاني: عن علي بن عبد الرحمن بن محمد بن المغيرة المصري، عن علي بن حكيم ابن ذبيان الأودي شيخ مسلم، عن شريك بن عبد الله، عن عمار

إلى آخره.

وأخرجه مسلم (1): ثنا علي بن حكيم الأودي، قال: أنا شريك، عن عمار الدهني، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله:"أن النبي عليه السلام دخل يوم فتح مكة وعليه عمامة سوداء".

الثالث: عن فهد بن سليمان، عن محمد بن سعيد بن الأصبهاني شيخ البخاري، عن شريك

إلى آخره.

وأخرجه البيهقي (2): من حديث يحيى بن يحيى، عن معاوية بن عمار الدهني، عن أبي الزبير، عن جابر:"أن النبي عليه السلام دخل مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء بغير إحرام". وأخرجه مسلم (3) أيضًا.

الرابع: عن فهد أيضًا، عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن أبي الزبير

إلى آخره.

وأخرجه البزار في "مسنده": نا طالوت بن عباد، ثنا حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر بن عبد الله:"أن النبي عليه السلام دخل مكة وعليه عمامة سوداء".

الخامس: عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن حماد بن سلمة، عن أبي الزبير

إلى آخره.

وأخرجه البيهقي في "سننه"(4): من حديث يحيى بن حسان، ثنا حماد بن سلمة، عن أبي الزبير، عن جابر:"أن النبي عليه السلام دخل مكة يوم الفتح وعليه عمامة سوداء".

(1)"صحيح مسلم"(2/ 990 رقم 1358).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 177 رقم 9622).

(3)

"صحيح مسلم"(2/ 990 رقم 1358).

(4)

"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 177 رقم 9623).

ص: 253

ص: حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه (ح).

وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو الوليد، قال: ثنا مالك بن أنس، عن الزهري، عن أنس رضي الله عنه:"أن النبي عليه السلام دخل مكة وعلى رأسه مغفر، فلما كشف المغفر عن رأسه، قيل: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال: اقتلوه".

ش: هذان طريقان رجالهما كلهم رجال الصحيح ما خلا إبراهيم بن مرزوق، ويونس هو ابن عبد الأعلى شيخ مسلم، وأبو الوليد هشام بن عبد الملك.

وأخرجه البخاري (1): نا عبد الله بن يوسف، أنا مالك، عن ابن شهاب، عن أنس:"أن رسول الله عليه السلام دخل عام الفتح وعلى رأسه المغفر، فلما نزعه جاءه رجل فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال اقتلوه".

وأخرجه مسلم (2): نا عبد الله بن مسلمة ويحيى بن يحيى وقتيبة بن سعيد، أما القعنبي فقال: قرأت على مالك بن أنس، وأما قتيبة، فقال: نا مالك، وقال يحيى -واللفظ له-: قلت لمالك: أحدثك ابن شهاب، عن أنس بن مالك:"أن النبي عليه السلام دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه مغفر، فلما نزعه جاءه رجل فقال: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة، فقال: اقتلوه، فقال نعم".

وقال أبو عمر: هذا حديث تفرد به مالك، ولا يحفظ عن غيره، ولم يروه عن ابن شهاب سواه من طريق صحيح، وقد روي عن ابن أخي ابن شهاب، عن عمه، عن أنس، ولا يكاد يصح، وروي من غير هذا الوجه، ولا يثبت أهل العلم فيه إسنادًا غير حديث مالك، ورواه أيضًا أبو أُوَيْس والأوزاعي عن الزهري، وروى محمد بن سليم بن الوليد العسقلاني عن محمد بن أبي السري، عن عبد الرزاق، عن مالك، عن ابن شهاب، عن أنس:"دخل رسول الله عليه السلام يوم الفتح وعليه عمامة سوداء".

(1)"صحيح البخاري"(2/ 655 رقم 1749).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 989 رقم 1357).

ص: 254

ومحمد بن سليم لم يكن ممن يعتمد عليه، وتابعه على ذلك بهذا الإِسناد الوليد بن مسلم ويحيى الوحاظي، ومع هذا فإنه لا يحفظ عن مالك في هذا [الإِسناد](1) إلَاّ المغفر، وروى جماعة منهم بشر بن عمر الزهراني ومنصور بن سلمة الخزاعي حديث المغفر فقالا:"مغفر من حديد".

ومنصور وبشر ثقتان وتابعهما على ذلك جماعة ليسوا هناك، وكذا رواه أبو عُبيد بن سلام، عن ابن بكير، عن مالك، ورواه روح بن عبادة، عن مالك بإسناده هذا، وفيه زيادة:"وطاف وعليه المغفر". ولم يقله غيره، ورواه عبد الله بن جعفر المديني، عن مالك، عن الزهري، عن أنس، قال:"دخل رسول الله عليه السلام يوم الفتح وعل رأسه مغفر، واستلم الحجر بمحجن". وهذا لم يقله عن مالك غير عبد الله بن جعفر، وروى داود بن الزبرقان، عن معمر ومالك جميعًا عن ابن شهاب، عن أنس:"أن رسول الله عليه السلام دخل عام الفتح مكة في رمضان وليس بصائم".

وهذا اللفظ ليس بمحفوظ بهذا الإِسناد لمالك إلَاّ من هذا الوجه، وقد روى سويد بن سعيد، عن مالك، عن ابن شهاب عن أنس:"أن رسول الله عليه السلام دخل مكة عام الفتح غير محرم". وتابعه على ذلك عن مالك إبراهيم بن علي المغربي وهذا لا يعرف هكذا إلَاّ بهما وإنما هو في الموطأ عند جماعة الرواة من قول ابن شهاب لم يرفعه إلى أنس.

قوله: "مغفر" بكسر الميم، قال أبو عمر: المغفر ما غطى الرأس من السلاح كالبيضة وشبهها، من حديد كان ذلك أو غيره.

وقال في "الدستور": المغفر ما غطى الرأس من السلاح كالبيضة والخوذة. وقال ابن سيده: المغفر والمغفرة والغفارة زرد ينسج من الدروع على قدر الرأس يلبس مثل

(1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "التمهيد"(6/ 171).

ص: 255

القلنسوة، وقيل: هو رفرف البيضة، وقيل: هو حلق يتقنع به المتسلح، وقال ابن الأثير: المغفر هو ما يلبسه الدراع على رأسه من الزرد ونحوه، وفي "المطالع" المغفر ما يجعل من فضل درع الحديد على الرأس مثل القلنسوة أو الخمار.

قلت: اشتقاقه من الغَفْر وهو التغطية، سمي به لأنه يغطي الرأس ويمنعها من وصول شيء إليها.

فإن قيل: بين الروايتين تعارض، وما التوفيق بينهما؟

قلت: قال أبو عمر: ليس عندي هذا بمعارض؛ فإنه يمكن أن يكون على رأسه عمامة سوداء وعليها المغفر، فلا يتعارض الحديثان، وذكر أبو العباس أحمد بن طاهر الداني في كتابه "أطراف الموطأ": ولعل المغفر كان تحت العمامة.

وقال القرطبي: قد يكون نزع المغفر عند انقياد أهل مكة، ولبس العمامة بعده، ومما يؤيد هذا خطبته وعليه العمامة، لأن الخطبة إنما كانت عند باب الكعبة بعد تمام الفتح، وقال الحاكم في "الإِكليل": اختلفت الروايات في لبس النبي عليه السلام العمامة أو المغفر يوم الفتح، ولم يختلفوا أنه دخلها وهو حلال، قال: وقال بعض الناس: العمامة كالمغفر على الرأس، ويؤيد ذلك حديث جابر، وهذا فيه نظر؛ فإن رواية بشر بن عمر الزهراني ومنصور بن سلمة الخزاعي:"وعلى رأسه مغفر من حديد". تدل على أن المغفر غير العمامة، قال الحاكم: حديث أنس مجمع على صحته، وهو أثبت من حديث جابر الذي فيه العمامة السوداء، فهو وإن صححه مسلم وحده، ولكنه عن أبي الزبير عن جابر، فقد قال عمرو بن دينار، أبو الزبير يحتاج إلى دعامة.

قلت: الحديثان صحيحان، ولا تعارض بينهما، فإن النبي عليه السلام دخلها وعلى رأسه المغفر، وعلى المغفر عمامة سوداء، وهذا لا يشك فيه، والله أعلم.

قوله: "قيل: ابن خطل متعلق بأستار الكعبة" واسم ابن خطل هلال بق خطل، وقيل: عبد الله بن خطل، قال أبو عمر: وقيل: اسمه

ص: 256

عبد العزى، وقيل: إن هلالًا أخوه، ويقال لهما الخطلان، وقيل: غالب بن عبد الله بن عبد مناف ويقال: اسمه هلال وخطل لقب جده عبد مناف، وقال الزبير بن بكَّار: اسمه هلال بن عبد الله بن عبد المناف بن أسعد بن جابر بن كثير بن تميم بن غالب ابن فهر، قال: وعبد الله هو الذي يقال له: الخطل ولأخيه عبد العزى بن عبد مناف أيضًا، هما جميعًا الخطلان، وهما من بني تيم الأدرم، وقيل له ذلك لأن أحد لحييه كان أنقص من الآخر، وقال ابن قتيبة: وبنو تيم الأدرم من أعراب قريش وليس بمكة منهم أحد وكان يقال الابن خطل ذا القلبين، وفيه نزل قوله تعالى:{مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ} (1) وكان الذي قتله أبو برزة نضلة بن عُبيد الأسلمي، وقيل: سعيد بن حريث المخزومي، وقيل: الزبير بن العوام، قال أبو عمر: وذكر أنه استبق إليه سعيد بن حريث وعمار بن ياسر فسبق سعيد عمارًا، فقتل بين المقام وزمزم، وقال أبو عمر: أما قتل عبد الله بن خطل فلأنه ارتد بعد إسلامه وكفر بعد إيمانه وبعد قراءته القرآن، وقتل النفس التي حرمها الله، ثم لحق بدار الكفر واتخذ قينتين تغنيان بهجاء رسول الله عليه السلام، فعهد فيه رسول الله عليه السلام بما عهد وفي ستة نفر معه قد ذكرهم ابن إسحاق وغيره، وامرأتين فيما قال ابن إسحاق، وقال الواقدي أربع نسوة.

قلت: النفس التي قتلها هو رجل من الأنصار، وكان عليه السلام لما أسلم ابن خطل بعثه متصدقًا وبعث معه هذا الأنصاري، وأمر عليه الأنصاري، فلما كان ببعض الطريق وثب على الأنصاري فقتله وذهب بماله.

وعن ابن إسحاق: كان له مولى يخدمه وكان المولى أيضًا مسلمًا، فنزل ابن خطل منزلاً وأمر المولى أن يذبح له تيسًا ويصنع له طعامًا، وقام فاستيقظ ولم يصنع له شيئًا فعدا عليه فقتله ثم ارتد مشتركًا.

(1) سورة الأحزاب، آية:[4].

ص: 257

ويستفاد منه أحكام:

فيه دخول مكة بلا إحرام وبالسلاح، وهو منسوخ على ما يأتي بيانه إن شاء الله وأن الكعبة لا تعيذ عاصيًا ولا تمنع من إقامة حد واجب، وإليه ذهب مالك والشافعي وأبو يوسف، قاله البيهقي.

قلت: قال الله تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} (1) ومتى تُعرض إلى من التجأ به يكون سلب الأمن عنه، وهذا لا يجوز، حتى إن من وجب عليه قصاص أو حدٌّ إذا هرب ودخل الحرم لم يقبض في الحرم من النفس عندنا، ويقام عليه فيما دون النفس مما سوى ذلك حتى يخرج من الحرم، وقتل ابن خطل في مكة إنما كان في الوقت الذي أحلت له عليه السلام فيه ومذهب زفر: أنه إذا قتل في الحرم أو زنى فيه يقتل ويرجم، وعن أبي يوسف: يخرج من الحرم ويقتل، وكذا في الرجم واختلفوا في تغليظ الدية على من قَتَل في الحرم، فأكثرهم على أنه في الحل والحرم سواء، وعن سالم مَنْ قَتَل خَطَأً في الحرم زيد عليه في الدية ثلث الدية، وهو قول عثمان بن عفان رضي الله عنه، وخالفه في ذلك عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه وبه استدل جماعة من المالكيين على جواز قتل من سب النبي عليه السلام وأنه يقتل ولا يستتاب.

وقال أبو عمر: وقد زعم بعض أصحابنا المتأخرين أن رسول الله عليه السلام إنما قتل ابن خطل لأنه كان يسبه، والذي ذكر ابن إسحاق في "المغازي" غير هذا، ولو كانت العلة ما ذكر هذا القائل ما ترك من كان يسبه، وما أظن أحدًا منهم امتنع في حين كفره ومحاربته من سبه، وجعل القائل هذا حجة لقتل الذمي إذا سب رسول الله عليه السلام وهذا لا يجوز عند أحد من العلماء أن يقيس الذمي على الحربي؛ لأن ابن خطل كان في دار حرب ولا ذمة له، وقد حكم الله في الحربي إذا قدر عليه بتخيير الإِمام إن شاء قتله، وإن شاء مَنَّ عليه، وإن شاء افتدى به؛ فلهذا قتل رسول الله عليه السلام ابن خطل وغيره، فمن أراد منهم قتله على أن

(1) سورة آل عمران، آية:[97].

ص: 258

ابن خطل كان قتل رجلاً من الأنصار مسلمًا ثم ارتد وهذا يبيح دمه عند الجميع.

واختلف الفقهاء في الذمي يسب رسول الله عليه السلام، فقال مالك: من سب النبي عليه السلام[من أهل الذمة](1) قتُل إلَاّ أن يسلم.

وقال أبو حنيفة وأصحابه والثوري: يعزَّر ولا يقتل، وقال الليث: يقتل مكانه، وقال الشافعي: يؤخذ على [من صولح من](1) الكفار متى ما ذكر أحدهم كتاب الله أو محمدًا عليه السلام بما لا ينبغي فقد أحل دمه.

وقال الطحاوي: فهذا يدل على أنه إن لم يشرط ذلك عليه لم يستحل دمه، قال أبو عمر: والقول عندي في هذا قول مالك والليث.

قلت: وإلى هذا أذهب وأختار هذا المذهب في هذه المسألة.

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى أنه لا بأس بدخول الحرم بغير إحرام، واحتجوا في ذلك بهذه الآثار.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: الزهري والحسن البصري والشافعي -في قول- ومالكًا -في رواية عبد الله بن وهب عنه- وداود بن علي وأصحابه من الظاهرية؛ فإنهم قالوا: لا بأس بدخول الحرم بغير إحرام، واستدلوا على ذلك بهذه الأحاديث، وإلى هذا ذهب البخاري أيضًا؛ قاله عياض.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا يصلح لأحد كان منزله من وراء الميقات إلى الأمصار أن يدخل مكة إلَاّ بإحرام.

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: عطاء بن أبي رباح والليث بن سعد والثوري وأبا حنيفة وأصحابه ومالكًا -في رواية وهي قوله الصحيح- والشافعي -في المشهور عنه- وأحمد وأبا ثور والحسن بن حي رحمهم الله فإنهم قالوا: لا يصلح لأحد كان منزله من وراء الميقات إلى الأمصار أن يدخل

(1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "التمهيد"(6/ 168).

ص: 259

مكة إلَاّ بإحرام، فإن لم يفعل أساء، ولا شيء عليه عند الشافعي وأبي ثور، وعند الثوري وأبي حنيفة عليه حجة أو عمرة، وقال أبو عمر: لا أعلم خلافًا بين فقهاء الأمصار في الحطابين ومن يدمن الاختلاف إلى مكة ويكثره في اليوم والليلة أنهم لا يؤمرون بذلك؛ لما عليهم فيه من المشقة، وقال ابن وهب عن مالك: لست آخذ بقول ابن شهاب في دخول الإِنسان مكة بغير إحرام، وقال: إنما يكون ذلك على مثل ما عمل عبد الله بن عمر من القرب، إلَاّ رجلاً يأتي بالفاكهة من الطائف، أو ينقل الحطب يبيعه، فلا أرى بذلك بأسًا، قيل له: فرجوع ابن عمر من قديد إلى مكة بغير إحرام؟ فقال: ذلك أنه جاءه خبر من جيوش المدينة.

ص: واختلف هؤلاء فقال بعضهم: وكذلك الناس جميعًا من كان بعد الميقات وقبل الميقات غير أهل مكة خاصة.

وقال آخرون: من كان منزله في بعض المواقيت أو فيما بعدها إلى مكة فله أن يدخل مكة بغير إحرام، ومن كان منزله قبل المواقيت لم يدخل مكة إلَاّ بإحرام، وممن قال هذا القول: أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد رحمهم الله.

وقال آخرون: أهل المواقيت حكمهم حكم من كان قبل المواقيت، وجعل أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد رحمهم الله حكم أهل المواقيت كحكم من كان من ورائهم إلى مكة، وليس النظر في هذا عندنا ما قالوا؛ لأنا رأينا من يريد الإِحرام إذا جاوز الميقات حلالاً حين فرغ من حجته ولم يرجع إلى المواقيت كان عليه دم، ومن أحرم من المواقيت كان محسنًا، فكذلك من أحرم قبلها كان كذلك أيضًا، فلما كان الإِحرام من المواقيت في حكم الإِحرام مما قبله لا في حكم الإِحرام مما بعدها؛ ثبت أن حكم المواقيت كحكم ما قبلها لا كحكم ما بعدها؛ فلا يجوز لأهلها من دخول الحرم إلَاّ ما يجوز لأهل الأمصار التي قبل المواقيت فانتفى بهذا ما قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد في حكم [أهل](1) المواقيت.

(1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ص: 260

ش: أي اختلف الآخرون فيما بينهم أيضًا، فقال بعضهم وهم عطاء بن أبي رباح والليث بن سعد وإبراهيم النخعي وطاوس وكذلك الناس جميعًا: لا يدخلون مكة بغير إحرام، سواء كان ممن كان بعد الميقات أو قبل الميقات إلَاّ أهل مكة خاصة.

"وقال آخرون" أي جماعة آخرون، وهم الحسن بن حي والثوري والأوزاعي، من كان منزله في بعض المواقيت -مثلًا كان منزله في ذي الحليفة أو في الجحفة- أو كان فيما بعدها أي بعد المواقيت إلى مكة؛ فله أن يدخل مكة بغير إحرام، ومن كان منزله قبل المواقيت لا يدخلها إلَاّ بإحرام، وممن قال بهذا القول: أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد رحمهم الله.

"وقال آخرون" أي جماعة آخرون، وهم أحمد وأبو ثور والشافعي -في قول-: إن حكم أهل المواقيت كحكم من كان قبل المواقيت، يعني لا يدخلها إلَاّ بإحرام، وإليه ذهب الطحاوي واختاره، على ما يدل عليه كلامه.

قوله: "وليس النظر في هذا عندنا ما قالوا" أي ليس وجه النظر والقياس في هذا ما قاله أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد، وجه النظر: أن من أراد الإِحرام إذا جاوز الميقات من غير إحرام حتى دخل مكة وحج وفرغ من حجته ولم يرجع إلى المواقيت كان عليه دم، ولو كان أحرم من المواقيت كان محسنًا، فكذلك من أحرم من قبل المواقيت كان كذلك أيضًا، فإذا كان الإِحرام من المواقيت في حكم الإِحرام مما قبل المواقيت لا في حكم الإِحرام مما بعد المواقيت؛ ثبت بذلك أن حكم المواقيت كحكم ما قبلها لا كحكم ما بعدها، فحينئذٍ لا يجوز لأحد من أهلها دخول الحرم إلَاّ بالإِحرام، فانتفى بذلك ما قاله أبو حنيفة وصاحباه في حكم المواقيت؛ فافهم.

واعلم أنهم اختلفوا فيمن جاوز الميقات وهو يريد الحج أو العمرة، فقال مالك وابن المبارك وأبو حنيفة: عليه دم ولا ينفعه رجوعه إلى الميقات، وقال الشافعي والأوزاعي: إن رجع إلى الميقات سقط عنه الدم، لبى أو لم يلب، وروي عن أبي حنيفة: إن رجع فلبى سقط عنه الدم، وإن لم يلب لم يسقط عنه

ص: 261

الدم، وقال عطاء والنخعي: لا شيء على من ترك الميقات، وقال سعيد بن جبير: إن ترك الرجوع إلى الميقات حتى قضى حجة فلا حج له، وقال الحسن البصري: إن لم يرجع إلى الميقات حتى تم حجه رجع إلى الميقات فأهل بعمرة.

وهذه الأقوال الثلاثة شاذة ضعيفة لا أصل لها في أثر ولا نظر، وفي "شرح الموطأ" للإِشبيلي: اتفق مالك والشافعي وأبو حنيفة والثوري وأبو ثور على أن من مر بالميقات لا يريد حجًّا ولا عمرة ثم بدا له أن يحرم أحرم من حيث بدا له ولا يرجع إلى الميقات ولا شيء عليه، وقال أحمد وإسحاق: يرجع إلى الميقات ويحرم منه.

واختلف في العبد يجاوز الميقات من غير نية الإِحرام ثم يحرم، فقال مالك والثوري والأوزاعي: لا شيء عليه، قال مالك: وكذلك الصبي يجاوزه ثم يحتلم فيحرم، وقال الشافعي مرة: عليه دم، وقال أبو حنيفة: عليه دم لتركه الميقات أذن له السيد أو عتق، وقال الشافعي في الكافر يجاوز الميقات ثم يسلم: لا شيء عليه، وقال مرة: عليه الدم.

ص: واحتجنا إلى النظر في الأخبار هل فيها ما يدفع دخول الحرم بغير إحرام؟ وهل فيها ما ينبئ عن معنى في هذين الحديثين المتقدمين يجب بذلك المعنى أن ذلك الدخول الذي كان من النبي عليه السلام بغير إحرام خاص له.

فاعتبرنا في ذلك، فإذا ابن أبي داود قد حدثنا، قال: ثنا عمرو بن عون، قال: ثنا أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله عليه السلام: "إن الله عز وجل حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض والشمس والقمر، ووضعها بين هذين الأخشبين، لم تحل لأحد قبلي، ولم تحل لي إلَاّ ساعة من نهار، لا يختلى خلاها، ولا يعضد شجرها، ولا يرفع لقطتها إلَاّ منشد، فقال العباس: إلَاّ الأذخر، فإنه لا غنى لأهل مكة عنه لبيوتهم وقبورهم، فقال رسول الله عليه السلام إلَاّ الأذخر".

ص: 262

ش: لما استدل أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه من جواز دخول مكة بغير إحرام بحديثي جابر وأنس رضي الله عنهما أراد أن يبين وجه حديثهما، وأورد أحاديث عن ابن عباس وغيره تدل على أن دخوله عليه السلام مكة كان وهي حلال ساعتئذ؛ فلذلك دخلها غير محرم، وأن ذلك كان خاصًّا للنبي عليه السلام ثم عادت حرامًا إلى يوم القيامة، فلا يجوز دخولها لأحد بغير إحرام.

وأخرج حديث ابن عباس عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عمرو بن عون بن أوس الواسطي البزاز شيخ البخاري في كتاب الصلاة، قال أبو زرعة وأبو حاتم: ثقة حجة، عن أبي يوسف القاضي صاحب أبي حنيفة، عن يزيد ابن أبي زياد القرشي الكوفي فيه مقال، فعن أحمد: حديثه ليس بذاك. وعن يحيى: لا يحتج بحديثه، وعنه ضعيف الحديث. وقال العجلي: جائز الحديث، وقال أبو حاتم: ليس بالقوي. روى له مسلم مقرونًا بغيره واحتج به الأربعة. عن مجاهد بن جبر عن ابن عباس.

وأخرجه البزار في "مسنده": نا يوسف بن موسى، نا جرير، عن يزيد بن أبي زياد، عن مجاهد، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله عليه السلام: "إن مكة حرام حرمها الله تعالى يوم خلق السماوات والأرض والشمس والقمر، ولم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، ولم تحل لي إلَاّ ساعة من نهار ثم عادت، لا يختلي خلاها ولا يعضد شجرها ولا يخاف صيدها ولا ترفع لقطتها إلَاّ لمنشد، فقال العباس: إلَاّ الأذخر يا رسول الله فإنه لا غنى بأهل مكة عنه، قال: إلَاّ الأذخر".

قال البزار: وهذا الحديث قد روي عن ابن عباس من غير وجه وعن غير ابن عباس بألفاظ مختلفة ومعانيها قريبة، وفي هذا الحديث ألفاظ ليست في حديث غيره، فذكرناه من أجل ذلك، ويزيد بن أبي زياد قد ذكرناه في غير هذا الحديث، فإنه ليس بالقوي ولا نعلم أحدًا ترك حديثه من المحدثين لا شعبة ولا الثوري ولا أحد من أهل العلم، وإنما كان يؤتي لأنه كان في حفظه سوء.

ص: 263

قلت: بهذا حصل الجواب عما قيل: إن الطحاوي أخرج حديث ابن عباس بإسناد فيه كلام؛ لأنه قصد بذلك ما قصده البزار، على أن أهل العلم الكبار ما تركوا حديث يزيد بن أبي زياد على ما قاله البزار وأبو داود -رحمهما الله-.

وأخرجه البخاري (1) مختصرًا في كتاب الحج: ثنا على بن عبد الله، نا جرير بن عبد الحميد، عن منصور، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس قال: قال رسول الله عليه السلام يوم فتح مكة: "إن هذا البلد حرمه الله، لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا يلتقط لقطته إلَاّ من عرفها".

وأخرجه في باب غزوة الفتح (2): نا إسحاق، نا أبو عاصم، عن ابن جريج، قال: أخبرني حسن بن مسلم، عن مجاهد:"أن رسول الله عليه السلام قام يوم الفتح فقال: إن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام بحرام الله إلى يوم القيامة، لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي، ولم تحلل لي قط إلَاّ ساعة من الدهر، لا ينفر صيدها، ولا يعضد شوكها، ولا يختلى خلاها، ولا تحل لقطتها إلَاّ لمنشد، فقال العباس بن عبد المطلب: إلَاّ الأذخر يا رسول الله، فإنه لا بد منه للقين والبيوت، فسكت ثم قال: إلَاّ الأذخر فإنه حلال".

وعن ابن جريج، أخبرني عبد الكريم، عن عكرمة، عن ابن عباس بمثل هذا أو نحو هذا.

وأخرجه مسلم (3): نا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي، قال: أنا جرير، عن منصور، عن مجاهد، عن طاوس، عن ابن عباس، قال: قال رسول الله عليه السلام يوم الفتح فتح مكة: "لا هجرة ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا، وقال يوم

(1)"صحيح البخاري"(2/ 575 رقم 1510).

(2)

"صحيح البخاري"(4/ 1567 رقم 4059).

(3)

"صحيح مسلم"(2/ 986 رقم 1353).

ص: 264

الفتح: إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات [والأرض](1) فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي، ولم يحل لي إلَاّ ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة، لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ولا يلتقط إلَاّ من عرفها ولا يختلى خلاها، فقال العباس: يا رسول الله، إلَاّ الأذخر".

قوله: "حرم مكة" أي جعلها حرامًا، وقد فسر ذلك بقوله: "لم تحل لأحد قبلي

" إلى آخره.

قوله: "بين هذين الأخشبين" وأراد بهما الجبلين المطيفين بمكة، وهما أبو قبيس والأحمر، وهو جبل مشرف وجهه على قعيقعان، والأخشب كل جبل خشن غليظ، وفي الحديث:"لا تزول مكة حتى يزول أخشباها".

قوله: "إلَّا ساعة في نهار" لم يرد بها الساعة من الاثنتي عشرة ساعة، والمراد بها القليل من الوقت والزمان، وأنه كان بعض النهار ولم يكن يومًا تامًّا، ودليله:"وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس".

قوله: "لا تختلي خلاها" أي لا يقطع كلاؤها، وقال ابن مالك في كتابه "تحفة المودود": والخلا هو الرطب من الكلأ، الواحدة خلاة، ولامة ياء، لقولهم خليت البقل قطعته وفي "المخصص" تقول: خليت الخلا خليًا: جززته، في "المحكم" وقيل: الخلا: كل بقلة قلعتها، وقد يجمع الخلا على أخلاء، حكاه أبو حنيفة، وأخلت الأرض: كثر خلاها واختلاه: جزه، وقال اللحياني: نزعه وفي كتاب "النبات" للدينوري: الخلا: العشب ما دام رطبًا، فإذا يبس فهو حشيش، وقال القاضي: ومعنى لا يختلى خلاها: لا يحصد كلاؤها، والخلا مقصور: الكلاء الرطب، فإذا يبس فهو حشيش وهشيم، وفي "المطالع" لا يختلى خلاها مقصور، ومده بعض الرواة وهو خطأ، وهو العشب الرطب، والاختلاء القطع، فعل مشتق من الخلا، والمخلا مقصورة حديدة يختلى بها الخلا، والمخلاة وعاء يختلى فيه للدابة،

(1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "صحيح مسلم".

ص: 265

ثم يسمى كل ما يعتلف فيه مما يعلق في رأسها: مخلاة والخلاء بالمد الموضع الخالي، وأيضًا مصدر من خلا يخلو، وقيل: القولان في قول عائشة رضي الله عنها " [حبب] (1) إليه الخلاء"(2) أي الموضع الخالي، وقيل: أن يخلو.

قوله: "لا يعضد شجرها" أي لا يقطع، يقال: عضد واستعضد بمعنى، كما يقال: علا واستعلى، قال القاضي: وقع في الرواية الأخرى: "شجراؤها" وهو الشجر، وقال الطبري: معنى لا يعضد: لا يفسد ويقطع، وأصله من عضد الرجلُ الرجلَ: أصاب عضده بسوء، وفي "الموعب" عضدت الشجر أعضده عضدًا مثال: ضرب، إذا قطعته، والعضَد يقال لكل ما تكسر من الشجر أو قطع وفي "المحكم" الشجر معضود وعضيد.

قوله: "ولا يرفع لقطتها إلَاّ منشد" أي معرف، وأما الطالب فيقال له ناشد، يقال: نشدت الضالة إذا طلبتها، فإذا عرفتها قلت: أنشدتها، وأصل الإِنشاد رفع الصوت، ومنه إنشاد الشعر، وفي رواية البزار وغيره:"ولا يرفع لقطتها إلَاّ لمنشد" أي لأجل منشد أي معرف يعرفها حتى يجيء صاحبها.

قوله: "إلَاّ الإِذخر" بكسر الهمزة والخاء المعجمة وبسكون الذال المعجمة، وهو نبت معلوم، وله أصل مندفن وقضبان دقاق ذفر الريح، وهو مثل الأسل أسل الكولان إلَاّ أنه أعرض وأصغر كعوبًا، وله ثمرة كأنها مكاميع القصب إلَاّ أنها أرق وأصغر، وقال أبو زياد: الإِذخر يشبه في نباته الغرز، والغرز نباته نبات الأسل الذي يعمل منه الحصر، والإِذخر أدق منه وله كعوب كثيرة وهو يطحن فيدخل في الطيب، قال أبو نصر: هو من الذكور، وإنما الذكور من البقل، وليس الإِذخر من البقل، وله أرومة فينبت فيها فهو بالحلبة أشبه، قال أبو عمر: هو من الحلبة، وقلما

(1) في "الأصل، ك": "كان"، والمثبت من مصادر تخريجه.

(2)

أخرجه البخاري ومسلم كلاهما في كتاب بدء الوحي من "صحيحيهما". البخاري (1/ 4 رقم 3)، ومسلم (1/ 140 رقم 160).

ص: 266

ينبت الإِذخر منفردًا، وهو ينبت في السهول والحزون، ويقال: أعذق الإِذخر إذا خرج عذقه وكذلك الكبس كأنه مأخوذ من الكباسة وهي العذق واحجب إذا نبت في نواحيه وإذا حف الأذخر أبيض، وفي "شرح ألفاظ المنصوري": الإِذخر خشب يجلب من الحجاز وبالمغرب صنف منه، قيل: هذا أصح ما قيل في الإِذخر ويدل عليه قول عباس رضي الله عنه: "لبيوتهم وقبورهم" فإن البيوت لا تسقف إلَاّ بالخشب، ولا يجعل على اللحود إلَاّ الخشب ولا يمكن أن تسقف البيوت أو يجعل على اللحود حشيش فإنه غير متماسك لا رطبًا ولا يابسًا.

قلت: المراد به أنه يسد به الفرج التي تتخلل من لبنات القبر لا أنه يسوى على القبر موضع اللبنات، وكذلك تسد به الفرج التي بين جذوع السقف ولا يسقف به وكذلك الحشيش، فافهم.

ويستفاد منه أحكام:

الأول: فيه دليل على أن مكة حرام فلا يجوز لأحد أن يدخلها إلَاّ بإحرام، وأن دخول النبي عليه السلام حلالًا كان في الوقت الذي أحلت له مكة.

الثاني: فيه أنه لا يجوز قطع حشيش الحرم مما ينبت بنفسه وعلى هذا الإِجماع، فأما الذي يزرعه الناس نحو البقول والخضراوات والقصيل؛ فإن هذا يجوز قطعه واختلاؤه، واختلف في الرعي فيما أنبته الله من خلاها فمنع ذلك أبو حنيفة ومحمد، وأجازه أبو يوسف والشافعي ومالك وأحمد.

الثالث: فيه جواز قطع إذخر الحرم لكونه مستثنى.

الرابع: فيه أنه لا يجوز قطع شجر الحرم، قال ابن المنذر: أجمع العلماء على تحريم قطع شجر الحرم.

وقال في الإِمام: اختلف الناس في قطع شجر الحرم هل فيه جزاء أم لا، فعند مالك: لا جزاء فيه، وعند أبي حنيفة والشافعي: فيه الجزاء.

ص: 267

قلت: هذا فيما لم يغرسه الآدمي من الشجر، وأما ما غرسه الآدمي فلا شيء عليه فيه، وحكى الخطابي أن مذهب الشافعي منع قطع ما غرسه الآدمي من شجر البوادي ونماه، وأنه وغيره مما أنبته الله سواء، واختلف قوله في جزاء الشجر على اختلاف مالك وأبي حنيفة، وعند الشافعي في الدوحة بقرة وما دونها شاة وعند أبي حنيفة يؤخذ من قيمة ما قطع فيشتري به هدي، فإن لم يبلغ ثمنه تصدق به بنصف صاع لكل مسكين، وفي بعض شروح البخاري: قد اختلفوا فيما يجب على من قطع شجرة من شجر الحرم، فقال مالك وأبو ثور: لا يجب عليه إلَاّ الاستغفار. وقال الشافعي: عليه الجزاء حلالًا كان أو حرامًا، في الشجرة الكبيرة: بقرة، وقال في الخشب وما أشبهه: فيه قيمته بالغة ما بلغت، وقال الكوفيون: فيها قيمتها والمحرم في ذلك والحلال سواء، وأجمع كل من نحفظ عنه العلم على إباحة أخذ كل ما ينتبه الناس في الحرم من البقول والزروع والرياحين، واختلفوا في أخذ السواك من شجر الحرم فعن مجاهد وعطاء وعمرو بن دينار أنهم رخصوا في ذلك، وحكى أبو ثور ذلك عن الشافعي، وكان عطاء يرخص في أخذ ورق السَّنا يستمشي به ولا ينزع من أصله، ورخص فيه عمرو بن دينار.

الخامس: لا يجوز رفع لقطتها إلَاّ لمنشد، قال القاضي عياض: حكم اللقطة في سائر البلاد واحد، وعند الشافعي أن لقطة مكة بخلاف غيرها من البلاد، وأنها لا تحل إلَاّ لمن يعرفها؛ تعلقًا بهذا الحديث، ويحمل اللفظ على أصلنا على المبالغة للتعريف؛ لأن الحاج يرجع إلي بلده وقد لا يعود إلَاّ بعد أعوام، فتدعو الضرورة لإِطالة التعريف بها بخلاف غير مكة.

قلت: مذهب أصحابنا أيضًا كمذهب مالك؛ لعموم قوله عليه السلام: "اعرف وقاصها ووكاءها ثم عرفها سنة". من غير فصل.

ص: 268

ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا مسدد، قال: ثنا يحيى ، عن ابن أبي ذئب، قال: حدثني سعيد المقبري، قال: سمعت أبا شريح الكعبي يقول: قال رسول الله عليه السلام: "إن الله عز وجل حرم مكة ولم يحرمها الناس، فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسفكنَّ فيها دمًا ولا يعضدن فيها شجرًا؛ فإن ترخص مترخص، فقال: قد حلت لرسول الله عليه السلام فإن الله عز وجل أحلها لي ولم يحلها للناس، وإنما أحلها لي ساعة".

حدثنا فهد، قال: ثنا يوسف بن بهلول، قال: ثنا عبد الله بن إدريس، عن محمد بن إسحاق، قال: حدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي شريح الخزاعي قال: "لما بعث عمرو بن سعيد البعث إلى مكة لغزو ابن الزبير رضي الله عنهما أتاه أبو شريح فكلمه بما سمع من رسول الله عليه السلام ثم خرج إلى نادي قومه فجلس، فقمت إليه فجلست معه، قال فحدث عما حدث عمرًا عن رسول الله عليه السلام وعما جاوبه عمرو، قال: قلت له: إنا كنا مع رسول الله عليه السلام حين فتح مكة، فلما كان الغد من يوم الفتح خطبنا فقال: يا أيها الناس، إن الله عز وجل حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام من حرام الله إلى يوم القيامة، لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دمًا ولا يعضد بها شجرًا، لم تحل لأحد كان قبلي ولا تحل لأحد بعدي، ولم تحل [لي](1) إلَاّ هذه الساعة غضبًا على أهلها أَلا ثُم قد عادت كحرمتها بالأمس، فمن قال لكم: إن رسول الله عليه السلام قد أحلها، فقولوا له إن الله عز وجل قد أحلها لرسوله ولم يحلها لك.

فقال لي: انصرف أيها الشيخ فنحن أعرف بحرمتها منك، إنها لا تمنع سافك دم، ولا مانع خربة ولا خالع طاعة، قلت: قد كنتُ شاهدًا وكنتَ غائبًا، وقد أمر رسول الله عليه السلام أن يُبلِّغ شاهدنا غائبنا، وقد أبلغتك".

(1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ص: 269

حدثنا بحر -هو ابن نصر- عن شعيب بن الليث، عن أبيه، عن أبي سعيد المقبري، عن أبي شريح الخزاعي، عن النبي عليه السلام

نحوه.

ش: هذه ثلاث طرق صحاح:

الأول: عن محمد بن خزيمة، عن مسدد شيخ البخاري وأبي داود، عن يحيى بن سعيد القطان عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب المدني، عن سعيد بن أبي سعيد كيسان المدني، عن أبي شريح الكعبي الخزاعي العدوي الصحابي، قيل: اسمه خويلد بن عمرو وقيل: عبد الرحمن بن عمرو وقيل: هانئ بن عمرو، وقيل: كعب بن عمرو، وقيل: عمرو بن خويلد، والمشهور: خويلد بن عمرو.

وأخرجه الطبراني (1): نا مصعب بن إبراهيم بن حمزة الزبيري، حدثني أبي، ثنا عبد العزيز بن محمد، عن ابن أبي ذئب، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي شريح، أن النبي عليه السلام قال:"إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس، فلا يحل لمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا وأن يعضد بها شجرًا، فإن ارتخص بها أحد فقال: أحلت للنبي عليه السلام فإن الله أحلها لي ساعة من نهار ولم يحلها لأحد غيري، ثم هي حرام كحرمتها بالأمس".

وأخرجه البخاري (2) ومسلم (3) والترمذي (4) والنسائي (5).

فإن قيل: قوله عليه السلام: "إن الله حرم مكة ولم يحرمها الناس" يعارضه قوله الآخر: "إن إبراهيم حرم مكة وإني أحرم ما بين لابتيها".

(1)" المعجم الكبير"(22/ 186 رقم 486).

(2)

"صحيح البخاري"(2/ 651 رقم 1735).

(3)

"صحيح مسلم"(2/ 987 رقم 1345).

(4)

"جامع الترمذي"(3/ 173 رقم 809).

(5)

"المجتبى"(5/ 205 رقم 2876).

ص: 270

قلت: ليس الأمر كذلك؛ لأن معنى قوله: "إن إبراهيم حرم مكة" إن إبراهيم أعلن بتحريم مكة، وعَرَّف الناس بأنها حرام بتحريم الله إياها، فلما لم يعرف تحريمها إلَاّ في زمانه على لسانه أضيف التحريم إليه، وذلك كما أضاف الله تعالى توفي النفوس مرة إليه بقوله:{اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ} (1) ومرة إلى ملك الموت بقوله: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} (2) ومرة إلى الملائكة أعوان ملك الموت بقوله: {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ} (3) ويجوز أن يضاف الشيء إلى من له فيه سبب.

وقد يقال: يحتمل أن يكون إبراهيم عليه السلام منع من الصيد بمكة والقتال فيها وشبهها، وأني أمنع مثل ذلك في المدينة لأن التحريم في كلام العرب المنع، قال تعالى:{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ} (4) أراد منعنا قبول المراضع.

الثاني: عن فهد بن سليمان، عن يوسف بن بهلول التميمي شيخ البخاري، عن عبد الله بن إدريس بن يزيد الزعافري، عن محمد بن إسحاق المدني، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي شريح.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(5): ثنا يعقوب، نا أبي، عن ابن إسحاق، حدثني سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي شريح الخزاعي قال: "لما بعث عمرو بن سعيد إلى مكة بعثه لغزو ابن الزبير رضي الله عنهما أتاه أبو شريح فكلمه، وأخبره بما سمع من رسول الله عليه السلام ثم خرج إلى نادي قومه فجلس إليه، فقمت إليه فجلست معه، فحدث قومه كما حدث عمرو بن سعيد ما سمع من رسول الله عليه السلام وعما قال له عمرو بن سعيد، قال: قلت: يا هذا، إنا كنا مع رسول الله عليه السلام حين افتتح مكة، فلما كان الغد من يوم الفتح عدت خزاعة على رجل من هذيل فقتلوه وهو مشرك،

(1) سورة الزمر، آية:[42].

(2)

سورة السجدة، آية:[11].

(3)

سورة النحل، آية:[28].

(4)

سورة القصص، آية:[12].

(5)

"مسند أحمد"(4/ 32 رقم 16424).

ص: 271

فقام رسول الله عليه السلام فينا خطيبًا فقال: أيها الناس، إن الله عز وجل حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض، فهي حرام من حرام الله إلى يوم القيامة، لا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دمًا ولا يعضد بها شجرًا، لم تحلل لأحد كان قبلي، ولا تحل لأحد يكون بعدي، ولم تحلل لي إلَاّ هذه الساعة غضبًا على أهلها، أَلَا ثُم قد رجعت كحرمتها بالأمس، أَلَا فليبلغ الشاهد منكم الغائب، فمن قال لكم: إن رسول الله عليه السلام قد قاتل بها، فقولوا: إن الله قد أحلها لرسوله ولم يحللها لكم يا معشر خزاعة، ارفعوا أيديكم عن القتل فقد كثر أن يقع، [لئن](1) قتلتم قتيلًا لأدينَّه، فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله بخير النظرين: إن شاءوا أخذوا بقتاله، وإن شاءوا بِعَقْله ثم ودَّي رسول الله عليه السلام الرجل الذي قتلته خزاعة.

فقال عمرو بن سعيد لأبي شريح: انصرف أيها الشيخ، فنحن أعلم بحرمتها منك، إنها لا تمنع سافك دم ولا خالع طاعة ولا مانع خربة، قال: فقلت: قد كنتُ شاهدًا وكنتَ غائبًا، فقد بلغت وقد أمرنا رسول الله عليه السلام، أن يبلغ شاهدنا غائبنا وقد بلغتك، فأنت وشأنك".

وأخرجه الطبراني (2): من طريق محمد بن إسحاق أيضًا نحوه.

قوله: "لما بعث عمرو بن سعيد" هو عمرو بن سعيد بن العاص بن أميَّة بن عبد شمس بن عبد مناف أبو أميَّة المعروف بالأشدق قال الهيثم بن عدي: كان أفقم وذكر المرزباني أنه عُرف بالأشدق لأنه صعد المنبر فبالغ في شتم علي رضي الله عنه فأصيب بلقوة، وقال المبرد: كان عبد الله بن الزبير يلقبه لطيم الشيطان، وقال ابن سعد: ولاه يزيد بن معاوية المدينة، وكان أحب الناس إلى أهل الشام، وكانوا يسمعون له ويطيعون، قال: وكتب إليه يزيد أن يوجه إلى عبد الله بن الزبير بن العوام جيشًا، فوجه إليه جيشًا واستعمل عليهم عمرو بن الزبير بن

(1) في "الأصل، ك": "لقد"، وهو تحريف، والمثبت من "مسند أحمد".

(2)

"المعجم الكبير"(22/ 185 رقم 485).

ص: 272

العوام، ويقال: إنه رأى النبي عليه السلام، وروى عنه أنه قال:"ما نحل والد ولدًا أحسن من أدب حسن"، وحديث آخر في العتق، وروى عن عمر وعثمان وعلي وعائشة رضي الله عنهم وحدث عنه نبوه أمية وسعيد وموسى وغيرهم، وكان معاوية استنابه على المدينة، وكذلك ابنه يزيد بن معاوية بعد أبيه، وكان يبعث البعوث إلى مكة بعد وقعة الحرة أيام يزيد -عليه ما يستحق- لقتال ابن الزبير، وكان جرى له أمور كثيرة وآخر الأمر قتله عبد الملك بن مروان في سنة تسع وستين من الهجرة.

قوله: "إلى نادي قومه" أي مجلس قومه، النادي والنَّدِيّ: مجلس القوم ومتحدثهم، وكذلك النُّدوة والنَّدوة والمنتدى والمتندى فإن تفرق القوم فليس بِنَدِيِّ ومنه سميت دار النَّدوة بمكة التي بناها قصي، لأنهم كانوا يندون فيها: أي يجتمعون فيها للمشاورة.

قوله: "ولا تحل لأحد بعدي" أي القتال الذي حل لي ومحاربة أهلها؛ لأنهم لا يكفرون فيقاتلون، وهذا على طريق النهي لا على طريق الخبر أنها لا تقاتل، إذ قد قاتلها الحجاج وغيره، وأخبر عليه السلام عن غلبة ذي السويقتين عليها وتخزيبه لها، وإنما أخبر عن حكم قتال أهلها أنه لا يحل لأحد بعده.

قوله: "ولا مانع خربة" الخربة أصلها العيب، والمراد به ها هنا الذي ينفرد بشيء ويغلب عليه مما لا تجيزه الشريعة، وقد جاء في سياق الحديث في كتاب البخاري: أن الخربة: الجناية، فعلى هذا يكون المعنى ولا من يمنع الجناية، وفي بعض المواضع الخربة: الزلة يقال: "ما لفلان خربة" أي زلة، قال أبو المعالي: الخارب اللص والخرابة: اللصوصية، قال الأصمعي: الخارب سارق الإِبل خاصة، والجمع خُرَّاب وخَرَب فلان بإبل فلان يَخْربُ خَرَابَةً: مثل كَتَبَ يَكْتِبُ كتابة، والخربة الفعلة منه، وفي "المحكم": الخَربة بالفتح، والخُربة بالضم، والخرَب والخُرب كذلك: الفساد في الدين، وقال اللحياني: خرب فلان بإبل فلان يخرب بها خربا وخروبا وخِرابة أي سرقها، كذا حكاه متعديًا بالباء، وقال مرة: خرب فلان أي

ص: 273

صار لصًّا، وقال عياض في قوله:"ولا فارًا بخربة" كذا رويناه هنا بفتح الخاء وبالراء والباء الموحدة، وضبطه الأصيلي في "صحيح البخاري" بضم الخاء، ورواه الترمذي في بعض الطرق بِخِزْيَة، وأراه وهما، قال ابن الأثير: قال الترمذي: وقد روى بِخِزْيَة فيجوز أن يكون بكسر الخاء وهو الشيء الذي يستحيى منه أو من الهوان والفضيحة، ويجوز أن يكون بالفتح، وهو الفعلة الواحدة منها.

الثالث: عن بَحرْ بن نصر بن سابق الخولاني شيخ أبي عوانة الإِسفرائيني، ومحمد بن خزيمة، عن شعيب بن الليث، عن أبيه الليث بن سعد، عن أبي سعيد المقبري، عن أبي شريح الخزاعي، عن النبي عليه السلام.

وأخرجه البخاري (1): ثنا قتيبة، ثنا الليث، عن سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي شريح العدوي:"أنه قال لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة شرفها الله تعالى: اتئذن لي أيها الأمير أحدثك قولاً قام به رسول الله عليه السلام الغد يوم الفتح، فسمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به: إنه حمد الله تعالى وأثنى عليه، ثم قال: إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس، فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دمًا ولا يعضد بها شجرة، فأي أحد ترخص بقتال رسول الله عليه السلام فقولوا له: أن الله تعالى قد أذن لرسوله ولم يأذن لكم، وإنما أذن لي ساعة من نهار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس، ألَّا ليبلغ الشاهد الغائب. فقيل لأبي شريح: ما قال لك عمرو؟ قال: قال: أنا أعلم بذاك منك يا أبا شريح: إن الحرم لا يعيذ عاصيًا ولا فارًّا بعدم ولا فارًّا بخربة".

وأخرجه مسلم (2) نحوه: عن قتيبة، عن ليث

إلى آخره.

ص: حدثنا علي بن عبد الرحمن، قال: ثنا ابن أبي مريم ، قال: أنا ابن الدراوردي، قال: ثنا محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن،

(1)"صحيح البخاري"(2/ 651 رقم 1735).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 987 رقم 1354).

ص: 274

عن أبي هريرة قال: "وقف رسول الله عليه السلام على الحجون، ثم قال: والله إنك بخير أرض الله وأحب أرضٍ إلى الله، لم تحل لأحد كان قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وما أحلت لي إلَاّ ساعة من النهار، وهم بعد ساعتها هذه حرام إلى يوم القيامة".

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا الحجاج بن منهال، وأبو سلمة موسى بن إسماعيل التبوذكي، قالا: ثنا حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو، فذكر بإسناده مثله.

حدثنا محمد بن عبد الله بن ميمون، قال: ثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى، قال: ثنا أبو سلمة، قال: حدثني أبو هريرة قال: "لما فتح الله عز وجل على رسوله عليه السلام مكة قتلت هذيل رجلاً من بني ليث بقتيل كان لهم في الجاهلية، فقام إليه النبي عليه السلام فقال: إن الله عز وجل حبس عن أهل مكة الفيل وسلط عليهم رسوله والمؤمنين، وإنها لا تحل لأحد كان قبلي ولا تحل بعدي وإنما أحلت لي ساعتين من نهار، وإنها ساعتي هذه حرام، لا يعضد شجرها، ولا يختلي شوكها، ولا يلتقط ساقطها إلَاّ لمنشد".

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا حرب بن شداد، عن يحيى بن أبي كثير

فذكر بإسناده مثله، غير أنه قال:"إن الله عز وجل حبس عن أهل مكة الفيل، قال: فلا يلتقط ضالتها إلَاّ منشد".

ش: هذه أربع طرق صحاح:

الأول: عن علي بن عبد الرحمن، عن سعيد بن الحكم المصري المعروف بابن أبي مريم شيخ البخاري، عن عبد العزيز بن محمد الدراوردي، عن محمد بن عمرو ابن علقمة، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، عن أبي هريرة.

وأخرجه البزار في "مسنده": ثنا محمد بن بشار، نا عبد الوهاب، نا محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة: "أن رسول الله عليه السلام وقف عام الفتح بالحجون، فقال: والله إنك لأخير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله، ولولا أني

ص: 275

أخرجت منك ما خرجت، وإنها لم تحل لأحد كان قبلي، ولا تحل لأحد بعدي، وإنما أحلت لي ساعة من نهار، ثم هي حرام ساعتي هذه، لا يعضد شجرها، ولا يحتش كلاؤها، ولا تلتقط ضالتها إلَاّ لمنشد، قال: فقال رجل -قال: وزعم الناس أنه عباس رضي الله عنه يا رسول الله، إلَاّ الإِذخر، فإنه لبيوتنا ولقبورنا ولقيوننا، فقال رسول الله عليه السلام: إلَاّ الإِذخر".

وأخرجه الجماعة (1) غير ابن ماجه.

و"الحَجُون" بفتح الحاء وضم الجيم، قد فسرناها مرة أنها مقبرة أهل مكة.

و"القيون" جمع قين وهو الحداد.

الثاني: عن محمد بن خزيمة، عن الحجاج بن منهال شيخ البخاري، وأبي سلمة موسى بن إسماعيل المنقري التبوذكي -بفتح التاء المثناة من فوق وضم الباء الموحدة وفتح الذال المعجمة- نسبة إلى تبوذك محلة بالبصرة، كلاهما عن حماد بن سلمة، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.

الثالث: عن محمد بن عبد الله بن ميمون الإِسكندراني السكري، عن الوليد بن مسلم الدمشقي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير الطائي، عن أبي سلمة عبد الله، عن أبي هريرة.

وأخرجه مسلم (2): حدثني إسحاق بن منصور، قال: ثنا عبيد الله بن موسى، عن شيبان، عن يحيى، قال: أخبرني أبو سلمة، أنه سمع أبا هريرة يقول: "إن خزاعة قتلوا رجلاً من بني ليث عام فتح مكة بقتيل منهم قتلوه، فأخبر بذلك رسول الله عليه السلام، فركب راحلته فخطب فقال: إن الله حبس عن مكة الفيل، وسلط عليها رسوله والمؤمنين، إلَاّ إنها لم تحل لأحد قبلي ولن تحل لأحد بعدي ألا وإنها

(1) البخاري (2/ 857 رقم 2302)، ومسلم (2/ 988 رقم 1355)، وأبو داود (2/ 212 رقم 2017)، والترمذي (4/ 21 رقم 1405).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 989 رقم 1355).

ص: 276

أحلت لي ساعة من النهار ألا وإنها ساعتي هذه حرام، لا يخبط شوكها ولا يعضد شجراؤها ولا تلتقط ساقطتها إلَاّ منشد".

وأخرجه أيضًا (1): عن زهير، عن الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى أبي كثير، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.

قوله: "بقتيل كان لهم" أي بسبب قتيل كان لهم، أو بمقابلة قتيل كان لهم. قوله:"شجراؤها" قال صاحب "المطالع": شجراؤها كذا في حديث إسحاق بن منصور، وعند "الطبري" شجرها كسائر الأحاديث، والشجراء: جمع شجرة، والشجراء: الأرض الكثيرة الشجر، والشجر كل نبات يقوم على ساق ويبقي إلى المصيف حتى أغصان تورق.

الرابع: عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن حرب بن شداد اليشكري البصري العطار، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي سلمة عن أبي هريرة.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(2): ثنا حرب بن شداد، عن يحيى، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة قال:"لما فتح الله عز وجل على رسول الله عليه السلام مكة قام رسول الله عليه السلام فيهم فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: إن الله حبس عن مكة الفيل وسلط عليها رسوله والمؤمنين، وإنما أحلت لي ساعة من النهار، ثم هي حرام إلى يوم القيامة، لا يعضد شجرها، ولا ينفر صيدها، ولا تحل لقطتها إلَاّ لمنشد".

ص: فأخبر رسول الله عليه السلام في هذه الآثار أن مكة لم تحل لأحد كان قبله ولا تحل لأحد بعده، وأنها إنما أحلت له ساعة من نهار، ثم عادت حرامًا كما كانت إلى يوم القيامة، فدل ذلك أن النبي عليه السلام كان دخلها وهي له حلال، فكان له بذلك دخولها بغير إحرام، وهي بعدُ حرام، فلا يدخلها أحد إلَاّ بإحرام.

(1)"صحيح مسلم"(2/ 988 رقم 1355).

(2)

"مسند أحمد"(2/ 238 رقم 7241).

ص: 277

ش: أراد بهذه الآثار الأحاديث التي أخرجها عن ابن عباس وأبي شريح وأبي هريرة رضي الله عنهم.

قوله: "فذكر ذلك" أي قوله: "أحلت لي ساعة من نهار" والباقي ظاهر.

ص: فإن قال قائل: إن معنى ما أحل للنبي عليه السلام ها هنا هو شهر السلاح فيها للقتال وسفك الدماء لا غير ذلك، قيل له: هذا محال، لو كان الذي أبيح للنبي عليه السلام منها هو ما ذكرت خاصة إذاً لم يقل:"ولا تحل لأحد بعدي" وقد رأيناهم أجمعوا أن المشركين لو غلبوا على مكة فمنعوا المسلمين منها أنه حلال للمسلمين قتالهم وشهر السلاح بها وسفك الدماء، وإن حكم من بعد النبي عليه السلام في ذلك في إباحتها في حكم النبي عليه السلام، فدل ذلك أن المعنى الذي كان النبي عليه السلام خُصُّ به فيها وأحلت له من أجله ليس هو القتال، وإذا انتفى أن يكون هو القتال ثبت أنه الإِحرام، ألا ترى إلى قول عمرو بن سعيد لأبي شريح:"إن الحرم لا يمنع سافك دم ولا مانع خربة ولا خالع طاعة". جوابًا لما حدث به أبو شريح عن النبي عليه السلام فلم ينكر ذلك عليه أبو شريح، ولم يقل له: إن النبي عليه السلام إنما أراد بما حدثتك عنه أن الحرم قد يجير كل الناس، ولكن عرف ذلك فلم ينكره.

وهذا عبد الله بن عباس فقد روى ذلك عن النبي عليه السلام ثم قال في رواية: "لا يدخل أحد الحرم إلَاّ بإحرام" وسنذكر ذلك في موضعه إن شاء الله، فدل قوله: هذا أن ما روى عن النبي عليه السلام فيما أحلت له ليس هو على إظهار السلاح بها، وإنما هو على المعنى الآخر؛ لأنه لما انتفى هذا القول ولو لم يكن غيره ثبت القول الآخر.

ش: تقرير السؤال أن يقال: كيف تقول: فدل ذلك أن النبي عليه السلام كان دخلها وهي له حلال فلذلك كان له دخولها بغير إحرام وإنما الذي حل للنبي عليه السلام منها هو شهر السلاح فيها للقتال وسفك الدماء لا غير؟ وهذا السؤال من جهة أهل المقالة الأولى قصدوا به تقرير مذهبهم، وهو جواز دخول الحرم بغير إحرام؛ لأنه عليه السلام دخل عام الفتح بغير إحرام، ونحن لما قلنا: لا يجوز دخولها بغير إحرام،

ص: 278

وقلنا: دخول النبي عليه السلام كان ومكة حلال له حينئذٍ، وهو من خصائصه فلا يجوز لغيره ذلك، قالوا لم يكن ما حل له من ذلك إلا شهر السلاح وسفك الدماء لا غير.

وتقرير الجواب أن يقال: هذه الدعوى ممنوعة؛ إذ لو صحت لما كان لقوله: "ولا تحل لأحد بعدي" فائدة؛ لأنكم مجمعون معنا في أن أهل الشرك لو غلبوا على مكة -والعياذ بالله- ومنعوا المسلمين منها جاز حينئذٍ قتال المسلمين فيها وشهر السلاح وسفك الدماء فيستوي في ذلك حينئذٍ حكم النبي عليه السلام وحكم غيره في إباحتها، فعلم من ذلك أن ما كان حل منها للنبي عليه السلام لم يكن لأجل القتال وإنما كان خاصًّا له، ثم أوضح ذلك بقوله: "ألا ترى

" إلى آخره، وبقوله: "وهذا عبد الله بن عباس

" إلى آخره.

قوله: "وإنما هو على المعنى الآخر" وهو كون دخول النبي عليه السلام مكة بغير إحرام من خصائصه وهو المراد أيضًا من قوله: "ثبت القول الآخر".

ص: ثم احتجنا بعد هذا إلى النظر في حكم من بعد المواقيت إلى مكة هل لهم دخول الحرم بغير إحرام أم لا؟ فرأينا الرجل إذا أراد دخول الحرم لم يدخله إلَاّ بإحرام، وسواء أراد دخول الحرم لإِحرام أو لحاجة غير الإِحرام، ورأينا من أراد دخول المواضع التي بين المواقيت وبين الحرم لحاجة أن له دخولها بغير إحرام، فثبت بذلك أن حكم هذه المواضع إذا كانت تُدْخَل للحوائج بغير إحرام، كحكم ما قبل المواقيت، وأن أهلها لا يدخلون الحرم إلَاّ كما يدخله من كان أهله وراء الميقات إلى الآفاق، فهذا هو النظر عندي في هذا [الباب](1) وهو خلاف قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله وذلك أنهم قلدوا فيما ذهبوا إليه من هذا ما حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا عُبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما:"أنه خرج من مكة يريد المدينة، فلما بلغ قديدًا بلغه عن جيش قدم المدينة، فرجع فدخل مكة بغير إحرام".

(1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معني الآثار".

ص: 279

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، قال: أنا أيوب، عن نافع:"أن ابن عمر خرج من مكة وهو يريد المدينة، فلما كان قريبًا لقيه جيش ابن دلجة، فرجع فدخل مكة حلالًا".

حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن نافع:"أن عبد الله بن عمر أقبل من مكة حتى إذا كان بقديد بلغه خبر من المدينة، فرجع فدخل مكة حلالاً".

فقلدوا ذلك واتبعوه.

وكان النظر عندنا في ذلك خلاف ما ذهبوا إليه.

ش: لما ذكر فيما مضى أن مذهب أبي حنيفة وصاحبيه: أن من كان منزله في بعض المواقيت أو فيما بعدها إلى مكة فله أن يدخلها بغير إحرام، وذكر أن هذا الذي ذكروه ليس هو النظر عنده، وأن النظر عنده خلاف ذلك، شرع ها هنا يبين ما ذهب إليه واختاره، وما احتج به أبو حنيفة وصاحباه فيما ذهبوا إليه، وهو أثر ابن عمر رضي الله عنهما.

وأخرجه من ثلاث طرق صحاح:

الأول: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور الخراساني شيخ مسلم، عن هشيم بن بشير، عن عُبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، عن نافع، عن عبد الله بن عمر.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا علي بن مسهر، عن عُبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر:"أنه أقام بمكة، ثم خرج يريد المدينة حتى إذا كان بقديد بلغه أن جيشًا من جيوش الفتنة دخلوا المدينة، فكره أن يدخل عليهم، فرجع إلى مكة فدخل بغير إحرام".

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 210 رقم 13526).

ص: 280

الثاني: عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن أيوب السختياني، عن نافع.

الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى

إلى آخره، والكل رجال الصحيح.

وأخرجه مالك في "موطإه"(1).

وجه استدلالهم بهذا: أن ابن عمر رجع من قديد وهو موضع فيما وراء الميقات ودخل مكة بغير إحرام، فدل ذلك على أن لأهل ما وراء المواقيت أن يدخلوا مكة بغير إحرام، وقال الكاساني: ويجوز لمن كان من أهل مكة ومن أهل الميقات وما بعده دخول مكة لغير إحرام الحج والعمرة من غير إحرام عندنا، ولا يجوز ذلك في أحد قولي الشافعي، وفي قوله الثاني: إذا تكرر دخولهم يجب عليه الإِحرام في كل سَنة مرة، والصحيح قولنا؛ لما روي عن النبي عليه السلام أنه رخص للحطابين أن يدخلوا مكة بغير إحرام، وعادة الحطابين أنهم لا يتجاوزون الميقات وروي عن ابن عمر أنه خرج من مكة إلى قديد فبلغه خبر فتنة بالمدينة، فرجع ودخل مكة بغير إحرام، وفي "شرح الموطأ" للإِشبيلي: وقال الشافعي: من دخل مكة خائفًا من سلطان أو من لا يقدر على دفعه جاز له دخولها بغير إحرام وهو في معنى المحصر، واحتج برجوع ابن عمر من قديد، ومشهور مذهبه أنه لا يدخلها أحد إلَاّ محرمًا، إلَاّ الحطابين وأصحاب الفاكهة، لكنه لا يرى على من دخلها غير محرم شيئًا.

ص: وقد روي عن غير ابن عمر في ذلك ما يخالف هذا:

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا عثمان المؤذن، قال: ثنا ابن جريج، قال: قال عطاء: قال ابن عباس: "لا عمرة على المكي إلَاّ أن يخرج من الحرم، ولا يدخله إلَاّ حرامًا، فقيل لابن عباس: فإن خرج الرجل من مكة قريبًا؟ قال: نعم يقضي حاجته ويجعل مع قضائها عمرة".

(1)"موطأ مالك"(1/ 423 رقم 947).

ص: 281

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سليمان بن حرب، قال: ثنا حماد بن زيد، عن علي بن الحكم، عن عطاء قال:"لا يدخل أحد الحرم إلَاّ بإحرام، فقيل: ولا الحطابون؟ قال: ولا الحطابون، قال: ثم بلغني بعد أنه رخص للحطابين".

حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد، قال: ثنا هشيم، قال: أنا عبد الملك، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس، أنه كان يقول:"لا يدخل مكة تاجر ولا طالب حاجة إلا وهو محرم".

حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا سعيد بن منصور، قال: ثنا هشيم، قال: أنا يونس، عن الحسن أنه كان يقول ذلك.

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن قيس، عن عطاء، عن ابن عباس قال:"لا يدخل أحد مكة إلا محرمًا".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا أفلح بن حميد، عن القاسم بن محمد قال:"لا يدخل أحد مكة إلَاّ محرمًا".

ش: أي قد روي عن غير عبد الله بن عمر من الصحابة والتابعين في دخول مكة بغير إحرام ما يخالف ما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما وأشار بهذا إلى تصحيح ما ذكره من وجه النظر الذي يخالف قول أبي حنيفة وصاحبيه، وإلى الجواب عما احتجوا بأثر ابن عمر، وأخرج في ذلك ستة وجوه:

الأول: عن محمد بن خزيمة، عن عثمان بن الهيثم البصري، مؤذن الجامع بالبصرة وشيخ البخاري، عن عبد الملك بن جريج، عن عطاء بن أبي رباح، عن ابن عباس وهذا سند صحيح على شرط البخاري.

وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا ابن إدريس، عن ابن جريج، عن عطاء قال: "ليس على أهل مكة عمرة؛ قال ابن عباس: أنتم يا أهل مكة لا عمرة لكم،

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 431 رقم 15692).

ص: 282

إنما عمرتكم الطواف بالبيت، فمن جعل بينه وبين الحرم بطن وادي فلا يدخل مكة إلَاّ بإحرام، قال: فقلت لعطاء: يريد ابن عباس وادي في الحل؟ قال: بطن وادي من الحل".

واستفيد منه حكمان:

أحدهما: أن المكي لا عمرة عليه، وهو مذهب عطاء وسالم وطاوس.

والآخر: أن مكة لا يدخلها أحد إلَاّ محرمًا، سواء كان من أهل مكة وخرج إلى الحل أو من أهل الميقات أو من أهل الآفاق.

الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سليمان بن حرب الواشحي شيخ البخاري وأبي داود، عن حماد بن زيد، عن علي بن الحكم البناني روى له الجماعة سوى مسلم، عن عطاء بن أبي رباح

إلى آخره، وهذا أيضًا سند كالذي قبله.

وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا حفص، عن عبد الملك، عن عطاء قال:"ليس [لأحد أن] (2) يدخل مكة إلَاّ بإحرام، وكان عبد الملك رخص للحطابين".

الثالث: عن صالح بن عبد الرحمن، عن سعيد بن منصور الخراساني شيخ مسلم، عن هشيم بن بشير، عن عبد الملك بن أبي سليمان العرزمي، عن عطاء، عن ابن عباس. وهذا أيضًا صحيح.

وأخرج البيهقي في "سننه"(3): أنا عبد الله بن يوسف، أنا ابن الأعرابي، ثنا سعدان، ثنا إسحاق الأزرق وعبد الملك، عن عطاء، عن ابن عباس:"أنه قال: ما يدخل مكة أحد من أهلها ولا من غير أهلها إلَاّ بإحرام".

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 209 رقم 13521).

(2)

في "الأصل، ك": "أحد"، والمثبت من "المصنف".

(3)

"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 177 رقم 9620).

ص: 283

الرابع: عن صالح أيضًا، عن سعيد بن منصور أيضًا، عن هشيم بن بشير أيضًا، عن يونس بن عبيد بن دينار البصري، عن الحسن البصري.

وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا علي بن هاشم ووكيع، عن طلحة، عن عطاء، عن ابن عباس قال:"لا يدخل أحد مكة إلا بإحرام إلا الحطابين والعجانين وأصحاب منافعها".

السادس: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن أفلح بن حميد، عن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنهم.

وهذا أيضًا سند صحيح.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): ثنا أبو عامر العقدي، عن أفلح، عن القاسم قال:"لا يدخل مكة إلا محرمًا".

وروي أيضًا نحو ذلك عن علي بن أبي طالب ومجاهد، قال ابن أبي شيبة (3): نا وكيع، عن إسرائيل، عن ثوير، عن أبي جعفر، عن علي رضي الله عنه قال:"لا يدخلها إلَاّ بإحرام يعني مكة".

نا أبو بكر بن عياش (4): عن ليث، عن مجاهد قال:"لا يدخل مكة إلَاّ محرمًا".

ص: فإن قال قائل: أفيجوز لمن كان بعد المواقيت إلى مكة أن يتمتع؟ قيل له: نعم وهو أيضًا في ذلك خلاف أهل مكة، وهذا خلاف قول أصحابنا، ولكنه النظر عندنا على ما قد ذكرنا وبيّنا، وحاضروا المسجد الحرام عندنا هم أهل مكة خاصة، وقد قال بهذا القول الدي ذهبنا إليه في هذا: نافع مولى ابن عمر، وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 209 رقم 13517).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 210 رقم 13525).

(3)

"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 209 رقم 13518).

(4)

"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 210 رقم 13524).

ص: 284

حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني مخرمة بن بكير، عن أبيه قال:"سمعت نافعًا مولى ابن عمر يُسأل عن قول الله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} (1) أجوف مكة أم حولها؟ قال: جوف مكة".

وقال ذلك عبد الرحمن الأعرج.

ش: لما أثبت أن حكم أهل المواقيت حكم ما قبلها لا كحكم ما بعدها حتى لم يجوِّز لهم دخول مكة إلَاّ بالإِحرام كما لأهل الآفاق، وأثبت أيضًا أن أهل المواضع التي بين المواقيت وبين مكة لا يدخلون مكة إلَاّ بإحرام، ورد عليه سؤال، بيانه: أن يقال: إن التمتع عند أبي حنيفة وأصحابه ليس إلَاّ لأهل الآفاق، وليس لأهل مكة ولا لأهل الحل الذين منازلهم داخل المواقيت الخمسة تمتع، وأنت حملت حكم أهل المواضع التي بين المواقيت وبين مكة كحكم ما قبل المواقيت، فعلى هذا ينبغي أن يجوز لهم أن يتمتعوا، ومع هذا لا يجوز عند أصحابك، فأجاب بقوله: نعم يجوز ذلك لهم عندي؛ لأني أخالف قول أصحابنا في هذا، وأقول: إنهم عندي خلاف أهل مكة، فإن عاد السائل وقال: كيف تقول هم خلاف أهل مكة وهم من أهل حاضري المسجد الحرام عند أصحابك؟ فالجواب أن حاضري المسجد الحرام عندي هم أهل مكة خاصة؛ لأني أختار في هذا قول نافع مولى ابن عمر وعبد الرحمن بن هرمز الأعرج، فإنهما قالا: حاضروا المسجد الحرام هم أهل مكة خاصة.

وأخرجه عنهما بإسناد صحيح على شرط مسلم، عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مخرمة بن بكير، عن أبيه بكير بن عبد الله بن الأشج، عن نافع

إلى آخره.

ثم اعلم أنهم اختلفوا في حاضري المسجد الحرام، فقال الجصاص: اختلف الناس في ذلك على أربعة أوجه، فقال عطاء ومكحول: من دون المواقيت إلى مكة، وهو قول أصحابنا إلا أن أصحابنا يقولون: أهل المواقيت بمنزلة من

(1) سورة البقرة، آية:[196].

ص: 285

دونها، وقال ابن عباس ومجاهد: هم أهل الحرم، وقال الحسن وطاوس ونافع وعبد الرحمن الأعرج: أهل مكة، وهو قول مالك بن أنس، وقال الشافعي: هم من كان أهله دون ليلتين، وهو حينئذ أقرب المواقيت، وما كان وراءهم فعليهم المتعة، قال الجصاص: لما كان أهل المواقيت فمن دونها إلى مكة لهم أن يدخلوها بغير إحرام وجب أن يكونوا بمنزلة أهل مكة ألا ترى أن من خرج من مكة مما لم يجاوز الميقات فله الرجوع ودخولها بغير إحرام وكان تصرفهم في الميقات فما دونه بمنزلة تصرفهم من مكة؟ فوجب أن يكونوا بمنزلة أهل مكة في حكم المتعة، ويدل على أن الحرم وما قرب منه أهله من حاضري المسجد الحرام وليس أهل مكة منهم؛ لأنهم قد كانوا أسلموا حين فتحت وإنما نزلت الآية بعد الفتح في حجة أبي بكر رضي الله عنه وهم بنو مدلج وبنو الديل، وكانت منازلهم خارص مكة في الحرم وما قرب منه.

فإن قيل: كيف يكون أهل ذي الحليفة من حاضري المسجد الحرام وبينهم وبين مكة مسيرة عشر ليال؟

قيل له: وإن لم يكونوا من حاضري المسجد الحرام فهم في حكمهم من باب جواز دخولهم مكة بغير إحرام، ومن باب أنهم متى أرادوا الإِحرام أحرموا من منازلهم، كما أن أهل مكة إذا أرادوا الإِحرام أحرموا من منازلهم، فيدل ذلك على أن المعنى: حاضروا المسجد الحرام ومن في حكمهم انتهى.

ثم إن المكي لا يكره له التمتع ولا القران عند الشافعي ومالك وأحمد وداود، وإن تمتع لم يلزمه دم، وقال أبو حنيفة: يكره له التمتع والقران، فإن تمتع أو قرن فعليه دم جبرًا، وهما في حق الآفاقي مستحبان، ويلزمه الدم شكرًا.

قوله: "وقد قال بهذا القول" أراد به القول بأن حاضري المسجد الحرام هم أهل مكة خاصة "نافع وعبد الرحمن الأعرج" وهو قول عطاء والحسن البصري وطاوس وسفيان وداود ومالك -في رواية-.

ص: 286

وفي "المحلى" قال الشافعي: هم من كان من مكة على أربعة برد بحيث لا يقصروا الصلاة إلى مكة، وصح هذا عن عطاء، وقال مالك: هم أهل مكة وذي طوى، وقال سفيان وداود: هم أهل دور مكة فقط، وصح عن نافع مولى ابن عمر وعن الأعرج، وروينا عن طاوس وعطاء والحسن: أنهم أهل مكة، إلَاّ أن طاوساً قال: إذا اعتمر المكي من أحد المواقيت ثم حج من عامه فعليه ما على المتمتع، وروينا من طريق عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري: حاضروا المسجد الحرام كل من كان أهله من مكة على يوم أو نحوه، وقال آخرون: هم أهل الحرم.

***

ص: 287