المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: نكاح المحرم - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ١٠

[بدر الدين العيني]

فهرس الكتاب

- ‌ص: باب: الجمع بين الصلاتين كيف هو

- ‌ص: باب: وقت رمي جمرة العقبة للضعفاء الذين يرخص لهم في ترك الوقوف بمزدلفة

- ‌ص: باب: رمي جمرة العقبة ليلة النحر قبل طلوع الفجر

- ‌ص: باب: الرجل يدع رمي جمرة العقبة يوم النحر ثم يرميها بعد ذلك

- ‌ص: باب: التلبية متى يقطعها الحاج

- ‌ص: باب: اللباس والطيب متى يحلان للمحرم

- ‌ص: باب: المرأة تحيض بعدما طافت للزيارة قبل أن تطوف للصدر

- ‌ص: باب: من قدم من حجه نسكًا قبل نسك

- ‌ص: باب: المكيّ يريد العمرة من أين ينبغي له أن يحرم

- ‌ص: باب: الهدي يصد عن الحرم هل ينبغي أن يذبح في غير الحرم

- ‌ص: باب: المتمتع الذي لا يجد هديًا ولا يصوم في العشر

- ‌ص: باب: حكم المحصر بالحج

- ‌ص: باب: حج الصغير

- ‌ص: باب: دخول الحرم هل يصلح بغير إحرام

- ‌ص: باب: الرجل يوجه بالهدي إلى مكة ويقيم في أهله هل يتجرد إذا قلد الهدي

- ‌ص: باب: نكاح المحرم

- ‌ص: كتاب النكاح

- ‌ص: باب: بيان ما نهى عنه من سوم الرجل على سوم أخيه وخطبته على خطبة أخيه

- ‌ص: باب: نكاح المتعة

- ‌ص: باب: مقدار ما يقيم الرجل عند الثيب أو البكر إذا تزوجها

- ‌ص: باب: العزل

- ‌ص: باب: الحائض ما يحل لزوجها منها

- ‌ص: باب: وطء النساء في أدبارهنَّ

- ‌ص: باب: وطء الحُبالى

- ‌ص: باب: انتهاب ما ينثر على القوم مما يفعله الناس في النكاح

الفصل: ‌ص: باب: نكاح المحرم

‌ص: باب: نكاح المحرم

ش: أي هذا باب في بيان نكاح المحرم هل يجوز أم لا؟.

ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا وابن أبي ذئب حدثاه، عن نافع، عن نبيه بن وهب أخي بني عبد الدار، عن أبان بن عثمان، قال: سمعت أبي عثمان بن عفان يقول: قال رسول الله عليه السلام: "لا يَنكح المحرم ولا يُنكح، ولا يخطب".

حدثنا يزيد بن سنان، قال: نا بشر بن عمر، قال: ثنا مالك، عن نافع

فذكر بإسناده مثله، غير أنه لم يقل:"ولا يخطب".

حدثنا يزيد، قال: ثنا أبو عامر العقدي، قال: ثنا فليح بن سليمان، عن عبد الجبار بن نبيبة بن وهب، عن أبيه، عن أبان بن عثمان، عن عثمان، أن رسول الله عليه السلام قال:"لا يَنكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب".

حدثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا يوسف القطان، قال: ثنا سلمة بن الفضل، عن إسحاق بن راشد، عن زيد بن علي، عن أبان بن عثمان، عن عثمان، عن رسول الله عليه السلام مثله؛ غير أنه لم يقل:"ولا يخطب".

حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا أبو معمر، قال: ثنا عبد الوارث، قال: ثنا أيوب بن موسى المكي، قال: ثنا نبيه، عن أبان بن عثمان رضي الله عنه، قال: حدثني عثمان، عن رسول الله عليه السلام قال:"المحرم لا يَنكح ولا يُنكح".

ش: هذه خمس طرق:

الأول: رجاله كلهم رجال الصحيح، وابن أبي ذئب هو محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب المدني ونُبَيْه -بضم النون وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف وفي آخره هاء- ابن وهب بن عثمان بن أبي طلحة بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار بن قصي العبدري الحجي.

ص: 308

وأخرجه مسلم (1): نا يحيى بن يحيى، قال: قرأت على مالك، عن نافع، عن نبيه بن وهب:"أن عمر بن عبيد الله أراد أن يزوج طلحة بن عمر بنت شبيبة بن جبير، فأرسل إلى أبان بن عثمان يحضر ذلك -وهو أمير الحاج- فقال أبان: سمعت عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول: قال رسول الله عليه السلام: "لا يَنكح المحرم ولا يُنكح ولا يخطب".

الثاني: عن يزيد بن سنان، عن بشر بن عمر الزهراني، عن مالك

إلى آخره، وهذا أيضًا صحيح.

وأخرجه أبو داود (2): ثنا القعنبي، عن مالك، عن نافع، عن نبيه بن وهب أخي بني عبد الدار:"أن عمر بن عبيد الله أرسل إلى أبان بن عثمان -وأبان يومئذ أمير الحاج- وهما محرمان. إني أردت أن أنكح طلحة بن عمير بنت شيبة بن جبير، وإني أردت أن تحضر ذلك، فأنكر ذلك عليه أبان، وقال: سمعت أبي عثمان بن عفان يقول: قال رسول الله عليه السلام: "لا ينكح المحرم ولا ينُكح".

الثالث: عن يزيد بن سنان أيضًا، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن فليح بن سليمان بن أبي المغيرة المدني، عن عبد الجبار بن نبيه، عن أبيه نبيه، عن أبان بن عثمان، عن عثمان.

وهذا أيضاً إسناد صحيح.

وأخرجه أحمد: عن إسحاق، عن فليح، عن عبد الأعلى وعبد الجبار ابني نبيه بن وهب، عن أبيهما، عن أبان، عن عثمان رضي الله عنه عن النبي عليه السلام مثل ذلك (3).

الرابع: عن محمد بن جعفر بن حفص الإِمامي شيخ النسائي والطبراني أيضًا، عن يوسف بن موسى القطان الكوفي المعروف بالرازي شيخ الجماعة غير مسلم

(1)"صحيح مسلم"(2/ 1030 رقم 1409).

(2)

"سنن أبي داود"(2/ 169 رقم 1841).

(3)

وأخرجه ابن حبان في "صحيحه"(9/ 434 رقم 4125).

ص: 309

والترمذي، عن سلمة بن الفضل أبي عبد الله الأبرش الأزرق الرازي قاضي الري، قال ابن معين: ليس به بأس يتشيع. وقال البخاري: عنده مناكير، وهنه علي، قال: ما خرجنا من الري حتى رمينا بحديثه. وقال أبو حاتم: محله الصدق يكتب حديثه، ولا يحتج به. وقال ابن سعد: كان ثقة صدوقًا، وهو صاحب مغازي محمد بن إسحاق، روى له أبو داود والترمذي.

عن إسحاق بن راشد الجزري الحراني روى له الجماعة إلا مسلمًا، عن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم ذكره بن حبان في الثقات وقال رأي جماعة من الصحابة روى له الأربعة، النسائي في مسند علي.

الخامس: عن أحمد بن داود المكي، عن أبي معمر عبد الله بن عمرو بن أبي الحجاج المنقري المقعد شيخ البخاري ومسلم، عن عبد الوارث بن سعيد، عن أيوب بن موسى بن عمرو بن سعيد الأموي المكي روى له الجماعة، عن نبيه بن وهب

إلى آخره.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): نا عفان، قال: نا عبد الوارث، نا أيوب ابن موسى، عن نبيه بن وهب:"أن عمر بن عبيد الله أراد أن يزوج ابنه وهو محرم فنهاه أبان وزعم أن عثمان حدث عن رسول الله عليه السلام قال: المحرم لا يَنكح ولا ينُكح".

وأخرجه الترمذي (2) أيضًا: عن أحمد بن منيع، عن إسماعيل بن علية، عن أيوب، عن نافع، عن نبيه قال:"أراد ابن معمر أن ينكح ابنه، فبعثني إلى أبان بن عثمان -وهو أمير الموسم- فأتيته فقلت: إن أخاك يريد أن ينكح ابنه فأحب أن يشهدك ذلك، قال: لا أراه إلا أعرابيًّا جافيًا؛ إن المحرم لا يَنكح ولا ينُكح -أو كما قال- ثم حدث عن عثمان مثله" يرفعه.

(1)"مسند أحمد"(1/ 65 رقم 466).

(2)

"جامع الترمذي"(3/ 199 رقم 840).

ص: 310

وأخرجه النسائي (1) أيضًا: عن أبي الأشعث، عن يزيد بن زريع، عن سعيد بن مطر ويعلى بن حكيم، عن نبيه بن وهب، عن أبان بن عثمان، أن عثمان بن عفان حدث عن النبي عليه السلام أنه قال:"لا ينكح المحرم ولا ينكح ولا يخطب".

قوله: "لا ينكح المحرم" بفتح الياء وكسر الكاف؛ لأنه من باب ضَرَبَ يَضْرِبُ، وذكره في "الدستور" في باب فَعَلَ يَفْعِلُ بالفتح في الماضي والكسر في المستقبل، يقال نكح وتزوج نكحًا ونكاحًا.

فإن قيل: فيه حرف الحلق فينبغي أن تفتح العين في المستقبل.

قلت: لا يلزم أن تكون كل كلمة فيها حرف حلق أن تكون من باب فَعَلَ يَفْعَلُ بالفتح فيهما بل اللازم أن فعل يفعل بالفتح فيهما أن تكون فيها حرف من حروف الحلق.

قال الجوهري: النكاح الوطئ وقد يكون العقد، تقول: نكحتها، ونكحت هي أي تزوجت.

قلت: المراد ها هنا العقد؛ لأن المحرم ممنوع من الوطئ إجماعًا.

قوله: "ولا يُنكح" بضم الياء وكسر الحاء، من الإِنكاح، ومعناه: لا ينكح غيره، أي لا يعقد على غيره، ووجهه أنه لما كان ممنوعًا من نكاح نفسه مدة الإِحرام كان معزولًا تلك المدة أن يعقد لغيره، وشَاَبَه المرأة التي لا تعقد على نفسها ولا على غيرها.

قوله: "ولا يخطب" من خَطَبَ يَخطُبُ -من باب نَصَرَ يَنْصُرُ- خِطبةً بالكسر فهو خاطب، والاسم منه الخِطبة أيضًا فأما الخُطْبَة بالضم فهو من القول والكلام، وإنما نهي عن الخِطبة أيضًا لما فيها من التعرض إلى النكاح.

(1)"المجتبى"(6/ 88 رقم 3276).

ص: 311

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى هذا الحديث، فقالوا: لا يجوز للمحرم أن يَنكح ولا يُنكح ولا يخطب.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: سعيد بن المسيب وسالمًا والقاسم وسليمان بن يسار والليث والأوزاعي ومالكًا والشافعي وأحمد وإسحاق؛ فإنهم قالوا: لا يجوز للمحرم أن ينكح ولا ينكح غيره ولا يخطب، فإن فعل ذلك فالنكاح باطل، وهو قول عمر وعلي رضي الله عنهما وفي "شرح الموطأ" للإِشبيلي، وقوله: ولا يخطب يحتمل أن يريد السفارة في النكاح ويحتمل إيراد الخطبة حالة النكاح، فأما السفارة فيه فممنوع، فإن سفر فيه وتناول العقد غيره أو سفر فيه لنفسه وأكمل العقد بعد التحلل فلم أر فيه نصًّا، وعندي أنه أساء ولا يفسخ، ويتخرج على قول أصحابنا فيمن خطب في العدة وعقد بعدها القولان، وأما إن خطب في عقد النكاح وتناول العقد غيره فكما ذكرنا، وقد أساء من حضر العقد، رواه أشهب عن مالك، وقال أصبغ: لا شيء عليه، واختلف قول مالك في إبطال نكاح المحرم، فقال مرة: هو فسخ، وقال مرة: هو طلاق، وقوله في قصة طريف ردَّ عمر رضي الله عنه نكاحًا يقتضي الفسخ، والفسخ باسم الرد أليق، وعقد النكاح ممنوع حتى يحل بالإِفاضة، فإن تزوج بعد الرمي وقبل الإِفاضة فسخ نكاحه، رواه محمد بن القاسم، وقال مالك: ويراجع المحرم إن شاء إذا كانت في عدة منه ، ولا خلاف في ذلك بين أئمة الفتوى بالأمصار، وروي عن ابن حنبل أنه منعه الرجعة والله أعلم.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا نرى بذلك بأسًا، ولكنه إن تزوج فلا ينبغي أن يدخل بها حتى يحل.

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: النخعي والثوري وعطاء بن أبي رباح والحكم بن عتيبة وحماد بن أبي سليمان وعكرمة ومسروقًا وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا؛ فإنهم قالوا: لا بأس للمحرم أن ينكح، ولكنه لا يدخل بها حتى يحل، وهو قول ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهم.

ص: 312

ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد، قال: ثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، قال: ثنا محمد بن إسحاق (ح).

وحدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا عبد الله بن هارون، قال: ثنا أبي، قال: حدثني ابن إسحاق، قال: ثنا أبان بن صالح وعبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، وعطاء، عن ابن عباس:"أن رسول الله عليه السلام تزوج ميمونة بنت الحارث وهو حرام قائم بمكة ثلاثًا، فأتاه حويطب بن عبد العُزى في نفر من قريش في اليوم الثالث، فقالوا: إنه قد انقضى أجلك فأخرج عنا، فقال: وما عليكم لو تركتموني فعرست بين أظهركم، فصنعنا لكم طعامًا فحضرتموه؟! فقالوا: لا حاجة لنا في طعامك فأخرج عنا، فخرج رسول الله عليه السلام وخرج بميمونة حتى عرس بها بسرف".

حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو عامر، قال: ثنا رباح بن أبي معروف، عن عطاء، عن ابن عباس:"أن رسول الله عليه السلام تزوج ميمونة بنت الحارث وهو محرم".

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا معلى بن أسد، قال: ثنا وهيب، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس، عن النبي عليه السلام مثله.

حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن ابن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس، عن النبي عليه السلام مثله.

حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد (ح).

وحدثنا ابن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قالا: ثنا حماد بن سلمة، عن حميد، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي عليه السلام مثله.

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا إبراهيم بن بشار (ح).

وحدثنا إسماعيل بن يحيى، قال: ثنا محمد بن إدريس، قالا: ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد، عن ابن عباس، عن النبي عليه السلام مثله.

ص: 313

قال عمرو: فحدثني ابن شهاب، عن يزيد بن الأصم:"أن النبي عليه السلام نكح ميمونة وهي خالته وهو حلال، قال عمرو: فقلت للزهري: وما يدري ابن الأصم أعرابي بوال، أتجعله مثل ابن عمر؟! ".

ش: أي واحتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث ابن عباس.

وأخرجه من تسع طرق صحاح:

الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن محمد بن إسحاق بن يسار، عن أبان بن صالح بن عمير المكي، وعبد الله بن أبي نجيح يسار المكي كلاهما، عن مجاهد بن جبر المكي، وعطاء بن أبي رباح المكي، كلاهما عن ابن عباس.

ومحمد بن إسحاق وإن كان مدلسًا فقد صرح بالتحديث، وصحح حديثه ابن حبان وغيره، وأخرجه ابن إسحاق في "مغازيه" وموسى بن عقبة أيضًا عن الزهري قال: وبعث رسول الله عليه السلام بين يديه يعني بعدما خرج معتمرًا جعفر بن أبي طالب إلى ميمونة بنت الحارث العامرية، فخطبها عليه، فجعلت أمرها إلى العباس وكان زوج أختها أم الفضل بنت الحارث، فزوجها العباس رسول الله عليه السلام

وساق الحديث إلى أن قال: فقام رسول الله عليه السلام وأقام ثلاث ليال، وكان ذلك آخر القضية يوم الحديبية، فلما أن أصبح من اليوم الرابع أتاه سهيل بن عمرو وحويطب بن عبد العزى، ورسول الله عليه السلام في مجلس الأنصار يتحدث مع سعد بن عبادة، فصاح حويطب بن عبد العزى نناشدك الله والعقد ألا خرجت من أرضنا، فقد مضت الثلاث، فقال سعد بن عبادة: كذبت، لا أم لك، ليس بأرضك ولا بأرض آبائك، والله لا يخرج، ثم نادى رسول الله عليه السلام سهيلًا وحويطبًا فقال: إني قد نكحت فيكم امرأة، فما يضركم أن أمكث حتى أدخل بها ونصنع الطعام فنأكل وتأكلون معنا، فقالوا: نناشدك الله والعقد إلا خرجت منا، فأمر رسول الله عليه السلام أبارافع فأذن بالرحيل، وركب رسول الله عليه السلام حتى نزل بطن سرف وأقام

ص: 314

المسلمون، وخلف رسول الله عليه السلام أبا رافع ليحمل ميمونة، وأقام بسرف حتى قدمت عليه ميمونة، وقد لقيت ميمونة ومن معها عناء وأذى من سفهاء المشركين ومن صبيانهم، فقدمت على رسول الله عليه السلام بسرف، فبنى بها ثم أدلج، فسار حتى قدم المدينة، وقدر الله أن يكون موت ميمونة بسرف بعد ذلك بحين، فماتت حيث بنى بها رسول الله عليه السلام.

الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن عبد الله بن هارون بن أبي عيسى الشامي أبي علي نزيل البصرة، وثقه ابن حبان، عن أبيه هارون بن أبي عيسى الشامي كاتب محمد بن إسحاق، وثقه ابن حبان وروى له النسائي، عن محمد ابن إسحاق

إلى آخره.

قوله: "وهو حرام" جملة حالية، والحرام ضد الحلال، وأراد به: وهو محرم.

قوله: "فعرست" هكذا هو من التعريس، قال الجوهري: أعرس فلان: أي أعدّ عرسًا، وأعرس بأهله إذا بنى بها، وكذلك إذا غشيها ولا تقل: عَرَّس، والعامة تقوله. انتهى، وهذا كما تراه يرد قول الجوهري، وكذلك قوله:"حتى عرس" بها.

قوله: "بين أظهركم" معناه: فعرست بينكم على سبيل الاستظهار، والمعنى بين ظَهْرًا منهم قدامه، وظهرا وراءه، فهو مكشوف من جانبيه ومن جوانبه إذا قيل: بين أظهرهم.

قوله: "بسرف" أي في سرف وقد ذكرنا غيره مرة أنها بفتح السين وكسر الراء وفي آخره فاء، موضع بينه وبين مكة، وهو على ستة أميال من مكة.

الثالث: عن يزيد بن سنان القزاز، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن رَبَاح بن أبي معروف بن أبي سارة المكي، عن عطاء بن رباح والكل ثقات، وأخرجه العدني في "مسنده": ثنا أبو معاوية، عن إسماعيل بن مسلم، عن عطاء، عن ابن عباس قال:"تزوج رسول الله عليه السلام ميمونة وهو محرم وهي محرمة، بماء يقال له سرف".

ص: 315

الرابع: عن محمد بن خزيمة، عن معلى بن أسد العمي البصري شيخ البخاري، عن وهيب بن خالد، عن عبد الله بن طاوس، عن أبيه طاوس، عن ابن عباس.

وأخرجه الطبراني (1): نا العباس بن الفضل الأسفاطي، نا سهل بن بكار، ثنا وهيب، عن ابن طاوس، عن أبيه، عن ابن عباس:"أن النبي عليه السلام نكح ميمونة وهو محرم".

الخامس: عن علي بن شيبة، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن سفيان الثوري، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم القاري، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس.

وأخرجه الطبراني (2) أيضًا: ثنا علي بن عبد العزيز، ثنا أبو نعيم، نا سفيان، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس:"أن النبي عليه السلام تزوج وهو محرم، واحتجم وهو محرم".

السادس: عن ربيع المؤذن، عن أسد بن موسى، عن حماد بن سلمة، عن حميد الطويل، عن عكرمة، عن ابن عباس، عن النبي عليه السلام.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(3): نا يحيى، عن هشام، عن عكرمة، عن ابن عباس:"أن رسول الله عليه السلام تزوج ميمونة وهو محرم، واحتجم وهو محرم".

السابع: عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال الأنماطي شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن حميد الطويل، عن عكرمة، عن ابن عباس.

وأخرجه النسائي (4): أنا عمرو بن علي، عن محمد بن سواء، نا سعيد، عن قتادة، ويعلى بن حكيم، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:"تزوج رسول الله عليه السلام ميمونة بنت الحارث وهو محرم" وفي حديث يعلى: "بسرف".

(1)"المعجم الكبير"(11/ 23 رقم 10918).

(2)

"المعجم الكبير"(12/ 62 رقم 12476).

(3)

"مسند أحمد"(1/ 346 رقم 3233).

(4)

"المجتبى"(6/ 87 رقم 3271).

ص: 316

الثامن: عن أبي بكرة بكار القاضي، عن إبراهيم بن بشار الرمادي، عن سفيان ابن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن زيد الأزدي اليحمدي أبي الشعثاء، عن ابن عباس.

وأخرجه مسلم (1): نا أبو بكر بن أبي شيبة وابن نمير وإسحاق الحنظلي، جميعًا عن ابن عيينة، قال ابن نمير: نا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن أبي الشعثاء، أن ابن عباس أخبره:"أن النبي عليه السلام تزوج وهو محرم" زاد ابن نمير: فحدثت به الزهري فقال: أخبرني يزيد بن الأصم: "أنه نكحها وهو حلال".

التاسع: عن إسماعيل بن يحيى المزني، عن محمد بن إدريس الشافعي، عن سفيان ابن عيينة

إلى آخره.

وأخرجه البيهقي في كتاب "المعرفة"(2): أنا أبو عبد الله وأبو بكر وأبو زكريا، قالوا: ثنا أبو العباس، قال: أنا الربيع، قال: أنا الشافعي، قال: أنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن ابن شهاب، قال: أخبرني يزيد بن الأصم: "أن رسول الله عليه السلام نكح وهو حلال" قال عمرو قلت: لابن شهاب أتجعل يزيد ابن الأصم إلى ابن عباس؟! ".

قال أحمد (3): ورواه الحميدي، عن سفيان، وزاد فيه: قال: "نكح ميمونة وهو حلال، وهي خالته، قال: فقلت لابن شهاب: أتجعل أعرابيًّا بوالًا على عقبيه إلى ابن عباس؟! " وقد ذكره الشافعي في رواية المزني عنه.

قوله: "وما يدري ابن الأصم" أي يزيد بن الأصم، واسم الأصم: عمرو -ويقال: عبد عمرو- بن عبيد العامري البكائي أبو عوف المكي نزل الرقة، أمه برزة بنت الحارث أخت ميمونة زوج النبي عليه السلام، وخاله عبد الله بن عباس، قيل: إن له رؤية من النبي عليه السلام، وذكره ابن حبان في "الثقات" من التابعين.

(1)"صحيح مسلم"(2/ 1031 رقم 1410).

(2)

"المعرفة"(4/ 36 رقم 2886).

(3)

هو الإِمام البيهقي صاحب "المعرفة".

ص: 317

قوله: "أعرابي بوال" أراد به نسبته إلى الجهل، ومعناه جاهل بالسُّنَّة، والأعرابي: البدوي، والغالب على أهل البادية الجهل، وأراد عمرو بن دينار بهذا الكلام الطعن في حديث زيد بن الأصم، حيث قال: إن النبي عليه السلام نكح ميمونة وهو حلال، وهو يخالف ما قال ابن عباس:"إن النبي عليه السلام تزوجها وهو محرم".

فإن قيل: قال البيهقي: هذا الذي قاله عمرو بن دينار لا يوجب طعنًا في روايته، ولو كان مطعونًا من الرواية لما احتج به ابن شهاب الزهري، وإنما قصد ابن دينار بما قال ترجيح رواية ابن عباس على رواية يزيد بن الأصم، والزجيح يقع بما قال عمرو لو كان يزيد يقوله مرسلًا كما [كان](1) ابن عباس يقوله مرسلًا إذ لم يشهد عمرة القضية كما لم يشهدها يزيد بن الأصم، إلا أن يزيد إنما رواه عن ميمونة وهي صاحبة الأمر فهي أعلم بأمرها من غيرها.

أنا أبو عبد الله الحافظ (2)، قال: أخبرني عبد الله بن أحمد النسوي، قال: ثنا الحسن بن سفيان، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا يحيى بن آدم، قال: ثنا جرير بن حازم، قال: ثنا أبو فزارة، عن يزيد بن الأصم، قال: حدثتني ميمونة بنت الحارث: "أن رسول الله عليه السلام تزوجها وهي حلال، قال: وكانت خالتي وخالة ابن عباس".

وأخرجه مسلم في "الصحيح"(3): عن أبي بكر بن أبي شيبة.

وكذلك رواه ميمون بن مهران، عن يزيد بن الأصم، عن ميمونة موصولاً، وإن كان جعفر بن برقان رواه عن ميمونة مرسلًا؛ فقد رواه حبيب بن الشهيد وهو أوثق من جعفر بن برقان، ومعه الوليد بن زروان، كلاهما عن ميمون بن مهران موصولاً، ومع روايتهما عن ميمون رواية أبي فزارة عن يزيد موصولاً، وكل بحمد الله ثقة، فلا يبقى لك طعن في رواية الثقات.

(1) في "الأصل، ك": "قال"، والمثبت من "معرفة السنن والآثار".

(2)

"السنن الكبرى" للبيهقي (5/ 66 رقم 8940).

(3)

"صحيح مسلم"(2/ 1032 رقم 1411).

ص: 318

قلت: هذا إنكار من البيهقي للأمر الصريح مثل الشمس، وكيف لا يكون هذا طعنًا من عمرو بن دينار في رواية يزيد بن الأصم وهو ينادي بأعلى صوته ويقول: أتجعل أعرابيًّا بوالًا على عقبيه إلى ابن عباس؟! وكيف يكون طعن بأكثر من ذلك؟! واحتجاج الزهري بيزيد بن الأصم لا ينفي طعن عمرو بن دينار فيه، فإن عمرو بن دينار نفسه حجة ثبت ولا ينقص عن الزهري، على أن بعضهم قد رجحوه على مثل عطاء ومجاهد وطاوس.

قوله: "والترجيح يقع بما قال عمرو

إلى آخره غير مُسَلَّم؛ لأن مرسل ابن عباس مسند لا ريب فيه، ومرسله خير من مسند غيره من التابعين، ويزيد بن الأصم لا يلحق ابن عباس ولا يقرب منه، ومرسل ابن عباس أعلى من مسند من أكبر من يزيد بن الأصم فضلاً عن يزيد بن الأصم، ثم إن الذين رووا أنه عليه السلام تزوج ميمونة وهو محرم نحو سعيد بن جبير وعطاء وطاوس ومجاهد وعكرمة وجابر بن زيد؛ أعلى وأثبت من الذين رووا أنه تزوجها وهو حلال، وميمون بن مهران وحبيب بن الشهيد ونحوهما لا يلحقون هؤلاء الذين ذكرناهم.

ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا معلي بن أسد، قال: ثنا أبو عوانة، عن مغيرة، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عائشة قالت:"تزوج رسول الله عليه السلام بعض نسائه وهو محرم".

ش: إسناده صحيح على شرط الشيخين لأن الكل من رجالهما ما خلا ابن خزيمة، وأبو عوانة وهو الوضاح اليشكري، ومغيرة هو ابن مقسم الضبي، وأبو الضحى هو مسلم بن صبيح الكوفي العطار، ومسروق هو ابن الأجدع، وروى لهم الأربعة أيضًا.

وأخرجه ابن حبان في "صحيحه"(1): أنا الحسن بن سفيان، قال: نا إبراهيم بن

(1)"صحيح ابن حبان"(9/ 440 رقم 4132).

ص: 319

الحجاج، قال: نا أبو عوانة، عن المغيرة، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عائشة قالت:"تزوج رسول الله عليه السلام بعض نسائه وهو محرم، واحتجم وهو محرم".

وأخرجه البيهقي (1) أيضًا: من حديث علي بن عبد العزيز، ثنا معلى بن أسد، ثنا أبو عوانة، عن مغيرة، عن أبي الضحى، عن مسروق، عن عائشة:"تزوج رسول الله عليه السلام بعض نسائه وهو محرم، واحتجم وهو محرم".

فإن قيل: قد قال البيهقي: ويروى عن مسدد، عن أبي عوانة، عن مغيرة فقال: عن إبراهيم بدل أبي الضحى، قال أبو علي النيسابوري: كلاهما خطأ، والمحفوظ: عن مغيرة وعن شباك، عن أبي الضحى، عن مسروق مرسلًا عن النبي عليه السلام كذا رواه جرير، عن مغيرة.

قلت: لا نسلم أنه خطأ بل هو محفوظ، وأخرجه ابن حبان في "صحيحه" كما ذكرنا، وقال الطحاوي: روي عن عائشة ما يوافق ابن عباس، روى ذلك عنها من لا يطعن أحد فيه، ثم ذكر السند المذكور، ثم قال: وكل هؤلاء أئمة يحتج برواتهم، على ما يجيء عن قريب، وقال في "مشكل الحديث": ثم اعلم أن رواية أبو عوانة عن مغيرة مسندًا أولى من رواية جرير بن عبد الحميد عنه مرسلًا لوجهين:

الأول: أن أبا عوانة أجَلُّ من جرير، قال أبو حاتم: أبو عوانة أحب إلى من جرير بن عبد الحميد.

والثاني: أن أبو عوانة زاد الإِسناد، وزيادة الثقة مقبولة.

ويعضد هذا أيضًا ما رواه أبو عاصم، عن عثمان بن الأسود، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة:"أن النبي عليه السلام تزوج وهو محرم".

أخرجه البيهقي (2): ثم قال: ذكر عائشة فيه وهم، وإنما يروي عن ابن أبي مليكة مرسلاً، وقد رواه الفلاس، عن أبي عاصم مرسلًا.

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(7/ 212 رقم 13990).

(2)

"السنن الكبرى"(7/ 212 رقم 13989).

ص: 320

ص: حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا خالد بن عبد الرحمن، قال: ثنا كامل أبو العلاء، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال:"تزوج رسول الله عليه السلام وهو محرم".

ش: إسناده صحيح، وسليمان بن شعيب الكيساني وثقه أبو سعد السمعاني، وخالد بن عبد الرحمن الخراساني وثقه يحيى وأبو زرعة وأبو حاتم، وروى له أبو داود والنسائي، وكامل بن العلاء أبو العلاء التميمي السعدي وثقه ابن معين والعجلي وابن شاهين، وأخرج له الحاكم في "مستدركه" وروى له أبو داود والترمذي وابن ماجه، وأبو صالح ذكوان الزيات، روى له الجماعة.

وقال الطحاوي: هذا ما لا نعلم فيه عن أبي هريرة خلافًا، فهذا كما ترى روي في هذا الباب عن ابن عباس وعائشة وأبي هريرة رضي الله عنه.

ولما أخرج الترمذي (1): حديث ابن عباس قال: وفي الباب عن عائشة.

وهذا الطحاوي قد أخرج عنهم جميعًا.

ص: فقال لهم أهل المقالة الأولى ومن تابعكم أن رسول الله عليه السلام تزوج ميمونة وهو محرم؟ وهذا أبو رافع وميمونة يذكران أن ذلك كان منه وهو حلال، فذكروا ما حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا حبان بن هلال، قال: ثنا حماد بن زيد، عن مطر، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن سليمان بن يسار، عن أبي رافع:"أن النبي عليه السلام تزوج ميمونة حلالاً، وبنى بها حلالاً، وكنت الرسول بينهما".

حدثنا ربيع المؤذن، وربيع الجيزي، قالا: ثنا أسد (ح).

وحدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قالا: ثنا حماد بن سلمة، عن حبيب بن الشهيد، عن ميمون بن مهران، عن يزيد بن الأصم، عن ميمونة بنت الحارث [قالت] (2):"تزوجني رسول الله عليه السلام بسرف ونحن حلالان بعد أن رجع من مكة"، ولم يقل ابن خزيمة:"بعد أن رجع من مكة".

(1)"جامع الترمذي"(3/ 201 رقم 842).

(2)

في "الأصل": "قال"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ص: 321

حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، قال: حدثني جرير بن حازم، أنه سمع أبا فزارة يحدث، عن يزيد بن الأصم قال:"أخبرتني ميمونة أن النبي عليه السلام تزوجها حلالًا".

ش: أي فقال أهل المقالة الأولى لأهل المقالة الثانية وهذا اعتراض منهم عليهم في احتجاجهم بأحاديث ابن عباس وعائشة وأبي هريرة: "أن رسول الله عليه السلام تزوج ميمونة وهو محرم" تقريره أن يقال: من يتابعكم على دعواكم هذه؟ وقد أخبر أبو رافع الذي كان سفيرًا بين النبي عليه السلام وبين ميمونة أنه عليه السلام تزوجها وهو حلال، وكذلك أخبرت ميمونة صاحبة القضية أنها تزوجها رسول الله عليه السلام وهما حلالان، فهذا أولى من غيره؛ لأن صاحبة القضية ومن يمشي فيها أدرى بحال القضية من غيره.

أما حديث أبي رافع فأخرجه: عن ابن مرزوق، عن حبان -بفتح الحاء وتشديد الباء الموحدة- بن هلال، عن حماد بن زيد، عن مطر الوراق، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن سليمان بن يسار، عن أبي رافع مولى النبي عليه السلام واسمه إبراهيم، وقيل: غير ذلك.

وأخرجه الترمذي (1): ثنا قتيبة، قال: ثنا حماد بن زيد، عن مطر الوراق، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن سليمان بن يسار، عن أبي رافع قال:"تزوج رسول الله عليه السلام ميمونة وهو حلال، وبنى بها وهو حلال، وكنت أنا الرسول فيما بينهما". قال أبو عيسى: هذا حديث حسن، ولا نعلم أحدًا أسنده غير حماد بن زيد، عن مطر الوراق، عن ربيعة، وروى مالك بن أنس، عن ربيعة، عن سليمان بن يسار:"أن النبي عليه السلام تزوج ميمونة وهو حلال". رواه مالك مرسلًا.

وقال: ورواه أيضًا سليمان بن بلال، عن ربيعة مرسلاً.

(1)"جامع الترمذي"(3/ 200 رقم 841).

ص: 322

وأما حديث ميمونة فأخرجه من ثلاث طرق:

الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، وربيع بن سليمان الجيزي الأعرج، كلاهما عن أسد بن موسى، عن حماد بن سلمة، عن حبيب بن الشهيد، عن ميمون بن مهران

إلى آخره.

وأخرجه أبو داود (1): نا موسى بن إسماعيل، قال: ثنا حماد، عن حبيب بن الشهيد، عن ميمون بن مهران، عن يزيد بن الأصم ابن أخت ميمونة، عن ميمونة قالت:"تزوجني رسول الله عليه السلام ونحن حلالان بسرف".

الثاني: عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة

إلى آخره.

وأخرجه البيهقي (2): من حديث حماد بن سلمة نحوه.

الثالث: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن جرير بن حازم، عن أبي فزارة راشد بن كيسان العبسي الكوفي، عن يزيد بن الأصم، عن ميمونة.

وأخرجه مسلم (3): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا يحيى بن آدم، قال: نا جرير بن حازم، قال: ثنا أبو فزارة، عن يزيد بن الأصم، قال: حدثتني ميمونة بنت الحارث: "أن رسول الله عليه السلام تزوجها وهو حلال، قال: وكانت خالتي وخالة ابن عباس".

وأخرجه الترمذي (4): نا إسحاق بن منصور، قال: أنا وهب بن جرير، قال: نا أبي، قال: سمعت أبا فزارة يحدث، عن يزيد بن الأصم، عن ميمونة: "أن رسول الله عليه السلام تزوجها وهو حلال، وبنى بها حلالاً، وماتت بسرف ودفنها في

(1)"سنن أبي داود"(2/ 169 رقم 1843).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(7/ 210 رقم 13982).

(3)

"صحيح مسلم"(2/ 1032 رقم 1411).

(4)

"جامع الترمذي"(3/ 203 رقم 845).

ص: 323

الظلة التي بني بها فيها". قال أبو عيسى: هذا حديث غريب، وروى غير واحد هذا الحديث عن يزيد بن الأصم مرسلاً: "أن النبي عليه السلام تزوج ميمونة وهو حلال".

ص: فكان من حجتنا عليهم أن هذا الأمر إن كان يؤخذ من طريق صحة الإِسناد واستقامته وهكذا مذهبهم، فإن حديث أبي رافع الذي ذكروا فإنما رواه مطر الوراق، ومطر عندهم ليس هو ممن يحتج بحديثه، وقد رواه مالك، وهو أضبط منه وأحفظ فقطعه.

حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا، حدثه عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن سليمان بن يسار:"أن رسول الله عليه السلام بعث أبا رافع مولاه ورجلًا من الأنصار فزوجاه ميمونة بنت الحارث وهو بالمدينة قبل أن يخرج". وحديث يزيد بن الأصم فقد ضعفه عمرو بن دينار في خطابه للزهري، وترك الزهري الإِنكار عليه، وأخرجه من أهل العلم وجعله أعرابيًا بوالاً، وهم يضعفون الرجل بأقل من هذا الكلام، وبكلام من هو أقل من عمرو بن دينار والزهري، وقد أجمعا جميعًا على الكلام بما ذكرنا في يزيد بن الأصم، ومع هذا فإن الحجة عندكم في ميمون بن مهران هو جعفر بن برقان، وقد روى هذا الحديث منقطعًا.

حدثنا فهد، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا جعفر بن برقان، عن ميمون بن مهران قال:"كنت عند عطاء فجاءه رجل، فقال: هل يتزوج المحرم؟ فقال: ما حرم الله عز وجل النكاح منذ أحله، قال ميمون: فقلت له: إن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كتب إليَّ أن سل يزيد بن الأصم أكان رسول الله عليه السلام حين تزوج ميمونة حلالًا أو حرامًا؟ فقال يزيد: تزوجها وهو حلال، فقال عطاء: ما كنا نأخذ بهذا إلَاّ عن ميمونة، كنا نسمع أن رسول الله عليه السلام تزوجها وهو محرم".

فأخبر جعفر بن برقان، عن ميمون بن مهران بالسبب الذي وقع إليه هذا الحديث عن يزيد بن الأصم، وأنه إنما كان ذلك من قول يزيد لا عن ميمونة

ص: 324

ولا عن غيرها، ثم حَاجَّ ميمون بعد عطاء فذكره عن يزيد ولم يجوزه به، فلو كان عنده عمن هو أبعد منه لاحتج به؛ ليؤكد بذلك حجته، فهذا هو أصل هذا الحديث أيضًا عن يزيد بن الأصم لا عن غيره، والذين رووا أن النبي عليه السلام تزوجها وهو محرم أهل علم وثبت أصحاب ابن عباس رضي الله عنهما سعيد بن جبير وعطاء وطاوس ومجاهد وعكرمة وجابر بن زيد رضي الله عنهم وهؤلاء أئمة فقهاء يحتج برواياتهم وآرائهم، والذين نقلوا عنهم فكذلك أيضًا منهم: عمرو بن دينار وأيوب السختياني وعبد الله ابن أبي نجيح، فهؤلاء أيضًا أئمة يقتدي برواياتهم، ثم قد روي عن عائشة أيضًا ما قد وافق ما روي عن ابن عباس، روى ذلك عنها من لا يطعن أحد فيه: أبو عوانة، عن مغيرة، عن أبي الضحى، عن مسروق، فكل هؤلاء أئمة يحتج بروايتهم، فما رووا من ذلك أولى مما روى من ليس كمثلهم في الضبط والفقه والأمانة.

وأما حديث عثمان رضي الله عنه فإنما رواه نبيه بن وهب، وليس كعمرو بن دينار ولا كجابر بن زيد ولا كمن روى ما يوافق ذلك عن مسروق، عن عائشة، ولا لنُبَيْه أيضًا موضع في العلم كموضع أحد [ممن](1) ذكرنا، فلا يجوز إذ كان كذلك أن يعارض بين جميع من ذكرنا ممن روى بخلاف الذي روى هو؛ فهذا حكم هذا الباب من طريق الآثار.

ش: أبي فكان من حجتنا ودليلنا على أهل المقالة الأولى، وأراد بها الجواب عن الاعتراض المذكور، بيانه أن يقال: إن مذهبكم ومسلككم أنكم تدعون أن هذا الأمر لا يؤخذ إلا من طريق صحة الإِسناد واستقامته، ثم تخالفون هذا وترجحون الأحاديث التي فيها أنه عليه السلام تزوج ميمونة وهو حلال، على حديث ابن عباس أنه عليه السلام تزوجها وهو حرام، مع علمكم بأن طرق حديث ابن عباس أصح من تلك الأحاديث! وهذا تعسف منكم وعدم إنصاف، بيان ذلك: أما حديث أبي رافع الذي تحتجون به في جملة حججكم فإنه رواه مطر الوراق، ومطر عندكم ليس ممن

(1) في "الأصل، ك": "مما"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ص: 325

يحتج بحديثه، قال النسائي: مطر بن طهمان الوراق ليس بالقوي. وعن أحمد: كان في حفظه سوء ولين، سلمنا أنه مجمع عليه في ثقته وضبطه ولكنه ليس كرواة حديث ابن عباس ولا قريبًا منهم، ومع هذا فقد روى مالك بن أنس حديث أبي رافع وقطعه ولم يوصله، ولا يشك أحد أن مالكًا أحفظ من مطر وأضبط منه، وقال أبو عمر بن عبد البر: حديث مالك عن ربيعة في هذا الباب غير متصل، قد رواه مطر الوراق فوصله، رواه حماد بن زيد، عن مطر الوراق، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن سليمان بن يسار، عن أبي رافع، وذلك عندي غلط من مطر؛ لأن سليمان بن يسار ولد سنة أربع وثلاثين -وقيل: سنة تسع وعشرين- ومات أبو رافع بالمدينة بعد قتل عثمان بيسير، وكان قتل عثمان رضي الله عنه في ذي الحجة سنة خمس وثلاثين، وغير جائز ولا ممكن أن يسمع سليمان من أبي رافع، فلا معنى لرواية مطر، وما رواه مالك أولى، والله أعلم. انتهى.

قلت: العجب من البيهقي يعرف هذا المقدار في هذا الحديث ثم يسكت عنه ويقول مطر بن طهمان الوراق قد احتج به مسلم بن الحجاج! ومن يحتج في كتابه بمثل أبي بكر بن أبي مريم والحجاج بن أرطاة وموسى بن عبيدة وابن لهيعة ومحمد ابن دينار الطاهي ومن هو أضعف منهم لا ينبغي له أن يرد رواية مطر الوراق، فانظر إلى هذا الكلام العجيب الذي لا طعم له، حيث يعرض بهذا ويلوح إلى الطحاوي بغير أصل ولا طريق، فالطحاوي متى ضعف مطر الوراق؟! وإنما أخبر عن الخصم أنهم لا يحتجون بحديثه وبَيَّنَ أن وصله حديث أبي رافع غير صحيح كما ذكره أبو عمر، وأن قطعه هو الصحيح كما رواه مقطوعًا من هو أضبط منه، ولا مناسبة لذكر البيهقي أيضًا هؤلاء الجماعة الذين أشار إليهم بضعفهم؛ لأن الطحاوي لم يحتج في هذا المقام بأحد من هؤلاء حتى يورد عليه شيء، وإن كان قد روى لواحد منهم في غير هذا الموضع من الكتاب فيكون ذلك إما في المتابعات أو الشواهد، أو يكون قد ظهر عنده ما يوجب توثيق هؤلاء فاحتج بهم، فقول الطحاوي في هذا الباب حجة، فتوثيقه توثيق، وتضعيفه تضعيف، ولا ينازعه

ص: 326

أحد في ذلك، ألا ترى إلى الشيخين فإنهما قد احتجا في "صحيحهما" بجماعة من الناس قد ضعفهم غيرهما فلم يعتبر الناس ذلك، فكذلك الطحاوي، والذي ذكره البيهقي هو شأنه وهو واقع فيه، فإنه في "سننه" ربما يحتج بواحد من الرواة عند كون الحجة له، ثم يضعفه في موضع آخر عند كون الحجة عليه، فمن تتبع ذلك في "سننه" وقف على ما ذكرنا، ونعوذ بالله من البهتان.

وأما حديث يزيد بن الأصم فإنه قد ضعفه عمرو بن دينار في خطابه للزهري فلم يبق الاستدلال به صحيحًا، وذلك [لأنهم](1) يضعفون الرجل بأقل من هذا الكلام، وبكلام من هو أقل من عمرو بن دينار، فما لهم يسكتون ها هنا ولا يقولون بتضعيف حديث يزيد بن الأصم؟! وقد ذكرنا فيما مضى ما قال البيهقي ها هنا، وما أجبت عنه، ولو كان كلام عمرو بن دينار لم يكن طعنًا في يزيد بن الأصم لكان الزهري يرد عليه ما قاله فيه، فسكوته دليل على أن الصواب مع عمرو بن دينار، ومع هذا فإن الحجة عندهم في ميمون بن مهران هو جعفر بن برقان، وقد روى جعفر بن برقان هذا الحديث منقطعًا.

أخرجه الطحاوي، عن فهد بن سليمان، عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري، عن جعفر بن برقان، عن ميمون بن مهران قال: "كتب عطاء

". إلى آخره فأخبر جعفر بن برقان، عن ميمون بن مهران بالسبب الذي له وقع إليه هذا الحديث عن يزيد بن الأصم، وأنه إنما كان ذلك من قول يزيد بن الأصم لا عن ميمونة ولا عن غيرها، ما يدفع بذلك ما قال البيهقي: رواه ميمون بن مهران، عن يزيد بن الأصم، عن ميمونة موصولاً، وإن كان جعفر بن برقان رواه عن ميمون مرسلًا فقد رواه حبيب بن الشهيد وهو أوثق من جعفر بن برقان ومعه الوليد بن زروان، كلاهما عن ميمون بن مهران موصولاً، صح روايتهما عن ميمون رواية أبي فزارة، عن يزيد موصولاً، وكل بحمد الله ثقة، فلا يبقى لك طعن في رواية

(1) تكررت في "الأصل".

ص: 327

الثقات، ولئن سلمنا ما ذكره البيهقي وغيره، ولكن هؤلاء لا يساوون الذي رووه عن ابن عباس: أنه عليه السلام تزوجها وهو محرم؛ لأن الذين رووه عن ابن عباس أهل علم وثبت وضبط وإتقان، وهم: سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح وطاوس بن كيسان ومجاهد بن جبر وعكرمة مولى ابن عباس وجابر بن زيد أبو الشعثاء، فهؤلاء أئمة أجلاء أثبات وحجج يحتج بروايتهم، ويقتدي بآرائهم، وكذلك الذين رووا عنهم ونقلوا: منهم عمرو بن دينار وأيوب السختياني وعبد الله بن أبي نجيح يسار المكي، أئمة ثقات أثبات يحتج برواياتهم فلا يشك أحد ممن له بصيرة وتمييز بين الرجال أن هؤلاء لا يساويهم رواة الأحاديث التي فيها أنه عليه السلام تزوج ميمونة وهو حلال، ولا يدانيهم ولا يقرب منهم، ومع هذا فحديث ابن عباس قد وافقه حديث عائشة وشيَّده وعضده برواة هم أئمة ثقات أجلاء لم يطعن فيهم أحد كأبي عوانة الوضاح الذي روى عن مغيرة بن مقسم، الذي يروي عن أبي الضحى مسلم بن صبيح، الذي يروي عن مسروق بن الأجدع، عن عائشة رضي الله عنها.

وأما حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه فإن الذي رواه نبيه بن وهب، وليس هو كعمرو بن دينار ولا جابر بن زيد، ولا يداني واحدًا منهما ولا يقرب، ولا له موضع في العلم كموضع أحد منهم، وقال ابن العربي: ضعف البخاري حديث عثمان وصحح رواية ابن عباس.

فهذا البخاري لو علم أن رواة حديث عثمان مساوون لرواة حديث ابن عباس لصحح كلا الحديثين، ولئن سلمنا أنهم متساوون فنقول: معنى قوله: لا ينكح المحرم: لا يطأ وهو محمول على الوطئ، والكراهة لكونه سببًا للوقوع في الرفث، لا إن عقده لنفسه أو لغيره بأمره ممتنع، ولهذا قرنه بالخطبة، ولا خلاف في جوازها وإن كانت مكروهة، فكذا النكاح والإِنكاح، وصار كالبيع وقت النداء.

فإن قيل: اجتمع ها هنا نصَّان: أحدهما: مثبِت والآخر نافي؛ لأن قول من قال: تزوج ميمونة وهو حلال مثبت؛ لأن معناه أي خارج عن الإِحرام بعد دخوله فيه،

ص: 328

وهذا مثبت، لأنه يثبت أمرًا عارضًا على الإِحرام، وقول من قال: إنه تزوجها وهو محرم نافي؛ لأنه ينفي الأمر العارض وهو الحل، فكان ينبغي أن يكون المثبت أولى لأنه أقرب إلى الصدق من النافي، ولهذا قبلت الشهادة على الإِثبات دون النفي، وهذا اختيار أبي الحسن الكوفي أيضًا.

قلت: اتفقت الروايات على أن النكاح لم يكن في الحل الأصلي، وإنما الاختلاف في أنه كان في الحل المعترض على الإِحرام أو كان في الإِحرام؟ وأخذ أصحابنا في هذه الصورة بالنافي وهو أنه لم يكن في الحل الأصلي، وإنما اختاروا هذا وإن كانوا يأخذون في بعض المواضع بالمثبت، واختلاف أصحابنا في هذا يرجع إلى أصل، وهو أن النفي لا يخلو من ثلاثة أوجه: إما أن يكون من جنس ما يعرف بدليله بأن يكون مبناه على دليل، أو من جنس ما لا يعرف بدليله بأن يكون مبناه على الاستصحاب دون الدليل، أو احتمل الوجهان، فإن كان الأول فهو مساوٍ للمثبت وتتحقق المعارضة بينهما ويعمل بالراجح منهما، وإن كان الثاثي فالأخذ بالمثبت أولى؛ لأن ما لا دليل عليه لا يعارض ما ثبت بالدليل، وإن كان الثالث يستقصى وينظر في ذلك النفي؛ فإن تبين أنه مما يعرف بالدليل يكون كالإِثبات فيتعارضان فيطلب الترجيح، وإن تبين أنه بناء على الاستصحاب فالإِثبات أولى كالقسم الثاني، ثم النفي في حديث ميمونة مما يعرف بدليله، وهو هيئة المحرم، فإن الإِحرام حالة مخصوصة يدرك عيانًا من لبس ما ليس بمخيط، وكشف الرأس، فيكون كالإِثبات فيقع بينهما المعارضة فيطلب الترجيح، فرجحناه بحال الراوي؛ لأنه تعذر الترجيح من نفس الحجة، فأخذنا برواية ابن عباس؛ لأنه روى القصة على وجهها وذلك دليل إتقانه، فكان الأخذ بروايته أولى؛ لأن راوي المثبت وهو يزيد بن الأصم لا يعادل ابن عباس في الضبط والإِتقان والتفقه التي هي من أسباب ترجيح الرواية، ولهذا أنكر عمرو بن دينار حديثه وقال للزهري: وما يدري يزيد بن الأصم؛ أعرابي بوال على عقبيه، أتجعله مثل ابن عباس؟! فسكت الزهري ولم ينكر عليه. فافهم.

ص: 329

ص: وأما النظر في ذلك: فإن المحرم حرام عليه جماع النساء، فاحتمل أن يكون عقد نكاحهن كذلك، فنظرنا في ذلك فوجدناهم قد أجمعوا أنه لا بأس على المحرم بان يبتاع جارية ولكن لا يطأها حتى يحل، ولا بأس بأن يشتري طيبًا يتطيب به بعد ما يحل، ولا بأس بأن يشتري قميصًا ليلبسه بعدما يحل، وذلك الجماع والتطيب واللباس حرام عليه كله وهو محرم، فلم تكن حرمة ذلك عليه تمنعه عقد الملك عليه، ورأينا المحرم لا يشتري صيدًا، فاحتمل أن يكون حكم عقد النكاح كحكم عقد شراء الصيد، أو كحكم شراء ما وصفنا مما سوى ذلك؛ فنظرنا في ذلك فإذا من أحرم وفي يداه صيد أمر أن يطلقه، ومن أحرم وعليه قميص أو في يده طيب أمر أن يطرحه عنه ويرفعه، ولم يكن ذلك كالصيد الذي يؤمر بتخليته وترك حبسه، ورأيناه إذا أحرم ومعه امرأة لم يؤمر بإطلاقها بل يؤمر بحفظها وصونها، فكانت المرأة في ذلك كاللباس والطيب لا كالصيد، فالنظر على ذلك أن يكون في استقبال عقد النكاح عليها في حكم استقبال عقد الملك على الثياب والطيب الذي يحل له لبس ذلك واستعماله بعد الخروج من الإِحرام.

ش: أي وأما وجه النظر والقياس في نكاح المحرم وإنكاحه: فإن المحرم حرام عليه

إلى آخره ظاهر غني عن زيادة البيان، ولكن ملخصه: أن المحرم ممنوع من شراء الصيد وغير ممنوع من شراء الجارية والطيب والقميص مثلًا، ولكن لا يحل استعمالها في الوطئ والتطيب واللبس إلا بعد الخروج من الإِحرام، وعقد النكاح يحتمل أن يكون كالنوع الأول ويحتمل أن يكون كالنوع الثاني، فاعتبرنا ذلك فرأينا من أحرم وفي يده صيد يؤمر بإطلاقه، ومن أحرم ومعه قميص أو طيب يؤمر بطرحه، ومن أحرم ومعه امرأة لا يؤمر بإطلاقها، فكان حكمها كحكم القميص والطيب لا كحكم الصيد، فالقياس على ذلك يقتضي حكمها أن يكون في استقبال العقد عليها كحكم استقبال العقد على الثياب والطيب الذي يحل استعماله بعد الخروج من الإِحرام.

ص: 330

ص: فقال قائل: فقد رأينا من تزوج أخته من الرضاعة كان نكاحه باطلاً، ولو اشتراها كان شراؤه جائزًا، فكان الشراء يجوز أن يعقد على ما لا يحل وطؤه والنكاح لا يجوز أن يعقد إلا على من يحل وطؤه، وكانت المرأة حرامًا على المحرم جماعها فالنظر على ذلك أن يحرم عليه نكاحها.

فكان من الحجة للآخرين عليهم في ذلك: أنا رأينا الصائم والمعتكف حرام على واحد منهما الجماع، وكل قد أجمع أن حرمة الجماع عليهما لا يمنعهما من عقد النكاح لأنفسهما إذ كان ما حرم الجماع عليهما من ذلك إنما هو حرمة دين، كحرمة حيض المرأة الذي لا يمنعها من عقد النكاح على نفسها، فحرمة الإِحرام في النظر أيضًا كذلك، وقد رأينا الرضاع الذي لا يجوز تزويج المرأة لمكانه إذا طرأ على النكاح فسخ النكاح، فكذلك لا يجوز استقبال النكاح عليه، وكان الإِحرام إذا طرأ على النكاح لم يفسخه فالنظر على ذلك أيضًا أن يكون لا يمنع استقبال عقد النكاح، وحرمة الجماع بالإِحرام كحرمته بالصيام سواء، فإذا كانت حرمة الصيام لا تمنع عقد النكاح، فكذلك حرمة الإِحرام لا تمنع عقد النكاح فهذا هو النظر في هذا الباب، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.

ش: هذا اعتراض من جهة أهل المقالة الأولى بيانه: أن يقال: قياس عقد النكاح للمحرم مع حرمة الوطئ حالة الإِحرام على عقد الملك على الثياب والطيب مع حرمة استعمالهما حالة الإِحرام غير صحيح؛ لأنه لا يلزم جواز شراء ما لا يحل استعماله جواز عقد النكاح على ما لا يحل، ألا ترى أنه يجوز للرجل شراء أخته من الرضاع ولا يجوز عقده النكاح عليها؟ فكذلك المحرم لما كان جماع المرأة عليه حرامًا فكذلك يكون عقده عليها حرامًا قياسًا عليه، وأجاب عن ذلك بقوله:"فكان من الحجة للآخرين عليهم"، أي على أهل المقالة الأولى.

"في ذلك" أي فيما أوردوه من الاعتراض، وأراد بالحجة، الجواب وهو ظاهر.

قوله: "وكلٌ" أي كل طائفة من الفريقين قد أجمعوا إلى آخره.

ص: 331

قوله: "إذا كان" أي حين كان.

ص: وقد حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا جرير بن حازم، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم:"أن ابن مسعود رضي الله عنه كان لا يرى بأسًا أن يتزوج المحرم".

حدثنا محمد، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن حبيب المعلم وقيس وعبد الكريم، عن عطاء:"أن ابن عباس كان لا يرى بأسًا أن يتزوج المحرمان".

حدثنا روح بن الفرج، قال: ثنا أحمد بن صالح، قال: ثنا ابن أبي فديك، قال: حدثني عبد الله بن محمد بن أبي بكر، قال:"سألت أنس بن مالك عن نكاح المحرم فقال وما بأس به؟ هل هو إلا كالبيع".

ش: أخرج هذه الآثار عن هؤلاء الثلاثة من الصحابة رضي الله عنهم وهم عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وأنس بن مالك رضي الله عنهم تأكيدًا لما روى من الأحاديث المرفوعة عن ابن عباس وعائشة وأبي هريرة في جواز نكاح المحرم، وتأييدًا لما قاله من وجه النظر والقياس.

أما أثر ابن مسعود فأخرجه بإسناد رجاله ثقات ولكنه مرسل؛ لأن إبراهيم لم يسمع من ابن مسعود، وقال عباس: سمعت يحيى يقول: مراسيل إبراهيم أحب إليّ من مراسيل الشعبي.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): نا وكيع، عن جرير بن حازم، عن الأعمش، عن عبد الله:"أنه لم يكن يرى بتزويج المحرم بأسًا".

وأما أثر ابن عباس، فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح، وحجاج هو ابن المنهال، وحماد هو ابن سلمة، وحبيب هو ابن أبي قريبة البصري المعلم روى له مسلم وأبو داود والترمذي (2)، وقيس هو ابن سعد المكي، قال أحمد وأبو زرعة: ثقة.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 151 رقم 12959).

(2)

قلت: بل روى له الجماعة، انظر "تهذيب الكمال" وفروعه.

ص: 332

روى له مسلم ومن الأربعة غير الترمذي، وعبد الكريم هو ابن مالك الجزري أبو سعيد الحراني، روى له الجماعة.

وأخرج بن أبي شيبة في "مصنفه"(1): نا عائذ بن حبيب وعبد الوهاب بن عطاء عن سعيد، عن قتادة ويعلى بن حكيم، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:"لا بأس به، يعني المحرم يتزوج".

وأما أثر أنس بن مالك فأخرجه أيضًا بإسناد صحيح، عن روح بن الفرج القطان المصري، عن أحمد بن صالح المصري المعروف بابن الطبري أحد الحفاظ المبرزين وشيخ البخاري وأبي داود، عن محمد بن إسماعيل بن مسلم بن أبي فديك دينار المدني روى له الجماعة، عن عبد الله بن محمد بن أبي بكر الصديق المعروف بابن أبي عتيق، قال العجلي: مدني تابعي ثقة، روى له البخاري ومسلم والنسائي وابن ماجه.

فهذا كما رأيت قد روى جواز نكاح المحرم عن جماعة من الصحابة، وهم: عبد الله بن عباس وعبد الله بن مسعود وأنس بن مالك وأبو هريرة وعائشة، وقد ذكر ابن حزم معاذًا أيضًا، فصاروا ستة أنفس من كبار الصحابة وفقهائهم، وقال ابن حزم: أجاز ذلك طائفة، وصح عن ابن عباس، وروي عن ابن مسعود ومعاذ، وبه قال عطاء والقاسم بن محمد وعكرمة والنخعي وأبو حنيفة وسفيان رضي الله عنهم.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 152 رقم 12964).

ص: 333