المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: حج الصغير - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ١٠

[بدر الدين العيني]

فهرس الكتاب

- ‌ص: باب: الجمع بين الصلاتين كيف هو

- ‌ص: باب: وقت رمي جمرة العقبة للضعفاء الذين يرخص لهم في ترك الوقوف بمزدلفة

- ‌ص: باب: رمي جمرة العقبة ليلة النحر قبل طلوع الفجر

- ‌ص: باب: الرجل يدع رمي جمرة العقبة يوم النحر ثم يرميها بعد ذلك

- ‌ص: باب: التلبية متى يقطعها الحاج

- ‌ص: باب: اللباس والطيب متى يحلان للمحرم

- ‌ص: باب: المرأة تحيض بعدما طافت للزيارة قبل أن تطوف للصدر

- ‌ص: باب: من قدم من حجه نسكًا قبل نسك

- ‌ص: باب: المكيّ يريد العمرة من أين ينبغي له أن يحرم

- ‌ص: باب: الهدي يصد عن الحرم هل ينبغي أن يذبح في غير الحرم

- ‌ص: باب: المتمتع الذي لا يجد هديًا ولا يصوم في العشر

- ‌ص: باب: حكم المحصر بالحج

- ‌ص: باب: حج الصغير

- ‌ص: باب: دخول الحرم هل يصلح بغير إحرام

- ‌ص: باب: الرجل يوجه بالهدي إلى مكة ويقيم في أهله هل يتجرد إذا قلد الهدي

- ‌ص: باب: نكاح المحرم

- ‌ص: كتاب النكاح

- ‌ص: باب: بيان ما نهى عنه من سوم الرجل على سوم أخيه وخطبته على خطبة أخيه

- ‌ص: باب: نكاح المتعة

- ‌ص: باب: مقدار ما يقيم الرجل عند الثيب أو البكر إذا تزوجها

- ‌ص: باب: العزل

- ‌ص: باب: الحائض ما يحل لزوجها منها

- ‌ص: باب: وطء النساء في أدبارهنَّ

- ‌ص: باب: وطء الحُبالى

- ‌ص: باب: انتهاب ما ينثر على القوم مما يفعله الناس في النكاح

الفصل: ‌ص: باب: حج الصغير

‌ص: باب: حج الصغير

ش: أي هذا باب في بيان حكم حج الصغير

ص: حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، قال: حدثني إبراهيم بن عقبة، عن كريب، عن ابن عباس:"أن امرأة سألت النبي عليه السلام عن صبي، هل لهذا من حج؟ قال: نعم ولك أجرٌ".

حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن إبراهيم، عن عقبة

فذكر بإسناده مثله.

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا عبد العزيز بن عبد الله الماجشون، عن إبراهيم بن عقبة

فذكر بإسناده مثله.

ش: هذه ثلاث طرق صحاح:

الأول: رجاله كلهم رجال الصحيح، وسفيان هو ابن عيينة.

وأخرجه مسلم (1): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة وزهير بن حرب وابن أبي عمر جميعًا، عن ابن عيينة، قال أبو بكر: ثنا سفيان بن عيينة، عن إبراهيم بن عقبة، عن كريب، عن ابن عباس، عن النبي عليه السلام:"لقي ركبًا بالروحاء، فقال: مَن القوم؟ قالوا: المسلمون، فقالوا: من أنت؟ قال رسول الله، فرفعت إليه امرأة صبيًّا فقالت: ألهذا حج؟ قال: نعم، ولكِ أجر".

وأخرجه أبو داود (2): ثنا أحمد بن حنبل، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن إبراهيم بن عقبة، عن كريب، عن ابن عباس قال: "كان النبي عليه السلام بالروحاء، فلقي ركبًا فسلم عليهم، فقال: من القوم؟ [فقالوا]، (3): المسلمون، فقالوا: فمن

(1)"صحيح مسلم"(2/ 974 رقم 1336).

(2)

"سنن أبي داود"(2/ 142 رقم 1736).

(3)

في "الأصل، ك": "فقال"، والمثبت من "سنن أبي داود".

ص: 239

أنتم؟ قالوا: رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففزعت امرأة فأخذت بعضد صبي فأخرجته من محفتها، فقالت: يا رسول الله، هل لهذا حج؟ قال: نعم، ولكِ أجر".

الثاني: أيضًا رجاله كلهم رجال الصحيح.

وأخرجه النسائي (1): أنا أحمد، قال: أنا سليمان بن داود والحارث بن مسكين قراءة عليه وأنا أسمع، عن ابن وهب، قال: أخبرني مالك، عن إبراهيم بن عقبة، عن كريب، عن ابن عباس "أن رسول الله عليه السلام مرَّ بامرأة وهي في خدرها معها صبي، فقالت: ألهذا حج؟ قال: نعم، ولكِ أجر".

وأخرجه مالك في "موطإه"(2): عن إبراهيم بن عقبة، عن كريب مولى ابن عباس:"أن رسول الله عليه السلام مر بامرأة وهي في محفتها، فقيل لها: هذا رسول الله، فأخذت بضَبْعَي صبي كان معها، فقالت: ألهذا حج يا رسول الله؟ قال: نعم، ولكِ أجر".

وهذا مرسل.

وأخرجه مسلم (3) أيضًا نحوه مرسلاً: حدثني محمد بن المثنى، قال: ثنا عبد الرحمن، قال: ثنا سفيان، عن إبراهيم بن عقبة، عن كريب:"أن امرأة رفعت صبيًّا فقالت: يا رسول الله ألهذا حج؟ قال: نعم. ولكِ أجر".

وقال أبو عمر: روى هذا الحديث يحيى وسحنون وآخرون، عن كريب، عن النبي عليه السلام مرسلاً، ورواه ابن وهب وأبو مصعب والشافعي وغيرهم، عن كريب، عن ابن عباس موصولاً، وهو حديث مسند صحيح أسنده ثقات، ولا يضره تقصير من قصر به، والاختلاف فيه على مالك والثوري، ومن وصله فهو أولى؛ لأن الذين وصلوه وأسندوه ثقات.

(1)"المجتبى"(5/ 121 رقم 2649).

(2)

"موطأ مالك"(1/ 422 رقم 943).

(3)

"صحيح مسلم"(2/ 974 رقم 1336).

ص: 240

الثالث: عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال شيخ البخاري، عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، عن إبراهيم بن عقبة، عن كريب عن ابن عباس رضي الله عنهما.

وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث إبراهيم بن عقبة، عن كريب، عن ابن عباس:"أن النبي عليه السلام قفل، فلما كان بالروحاء لقي ركبًا فسلم عليهم وقال: من القوم؟ قالوا: المسلمون، فمن القوم؟ فقال رسول الله عليه السلام: رسول الله، ففزعت امرأة صبيًّا لها من محفة، فقالت: يا رسول الله، ألهذا حج؟ قال: نعم ولكِ أجر".

ثم قال البيهقي: وكذلك رواه عبد العزيز بن أبي سلمة، عن إبراهيم.

قلت: هذا الحديث روي عن جابر بن عبد الله أيضًا.

أخرجه ابن ماجه (2): ثنا علي بن محمد ومحمد بن طريف، قالا: نا أبو معاوية، حدثني محمد بن سوقة، عن محمد بن المنكدر، عن جابر بن عبد الله قال:"رفعت امرأة صبيًّا لها إلى النبي عليه السلام في حجته، فقالت: يا رسول الله، ألهذا حج؟ قال: نعم ولكِ أجر".

قوله: "هل لهذا من حج؟ " أي هل يجوز حج هذا أم لا؟ فقال عليه السلام: نعم يعني يجوز حجه، ويحصل لك أجر حيث تحججينه.

قوله: "فلقي ركبًا بالروحاء"، الركب جمع راكب، قال يعقوب: هو العشرة فما فوقها من الإِبل، والمركبة أقل من الركب، والركاب، الإِبل.

والروحاء من عمل الفرع على نحو من أربعين ميلاً من المدينة، وفي "مسلم": على ستة وثلاثين، وفي "كتاب ابن أبي شيبة": ثلاثين.

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 155 رقم 9483).

(2)

"سنن ابن ماجه"(2/ 971 رقم 2910).

ص: 241

قوله: "ففزعت امرأة" بالزاي المعجمة والعين المهملة يعني فأهبت وقامت. أخذ من فزع النائم إذا انتبه من نومه وتحول من مكانه.

ويقال: بالراء والغين المعجمة، ومعناه: اهتمت، والأول أكثر، وهذا كما في حديث عائشة في فضل عثمان رضي الله عنه (1):"ما لي لم أرك فزعت لأبي بكر وعمر كما فزعت لعثمان؟ فقال: عثمان رجل حييّ".

قوله: "من محفتها" المحفة بكسر الميم، مركب من مراكب النساء كالهودج إلَاّ أنها تقبب كما تقبب الهوادج، وقيل: المحفة التي لا غطاء لها.

قوله: "وهي في خدرها" أي سترها، والمعنى هي في سترها، وسترها هي هودجها أو محفتها.

وقال أبو عمر: الخدر أيضًا الهودج، وهو من مراكب النساء.

قلت: هو بكسر الخاء.

ويستفاد منه أحكام:

الأول: فيه جواز الحج بالصبيان الصغار وعليه جماعة فقهاء الأمصار من أهل الحجاز والعراق والشام ومصر، وكلهم يستحب الحج بالصبيان ويأمر به ويستحبونه، وقال أبو عمرو: على هذا جمهور العلماء في كل قرن.

وقالت طائفة: لا يحج بالصبيان، وهو قول لا يشتغل به ولا يعرج عليه؛ لأن رسول الله عليه السلام بأغليمة بني عبد المطلب، وحج السلف بصبيانهم، وروي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه طاف بعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما في خرقة، وقال النبي عليه السلام في الصبي: له حج، وللذي يحججه أجر، يعني لمؤنته وقيامه به، فسقط كل ما خالف هذا.

وقال مالك: يحج بالصبي ويرمى عنه، ويجتنب ما يجتنبه الكبير من الطيب وغيره، فإن قوي على الطواف والسعي ورمي الجمار وإلَّا طيف به محمولًا.

(1) أخرجه مسلم في "صحيحه"(4/ 1866 رقم 2402).

ص: 242

وقال مالك: ما أصابه الصبي من صيد أو لباس أو طيب فدي عنه، وبذلك قال الشافعي.

واختلف قول مالك وأصحابه في جزاء ما يقتله الصبي؛ فقال بعضهم: هو كجنايته يكون من ماله، وقال بعضهم هو من مال الوالي، وهو الأشهر عن مالك، وقال أبو حنيفة: لا جزاء عليه ولا فدية كما إذا أفسد الحج لم يكن عليه قضاؤه، وكذلك ما أصابه من صيد أو غيره لم يكن عليه فيه جزاء ولا فدية.

وقال ابن القاسم: عن مالك: الصغير الذي لا يتكلم إذا جرد ينوى بتجريده الإِحرام، قال ابن القاسم: يغنيه تجريده عن التلبية عنه، فإن كان يتكلم لبى عن نفسه، فأما المراضيع ونحوهم فلا يجردون للإِحرام، وإنما يجرد غيرهم من المتحركين بأنفسهم، ويجردون من الميقات ولا بأس أن يؤخر إحرام الصبي عن الميقات.

وقال أبو القاسم: قال مالك: لا يطوف به أحد ما لم يطف طواف الواجب؛ لأنه يدخل طوافين في طواف.

وقال ابن وهب: عن مالك: أرى أن يطوف عن نفسه، ثم يطوف بالصبي، ولا يركع عنه، ولا شيء على الصبي في ركعتيه.

الثانى: فيه دلالة على أن أحد الأبوين إذا حج بولده الصغير يحصل له أجر ذلك؛ لقيامه بمؤنته في ذلك، ومباشرته معه مناسك الحج.

الثالث: فيه دلالة على أن من أرشد صغير إلى مباشرة نوع من أنواع البر والخير يثاب على ذلك ويؤجر عليه.

الرابع: فيه إشارة إلى أن الصبي يثاب على الطاعة؛ لأنه إذا كان له حج، يكون له ثواب، قال عياض: قال كثير من العلماء: إن الصبي يثاب على طاعته، وتكتب له حسناته دون سيئاته، روي ذلك عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

الخامس: هل حج الصبي يجزئ عن حجة الإِسلام أم لا؟ يأتي الآن.

ص: 243

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى أن الصبي إذا حج قبل بلوغه أجزأه ذلك من حجة الإِسلام، ولم يكن عليه أن يحج بعد بلوغه، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: داود من الظاهرية، وطائفة من أهل الحديث؛ فإنهم قالوا: الصبي إذا حج قبل بلوغه كفى ذلك عن حجة الإِسلام، وليس عليه أن يحج، واحتجوا في ذلك بظاهر هذا الحديث المذكور.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا يجزئه من حجة الإِسلام، وعليه بعد بلوغه حجة أخرى.

ش: أي وخالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح ومجاهدًا والنخعي والثوري وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا ومالكًا والشافعي وأحمد، وأخرين من علماء الأمصار؛ فإنهم قالوا: لا يجزئ الصبي ما حجه عن حجة الإِسلام، وعليه بعد بلوغه حجة أخرى.

وفي "أحكام ابن بزيزة": وأما الصبي فقد اختلف العلماء هل ينعقد حجة أم لا؟ والقائلون بأنه منعقد اختلفوا هل يجزئ عن حجة الفريضة إذا عقل أم لا؟ فذهب مالك والشافعي وداود إلى أن حجه ينعقد، وقال أبو حنيفة: لا ينعقد. واختلف هؤلاء القائلون بانعقاده، فقال داود وغيره يجزئه عن حجة الفريضة بعد البلوغ.

وقال مالك والشافعي: لا يجزئه.

وأما العبد فقد اختلف العلماء هل يلزمه الحج أم لا؟ والقائلون بأنه لا يلزمه الحج في حال العبودية اختلفوا إذا حج هل يجزئه عن فريضة إذا عتق أم لا؟

فقال مالك والشافعي وأبو حنيفة: لا حج عليه، فإن حج وهو عبد لم يجزئه ذلك عن حجة الإِسلام.

وقال أحمد: إذا عتق بعرفة أجزأته تلك الحجة عن الفريضة.

ص: 244

وذهبت طائفة من السلف، الصحابة فمن بعدهم إلى أن الحج لازم له وهو مخاطب بوجوبه كالحر، وهو قول جابر بن عبد الله وابن عمر وغيرهما، وبه قال داود، وروينا عن بكير بن عبد الله بن الأشج قال: سألت القاسم بن محمد وسليمان ابن يسار عن العبد إذا حج بإذن سيده، فقالا جميعًا: يجزئه عن حجة الإِسلام إن عتق، وإن حج بغير إذن سيده لم يجزئه، وروينا عن ابن عباس والحسن البصري والزهري وغيرهم: أن الصبي إذا احتلم، والعبد إذا أبق، والأعرابي إذا هاجر؛ فعليهم إعادة الحج.

وقال عطاء: أما الأعرابي فيجزئه حجه، وأما العبد والصبي فعليهما حجة أخرى بعد البلوغ والعتق.

ص: وكان من الحجة لهم عندنا على أهل المقالة الأولى: أن هذا الحديث إنما فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر أن للصبي حجًّا، وهذا مما قد أجمع الناس جميعًا عليه، ولم يختلفوا أن للصبي حجًّا كما أن له صلاة، وليست تلك الصلاة فريضة عليه، فكذلك أيضًا يجوز أن يكون له حج وليس ذلك الحج بفريضة عليه، وإنما هذا الحديث حجة على من زعم أنه لا حج للصبي، فاما من يقول: إن له حجًّا وهذا ابن عباس هو الذي روى هذا الحديث عن رسول الله عليه السلام ثم قد صرف هو حج الصبي إلى غير الفريضة، وأنه لا يجزئه بعد بلوغه من حجة الإِسلام.

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا عبد الله بن رجاء، قال: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن أبي السفر قال: سمعت ابن عباس يقول: "يأيها الناس أَسْمِعُوني ما تقولون، ولا تخرجوا تقولون: (قال ابن عباس، قال ابن عباس) (1) أيما غلام حج به أهله فمات فقد قضى حجة الإِسلام، فإن أدرك فعليه الحج، وأيما عبد حج به أهله فمات فقد قضى حجة الإِسلام، فإن أعتق فعليه الحج".

(1) كذا تكررت في "الأصل"، وكتب المؤلف فوقها:"صح" علامة على صحة تكرارها.

ص: 245

حدثنا محمد، قال: ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، عن يونس بن عُبيد، عن عُبيد صاحب الحلي قال:"سألت ابن عباس عن المملوك إذا حج ثم عتق بعد ذلك، قال: فعليه الحج أيضًا، وعن الصبي يحج ثم يحتلم، قال: يحج أيضًا".

وقد زعمتم أن من روى حديثًا فهو أعلم بتأويله، فهذا ابن عباس قد روى عن النبي عليه السلام ما قد ذكرنا في أول هذا الباب، ثم قال هو ما قد ذكرنا، فيجب على أصلكم أن يكون ذلك دليلًا على معنى ما روي عن النبي عليه السلام من ذلك.

ش: أي وكان من الدليل والبرهان لأهل المقالة الثانية على أهل المقالة الأولى، وأراد بها الجواب عما احتجت به أهل المقالة الأولى بحديث ابن عباس المذكور، وهو ظاهر، ولكن ملخصه: أنه لا يدل على مدَّعاهم؛ لأن فيه إخبارًا أن للصبي حجًّا ونحن أيضًا نقول به، ولا خلاف فيه لأحد غير طائفة من أهل البدعة والضلال، ولا يلزم من كون الحج له سقوطه عنه بعد البلوغ، فيحوز أن يكون له حج وهو غير فريضة، كما إذا صلى نقول أن له صلاة ولكنها ليست بفرض.

قوله: "وإنما هذا الحديث" أي حديث ابن عباس المذكور حجة على من زعم أنه لا حج للصبي، وهو قول طائفة من أهل البدع ولا يشتغل به، أراد أنكم تحتجون بهذا الحديث علينا فيما ذهبنا إليه وليس ذلك بصحيح؛ فإنا لا ننكر أن يكون للصبي حج، وإنما نقول: إن له حجًّا ولكنه ليس بفريضة فلم نخالف نحن شيئًا من هذا الحديث وإنما خالفنا تأويلكم خاصة؛ لأنكم ادعيتم أنه حجة لسقوط حجة الإِسلام عنه، ونحن أنكرنا ذلك بدلالة أن راوي هذا الحديث الذي هو ابن عباس قد صرف معنى هذا الحديث إلى المعنى الذي صرفنا إليه، وأنتم قد زعمتم أن كل من روى حديثًا فهو أعلم بتأويله، فعلى أصلكم هذا كان يجب ألَّا تخالفوا المعنى الذي صرفه ابن عباس حيث قال:"فإن أدرك فعليه الحج".

ص: 246

ثم إنه أخرج أثر ابن عباس من طريقين:

الأول: عن محمد بن خزيمة، عن عبد الله بن رجاء الغداني البصري شيخ البخاري، عن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق الهمداني، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن أبي السفر -بفتح السنن المهملة والفاء- واسمه سعيد بن محمد الهمداني الثوري روى له الجماعة إلَاّ النسائي، عن عبد الله بن عباس.

وهذا إسناد صحيح.

وأخرجه البيهقى في "سننه"(1): من حديث يونس بن أبي إسحاق، عن أبي السفر، عن ابن عباس يقول:"أسمعوني ما تقولون وافهموا ما أقول لكم، ألا لا تخرجوا، فتقولوا: قال ابن عباس، أيما غلام حج به أهله فبلغ فعليه الحج، فإن مات فقد قضى حجته وأيما عبد مملوك حج به أهله فعتق فعليه الحج، وإن مات فقد قضى حجه".

الثاني: عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن المنهال شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن يونس بن عُبيد بن دينار البصري روى الجماعة، عن عُبيد الحلى [

] (2).

وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه"(3): نا أبو معاوية، عن الأعمش، عن أبي ظيبان، عن ابن عباس قال:"احفظوا عني ولا تقولوا: قال ابن عباس، أيُّما عبد حج به أهله، ثم أعتق فعليه الحج، وأيما صبي حج به أهله صبيًّا ثم أدرك فعليه حجة الرجل، وأيما أعرابي حج أعرابيًّا ثم هاجر فعليه حجة المهاجر".

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 178 رقم 9629).

(2)

بيض له المصنف، ولم يذكر له ترجمة، وقد أخرج ابن عبد البر في "التمهيد"(1/ 107) هذا الأثر كما أخرجه الطحاوي، ولم أجد لعبيد هذا ترجمة، غير أن مسلم رحمه الله ذكره في "المنفردات والوحدان" (1/ 246) فيمن تفرد حماد بن سلمة بالرواية عنه: يونس بن عبيد صاحب الحلي. فالله أعلم.

(3)

"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 355 رقم 14875).

ص: 247

وأخرج البيهقي (1): من حديث ابن عيينة، عن مطرف، عن أبي السفر، سمع ابن عباس يقول:"يا أيها الناس اسمعوا مني ما أقول لكم، وأسْمِعُوني ما تقولون، ولا تذهبوا فتقولوا: قال ابن عباس، قال ابن عباس، من طاف بالبيت فليطف من وراء الحِجْر ولا تقولوا: الحطيم فإن الرجل في الجاهلية كان يحلف فيلقي سوطه أو نعله أو قوسه، وأيما صبي حج به أهله فقد قضيت حجته ما دام صغيرًا، فإذا بلغ فعليه حجة أخرى، وأيما عبد حج به أهله فقد قضيت حجته ما دام عبدًا، فإذا عتق فعليه حجة أخرى".

وأخرجه البخاري مختصرًا (2).

ص: فإن قال قائل: فما الذي دلك على أن ذلك الحج لا يجزئه من حجة الإِسلام؟ قلت: قول رسول الله عليه السلام: "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصغير حتى يكبر

".

وقد ذكرت ذلك بأسانيده في غير هذا الموضع من هذا الكتاب، فلما ثبت أن القلم عن الصبي مرفوع، ثبت أن الحج عليه غير مكتوب، وقد أجمعوا أن صبيا لو دخل في وقت صلاة فصلاها، ثم بلغ بعد ذلك في وقتها أن عليه أن يعيدها وهو في حكم من لم يصلها، فلما ثبت ذلك من اتفاقهم ثبت أن الحج كذلك، وأنه إذا بلغ وقد حج قبل ذلك أنه في حكم من لم يحج، وعليه أن يحج بعد ذلك.

ش: تقرير السؤال أن يقال: قد ثبت في الحديث أن الصبي له حج، وما الدليل على أن ذلك الحج لا يكفيه عن حجة الإِسلام؟

وتقرير الجواب: أن قوله عليه السلام: "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصغير حتى يكبر

" الحديث.

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 156 رقم 9479).

(2)

"صحيح البخاري"(3/ 1397).

ص: 248

وأخرج في [

] (1) يدل على أن الحج غير واجب عليه؛ لأنه غير مكلف لارتفاع القلم عنه، فإذا كان غير واجب عليه وقد حج حج ما ليس فرض عليه فإذا بلغ وجب عليه حجة الإِسلام عند وجود شرائطه، لتوجه الخطاب عليه.

قوله: "وقد أجمعوا أن صييًّا

إلى آخره" ذكره لأجل القياس عليه، وهو متفق عليه، فيكون حكمه حكم ذاك، والله أعلم.

ص: فإن قال قائل: فقد رأينا في الحج حكمًا يخالف حكم الصلاة، وذلك أن الله عز وجل إنما أوجب الحج على من وجد إليه سبيلًا، ولم يوجبه على غيره، فكان من لم يجد سبيلًا إلى الحج فلا حج عليه كالصبي الذي لم يبلغ، ثم قد أجمعوا أن من لم يجد سبيلًا إلى الحج فحمل على نفسه ومشى حتى حج أن ذلك يجزئه، وان وجد سبيلاً بعد ذلك لم يجب عليه أن يحج ثانية للحجة التي قد كان حجها قبل وجود السبيل، فكان النظر على ذلك أن يكون كذلك الصبي إذا حج قبل البلوغ ففعل ما لم يجب عليه أجزأه ذلك ولم يجب عليه أن يحج ثانية بعد البلوغ.

قيل له: إن الذي لا يجد السبيل إنما سقط الفرض عنه لعدم الوصول إلى البيت، فإذا مشى فصار إلى البيت، فقد بلغ البيت وصار من الواجدين السبيل، فوجب الحج عليه لذلك، فلذلك أجزأه حجه لأنه صار بعد بلوغه كمن كان منزله هنالك فعليه الحج، وأما الصبي ففرض الحج غير واجب عليه قبل وصوله لي الييت وبعد وصوله إليه؛ لرفع القلم عنه، فإذا بلغ بعد ذلك فحينئذٍ وجب عليه فرض الحج، فلذلك قلنا: أن ما قد كان من حجه قبل بلوغه لا يجزئه وأن عليه أن يستأنف الحج بعد بلوغه كمن لم يكن حج قبل ذلك، فهذا هو النظر أيضًا في هذا، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.

ش: تقرير السؤال أن يقال: قياس الحج على الصلاة في حكم الصبي غير مطرد؛ لأن في الحج حكمًا يخالف حكم الصلاة، وهو أن الحج إنما وجب على واجد

(1) بيض له المؤلف، وقد تقدم تخريجه كما ذكر الطحاوي.

ص: 249

السبيل فمن لم يجد سبيلًا لا حج عليه كالصبي الغير بالغ، ثم أنه إذا حمل على نفسه وحج يقع ذلك عن حجة الإِسلام، حتى إذا وجد بعد ذلك سبيلًا لا تجب عليه حجة أخرى، فالقياس على ذلك أن يكون حكم الصبي كذلك إذا حج قبل البلوغ الذي ليس عليه، ولا تجب عليه حجة أخرى.

وتقرير الجواب أن يقال: إنما سقط الفرض عن الذي لا يجد السبيل لعدم ما يوصله إلى البيت، فإذا تحمل ذلك بالمشي فقد وصل إلى البيت وصار من الواجدين السبيل، فوقع عن فرضه، فلا تجب عليه حجة أخرى، بخلاف الصبي فإن عدم الفرض عليه لارتفاع القلم عنه، وسواء في حقه الوصول إلى البيت وعدمه، فإذا بلغ توجه عليه الخطاب، ووجب عليه الحج ثانيًا والله أعلم.

قوله: "وهذا قول أبي حنيفة" أي هذا الذي ذكر من وجوب الحج على الصبي الذي قد حج قبل البلوغ ثم بلغ قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، وهو قول إبراهيم النخعي أيضًا والحسن البصري والزهري وطاوس.

وأما العبد فقد ذكرنا حكمه عن قريب.

وقال أبو عمر: اختلف العلماء في المراهق والعبد يحرمان بالحج ثم يحتلم هذا ويعتق هذا قبل الوقوف بعرفة، فقال مالك وأصحابه: لا سبيل إلى رفض الإِحرام لهذين ولا لأحد، متمسكين بقوله:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} (1) ومن رفض إحرامه فلم يتم حجه ولا عمرته.

وقال أبو حنيفة: جائزٌ للصبي إذا بلغ قبل الوقوف بعرفه أن يجدد إحرامًا، فإن تمادى على إحرامه ذلك لم يجزئه عن حجة الإِسلام.

وقال أبو حنيفة: إن وصل العبد مع مولاه مكة فلم يحرم من الميقات ثم أذن له فأحرم من مكة بالحج فعليه الدم إذا عتق لتركه الميقات.

(1) سورة البقرة، آية:[196].

ص: 250

قال أبو عمر: إنما أوجبوا الدم على العبد في تركه الميقات على مذهبهم لأنه لا يجوز للعبد أن يدخل مكة بغير إحرام وهو والحر في ذلك سواء، وليس الصبي والنصراني كذلك؛ لأنه لا يلزمهما الإِحرام لدخول مكة لسقوط الفرض عن كل واحد منهما، فإذا أسلم الكافر وبلغ الصبي مكة كان حكمهما حكم المكي ولا شيء عليهما في ترك الميقات، وقال مالك في النصراني يسلم عشية عرفة فيحرم بالحج: أجزأه من حجة الإِسلام ولا دم عليه وكذلك العبد يعتق والصبي يبلغ إذا لم يكونا محرمين.

وقال الشافعي: إذا أحرم الصبي ثم بلغ قبل الوقوف بعرفة فوقف بها محرمًا أجزأه من حجة الإِسلام، وكذلك العبد ولم يحتج إلى تجديد إحرام واحد منهما، قال: ولو عتق العبد بمزدلفة وبلغ الصبي بها فرجعا إلى عرفة بعد العتق والبلوغ فأدركا الوقوف بها قبل طلوع الفجر أجزأه عنهما من حجة الإِسلام، ولم يكن عليهما دم.

***

ص: 251