المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: العزل - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ١٠

[بدر الدين العيني]

فهرس الكتاب

- ‌ص: باب: الجمع بين الصلاتين كيف هو

- ‌ص: باب: وقت رمي جمرة العقبة للضعفاء الذين يرخص لهم في ترك الوقوف بمزدلفة

- ‌ص: باب: رمي جمرة العقبة ليلة النحر قبل طلوع الفجر

- ‌ص: باب: الرجل يدع رمي جمرة العقبة يوم النحر ثم يرميها بعد ذلك

- ‌ص: باب: التلبية متى يقطعها الحاج

- ‌ص: باب: اللباس والطيب متى يحلان للمحرم

- ‌ص: باب: المرأة تحيض بعدما طافت للزيارة قبل أن تطوف للصدر

- ‌ص: باب: من قدم من حجه نسكًا قبل نسك

- ‌ص: باب: المكيّ يريد العمرة من أين ينبغي له أن يحرم

- ‌ص: باب: الهدي يصد عن الحرم هل ينبغي أن يذبح في غير الحرم

- ‌ص: باب: المتمتع الذي لا يجد هديًا ولا يصوم في العشر

- ‌ص: باب: حكم المحصر بالحج

- ‌ص: باب: حج الصغير

- ‌ص: باب: دخول الحرم هل يصلح بغير إحرام

- ‌ص: باب: الرجل يوجه بالهدي إلى مكة ويقيم في أهله هل يتجرد إذا قلد الهدي

- ‌ص: باب: نكاح المحرم

- ‌ص: كتاب النكاح

- ‌ص: باب: بيان ما نهى عنه من سوم الرجل على سوم أخيه وخطبته على خطبة أخيه

- ‌ص: باب: نكاح المتعة

- ‌ص: باب: مقدار ما يقيم الرجل عند الثيب أو البكر إذا تزوجها

- ‌ص: باب: العزل

- ‌ص: باب: الحائض ما يحل لزوجها منها

- ‌ص: باب: وطء النساء في أدبارهنَّ

- ‌ص: باب: وطء الحُبالى

- ‌ص: باب: انتهاب ما ينثر على القوم مما يفعله الناس في النكاح

الفصل: ‌ص: باب: العزل

‌ص: باب: العزل

ش: أي هذا باب في بيان عزل الرجل عن موطوءته وهو عزل الماء عنها حذر الحمل. يقال: عَزَل الشيء يعزله عزلا إذا نحَّاه وصرفه.

ص: حدثنا إبراهيم بن محمد بن يونس وصالح بن عبد الرحمن، قالا: ثنا عبد الله بن يزيد المقرىء، قال: ثنا سعيد بن أبي أيوب، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، عن عروة، عن عائشة قالت: حدثتني جدامة قالت: "ذكر عند رسول الله عليه السلام العزل، فقال: ذاك الوأد الخفيّ".

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا ابن أبي مريم، قال: حدثني يحيى بن أيوب، قال: أخبرني أبو الأسود، قال: ثنا عروة، عن عائشة، عن جدامة بنت وهب الأسدية، عن رسول الله عليه السلام مثله.

حدثنا ربيع الجيزي، قال: ثنا أبو زرعة، قال: أنا حيوة، عن أبي الأسود، أنه سمع عروة يحدث، عن عائشة، عن جدامة عن رسول الله عليه السلام مثله.

ش: هذه ثلاث طرق صحاح:

الأول: عن إبراهيم بن محمد بن يونس بن مروان البصري، وصالح بن عبد الرحمن، كلاهما عن عبد الله بن يزيد المقرئ شيخ البخاري، عن سعيد بن أبي أيوب الخزاعي المصري، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل المدني يتيم عروة، عن عروة بن الزبير بن العوام، عن عائشة زوج النبي عليه السلام، عن جُدامة -بضم الجيم وبالدال المهملة- بنت وهب الأسدية الصحابية.

وأخرجه مسلم (1) بأتم منه: ثنا عُبيد الله بن سعيد ومحمد بن أبي عمر، قالا: نا المقرىء، قال: ثنا سعيد بن أبي أيوب، قال: حدثني أبو الأسود، عن عروة، عن عائشة، عن جدامة بنت وهب -أخت عكاشة- قالت: "حضرت رسول الله عليه السلام

(1)"صحيح مسلم"(2/ 1067 رقم 1442).

ص: 379

في أناسٍ وهو يقول: لقد هممت أن أنهى عن الغيلة، فنظرت في الروم وفارس فإذا هم يغيلون أولادهم فلا يضر أولادهم ذلك شيئًا، ثم سألوه عن العزل، فقال رسول الله عليه السلام: ذاك الوأد الخفي -زاد عُبيد الله في حديثه عن المقرىء- وهي: {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} (1) ".

الثاني: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سعيد بن الحكم المعروف بابن أبي مريم شيخ البخاري، عن يحيى بن أيوب الغافقي المصري، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن المدني، عن عروة، عن عائشة، عن جدامة.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(2): من حديث أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة، عن جدامة بنت وهب -أخت عكاشة- قالت:"حضرت رسول الله عليه السلام في ناسٍ وهو يقول: لقد هممت أن أنهى عن الغيلة فنظرت في الروم وفارس، فإذا هم يغيلون أوالدهم ولا يضر أولادهم ذلك شيئًا، ثم سألوه عن العزل، فقال رسول الله عليه السلام: ذاك الوأد الخفي وهو {الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ} (1) ".

الثالث: عن ربيع بن سليمان الجيزي الأعرج، عن أبي زرعة وهب الله بن راشد الحجري المصري المؤذن، عن حيوة بن شريح بن صفوان التجيبي المصري الفقيه العابد، عن أبي الأسود محمد بن عبد الرحمن بن نوفل، عن عروة، عن عائشة، عن جدامة.

وأخرجه الطبراني (3): من حديث أبي الأسود، عن عروة، عن عائشة، عن جدامة، عن النبي عليه السلام نحوه.

قوله: "ذاك". إشارة إلى العزل. والوأد من وأَدَهَا يئدها وأدًا فهي موءودة.

وجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم العزل عن المرأة بمنزلة الوأد إلَاّ أنه خفيّ؛ لأن من يعزل عن

(1) سورة التكوير، آية:[8].

(2)

"مسند أحمد"(6/ 434 رقم 27487).

(3)

"المعجم الكبير"(24/ 209 رقم 535).

ص: 380

امرأته إنما يعزل هربًا من الولد، ولذلك سمَّاه الموءودة الصغرى، والموءودة الكبرى هي التي تدفن وهي حيَّة، كان إذا ولد لأحدهم في الجاهلية بنت دفنها في التراب وهي حيَّة.

قوله: "فإذا هم يغيلون" من أغال الرجل وأغيل وأصله من الغَيْل بالفتح، وهو أن يجامع الرجل امرأته وهي موضع، وكذلك إذا حملت وهي مرضع، والغِيلة -بالكسر- الاسم من الغَيْل، ويقال: من الغِيلة والغَيْلهّ بالكسر والفتح، وقيل: الكسر للاسم والفتح للمرة، وقيل: لا يصح الفتح إلَاّ مع حذف الهاء.

وقال أبو عمر: قال مالك: الغيلة أن يمس الرجل امرأته وهي موضع حملت أو لم تحمل، وقال الأخفش: الغيلة والغيل سواء، وهو أن تلد المرأة فيغشاها زوجها وهي ترضع فتحمل، فإذا حملت فسد اللبن علي الصبي ويفسد به جسده وتضعف قوته.

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فكره قومٌ العزل لهذا الأثر المرويّ في كراهة ذلك.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: إبراهيم النخعي وسالم بن عبد الله والأسود بن يزيد وطاوس بن كيسان؛ فإنهم قالوا: العزل مكروه.

وروي ذلك عن جماعة من الصحابة منهم: أبو بكر وعمر وعثمان وابن عمر وشدد فيه.

وقال ابن حزم (1): وصح المنع منه عن جماعة كما روينا عن حماد بن سلمة، عن عُبيد الله بن عمر، عن نافع:"أن ابن عمر كان لا يعزل، وقال: لو علمت أن أحدًا من ولدي يعزل لنكلته" قال علي: لا يجوز أن ينكل على شيء مباح عنده.

ومن طريق الحجاج بن المنهال: نا أبو عوانة، عن عاصم بن بهدلة، عن زِرّ بن حبيش:"أن علي بن أبي طالب كان يكره العزل".

(1)"المحلى"(10/ 71).

ص: 381

ورواه أيضًا (1) ابن حزم، عن ابن مسعود:"أنه قال في العزل: هي الموءودة الخفيَّة"، وعنه أيضًا:"أنه قال في العزل: هو الموءودة الصغرى".

وعن أبي أمامة الباهلي "ما كنت أرى مسلمًا يفعله".

وعن ابن عمر قال: "ضرب عمر رضي الله عنه على العزل بعض بنيه".

وعن سعيد بن المسيب قال: "كان عمر بن الخطاب وعثمان يكرهان ذلك -أعني العزل" قال عليّ رحمه الله: سماع سعيد من عثمان صحيح.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فلم يروا به بأسًا إذا أذنت الحرة لزوجها فيه، وإن منعته من ذلك لم يَسَعْه أن يعزل عنها.

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا ومالكًا والشافعي وأحمد، فإنهم قالوا: لا بأس بالعزل ولكن عن الحرة بإذنها؛ لأن لها حقًّا حتى إذا منعت لا يسع له العزل.

وقال الترمذي: وقد رخص قوم من أهل العلم من أصحاب النبي عليه السلام وغيرهم في العزل. وقال مالك بن أنس: تستأمر الحُرة في العزل ولا تستأمر الأَمَة. وفي "سؤالات مهنَّى": سألت أحمد عن حديث هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن سوَّار الكوفي، عن ابن مسعود أنه قال:"يعزل الرجل عن أَمَته ولا يعزل عن الحُرة إلا بإذنها". فقال: كان يزيد يرويه عن هشام، قلت: من سوَّار هذا؟ قال: لا أدري، قلت: بلغني عن يحيى بن سعيد أنه كان يقول: هذا الحديث شبه لا شيء، فقال أحمد: كذاك هو.

وقال عبد الله بن أحمد: قرأت على أبي، عن وكيع، عن سفيان، عن عبد الله ابن محمد بن عقيل، عن جمانة -أو أن جمانة- سُريَّة علي بن أبي طالب قالت:"كان علي يعزل عنا، فقلنا له، فقال: أحيي شيئًا أماته الله عز وجل؟! "، وقال

(1)"المحلى"(10/ 71).

ص: 382

عياض: وبكراهة العزل قال بعض الصحابة، وبإجازته قال كثير منهم ومن التابعين وفقهاء الأمصار.

واختلفوا: هل للمرأة في ذلك حق؟ فرآه مالك والشافعي وأصحابهما حقًّا لها إذا كانت حرة ولا يعزل عنها إلا بإذنها، وكأنهم رأوا الإِنزال من تمام لذتها وحقها في الولد، ولم يروا ذلك لازمًا في الأَمَة.

ص: وقد خالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: له أن يعزل عنها إن شاءت أو أبت.

ش: أي وخالف القومين المذكورين جماعة آخرون في الحكم المذكور، وأراد بهم: الحسن البصري وسعيد بن المسيب وعكرمة، فإنهم قالوا: له أن يعزل عن امرأته إن شاءت أو أبتْ، وعن الحسن كراهته.

وروي الجواز مطلقًا عن زيد بن ثابت وسعد بن أبي وقاص، وعن رافع بن خديج أيضًا وخبَّاب بن الأرت وأبي أيوب الأنصاري وأُبيّ بن كعب وعلي بن الحسين وأنس بن مالك وابن معقل وابن عباس والحسن بن علي بن أبي طالب وعلقمة.

وسئل عنه ابن المسيب، فقال: هو حرثك، إن شئت أعطشته وإن شئت رويته.

وكذا قال عكرمة. وكل ذلك ذكره ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1).

ص: والقول الأول عندنا أصح القولين؛ وذلك أنا رأينا الزوج له أن يأخذ المرأة بأن يجامعها وإن كرهت ذلك، وله أن يأخذها بأن يفضي إليها ولا يعزل عنها، فكان له أن يأخذها بأن يفضي إليها في جماعه إياها كما يأخذها بأن يجامعها، وكان للمرأة أن تأخد زوجها بأن يجامعها، فكان لها أن تأخذه بأن يجامعها كما له أن يأخذها بأن يجامعها، وكان حق كل واحد منهما في ذلك على صاحبه سواء، وكان من حقه أن يفضي إليها في جماعه إن أحبت وإن

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 511 رقم 16591).

ص: 383

كرهت هي ذلك، فالنظر على ما ذكرنا أن يكون كذلك من حقها عليه أن يفضي إليها في جماعه إياها إن أحب ذلك أو كره. هذا هو النظر في هذا الباب، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.

ش: إنما قال أصح القولين مع أن المذكور ثلاثة أقوال؛ لأن القول الثالث هو الذي يقابل القول الأول، والقول الثاني يقابل القول الأول من وجه ويقابل الثالث من وجه، ففي الحقيقة القول الأول والثاني سواء في كراهة العزل، غير أن في القول الثاني شرطًا زائدًا وهو إذن الحرة، وهو الذي نص عليه الطحاوي بالصحة، وحاصل كلامه يشير إلى أن الحق مشترك بينهما، ولها حق في الولد وبالعزل يفوت ذلك، فإذا أذنت كانت راضية بفوات حقها. وهذا هو النظر والقياس في هذا الباب.

ص: وللمولى في قولهم جميعًا عند من كره العزل أصلاً أن يجامع أمته ويعزل عنها في جماعه ولا يستأذنها في ذلك.

ش: أي للمولى في قول أصحاب المقالات المذكورة جميعًا عند من كره العزل مطلقًا أن يعزل عن أمته من غير استئذان منها؛ لأن الأمَة ليس لها حق، فلا ضرر لها في العزل، إلَاّ ما روي عن أهل الظاهر من منع ذلك مطلقًا عن الحرة والأمَة جميعًا.

فإن قيل: نفس النطفة من الرجل فيها روح، فبصرفها عن الرحم إتلاف لذلك الروح فتستوي فيه الحرة والأمَة لكونه يصير وأدًا.

قلت: لا نسلم ذلك؛ لأن الله عز وجل أوضح في كتابه وقت إمكان الوأد، وهو قوله تعالى:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} إلى قوله: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} (1) فأعلمنا الله عز وجل بذلك الوقت الذي تكون فيه الحياة في المخلوق من النطفة، فيجوز أن يوأد حينئذٍ فأما قبل ذلك كسائر الأشياء التي لا حياة لها: ألا ترى إلى قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "أنها لا تكون موءودة حتى

(1) سورة المؤمنون، آية:[14].

ص: 384

تمر بالتارات السبع ثم تلا: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ

} إلى آخر الآية، على ما يجيء بيانه عن قريب، إن شاء الله تعالى.

ص: وإن كان للرجل زوجة مملوكة فأراد أن يعزل عنها، فإن أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا قالوا في ذلك -فيما حدثني محمد بن العباس، عن علي بن معبد، عن محمد بن الحسن، عن أبي يوسف، عن أبي حنيفة-: الإذن في ذلك إلى مولى الأمَة، وقد روى أبو يوسف خلاف هذا القول.

حدثني ابن أبي عمران، قال: حدثني محمد بن شجاع، عن الحسن بن زياد، عن أبي يوسف قال: الإذن في ذلك إلى الأمَة لا إلى مولاها -قال ابن أبي عمران: هذا هو النظر على أصول ما بني عليه هذا الباب؛ لأنها لو أباحت زوجها ترك جماعها كان من ذلك في سَعَةٍ ولم يكن لمولاها أن ياخد زوجها بأن يجامعها، فلما كان الجماع الواجب على زوجها، إليها أخذ زوجها به لا إلى مولاها كان كذلك الإِفضاء في ذلك الجماع الأخد به إليها لا إلى مولاها؛ فهذا هو النظر في هذا.

ش: إذا تزوج الرجل أمَة فأراد أن يعزل عنها فالإذن في ذلك إلى مولاها عند أبي حنيفة، روى ذلك الطحاوي عن محمد بن العباس بن الربيع الغُبْري البصريّ، عن علي بن معبد بن شداد العبدي الرقيّ نزيل مصر، عن محمد بن الحسن الشيباني، عن أبي يوسف يعقوب، عن أبي حنيفة.

وروي عن أبي يوسف أن الإذن في ذلك إلى الأمَة لا إلى المولى.

رواها الطحاوي عن شيخه أحمد بن أبي عمران موسى الفقيه البغدادي، عن محمد بن شجاع الثلجي -بالثاء المثلثة- عن الحسن بن زياد اللؤلؤي، عن أبي يوسف.

ثم نقل الطحاوي عن أحمد بن أبي عمران أنه قال: الذي ذهب إليه أبو يوسف هو النظر والقياس على أصول ما بني عليه هذا الباب، وبيَّن ذلك بقوله: لأنها لو أباحت

إلى آخره، وهو ظاهر.

ص: 385

ص: وأنكر هؤلاء جميعًا الذين أباحوا العزل ما في حديث جدامة مما روت عن رسول الله عليه السلام من قوله: "إنه الوأد الخفيّ"، ورووا عن رسول الله عليه السلام إنكار ذلك القول على من قاله، وذكروا في ذلك ما حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا هشام بن أبي عبد الله. (ح).

وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو داود، عن هشام، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن، عن أبي رفاعة، عن أبي سعيد الخدري:"أن رسول الله عليه السلام أتاه رجل فقال: يا رسول الله، إن عندي جارية وأنا أعزل عنها، وأنا أكره أن تحمل وأشتهي ما يشتهي الرجال، فإن اليهود يقولون: هي الموءودة الصغرى، فقال رسول الله عليه السلام: كذبت يهود، لو أن الله أراد أن يخلقه لم تستطع أن تصرفه".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا هارون بن إسماعيل، قال: ثنا علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن، عن أبي مطيع بن رفاعة، عن أبي سعيد، عن رسول الله عليه السلام مثله.

حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: حدثني عياش بن عقبة الحضرمي، عن موسى بن وردان، عن أبي سعيد الخدري قال:"بلغ رسول الله عليه السلام أن اليهود يقولون: إن العزل هو الموءودة الصغرى، فقال رسول الله عليه السلام: كذبت يهود، وقال رسول الله عليه السلام لو أفضيت لم يكن إلَاّ بقدر".

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا عياش الرَّقام، قال: ثنا عبد الأعلى، عن محمد ابن إسحاق، ثنا محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن عبد الرحمن وأبي أمامة ابن سهل، عن أبي سعيد قال:"أقمتُ جارية لي بسوق بني قينقاع، فمرّ بي يهودي فقال: ما هذه الجارية؟ قلتُ: جارية لي، قال: أكنتَ تصيبها؟ قلت: نعم، قال: فلعل في بطنها منك سخلة؟ قال: قلت: إني كنتُ أعزل عنها، قال: تلك الموءودة الصغرى، قال: فأتيت النبي عليه السلام فذكرت ذلك له، فقال: كذبت يهود كذبت يهود".

ص: 386

فهذا أبو سعيد حكى عن النبي عليه السلام إكذاب من زعم أن العزل موءودة.

ش: أشار بهؤلاء إلى أهل المقالة الثالثة الذين أباحوا العزل مطلقًا.

وقوله: "الذين أباحوا العزل" بدل من قوله: "هؤلاء".

وقوله: "ما في حديث جدامة" في محل النصب؛ لأنه مفعول لقوله: "أنكر هؤلاء"، والحاصل أنهم أنكروا خبر جدامة بنت وهب الذي يخبر أن العزل هو الوأد الخفي، وقالوا: يردّه خبر أبي سعيد الخدري، حيث يخبر في حديثه عن النبي عليه السلام أنه أكذب مَنْ زعم أن العزل هو الوأد الخفي.

وقد قال ابن حزم ها هنا بعكس هذا، حيث يقول: لا يحل العزل عن حرة ولا عن أمَة، بُرْهان ذلك حديث جدامة، قال: وهو في غاية الصحة. قال: واحتج مَنْ أباحه بخبر أبي سعيد الذي فيه: "لا عليكم أن لا تفعلوا" قال: وهذا إلى النهي أقرب، وكذا قاله ابن سيرين. واحتجوا بتكذيب النبي عليه السلام قول يهود، وبأخبار أُخَر لا تصح، ويعارضها كلها خبر جدامة، وقد علمنا بيقين أن كل شيء أصله الإباحة حتى ينزل التحريم، فصح أن خبر جدامة بالتحريم هو الناسخ لجميع الإباحات المتقدمة التي لا شك أنها قبل البعث، وبعد البعث وهذا أمر متيقن؛ لأنه إذا أخبر عليه السلام أنه الوأد الخفيّ والوأد محرمٌ، فقد نسخ الإباحة المتقدمة، وبطل قول من ادَّعى غيره. انتهى.

قلت: قال الطحاوي في غير هذا الموضع: هذا جواب عما ذكره ابن حزم، وهو أنه يحتمل أن خبر جدامة لما كان عليه الناس من موافقة أهل الكتاب ما لم يحدث الله عز وجل ناسخه، ثم إن الله عز وجل أعلمه بكذبهم، وأن الأمر في الحقيقة بخلاف ذلك، فأعلم أمته عليه السلام بكذبهم وأباح لهم العزل على ما في حديث أبي سعيد، وأن الله عز وجل إذا أراد شيئًا لا يمكن وقوع غيره، وبمعناه قال أبو الوليد بن رشد.

وقال ابن العربي: خبر جدامة مضطرب، قال: وقد قال قومٌ: إن ذلك كان قبل أن يبيِّن الله له جواز ذلك، فكان يتبع اليهود فيما لم يتبيَّن له فيه شرع، وهذا

ص: 387

سقط عظيم؛ فإنه إنما كان يحب موافقتهم فيما لم ينزل عليه فيه شيء مما لم يكن من كذبهم وتبديلهم، وقد صرَّح ها هنا عليه السلام بقوله:"كذبت يهود" فكيف يصح أن يكون معهم على كذبهم ويخبر به ثم يكذبهم فيه؟! هذا محال عقلاً لا يجوز على الأنبياء عليهم السلام.

فإن قيل: ذكروا أن جدامة أسلمت عام الفتح فحينئذٍ يكون حديثها متأخرًا، فيكون ناسخًا لحديث أبي سعيد وغيره.

قلت: ذكروا هذا، وذكروا أنها أسملت قبل الفتح، قال عبد الحق: هو الصحيح، ثم إنه أخرج حديث أبي سعيد من خمس طرق:

الأول: عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير الطائي، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان العامري المدنيّ -وكلهم ثقات أئمة كبارٌ- وهو يروي عن أبي رفاعه، ويقال له: رفاعه أيضًا، ويقال له أيضًا: أبو مطيع بن عوف أحد بني رفاعة بن الحارث، وقد وقع الإِسمان في رواية الطحاوي كما ترى، وهما: أبو رفاعة وأبو مطيع بن عوف وهو أبو مطيع بن رفاعة.

وقال الحافظ المنذري: قد اختلف على يحيى بن أبي كثير في هذا الحديث، فقيل: عنه، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن جابر بن عبد الله.

وأخرجه الترمذي (1) والنسائي (2).

وقيل فيه: عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن، عن أبي رفاعة، عن جابر.

وقيل فيه: عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن، عن رفاعة.

(1)"جامع الترمذي"(3/ 442 رقم 1136).

(2)

"السنن الكبرى"(5/ 34 رقم 9078).

ص: 388

وقيل فيه: عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن، عن أبي مطيع بن رفاعة.

وقيل فيه: عن أبي سلمة، عن أبي هريرة.

قلت: المذكور في حديث أبي سعيد: عن رفاعة، وعن أبي رفاعة، وعن أبي مطيع، عن رفاعة.

أما عن رفاعة، فأخرجه أبو داود (1): ثنا موسى بن إسماعيل، قال: نا أبان، قال: نا يحيى، أن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان حدَّثه، أن رفاعة حدَّثه، عن أبي سعيد الخدريّ أن رجلاً قال:"يا رسول الله، إن لي جاريةً وأنا أعزل عنها، فأنا أكره أن تحمل، وأنا أريد ما يريد الرجال، وإن اليهود تُحَدِّثُ أن العزل موءودة صغرى، قال: كذبت يهود؛ لو أراد الله أن يخلقه ما استطعت أن تصرفه".

وأما عن أبي رفاعة فقد أخرجه الطحاوي من طريقين:

أحدهما: ما ذكر.

والثاني: أخرجه عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن ابن ثوبان، عن أبي رفاعة، عن أبي سعيد الخدري

إلى آخره.

وأخرجه النسائي (2): أيضًا نحوه فقال: عن أبي رفاعة.

وأما عن أبي مطيع بن رفاعة فأخرجه الطحاوي أيضًا وهو الطريق الثالث عن إبراهيم بن مرزوق، عن هارون بن إسماعيل الخزاز البصري، عن علي بن المبارك الهنائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن، عن أبي مطيع بن رفاعة، عن أبي سعيد، عن رسول الله عليه السلام مثله.

(1)"سنن أبي داود"(2/ 252 رقم 2171).

(2)

"السنن الكبرى"(5/ 341 رقم 9079).

ص: 389

وأخرجه عبد الله بن أحمد في زيادات أبيه: ثنا أبي (1) قال: ثنا وكيع، نا علي بن المبارك، عن يحيى بن أبي كثير، عن محمد بن عبد الرحمن بن ثوبان، عن أبي مطيع ابن رفاعة، عن أبي سعيد الخدري قال:"قالت اليهود: العزل الموءودة الصغرى، -قال أبي: وكان في كتابنا: أبو رفاعة بن مطيع، فغيَّره وكيع وقال: عن أبي مطيع بن رفاعة- فقال النبي عليه السلام: "كذبت يهود، إن الله لو أراد أن يخلق شيئًا لم يستطع أحد أن يصرفه".

وأخرجه النسائي (2) وفي روايته: أبو مطيع بن عوف الأنصاري، عن أبي سعيد.

الطريق الرابع: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن عيَّاش -بتشديد الياء آخر الحروف وبالشين المعجمة- بن عقبة الحضرمي، عن موسى بن وردان القرشي العامري المصري- بن العاص مولى عبد الله بن سعد بن أبي سرح، عن أبي سعيد.

وهذا إسناد مصري صحيح، ورواته كلهم ثقات مصريون.

وأخرجه البزَّار في "مسنده": نا عبدة بن عبد الله، أنا زيد بن الحباب، أنا عياش بن عقبة الحضرمي، حدثني موسى بن وردان، عن أبي سعيد الخدري أنه قال:"يا رسول الله عليه السلام، إن اليهود يقولون: إن العزل: الموءودة الصغرى، فقال: كذبت يهود" ولا نعلم روى موسى بن وردان عن أبي سعيد إلَاّ هذا الحديث، وموسى بن وردان مدني صالح الحديث، وموسى بن وردان روى عن أبي هريرة وأبي سعيد وإنما روى عنه محمد بن أبي حميد أحاديث منكرة، فأما هو فلا بأس به.

(1) هذا الحديث ليس من زيادات عبد الله عن أبيه، إنما رواه عن أبيه كما هنا وفي "مسند أحمد"(3/ 33 رقم 11306).

(2)

"السنن الكبرى"(5/ 341 رقم 9080).

ص: 390

قلت: موسى بن وردان مصري ولكن أصله مدني، والبزار إنما قال: مدني باعتبار أصله، ولكن عِداده في المصريين.

الطريق الخامس: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن عياش -بالياء آخر الحروف والشين المعجمة- بن الوليد الرَّقام شيخ البخاري وأبي داود، عن عبد الأعلى بن عبد الأعلى، عن محمد بن إسحاق المدني، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث القرشي التيمي المدني، عن أبي سلمة عبد الله بن عبد الرحمن بن عوف، وعن أبي أمامة أسعد -أو سعيد- بن سهل بن حنيف الأنصاري، كلاهما عن أبي سعيد الخدري.

وأخرجه البزار أيضًا في "مسنده": نا يوسف بن موسى، نا سلمة بن الفضل، نا الحجاج بن أرطاة، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي سعيد الخدري قال: "أصبنا سبايا بني المصطلق، فأصابني شيء منها -أو شيء منهم- فكنت أعزل عنها لأبيعها، فلقيني رجل من اليهود فقال: ما هذا يا أبا سعيد، أتبيعها؟ قلت: نعم، قال: فلعلك تبيعها وفي بطنها نسمة منك؟

قلت: إني كنت أعزل عنها، فقال: تلك الموءودة الصغرى، فأتيت رسول الله عليه السلام-أحسبه قال-: فذكرت له ذلك، فقال عليه السلام: كذبتْ يهود، كذبت يهود".

وحدثنا يوسف بن موسى، ثنا سلمة بن الفضل، نا محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم بن الحارث، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي عليه السلام مثل ذلك.

وحديث أبي إسحاق، عن محمد بن إبراهيم، عن أبي سلمة، عن أبي سعيد أصح من حديث الحجاج؛ لأن الحجاج عندي لم يسمع من محمد بن إبراهيم.

وأخرجه ابن أي شيبة في "مصنفه"(1): نا ابن نمير، عن محمد بن إسحاق، عن محمد بن إبراهيم التيمي، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وأبي أمامة بن سهل عنهما

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 512 رقم 16608).

ص: 391

جميعًا، عن أبي سعيد الخدري قال: "لمَّا أصبنا سبي بني المصطلق استمتعنا من النساء وعزلنا عنهن، ثم إني وقعت على جارية في سوق بني قينقاع، فمرَّ بي رجل من يهود فقال: ما هذه الجارية

" إلى آخره نحو رواية الطحاوي.

قوله: "وأشتهي ما يشتهي الرجال" أي ما يشتهيه الرجال، وأراد به الجماع.

قوله: "هي الموءودة الصغرى" أي العزل هي الموءودة الصغرى، والموءودة الكبرى هي أن تدفن البنت وهي حيَّة، وإنما سمي العزل الموءودة الصغرى؛ لأنه بمنزلة الولد إلَاّ إنه خفي؛ لأن مَنْ يعزل عن امرأته إنما يعزل هربًا من الولد، وإنما أنَّث الضمير وإن كان يرجع إلى العزل باعتبار الموءودة.

قوله: "لو أفضيت لم يكن إلَاّ بقدر". معناه: لو باشرته وجامعته لم يكن الولد إلَاّ بقدر من الله تعالى، وهو من قولك: أفضى الرجل إلى امرأته إذا باشرها وجامعها.

قوله: "بسوق بني قينقاع". هو سوق مشهور من أسواق العرب، وفي "المطالع": بني قينُقاع بضم النون وكسرها وفتحها، وهم شِعب من يهود المدينة أضيفت إليهم السوق.

قوله: "سَخلة". بفتح السين وسكون الخاء المعجمة، وهي في الأصل ولد الغنم، ولكن أريد بها ها هنا النَّسَمَة كما جاء كذلك في رواية البزار.

ص: ثم قد روي عن علي رضي الله عنه دفع ذلك والتنبيه على فساده بمعنى لطيف حسن:

حدثنا رَوْح بن الفرج، قال: ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، قال: حدثني الليث، قال: حدثني معمر بن أبي حُيَيَّة، عن عُبيد الله بن عدي بن الخيار قال: "تذاكر أصحاب رسول الله عليه السلام عند عمر رضي الله عنه العزل فاختلفوا فيه، فقال عمر: قد اختلفتم وأنتم أهل بدر الأخيار فكيف بالناس بعدكم؟! إذ تناجى رجلان، فقال عمر رضي الله عنه ما هذه المناجاة؟ قالا: إن اليهود تزعم أنها الموءودة

ص: 392

الصغرى، فقال علي رضي الله عنه: إنها لا تكون موءودة حتى تمر بالتارات السبع {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ

} (1) إلى آخر الآية".

حدثنا صالح بن عبد الرحمن، قال: ثنا عبد الله بن يزيد المقرئ، قال: ثنا ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي حبيب، عن معمر بن أبي حُيَيَّة قال: سمعت عُبيد بن رفاعة الأنصاري قال: "تذاكر أصحاب رسول الله عليه السلام العزل

" ثم ذكر مثله وزاد: "تعجب عمر من قوله، وقال: جزاك الله خيرًا".

فأخبر علي رضي الله عنه أنه لا موءودة إلَاّ ما قد نُفخ فيه الروح قبل ذلك، وأما ما لم ينفخ فيه الروح فإنما هو مواتٌ غير موءودة.

وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أيضًا نظير ما قد ذكرنا عن علي رضي الله عنه:

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، قال: ثنا الأعمش، عن أبي الودَّاك:"أن قومًا سألوا ابن عباس عن العزل، فذكر مثل كلام علي سواءً".

فهذا علي وابن عباس رضي الله عنهم قد اجتمعا في هذا على ما ذكرنا، وتابع عليًّا على ما قالَ عمرُ رضي الله عنه ومن كان بحضرتهما من أصحاب رسول الله عليه السلام، ففي هذا دليل أن العزل غير مكروه من هذه الجهة.

ش: أي: ثم قد روي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه دفع ما روي عن جدامة بنت وهب والتنبيه على فساده؛ وذلك لأن عليًّا رضي الله عنه قد بيَّن في حديثه أن الموءودة لا تكون إلَاّ فيما نفخ فيه روحٌ، وأما ما لم تنفخ فيه الروح فإنه في حكم الجماد والموات فلا تكون موءودة، وكذلك قال ابن عباس لما سئل عن العزل وكفى بواحد منهما حجة، فكيف إذا اجتمعا على قضية واحدة فإنه لا يعدل عنها، ولا سيما وقد تابع عليًّا عمرُ بن الخطاب على ما قاله علي، وكذلك من كان بحضرتهما من الصحابة، فصار ذلك كالإجماع على أن العزل غير مكروه من هذه الجهة.

(1) سورة المؤمنون، آية:[12].

ص: 393

ثم إنه أخرج حديث علي رضي الله عنه من طريقين:

الأول: عن روح بن الفرج القطان المصري، عن يحيى بن عبد الله بن بكير القرشي المخزومي روى له مسلم وابن ماجه، عن الليث بن سعد، عن معمر بن أبي حيَيَّة -بياء مكررة آخر الحروف على صورة التصغير، ويقال: معمر بن أبي حيَّة على صورة التكبير، وثقه يحيى وابن حبان، وروى له الترمذي حديثًا واحدًا عن سعيد بن المسيب، عن عمر في الصوم في السفر.

عن عُبيد الله بن عدي بن الخيار بن عدي بن نوفل بن عبد مناف بن قصيّ القرشي النوفلي المدني -وُلد في زمن النبي عليه السلام وكان من فقهاء قريش، قال العجلي: مدني تابعي ثقة من كبار التابعين، روى له البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي.

والثاني: عن صالح بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن يزيد المقرئ القصير شيخ البخاري، عن عبد الله بن لهيعة البصري فيه مقال، عن يزيد بن أبي حبيب سويد المصري روى له الجماعة، عن معمر بن أبي حيَيَّة، عن عُبيد الله بن رفاعة بن رافع الزرقي الأنصاري -ذكره في "الكمال" في الصحابة، وذكره ابن حبان في التابعين الثقات.

قوله: "وأنتم أهل بدر". جملة حاليَّة.

قوله: "الأخيار". بالرفع؛ لأنه صفة للأهل في قوله: "أهل بدر" وهو جمع خيِّر بتشديد الياء.

قوله: "إذ تناجى رجلان". أي تساررا في الكلام، أراد أنهما تكلما فيما بينهما خفية.

قوله: "حتى تمر بالتارات السبع" أراد بها الأحوال السبع، وهي أن تكون أولاً نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظمًا، ثم لحمًا، ثم تنفخ فيه الروح، ثم يظهر في

ص: 394

الوجود ويستهلّ، فلا تكون موءودة إلَاّ بعد مرورها على هذه الأحوال السبع، ولقد بيَّن الله تعالى هذه الأحوال في قوله:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} (1).

وأخرج حديث ابن عباس بإسناد صحيح: عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان الثوري، عن سليمان الأعمش، عن أبي الودَّاك جبر بن نوف البكالي الكوفي.

وأخرجه البيهقي في "سننه"(2): من حديث الحسين، عن سفيان، عن الأعمش، عن عبد الملك الزراد، عن مجاهد "سألنا ابن عباس [عن العزل] (3) فقال: اذهبوا فسلوا الناس ثم ائتوني وأخبروني، فسألوا فأخبروه، فتلا هذه الآية:{وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} حتى [فرغ منها](4) ثم قال: كيف تكون من الموءودة حتى تمر على هذا الخلق".

ص: وقد روي عن رسول الله عليه السلام في العزل أيضًا ما حدثنا محمد بن عمرو بن يونس، قال: ثنا أسباط، عن مطرف، عن أبي إسحاق، عن أبي الودَّاك، عن أبي سعيد الخدري قال:"لما افتتح رسول الله عليه السلام خيبر أصبنا نساءً، فكنا نطؤهنَّ فنعزل عنهن، فقال بعضنا لبعض: أتفعلون هذا ورسول الله عليه السلام إلى جنبكم فلا تسألونه؟! فسألوه عن ذلك، فقال: ليس مِنْ كل الماء يكون الولد، إن الله عز وجل إذا أراد أن يخلق شيئًا لم يمنعه شيء، فلا عليكم أن لا تعزلوا".

حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني ابن أبي الزناد، عن أبيه، قال: حدثني محمد بن يحيى بن حبَّان، أن ابن محيريز حدَّثه، أن أبا سعيد حدَّثه: "أن بعض الناس كلموا رسول الله عليه السلام في شأن العزل، وذلك لشأن غزوة بني

(1) سورة المؤمنون، آية:[12].

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(7/ 230 رقم 14099).

(3)

ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "سنن البيهقي الكبرى".

(4)

في الأصل: "فرغها، ك"، والمثبت من "سنن البيهقي الكبرى".

ص: 395

المصطلق فاصابوا سبايا وكرهوا أن يلِدْن منهم، فقال رسول الله عليه السلام: ما عليكم أن لا تعزلوا؛ فإن الله عز وجل قدر ما هو خالق إلى يوم القيامة".

حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن محمد بن يحيى بن حبان

فذكر بإسناده مثله.

حدثنا نصر بن مرزوق، قال: ثنا الخصيب، قال: ثنا وهيب، عن موسى بن عقبة، عن محمد بن يحيى بن حبَّان، عن ابن محيريز، عن أبي سعيد الخدري:"أنهم أصابوا سبايا أوطاس، فأرادوا أن يستمتعوا منهن فلا يحملن، فسألوا النبي عليه السلام عن ذلك، فقال: لا عليكم أن لا تفعلوا، فإن الله عز وجل قد كتب (ما) (1) هو خالق إلى يوم القيامه".

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو اليمان، قال: أنا شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري، قال: أخبرني عبد الله بن محيريز الجمحي، أن أبا سعيد الخدري أخبره:"أنه بينا هو جالس عند النبي عليه السلام إذْ جاءه رجل من الأنصار، فقال: يا رسول الله، إنا نصيب سبيًا ونحب الأثمان، فكيف ترى في العزل؟ فقال النبي عليه السلام: أو إنكم لتفعلون ذلك؟! لا عليكم أن لا تفعلوا ذلكم، فإنها ليست نسمة كتب الله أن تخرج إلَّا خارجة".

حدثنا ابن مرزوق قال: ثنا أبو داود، عن شعبة، عن أنس بن سيرين قال: سمعت معبد بن سيرين يحدث، عن أبي سعيد قال:"سألنا رسول الله عليه السلام عن العزل، فقال: لا عليكم أن لا تفعلوا، فإنما هو القدر".

حدثنا إبراهيم بن مرزوق، قال: ثنا أبو داود، عن شعبة، عن أبي إسحاق السبيعي، قال: سمعت أبا الودَّاك يحدث، عن أبي سعيد الخدري قال:"لمَّا أصبنا سبي حنين سألنا رسول الله عليه السلام عن العزل، فقال: ليس من كل الماء يكون الولد، وإذا أراد الله أن يخلق شيئًا لم يمنعه شيء".

(1) كذا في "الأصل، ك"، وفي "شرح معاني الآثار":"من".

ص: 396

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن أبي الودَّاك، عن أبي سعيد قال: "أصبنا نساءً يوم حنين، فكنا نعزل عنهن نريد الفداء، فقلنا: لو سألنا رسول الله عليه السلام

" ثم ذكر مثله.

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا أبو ظفر، قال: ثنا جرير بن حازم، عن محمد بن سيرين، عن أبي العالية، عن أبي سعيد قال:"تذاكرنا العزل، فخرج رسول الله عليه السلام فقال: لا عليكم ألَّا تفعلوا، فإنما هو القدر".

ش: أي قد روي عن رسول الله عليه السلام أيضًا في إباحة العزل، رواه أبو سعيد سعد بن مالك الخدري رضي الله عنه، وأخرجه من سبع طرق صحاح:

الأول: على شرط مسلم، عن محمد بن عمرو بن يونس التغلبي، عن أسباط بن محمد الكوفي روى له الجماعة، عن مطرف بن طريف الحارثي الكوفي روى له الجماعة، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي روى له الجماعة، عن أبي الودَّاك جبر بن نوف البكالي، روى له مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه.

وأخرجه مسلم (1): حدثني هارون بن سعيد الأيلي، قال: ثنا عبد الله بن وهب، قال: أخبرني معاوية -يعني ابن صالح- عن علي بن أبي طالب، عن أبي الودَّاك، عن أبي سعيد الخدري، سمعه يقول:"سئل رسول الله عليه السلام عن العزل، فقال: ما مِنْ كل الماء يكون الولد، وإذا أراد الله خلق شيء لم يمنعه شيء".

قوله: "لما افتتح خيبر". كانت غزوة خيبر وفتحها سنة سبع من الهجرة.

قوله: "أتفعلون هذا". أي العزل، والألف فيه للاستفهام.

قوله: "ورسول الله عليه السلام إلي جنبكم". كلمة "إلى" ها هنا بمعنى "عند" كما في قوله:

(1)"صحيح مسلم"(2/ 1064 رقم 1438).

ص: 397

وذِكره أشهى إلي من الرحيق السَّلسَلِ (1)

قوله: "فلا عليكم ألَّا تعزلوا" أي فلا عليكم ترك العزل. وهذا يفهم منه إباحة العزل، وفهم منه الحسن البصري وابن سيرين النهي، فقال الحسن: فكأن هذا زجرٌ، وقال ابن سيرين: هو أقرب إلى النهي، وقال القرطبي: فهمت طائفة من هذا التركيب النهي والزجر عن العزل، كما حكي عن الحسن وابن سيرين، فكأنهم فهموا من "لا" النهي عما سأل عنه، وحذف بعد قوله:"لا"، فكأنه قال: لا تعزلوا، وعليكم ألَّا تفعلوا، تأكيدًا لذلك النهي.

وفهمت طائفة أخرى منها الإِباحة، كأنها جعلت [جواب] (2) السؤال: قوله: "لا عليكم ألَّا تعزلوا" أي ليس عليكم جناح في ألَّا تعزلوا. قال: وهذا التأويل أولى، بدليل قوله:"ما مِنْ نسمةٍ كائنة إلَاّ وستكون"، وبقوله:"افعلوا أو لا تفعلوا فإنما هو القدر"، وبقوله:"إذا أراد الله عز وجل خلق شيء لم يمنعه شيء". وهذه الألفاظ كلها مصرِّحه بأن العزل لا يرد القدر، ولا يضر، فكأنه قال: لا بأس به.

قلت: الذي [قالته](3) الطائفة الأولى ليس معنى التركيب، بل فيه تعسف على ما [قالته](4) الطائفة الثانية، فلذلك وضعه الطحاوي ها هنا. فافهم.

الثاني: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن عبد الله بن وهب، عن عبد الرحمن بن أبي الزناد -بالنون- عن أبيه عبد الله بن ذكوان، عن محمد بن يحيى بن حَبَّان -بفتح الحاء وتشديد الباء الموحدة- بن منقذ الأنصاري المدني، عن عبد الله بن محيريز بن جنادة المكي، عن أبي سعيد.

(1) هذا عجز بيت ذكره ابن منظور في "لسان العرب" عن ابن بري، وعزاه لأبي كبير (مادة: سلسبيل) ونصه:

أَم لا سَبِيلَ إِلى الشَّبابِ وذِكْرُه

أَشْهَى إِليَّ من الرَّحِيق السَّلْسَلِ

(2)

في "الأصل، ك": "جوابًا".

(3)

في "الأصل، ك": "قاله".

(4)

في "الأصل، ك": "قاله".

ص: 398

وأخرجه مسلم (1): نا يحيى بن أيوب وقتيبة بن سعيد وعلي بن حجر، قالوا: نا إسماعيل بن جعفر، قال: أخبرني ربيعة، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن ابن محيريز أنه قال:"دخلت أنا وأبو الصرمة على أبي سعيد الخدري، فسأله أبو الصرمة فقال: يا أبا سعيد هل سمعت رسول الله عليه السلام يذكر العزل؟ قال: نعم، غزونا مع رسول الله عليه السلام غزوة بني المصطلق، فسبينا كرائم العرب، فطالت علينا العزبة ورغبنا في الفداء، فأردنا أن نستمتع ونعزل فقلنا: نفعل ورسول الله عليه السلام بين أظهرنا لا نسأله؟! [فسألنا] (2) رسول الله عليه السلام، فقال: لا عليكم ألَّا تفعلوا؛ ما كتب الله خلق نسمة هي كائنة إلى يوم القيامة إلَاّ ستكون -وفي لفظ: فإن الله كتب من هو خالق إلى يوم القيامة".

قوله: "غزوة بني المصطلق". وهي غزوة المريسيع، قال أهل الحديث هذا أولى من رواية ابن عقبة أنه كان في غزوة أوطاس، ومعنى "بلمصطلق" أي بني المصطلق.

قوله: "سبايا". جمع سبيَّة وهي المأخوذة نهبًا.

قوله: "ما عليكم ألَّا تعزلوا". أي لا بأس عليكم بأن تتركوا العزل.

الثالث: رجاله كلهم رجال الصحيح، عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله ابن وهب، عن مالك بن أنس، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن المدني المعروف بربيعة الرأي

إلى آخره.

وأخرجه أبو داود (3): ثنا القعنبي، عن مالك، عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن محمد بن يحيى بن حبان، عن ابن محيريز قال: "دخلت المسجد فرأيت أبا سعيد الخدري، فجلست إليه فسألته عن العزل، فقال أبو سعيد: خرجنا مع

(1)"صحيح مسلم"(2/ 1061 رقم 1438).

(2)

في "الأصل، ك": "وسألناه"، بالواو في أوله، والمثبت من "صحيح مسلم".

(3)

"سنن أبي داود"(2/ 252 رقم 2172).

ص: 399

رسول الله عليه السلام في غزوة بني المصطلق، فأصبنا سبيًا من سبي العرب، فاشتهينا النساء واشتدت علينا العزبة وأحببنا الفداء، فأردنا أن نعزل، ثم قلنا: نعزل ورسول الله عليه السلام بين أظهرنا قبل أن نسأله عن ذلك؟! فسألناه عن ذلك، فقال: ما عليكم ألَاّ تفعلوا، ما مِنْ نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلَاّ وهي كائنة".

الرابع: عن نصر بن مرزوق، عن الخصيب بن ناصح الحارثي، عن وهيب بن خالد، عن موسى بن عقبة بن أبي عياش القرشي

إلى آخره.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا عفان، نا وهيب، نا موسى بن عقبة، حدثني محمد بن يحيى بن حبان، عن ابن محيريز، عن أبي سعيد:"في غزوة بني المصطلق أنهم أصابوا سبايا، فأرادوا أن يستمتعوا بهن ولا يحملن، فسألوا رسول الله عليه السلام فقال: ما عليكم ألَّا تفعلوا؛ فإن الله عز وجل قد كتب من هو خالق إلى يوم القيامة" انتهى.

فهذا كما ترى قد وقع في روايته بني المصطلق. وفي رواية الطحاوي: أوطاس.

وقد قلنا: إن أهل الحديث قالوا: سبايا بني المصطلق أولى من سبايا أوطاس، وفي "المطالع": أوطاس وادٍ في ديار هوازن، وهو موضع حرب حنين.

الخامس: على شرط البخاري، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي اليمان الحكم بن نافع البهراني الحمصي شيخ البخاري، عن شعيب بن أبي حمزة دينار الأموي الحمصي، عن محمد بن مسلم الزهري، عن عبد الله بن محيريز.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(2): نا أبو اليمان، أنا شعيب بن أبي حمزة، عن الزهري

إلى آخره نحوه سواء.

(1)"مسند أحمد"(3/ 72 رقم 11706).

(2)

"مسند أحمد"(3/ 8 رقم 11587).

ص: 400

وأخرجه البخاري (1): ثنا عبد الله بن محمد بن أسماء، نا جويرية، عن مالك، عن الزهري، عن ابن محيريز، عن أبي سعيد الخدري قال:"أصبنا سبيًا وكنا نعزل، فسألنا رسول الله عليه السلام فقال: أو إنكم لتفعلون؟! -قالها ثلاثًا- ما من نسمةٍ كائنةٍ إلى يوم القيامة إلَاّ هي كائنة".

وأخرجه مسلم (2) نحوه: عن عبد الله بن محمد بن أسماء

إلى آخره.

قوله: "أو إنكم لتفعلون". ظاهره الإِنكار والزجر، غير أن قوله:"فإنها ليست نسمة كتب الله أن تخرج إلَاّ خارجة" يدفع ذلك؛ فإذن يكون معناه الاستبعاد لفعلهم له بدليل ما جاء في الرواية الأخرى: "وَلِمَ يفعل ذلك أحدكم" قال الراوي: ولم يقل: ولا يفعل ذلك أحدكم، فَعُلِمَ أنه ليس بنهي وهو أعلم بالمقال، وفي بعض الروايات:"ما من كل الماء يكون الولد" يعني أنه ينعقد الولد في الرحم من جزء من الماء لا يشعر العازل بخروجه، فيظن أنه قد عزل كل الماء، وإنما عزل بعضه، فيخلق الله تعالى الولد من ذلك الجزء اللطيف، وقال الأطباء: ذلك الجزء هو الشيء الثخين الذي يكون في الماء على هيئة نصف عَدْسَة.

قوله: "لا عليكم" أي لا بأس عليكم.

قوله: "نسمة" أبي روح ونفس.

السادس: على شرط مسلم: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن أنس بن سيرين، عن معبد بن سيرين الأنصاري مولى أنس بن مالك، عن أبي سعيد.

وأخرجه مسلم (2): نا نصر بن علي الجهضمي، قال: نا بشر بن المفضل، قال: نا شعبة، عن أنس بن سيرين، عن معبد بن سيرين، عن أبي سعيد الخدري -قلت له: سمعته من أبي سعيد؟ قال: نعم- عن النبي عليه السلام قال: "لا عليكم ألَّا تفعلوا، فإنما هو القدر".

(1)"صحيح البخاري"(5/ 1998 رقم 4912).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 1062رقم 1438).

ص: 401

ومعناه: لا بأس عليكم ألَّا تفعلوا العزل، ولو فعلتم فإن أمرًا قدره الله لا بد من وقوعه، وعزلكم لا يرد القدر.

السابع: على شرط مسلم أيضًا: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي داود سليمان ابن داود الطيالسي، عن شعبة، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السَّبيعي، عن أبي الودَّاك جبر بن نوف البكالي، عن أبي سعيد.

وأخرجه مسلم (1) نحوه، وقد ذكرناه في الطريق الأول.

الثامن: عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله

إلى آخره.

قوله: "نريد الفِداء" وأراد به أن يبيعوا السبايا من أهلهن ويأخذون منهم مالاً، وفيه حجة لما عليه الجمهور من الفقهاء من أن بيع أمهات الأولاد لا يجوز، إذ الفداء بيع، وقد تقرر عندهم منعه بسب الحمل، وقال بعضهم: إنما فيه حجة لمنع بيعهن حبالى فقط، لأجل استرقاق الولد، وهو الذي عليه إجماع المسلمين.

التاسع: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أبي ظفر -بالظاء المعجمة- عبد السلام بن مطهر البصري شيخ البخاري وأبي داود، عن جرير بن حازم، عن محمد بن سيرين، عن أبي العالية رفيع بن مهران الرياحي، عن أبي سعيد.

وهذا الحديث أخرجه بقيَّة الجماعة بطرق مختلفة:

فالترمذي (2): عن ابن أبي عمر وقتيبة، قالا: ثنا سفيان بن عُيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن قزعة -هو ابن يحيى- عن أبي سعيد قال:"ذكر العزل عند رسول الله عليه السلام فقال: لِمَ يفعل ذلك أحدكم؟ -زاد ابن أبي عمر في حديثه ولم يقل: لا يفعل ذلك أحدكم -قالا في حديثهما-: فإنها ليست نفسٌ مخلوقة إلَاّ الله خالقها".

(1)"صحيح مسلم"(2/ 1064 رقم 1438).

(2)

"جامع الترمذي"(3/ 444 رقم 1138).

ص: 402

والنسائي (1): عن إسماعيل بن مسعود وحميد بن مسعدة، قالا: ثنا يزيد بن زريع، ثنا ابن عون، عن محمد بن سيرين، عن عبد الرحمن بن بشر بن مسعود، ردَّ الحديث حتى ردَّه إلى أبي سعيد الخدري قال:"ذكر ذلك عند رسول الله عليه السلام قال: وما ذاكم؟ قلنا: الرجل يكون له المرأة فيصيبها ويكره الحمل، وتكون له الأمَة فيصيب منها ويكره أن تحمل منه، قال: لا عليكم ألَّا تفعلوا، فإنما هو القدر".

وابن ماجه (2): عن أبي مروان محمد بن عثمان العثماني، نا إبراهيم بن سعد، عن ابن شهاب، حدثني عُبيد الله بن عبد الله، عن أبي سعيد الخدري قال:"سأل رجل رسول الله عليه السلام عن العزل، فقال: أو تفعلون؟! لا عليكم ألَّا تفعلوا؛ فإنه ليس من نسمة قضى الله لها أن تكون إلَاّ هي كائنة".

ص: حدثنا أبو بكرة وابن مرزوق، قالا: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن أبي الفيض، قال: سمعت عبد الله بن مرة، عن أبي سعد الزرقي:"أن رجلاً من أشجع سأل رسول الله عليه السلام عن العزل، فقال: ما يُقَدَّر في الرحم يكن".

ش: أبو بكرة بكَّار القاضي، وأبو داود سليمان بن داود الطيالسي وأبو الفيض: اسمه موسى بن أيوب -ويقال: ابن أبي أيوب- المهري الشامي الحمصي، قال العجلي: شامي ثقة. وقال أبو حاتم: صالح. روى له أبو داود والترمذي والنسائي.

وعبد الله بن مرة الزَوفي، روى له الجماعة.

وأبو سعد -بفتح السين وسكون العين-، وقيل: أبو سعيد بزيادة الياء، قال أبو عُمَر: أبو سعد أشبه، وقال: ذكره خليفة بن خياط فيمن روى عن النبي عليه السلام من الصحابة، وقال: لا يوقف له على اسم، وقال غيره: أبو سعيد الزرقي مشهور بكنيته، واختلف في اسمه؛ فقيل: سعد بن عمارة وقيل: عمارة بن سعد، وقيل: عامر بن مسعود وليس بشيء.

(1)"المجتبى"(6/ 107 رقم 3327).

(2)

"سنن ابن ماجه"(1/ 620 رقم 1926).

ص: 403

وأخرجه النسائي (1): أنا محمد بن بشار، عن محمد، عن شعبة، عن أبي الفيض، سمعت عبد الله بن مرة الزَّوفي، عن أبي سعد الزوفي:"أن رجلاً سأل رسول الله عليه السلام عن العزل، فقال: إن امرأتي ترضع وأنا أكره أن تحمل، فقال النبي عليه السلام: إن ما قد قُدَّر في الرحم سيكون".

واعلم أنه وقع في رواية النسائي: أبو سعد الزوفي -بالزاي المفتوحة وسكون الواو وبالفاء- نسبة إلى زوف بن زاهر بن عامر بن عوبثان بن مراد وهو قَبيل من حمير، ووقع في رواية الطحاوي وغره: الزرقي -بضم الزاي وفتح الراء وبالقاف- نسبة إلى بني زريق قَبيل من الخزرج.

ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قال: ثنا جعفر بن أبي المغيرة، عن عبد الله بن أبي الهذيل، عن جرير قال:"أتى النبي عليه السلام رجلٌ فقال: ما وصلت إليك من المشركين إلَاّ بغنية -أو بقينة- أعزل عنها أريد بها السوق، قال: جاءها ما قُدَّر".

ش: أبو غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري، وجعفر بن أبي المغيرة القُمي، وثقه ابن حبان وروى له الأربعة، ابن ماجه في التفسير.

وعبد الله بن أبي الهذيل العنزي الكوفي أبو المغيرة، روى له مسلم والترمذي والنسائي، وجرير بن عبد الله البجلي الصحابي رضي الله عنه.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(2): ثنا الفضل بن دكين، عن مندل بن علي، عن جعفر بن أبي المغيرة، عن ابن أبي الهذيل، عن جرير قال:"جاء رجل إلى رسول الله عليه السلام فقال: يا رسول الله، ما خَلُصْتُ إليك من المشركين إلَاّ بقينة وأنا أعزل عنها أريد بها السوق، فقال رسول الله عليه السلام: جاءها ما قُدَّر".

(1)"المجتبى"(6/ 108رقم 3328).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 512 رقم 16607).

ص: 404

قوله: "بقَيْنَة". بفتح القاف وسكون الياء آخر الحروف وفتح النون، وهي الأمَة سواء كانت مغنية أو لا، وكثيرًا ما تطلق على المغنيات من الإِماء، وجمعها قيان وقينات.

ص: ففي هذه الآثار أيضاً ما يدل على أن العزل غير مكروه؛ لأن رسول الله عليه السلام لما أخبروه أنهم يفعلونه لم ينكر ذلك عليهم ولم ينههم عنه، وقال:"لا عليكم ألَّا تفعلوه، فإنما هو القدر" أي فإن الله إذا كان قد قدَّر أنه يكون له ولدٌ كان ذلك الولد ولم يمنعه عزل ولا غيره؛ لأنه قد يكون مع العزل إفضاء بقليل الماء الذي قد قدّر الله عز وجل أن يكون منه ولد، فيكون منه ولد ويكون ما بقي من الماء الذي تمتنعون من الإِفضاء به بالعزل فضلاً، وقد يكون الله عز وجل قد قدَّر ألَّا يكون من ماءِ ولدٌ فيكون الإِفضاء بذلك الماء والعزل سواء في ألَّا يكون منه ولد، فكان الإِفضاء بالماء لا يكون [منه](1) ولد إلَاّ بأن يكون في تقدير الله تعالى أن يكون في ذلك الماء ولدٌ، فيكون كما قدَّر وكان العزل إذا كان قد تقدم في تقدير الله عز وجل أن يكون من ذلك الماء الذي يُعزل ولدٌ أوصل الله عز وجل إلى الرحم منه شيئًا وإن قلّ فيكون منه الولد، فأعلمهم رسول الله عليه السلام أن الإِفضاء لا يكون منه ولدٌ إلَاّ أن يكون قد سبق في تقدير الله عز وجل وأن العزل لا يمنع أن يكون ولدٌ إذا كان سبق في علم الله أنه كائن، ولم ينههم في جملة ذلك عن العزل.

ش: أشار بهذه الآثار إلى الأحاديث التي رواها عن أبي سعيد الخدري بعدة طرق، وأبي سعد الزوفي، وجرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنهم. وباقي الكلام ظاهر.

ص: ثم قد روي عن رسول الله عليه السلام في إباحته أيضًا ما قد حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسدٌ، قال: ثنا محمد بن خازم، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر رضي الله عنه قال: "أتى النبي عليه السلام رجل من الأنصار فقال: يا رسول الله إن لي جاريةً تستقي على ناضح لي، وأنا أصيب منها فأعزل؟ فقال له رسول الله عليه السلام: نعم

(1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ص: 405

فاعزل، فلم يلبث الرجل أن جاء فقال: يا رسول الله قد عزلت عنها فحملت، فقال رسول الله عليه السلام: ما قدَّر الله لنفس أن يخلقها إلَاّ وهي كائنة".

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا مؤمل، قال: ثنا سفيان، عن منصور، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر، عن النبي عليه السلام مثله.

فهذا جابر قد حكى عن رسول الله عليه السلام نظير ما حكى عنه أبو سعيد ومن ذكرنا معه في الفصل الذي قبل هذا، وأنه قد أذن له مع ذلك في العزل.

ش: أي: ثم قد روي عن رسول الله عليه السلام أيضًا في إباحة العزل، رواه جابر بن عبد الله فإنه حكى في حديثه نظير ما حكى أبو سعيد الخدري وأبو سعد الزوفي وجرير بن عبد الله، وزاد جابرٌ في روايته بصريح الإِذن من النبي عليه السلام في العزل، فدلَّ ذلك على أن العزل مباح، وأن القدر لا يمنعه العزل.

وأخرج حديث جابر من طريقين صحيحين:

الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن، عن أسد بن موسى، عن

محمد بن خازم -بالخاء والزاي المعجمتين- أبي معاوية الضرير، عن سليمان الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد رافع الأشجعي الكوفي، عن جابر بن عبد الله الأنصاري.

وأخرجه البزار في "مسنده": نا يوسف بن موسى، نا جرير، عن الأعمش، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر بن عبد الله قال:"جاء رجل إلى النبي عليه السلام فقال: يا رسول الله، لي جارية وأنا أعزل عنها، فقال رسول الله عليه السلام: ما قدِّر من نسمةٍ تخرج إلَاّ وهي كائنة".

وهذا الحديث روي عن جابر من وجوه بألفاظ مختلفة قد ذكرنا كل حديث بلفظه في موضعه.

ص: 406

قلت: حديث جابر في هذا الباب أخرجه البخاري (1) ومسلم (2) وأبو داود (3) والترمذي (4) وابن ماجه (5) بألفاظ مختلفة وأسانيد متغايرة.

الثاني: عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن مؤمل بن إسماعيل القرشي، عن سفيان الثوري، عن منصور بن المعتمر، عن سالم بن أبي الجعد، عن جابر.

وأخرجه أحمد (6) من حديث سالم بن أبي الجعد نحوه.

قوله: "تستقي على ناضح""الناضح" الجمل الذي يستقى عليه، وجمعه نواضح، وفي رواية: تسنو على ناضح، ومعناه تستقي أيضًا، من سنى يسنو إذا استقى.

قوله: "نعم فاعزل". صريح بالإِذن بالعزل، فدلَّ على أنه مباح.

ص: ثم قد روي عن جابر رضي الله عنه في إباحة العزل أيضًا ما قد حدثنا أحمد بن داود، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي، عن أبيه، عن أبي الزبير، عن جابر رضي الله عنه:"أن رسول الله عليه السلام أذن له في العزل".

حدثنا يونس، قال: أنا سفيان، عن عمرو بن دينار، عن عطاء، عن جابر قال:"كنا نعزل والقرآن ينزل".

حدثنا أبو بكرة، قال: ثنا أبو داود، قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن دينار، عن جابر بن عبد الله قال:"كنا نعزل والقرآن ينزل" قال شعبة: فقلت لعمرو: سمعت هذا من جابر؟ فقال: لا.

(1)"صحيح البخاري"(5/ 1998 رقم 4911).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 1064 رقم 1439).

(3)

"سنن أبي داود"(2/ 252 رقم 2173).

(4)

"جامع الترمذي"(3/ 442 رقم 1136).

(5)

"سنن ابن ماجه"(1/ 620 رقم 1927).

(6)

"مسند أحمد"(3/ 388 رقم 15213).

ص: 407

حدثنا أبو بكرة وابن مرزوق، قالا: ثنا أبو داود، قال: ثنا هشام، عن أبي الزبير، عن جابر قال:"كنا نعزل على عهد رسول الله عليه السلام ولا ينهانا عن ذلك".

ش: هذه أربع طرق صحاح:

الأول: إسناده على شرط مسلم.

وأبو بكر بن أبي شيبة اسمه عبد الله بن محمد بن أبي شيبة، وهو شيخ البخاري ومسلم وأبي داود وابن ماجه.

وحميد بن عبد الرحمن روى له الجماعة، وأبوه عبد الرحمن بن حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي الكوفي، روى له مسلم وأبو داود والنسائي، ونسبته إلى رؤاس -بضم الراء بعدها همزة- بن كلاب من هوازن.

وأبو الزبير هو محمد بن مسلم المكي، من رجال مسلم.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه".

الثاني: على شرط الشيخين، ورجاله كلهم رجال الصحيح، وسفيان هو ابن عُيينة.

وأخرجه البخاري (1): ثنا علي بن عبد الله، نا سفيان، قال عمرو: أخبرني عطاء، سمع جابرًا قال:"كنا نعزل والقرآن ينزل".

وأراد بقوله: "والقرآن ينزل" أن العزل لو كان ممنوعًا لبَيَّنَهُ عليه السلام؛ لأن وقت نزول القرآن كان وقت بيان الحلال والحرام، وما يجوز فعله وما لا يجوز، وقد علم أن قول الصحابي:"كنا نفعل" ونحوه من الأمور المشروعة من جهة النبي عليه السلام.

وقال الخطيب: قول الصحابي: "كنا نفعل كذا" و"نقول كذا" متى أضيف إلى زمن النبي عليه السلام على وجه كان يعلم به رسول الله عليه السلام فلا ينكره، وجب القضاء بكونه شرعًا، وقام إقراره له مقام نطقه بالأمر به.

(1)"صحيح البخاري"(5/ 1998 رقم 4911).

ص: 408

الثالث: عن أبي بكرة بكَّار القاضي، عن أبي داود سليمان بن داود الطيالسي، عن شعبة، عن عمرو بن دينار

إلى آخره.

وأخرجه الطيالسي في "مسنده"(1): وإنما قال عمرو بن دينار: "لا" حين سأله شعبة: أسمعت هذا من جابر؟ لأنه قد كان سمعه عن عطاء عن جابر، ولم يسمعه من جابر، وإن كان هو ممن سمع جابرًا وروى عنه غير هذا. فافهم.

الرابع: عن أبي بكرة أيضًا وإبراهيم بن مرزوق، كلاهما عن أبي داود سليمان الطيالسي، عن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي، عن أبي الزبير محمد بن مسلم المكي، عن جابر.

وأخرجه مسلم (2): حدثني أبو غسان المسمعي، قال: ثنا معاذ -يعني ابن هشام- قال: حدثني أبي، عن أبي الزبير، عن جابر قال:"كنا نعزل على عهد نبي الله عليه السلام، فبلغ ذلك نبي الله فلم ينهنا".

ص: فلما انتفى المعنى الذي به كُرَه العزل، وما ذَكَرَ مَنْ ذَكَرَ في ذلك أنه من الموءودة، وثبت عن رسول الله عليه السلام ما ذكرنا عنه من إباحته ثبت أن لا بأس بالعزل لمن أراده على الشرائط التي ذكرناها، وقد فصلناها في أول هذا الباب، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.

ش: أراد بالمعنى الذي كره به العزل: أي بسببه العزل أنه هو الوأد الخفي، يعني لما انتفى هذا المعنى بالأحاديث المذكورة، وكذلك لما انتفى ما ذكر مَنْ ذكر في ذلك أبي في حكم العزل أنه من الموءودة، وأراد بمن ذكر: أهل المقالة الأولى، وهم: النخعي وسالم وطاوس وآخرون، وثبت عن رسول الله عليه السلام إباحة العزل بالأحاديث المذكورة، ثبت أن العزل لا بأس به، ولكن على الشرط الذي ذكره في أول الباب من وجه النظر، وهو أنه إذا كان العزل عن الحرة لا يباح إلَاّ

(1)"مسند الطيالسي"(1/ 236 رقم 1697).

(2)

"صحيح مسلم"(2/ 1065 رقم 1440).

ص: 409

برضاها، وإن كان عن الأمَة فله ذلك مطلقًا. فإن قيل: الأحاديث المذكورة ليس فيها هذا القيد.

قلت: روعي هذا القيد بحديث أخرجه ابن ماجه (1): نا الحسن بن خلَّال، نا إسحاق بن عيسى، نا ابن لهيعة، حدثني جعفر بن ربيعة، عن الزهري، عن المحرَّر بن أبي هريرة، عن أبيه، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:"نهى رسول الله عليه السلام أن يعزل عن الحرة إلَاّ بإذنها".

فإن قيل: قال الدارقطني: تفرد به إسحاق بن عيسى الطباع، عن ابن لهيعة، عن جعفر، عن الزهري، عن المحرَّر، عن أبيه، عن عمر، ووهم فيه.

وخالف عبد الله بن وهب فرواه عن ابن لهيعة، عن جعفر، عن الزهري، عن حمزة بن عبد الله بن عمر، عن أبيه، عن عمر، قال: ووهم أيضًا، والصواب: مرسل، عن حمزة، عن عمر ليس فيه عن أبيه.

وقال أبو حاتم: ثنا أبو صالح كاتب الليث، عن ابن لهيعة، عن جعفر، عن حمزة بن عبد الله، عن أبيه، عن عمر، قال: وهو أصحّ، وهذا من مخاليط ابن لهيعة.

وأخرجه البيهقي (2): من حديث إسحاق، عن ابن لهيعة، عن جعفر .. إلى آخره نحو رواية ابن ماجه.

ورواه الفسوي في "تاريخه". وقال الذهبي: ولا أعرف إسحاق، والحديث ضعيف. وفي "سؤالات أبي داود": سمعت أبا عبد الله

وذكر حديث ابن لهيعة، عن جعفر بن ربيعة، عن الزهري، عن المحرر بن أبي هريرة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: "لا يعزل عن الحرة إلَاّ بإذنها". فقال: ما أنكره.

قلت: روى البيهقي (3): من حديث منصور، عن إبراهيم قال:"تستأمر الحرة في العزل ولا تستأمر الأمَة".

(1)"سنن ابن ماجه"(1/ 620 رقم 1928).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(7/ 231 رقم 14102).

(3)

"سنن البيهقي الكبرى"(7/ 231 رقم 14103).

ص: 410

وروى عن عبد الكريم الجزري، عن عطاء، عن ابن عباس مثله.

وأخرج من حديث أبي معاوية (1)، عن أبي عرفجة الفائشي، عن عطية، عن ابن عمر قال:"يعزل عن الأمَة وتُستأمر الحرة".

وروى جعفر بن برقان (2) عن عطاء في العزل قال: "عن الحرة برضاها".

وأخرج أبو قرة السكسكي قال: ذكر ابن الصباح، عن عطاء، عن جابر:"أنهم كانوا يعزلون على عهد رسول الله عليه السلام إذا أُذنت الحرة، وأما الأمَة فيعزل عنها إن شاء" انتهى.

وكفى في القيد المذكور حجة بما روي عن ابن عباس وابن عمر وجابر وعطاء وإبراهيم، ويقوى به الحديث المذكور أيضًا.

وهذا جابر رضي الله عنه ممن روي عنه إباحة العزل مطلقًا، ثم روي عنه أنه قيَّده بإذن الحرة، فدلَّ على أن كل ما روي من إباحة العزل فالمراد منه بالإذن في حق الحرة.

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(7/ 231 رقم 14104).

(2)

"سنن البيهقي الكبرى"(7/ 231 رقم 14105)، وزاد في آخره:"وأما الأمة فذاك إليك".

ص: 411