المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: حكم المحصر بالحج - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ١٠

[بدر الدين العيني]

فهرس الكتاب

- ‌ص: باب: الجمع بين الصلاتين كيف هو

- ‌ص: باب: وقت رمي جمرة العقبة للضعفاء الذين يرخص لهم في ترك الوقوف بمزدلفة

- ‌ص: باب: رمي جمرة العقبة ليلة النحر قبل طلوع الفجر

- ‌ص: باب: الرجل يدع رمي جمرة العقبة يوم النحر ثم يرميها بعد ذلك

- ‌ص: باب: التلبية متى يقطعها الحاج

- ‌ص: باب: اللباس والطيب متى يحلان للمحرم

- ‌ص: باب: المرأة تحيض بعدما طافت للزيارة قبل أن تطوف للصدر

- ‌ص: باب: من قدم من حجه نسكًا قبل نسك

- ‌ص: باب: المكيّ يريد العمرة من أين ينبغي له أن يحرم

- ‌ص: باب: الهدي يصد عن الحرم هل ينبغي أن يذبح في غير الحرم

- ‌ص: باب: المتمتع الذي لا يجد هديًا ولا يصوم في العشر

- ‌ص: باب: حكم المحصر بالحج

- ‌ص: باب: حج الصغير

- ‌ص: باب: دخول الحرم هل يصلح بغير إحرام

- ‌ص: باب: الرجل يوجه بالهدي إلى مكة ويقيم في أهله هل يتجرد إذا قلد الهدي

- ‌ص: باب: نكاح المحرم

- ‌ص: كتاب النكاح

- ‌ص: باب: بيان ما نهى عنه من سوم الرجل على سوم أخيه وخطبته على خطبة أخيه

- ‌ص: باب: نكاح المتعة

- ‌ص: باب: مقدار ما يقيم الرجل عند الثيب أو البكر إذا تزوجها

- ‌ص: باب: العزل

- ‌ص: باب: الحائض ما يحل لزوجها منها

- ‌ص: باب: وطء النساء في أدبارهنَّ

- ‌ص: باب: وطء الحُبالى

- ‌ص: باب: انتهاب ما ينثر على القوم مما يفعله الناس في النكاح

الفصل: ‌ص: باب: حكم المحصر بالحج

‌ص: باب: حكم المحصر بالحج

ش: أي هذا باب في بيان حكم المحصر بالحج، والمحصَر بفتح الصاد، من أحصره المرض أو السلطان أو العدو إذا منعه عن مقصده، والإِحصار: المنع والحبس، وحصره: إذا حبسه فهو محصور، وقال القاضي إسماعيل: الظاهر أن الإِحصار بالمرض والحمر بالعدو، ومنه:"فلما حصر رسول الله عليه السلام". وقال تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} (1) وأصل الإِحصار: المنع، والحصور: الممنوع من النساء إما علة أو طبعًا بمعنى محصور.

ص: حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا محمد بن عبد الله الأنصاري، قال: ثنا الحجاج الصواف، قال: حدثني يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن الحجاج ابن عمرو الأنصاري، قال: سمعت النبي عليه السلام يقول: "من عرج أو كسر فقد حل وعليه حجة أخرى، قال: فحدثت بذلك ابن عباس وأبا هريرة رضي الله عنهم فقالا صدق".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن الحجاج الصواف

فذكر بإسناده مثله، غير أنه لم يذكر ذكر عكرمة ذلك لابن عباس وأبي هريرة.

حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا يحيى [بن](2) صالح الوحاظي، قال: ثنا معاوية بن سلام، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، قال: قال عبد الله بن رافع مولى أم سلمة، أنه قال: سألت الحجاج بن عمرو عمن حُبس وهو محرم، فقال: قال رسول الله عليه السلام

فذكر مثله "فحدثت بذلك ابن عباس وأبا هريرة، فقالا: صدق".

(1) سورة البقرة، آية:[196].

(2)

ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ص: 206

ش: هذه ثلاث طرق صحاح:

الأول: عن محمد بن خزيمة بن راشد، عن محمد بن عبد الله بن المثنى بن عبد الله بن أنس بن مالك الأنصاري البصري شيخ البخاري، عن الحجاج بن أبي عثمان الصواف أبي الصلت الكندي البصري، واسم أبي عثمان ميسرة، قال أحمد: ثقة شيخ. روى له الجماعة.

عن يحيى بن أبي كثير روى له الجماعة، عن عكرمة مولى ابن عباس روى له الجماعة مسلم مقرونًا بغيره، عن الحجاج بن عمرو بن غزية الأنصاري الخزرجي.

وأخرجه الترمذي (1): نا إسحاق بن منصور، قال: ثنا روح بن عبادة، قال: ثنا حجاج الصواف، قال: ثنا يحيى بن كثير، عن عكرمة، قال: حدثني الحجاج بن عمرو قال: قال رسول الله عليه السلام: "من كسر أو عرج فقد حل، وعليه حجة أخرى، فذكرت ذلك لأبي هريرة وابن عباس فقالا: صدق".

ونا إسحاق بن منصور، قال: أنا محمد بن عبد الأنصاري، عن الحجاج

مثله، وقال: سمعت رسول الله عليه السلام يقول، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن.

الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن الحجاج الصواف، عن يحيى بن أبي كثير

إلى آخره.

وأخرجه أبو داود (2): نا مسدد، قال: نا يحيى، عن حجاج الصواف، قال: حدثني يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، قال: سمعت الحجاج بن عمرو الأنصاري، قال: قال رسول الله عليه السلام: "من كسر أو عرج فقد حل وعليه الحج من قابل".

(1)"جامع الترمذي"(3/ 277 رقم 940).

(2)

"سنن أبي داود"(2/ 173 رقم 1862).

ص: 207

والنسائي (1): أخبرني حميد بن مسعدة البصري، ثنا سفيان وهو ابن حبيب، عن الحجاج الصواف

إلى آخره، نحوه.

وابن ماجه (2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا يحيى بن سعيد، وابن علية، عن حجاج بن أبي عثمان

إلى آخره نحوه.

الثالث: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن يحيى بن صالح الوحاظي شيخ البخاري، عن معاوية بن سلام بن أبي سلام الحبشي الأسود، عن يحيى بن أبي كثير

إلى آخره.

وأخرجه الترمذي (3): نا عبد بن حميد، نا عبد الرزاق، قال: أنا معمر، عن يحيى بن أبي كثير، عن عكرمة، عن عبد الله بن رافع، عن الحجاج بن عمرو، عن النبي عليه السلام نحوه.

قوله: "عرج" بفتح الراء يعرج من باب: نَصَرَ يَنْصُرُ، إذا أصابه شيء في رجله فعرج ومشى مشية العُرْجَان، وليس بخلقة، فإذا كان ذلك خلقه يقال:"عَرِجَ" بكسر الراء، وقال ابن الأثير: عَرَجَ يَعْرُجُ عَرَجانًا إذا غمز من شيء أصابه، وعَرَجَ يَعْرُجُ إذا صار أعرج وكان خلقة فيه.

قلت: الأول من باب نَصَرَ يَنْصُرُ، والثاني: من باب عَلِمَ يَعْلَمُ.

قوله: "فقد حل" معناه جاز له أن يحل كما يقال: حلت المرأة للزوج يعني جاز لها أن تتزوج، وليس المعنى وقوع الإِحلال بنفس عروض هذه الأشياء.

قوله: "وعليه حجة أخرى" أي من قابل.

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى أن المحرم بالحج أو بالعمرة إذا كسر

(1)"المجتبى"(5/ 198 رقم 2860).

(2)

"سنن ابن ماجه"(2/ 1028 رقم 3077).

(3)

" جامع الترمذي"(3/ 277 رقم 940).

ص: 208

أو عرج فقد حل حينئذ، وعليه قضاء ما حل منه إن كانت حجة فحجة، وإن كانت عمرة فعمرة، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: أبا ثور، وداود بن علي وأصحابه، فإنهم قالوا: المحرم بالحج أو بالعمرة إذا كسر أو عرج فقد حل من ساعته، وليس عليه هدي قال أبو عمر: أبو ثور يقول بظاهر [حديث](1) الحجاج بن عمرو، ولم يقل أحد: إنه بنفس الكسر يكون حلالاً غير أبي ثور، وتابعه داود بن علي وأصحابه.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا يحل حتى ينحر عنه الهدي، فإذا نحر عنه الهدي حل.

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: جماهير العلماء من التابعين وغيرهم، منهم: أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد، وإسحاق؛ فإنهم قالوا: المحصر لا يحل حتى ينحر عنه الهدي، فإذا نحر عنه الهدي حل.

ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا محمد بن عمر بن عبد الله بن الرومي، قال: ثنا محمد بن الثور، قال: أنا معمر، عن الزهري، عن عروة، عن المسور بن مخرمة:"أن رسول الله عليه السلام نحر يوم الحديبية قبل أن يحلق، وأمر أصحابه بذلك".

ش: أي واحتج هؤلاء الآخرون فيما ذهبوا إليه بحديث المسور بن مخرمة.

أخرجه عن محمد بن خزيمة، عن محمد بن عمر بن عبد الله الرومي شيخ البخاري في غير الصحيح، ضعفه أبو داود، عن محمد بن الثور الصنعاني، وثقه النسائي ويحيى، وروى له أبو داود والنسائي، عن معمر بن راشد روى له الجماعة، عن محمد بن مسلم الزهري، عن عروة بن الزبير بن العوام، عن المسور بن مخرمة ابن نوفل الزهري له ولأبيه صحبة.

(1) في "الأصل، ك": "هذا حديث"، وكلمة "هذا" لعلها زائدة.

ص: 209

وأخرجه البخاري (1): من حديث معمر، عن الزهري.

والطبراني (2): عن إسحاق بن إبراهيم الدبري، عن عبد الرزاق، عن معمر، عن الزهري، عن عروة بن الزبير، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم، قالا: "خرج رسول الله عليه السلام زمن الحديبية في بضع عشرة من أصحابه

". الحديث بطوله، وفيه: "قال: قوموا فانحروا ثم احلقوا

". وفيه أيضًا: "نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه، فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضًا". وقد دل هذا الحديث على أن المحصر لا يحل بمجرد ما عرض له من أمور الإِحصار، وإنما يحل بنحر الهدي، وفيه دلالة على أن الحلق للمحصر بعد النحر.

ص: حدثنا محمد بن عمرو بن تمام، قال: ثنا يحيى بن عبد الله بن بكير، قال: حدثني ميمون بن يحيى، عن مخرمة بن بكير، عن أبيه، قال: سمعت نافعًا مولى ابن عمر رضي الله عنهما يقول: قال ابن عمر: "إذا عرض للمحرم عدو فإنه يحل حينئذ؛ فقد فعل ذلك رسول الله عليه السلام حين حبسته كفار قريش في عمرته عن البيت، فنحر هديه وحلق وحل هو وأصحابه، ثم رجعوا حتى اعتمروا من العام المقبل".

فلما كان رسول الله عليه السلام لم يحل في عمرته بحصر العدو إياه حتى نحر الهدي؛ دل ذلك أن كذلك المحصر لا يحل بالإِحصار حتى ينحر الهدي.

ش: إسناده صحيح، ويحيى بن عبد الله بن بكير القرشي المصري شيخ البخاري، وميمون بن يحيى بن مسلم بن الأشج مولى بني زهرة، ذكره ابن أبي حاتم وسكت عنه، ومخرمة بن بكير أبو المسور المدني من رجال مسلم، وأبوه بكير بن عبد الله ابن الأشج روى له الجماعة.

(1)"صحيح البخاري"(2/ 643 رقم 1716).

(2)

"المعجم الكبير"(20/ 9 رقم 13).

ص: 210

وأخرج البيهقي (1): من حديث نافع، عن ابن عمر قال:"خرجنا مع رسول الله عليه السلام معتمرين، فحال كفار قريش دون البيت، فنحر رسول الله عليه السلام هديه وحلق رأسه ثم رجع".

وأخرجه البخاري (2): من حديث جويرية ومن حديث فليح، عن نافع.

قوله: "فإنه يحل حينئذ" يعني يجوز له أن يحل، وليس معناه أنه يحل بنفس الإِحصار كما قد ذكرناه؛ والدليل عليه أنه عليه السلام لم يحل من عمرته حين أحصر بالعدو حتى نحر هديه، فدل ذلك أن كل محصر لا يحل بالإِحصار حتى ينحر هديه.

ص: وليس فيما رويناه أولاً خلاف لهذا عندنا؛ لأن قول رسول الله عليه السلام: "من كسر أو عرج فقد حل". قد يحتمل أن يكون: فقد حل له أن يحل لا على أنه قد حل بذلك من إحرامه، ويكون هذا كما يقال: قد حلت فلانة للرجال إذا خرجت من عدة عليها من زوج قد كان لها، ليس على معنى أنها قد حلت لهم فيكون لهم وطئها، ولكني على معنى أنه قد حل لهم أن يتزوجوها تزويجًا يحل لهم وطئها، هذا كلام جائز مستساغ.

ش: هذا جواب عن سؤال مقدر، تقديره أن يقال: كيف تقولون: إن المحصر لا يحل بنفس الإِحصار وأنه لا يحل حتى ينحر الهدي وتحتجون بحديث المسور وابن عمر، والحال أن حديث الحجاج بن عمرو يعارض هذا ويخالفه ورد ما ذهبتم إليه؟

وتقرير الجواب: أن معنى هذا الحديث لا يخالف ما روى المسور وابن عمر، وأن معنى قوله:"من كسر أو عرج فقد حل" أي فقد حل له أن يحل، أي الإِحلال صار له حلالًا، وليس المعنى أنه قد حل بذلك من إحرامه حينئذ، ولهذا الكلام نظائر منها: ما ذكره من قوله: "ويكون هذا كما يقال: قد حلت فلانة

إلى آخره" وهو ظاهر لا يدفع.

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 16 رقم 9859).

(2)

"صحيح البخاري"(2/ 641 رقم 1713).

ص: 211

ومنها: قوله عليه السلام: "إذا أقبل الليل من هَا هنا وأدبر النهار من هَا هنا فقد أفطر الصائم". ومعناه حل له الإِفطار، وليس معناه صار مفطرًا في ذلك الوقت.

ومنها: قولهم: من زار فلانًا فقد أكرم، يعني يستحق الإِكرام في المستقبل، وليس معناه أنه صار مكرمًا في ساعة الزيارة، وأمثال هذا كثيرة لا تدفع، أشار إليه بقوله:"هذا كلام جائز مستساغ".

ص: فلما كان هذا الحديث قد احتمل ما ذكرنا، وجاء عن رسول الله عليه السلام في حديث عروة عن المسور ما قد وصفنا، قد ثبت بذلك هذا التأويل، وقد بين الله عز وجل ذلك في كتابه بقوله عز وجل:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (1) فلما أمر الله عز وجل المحصر أن لا يحلق رأسه حتى يبلغ الهدي محله؛ عُلِمَ بذلك أنه لا يحل المحصر من إحرامه إلا في وقت ما يحل له حلق رأسه، فهذا قد دل عليه قول الله تعالى، ثم فِعْلُ رسول الله عليه السلام زمن الحديبية.

ش: أراد به حديث الحجاج بن عمرو، والواو في "وجاء" للحال.

قوله: "وقد بين الله عز وجل ذلك" أي التأويل الذي ذكرناه، بيانه: أن الله أمر المحصر أنه لا يحلق رأسه حتى يبلغ الهدي محله؛ فاقتضى ذلك أن لا يحل المحصر من إحرامه إلا في الوقت الذي يحل له حلق رأسه، وحلق رأسه لا يكون إلَاّ بعد نحر الهدي. قوله:"ثم فعل الرسول عليه السلام" أي ثم بين التأويل المذكور فعل الرسول عليه السلام زمن الحديبية، فإنه لم يحل حتى نحر ثم حلق، فدل ذلك أيضًا على أن معنى قوله عليه السلام في حديث الحجاج:"فقد حل" أي حل له أن يحل، لا أنه حل بمجرد الإِحصار.

ص: والدليل على صحة هذا التأويل أيضًا: أن حديث الحجاج بن عمرو قد ذكر عكرمة أنه حدثه ابن عباس وأبا هريرة فقالا: "صدق" فصار ذلك الحديث

(1) سورة البقرة، آية:[196].

ص: 212

عن ابن عباس وعن أبي هريرة أيضًا، وقد قال عبد الله بن عباس في المحصر ما قد وافق التأويل الذي صرفنا إليه حديث الحجاج ودل عليه:

حدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا يحيى بن سعيد القطان، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} (1) ثم قال: إذا أحصر الرجل بعث بالهدي {ولاتَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} (1) فصيام ثلاثة أيام، فإن عجل فحلق قبل أن يبلغ الهدي محله فعليه فدية من صيام أو صدقة أو نسك، صام ثلاثة أيام، أو يتصدق على ستة مساكين كل مسكين نصف صاع، والنسك شاة، فإذا أمن مما كان به {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} فإن مضى على وجهه ذلك فعليه حجة، وإذا أخر العمرة إلى قابل فعليه حجة وعمرة {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجّ} (1) آخرها يوم عرفة، {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} (1) قال: فذكرت ذلك لسعيد بن جبير فقال: هذا قول ابن عباس، وعقد ثلاثين.

حدثنا أبو شريح محمد بن زكريا بن يحيى، قال: ثنا الفريابي، قال: ثنا سفيان الثوري، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة:"أنه قال في قول الله عز وجل {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} (1) قال: من حبس أو مرض، قال إبراهيم: فحدثت به سعيد بن جبير، فقال: هكذا قال ابن عباس".

فهذا ابن عباس لم يجعله يحل من إحرامه بالإحصار حتى ينحر عنه الهدي، وقد روى عن النبي عليه السلام أنه قال:"من كسر أو عرج فقد حل".

فدل ذلك أن معنى "فقد حل"[عنده أي](2) له أن يحل، على ما ذهبنا إليه في ذلك.

(1) سورة البقرة، آية:[196].

(2)

ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ص: 213

ش: بيان هذا الكلام هو: أن حديث الحجاج بن عمرو كما ينسب إليه لكونه قد رواه، فكذلك ينسب إلى ابن عباس أيضًا لكونه قد قال:"صدق" حين سأله عكرمة عن هذا الحديث بعد أن سمعه من الحجاج، فصار في الحقيقة بتصديقه إياه راويًا لهذا الحديث كالحجاج، فإذا كان الأمر كذلك فقد قال ابن عباس في المحصر ما وافق التأويل المذكور في حديث الحجاج، فدل ذلك أن معنى "فقد حل": حل له أن يحل؛ لأنه لو لم يكن معناه هكذا عند ابن عباس في حديثه الذي رواه الحجاج؛ لم يقل بما قال ما يوافق التأويل المذكور.

ثم إنه أخرج هذا من طريقين صحيحين:

الأول: عن يزيد بن سنان القزاز، عن يحيى بن سعيد القطان، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم النخعي، عن علقمة بن قيس.

والكل رجال الصحيح ما خلا يزيد.

الثاني: عن أبي شريح محمد بن زكريا بن يحيى بن صالح القضاعي، عن محمد ابن يوسف الفريابي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم بن علقمة.

وهؤلاء كلهم رجال الصحيح ما خلا أبا شريح.

وأخرج ابن أبي شبية في "مصنفه"(1): ثنا أبو خالد الأحمر، عن سليمان الأعمش، عن إبراهيم، عن علقمة قال:"إذا أهل الرجل بالحج فأحصر فليبعث بهديه، فإن مضى جعله عمرة، وعليه الحج من قابل ولا هدي عليه، وإن هو أخر ذلك حتى يحج فعليه حجة وعمرة وما استيسر من الهدي، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج أخرها يوم عرفة".

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 162 رقم 13069).

ص: 214

ثنا أبو خالد الأحمر (1)، عن الأعمش، عن إبراهيم قال: سألني عن ذلك سعيد ابن جبير فأخبرته فقال بيده هكذا أو عقد ثلاثين هكذا قال ابن عباس".

قوله: "وقد روى عن النبي عليه السلام" الواو فيه للحال، وإنما قال: روى يعني ابن عباس، عن النبي عليه السلام باعتبار أنه صار راويًا للحديث المذكور بتصديقه الحجاج بن عمرو كما ذكرنا.

ص: وقد روي ذلك أيضًا عن غير ابن عباس من أصحاب رسول الله عليه السلام:

حدثنا فهد، قال: ثنا علي بن معبد بن شداد العبدي صاحب محمد بن الحسن، قال: ثنا جرير بن عبد الحميد، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، قال:"لدغ صاحب لنا بذات التنانير وهو محرم بعمرة فشق [ذلك] (2) علينا، فلقينا عبد الله بن مسعود، فذكرنا له أمره، فقال: يبعث بهدي ويواعد أصحابه موعدًا فإذا نحر عنه حل".

حدثنا فهد، قال: ثنا عليّ، قال: ثنا جرير، عن الأعمش، عن عمارة بن عمير، عن عبد الرحمن بن يزيد، قال: قال عبد الله: "ثم عليه عمرة بعد ذلك".

حدثنا محمد بن خزيمة، قال: ثنا الحجاج، قال: ثنا أبو عوانة، عن سليمان الأعمش

فذكر بإسناده مثله.

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا بشر بن عمر، قال: ثنا شعبة، عن الحكم، قال: سمعت إبراهيم يحدث، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: "أهل رجل من النخع بعمرة يقال له: عمير بن سعيد، فلدغ فينا، فبينا هو صريع في الطريق إذا طلع عليهم ركب فيهم ابن مسعود رضي الله عنه فسألوه، فقال: ابعثوا بالهدي، واجعلوا بينكم وبينه يوم

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 162 رقم 13070).

(2)

ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ص: 215

أمارة، فإذا كان ذلك فليحل" قال الحكم: وقال عمارة بن عميرر-وكان حسبك به- عن عبد الرحمن بن يزيد، أن ابن مسعود قال:"وعليه العمرة من قابل".

قال شعبة: وسمعت سليمان حدث به مثل ما حدث الحكم سواء.

ش: أي قد روي أيضًا ما ذكرنا من أن المحصر لا يحل إلَاّ بنحر الهدي عن غير عبد الله بن عباس من الصحابة رضي الله عنهم بينهم عبد الله بن مسعود، فإنه روي عنه أنه أمر لذلك الملدوغ أن يبعث بهدي، ويواعد أصحابه يومًا بعينه يذبح فيه، فإذا ذبح عنه في ذلك اليوم حل.

وأخرجه من أربع طرق صحاح:

الأول: عن فهد بن سليمان، عن علي بن معبد، عن جرير

إلى آخره.

قوله: "لُدغ" على صيغة المجهول من اللدغ، وهو اللسع يقال: لدغته العقرب تلدغه لدغًا وتلداغًا فهو ملدوغ ولديغ، ولسعته العقرب والحية تلسعه لسعًا.

قوله: "بذات التنانير" بالتاء المثناة من فوق والنون وبعد الألف نون أخرى مكسورة بعدها ياء آخر الحروف ساكنة، وفي آخرها راء، وهي عقبة بحذاء زبالة قال الراعي يصف السحاب:

فلما علا ذات التنانير (صَوْبَهُ)(1)

تكشف عن برق قليل صواعقه

وفي "العباب": ذات التنانير عقبة بحذاء زبالة وقيل: مُعْشًى بين زبالة والشقوق، وهو وادٍ شجير فيه مزدرع تدعيه بنو سلامة وبنو غاضرة، وفي هذا الموضع بركة، ثم أنشد البيت المذكور، وذكره في باب "تنر" فيما آخره راء مهملة، وقد ضبط بعضهم في الكتاب بالنون في آخره "ذات التنانين" وهو تصحيف.

(1) كذا في "الأصل، ك"، و"معجم البلدان"، وفي "لسان العرب":(مادة: تنر: "صَوْتَهُ". وفي "تاج العروس" (مادة: تنر): "غُدْوَةَ".

ص: 216

الطريق الثاني: عن فهد أيضاً، عن علي بن معبد أيضًا، عن جرير بن عبد الحميد أيضًا، عن سليمان الأعمش، عن عمارة بن عمير الكوفي التيمي، عن عبد الرحمن ابن يزيد بن قيس النخعي

إلى آخره.

قوله: "ثم عليه عمرة" أي قضاء عن تلك العمرة التي أحصر عنها، وهذا يدل على أن الإِحصار كما يكون عن الحج يكون عن العمرة أيضًا، وهو مذهب عامة العلماء، وسيجيء الكلام فيه إن شاء الله تعالى.

الثالث: عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال شيخ البخاري، عن أبي عوانة الوضاح اليشكري، عن الأعمش

إلى آخره.

الرابع: عن إبراهيم بن مرزوق، عن بشر بن عمر الزهراني، عن شعبة بن الحجاج، عن الحكم بن عتيبة، عن إبراهيم النخعي

إلى آخره.

وأخرج بن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا أبو معاوية، عن الأعمش، عن عمارة ابن عمير، عن عبد الرحمن بن يزيد قال:"خرجنا عُمّارًا حتى إذا [كنا] (2) بذات الشقوق ولدغ صاحب لنا، فاعترضنا الطريق نسأل ما نصنع به، فإذا ابن مسعود في ركب، فقلنا: لدغ صاحب لنا، فقال: اجعلوا بينكم وبين صاحبكم يوم أمارة، وليرسل بالهدي، فإذا نحر الهدي فليحل وعليه عمرة".

وأخرج البيهقي في "سننه الكبرى"(3): من حديث أبان بن تغلب، عن عبد الرحمن بن الأسود، عن أبيه، عن ابن مسعود، في الذي لدغ وهو محرم بالعمرة فأحصر، فقال عبد الله:"ابعثوا بالهدي، واجعلوا بينكم وبينه يوم أمارة، فإذا ذبح الهدي بمكة حل هذا".

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 162 رقم 13078).

(2)

ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "المصنف".

(3)

"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 221 رقم 9881).

ص: 217

ص: حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن ابن شهاب، عن سالم، عن ابن عمر أنه قال:"المحصر بمرض لا يحل حتى يطوف بالبيت وبين الصفا والمروة، وإن اضطر إلى شيء من لبس الثياب التي لا بد له منها، والدواء، صنع ذلك وافتدى".

فقد ثبت بهذه الروايات أيضًا عن أصحاب رسول الله عليه السلام ما يوافق ما تأولنا عليه حديث الحجاج اللي ذكرنا.

ش: رجاله كلهم رجال الصحيح، وأخرجه مالك في "موطإه"(1).

قوله: "لا يحل حتى يطوف بالبيت" هو قول ابن عمر وابن عباس وعائشة، وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق، وقال ابن مسعود: يبعث بهدي ويواعد صاحبه يوم نحره فإذا ذبح في ذلك اليوم حل قبل أن يصل هو إلى البيت، وروي مثله عن زيد بن ثابت، وهو قول جمهور أهل العراق، وقول أبي حنيفة وأصحابه، وقاله عطاء بن أبي رباح أيضًا.

قوله: "فقد ثبت بهذه الروايات" أشار بها إلى رواية ابن عباس وابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم، فإن الروايات عنهم كلها تدل على أن المحصر لا يحل إلا بنحر الهدي، وهي تؤيد ما ذكره من التأويل في حديث الحجاج بن عمرو. والله أعلم.

ص: ثم اختلف الناس بعد هذا في الإِحصار الذي هذا حكمه، بأي شيء هو، وبأي معنى يكون؟ فقال قوم: يكون بكل حابس يحبسه من مرض أو غيره، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد، وقد روينا ذلك أيضًا فيما تقدم من هذا الباب عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم.

ش: أي بعد أن ثبت أن المحصر لا يحل إلا بنحر الهدي؛ اختلف الناس في الإِحصار بأي شيء يكون، وبأي معنى يكون؟ فقال قوم وهم عطاء بن أبي رباح

(1)"موطأ مالك"(1/ 361 رقم 802).

ص: 218

وإبراهيم النخعي وسفيان الثوري: يكون الإِحصار بكل حابس، أي بكل شيء يحبس المحرم من مرض، أو غيره من عدو وكسر وذهاب نفقه ونحوها مما يمنعه عن المضي إلى البيت وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر أيضًا، وروي ذلك عن ابن عباس وابن مسعود وزيد بن ثابت رضي الله عنهم.

وقال الجصاص في "كتاب الأحكام": وقد اختلف السلف في حكم المحصر على ثلاثة أنحاء:

روي عن ابن عباس وابن مسعود: العدو و [المرض](1) سواء، يبعث [بدم](2) ويحل به إذا نحر في الحرم، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد وزفر الثوري.

والثاني: قول ابن عمر: أن المريض لا يحل ولا يكون محصرًا إلا بالعدو، وهو قول مالك والليث والشافعي.

والثالث: قول ابن الزبير وعروة بن الزبير: أن [المرض](1) والعدو سواء؛ لا يحل إلَاّ بالطواف، ولا نعلم لها موافقًا من فقهاء الأمصار.

ص: وقال آخرون: لا يكون الإحصار الذي وصفنا حكمه ما وصفنا إلَاّ بالعدو خاصة، ولا يكون بالأمراض، وهو قول ابن عمر:

حدثنا محمد بن زكريا أبو شريح، قال: ثنا الفريابي، قال: سفيان الثوري، عن موسى بن عقبة، عن نافع، عن ابن عمر قال:"لا يكون الإِحصار إلا من عدو".

حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن ابن شهاب، عن سالم، عن أبيه أنه قال:"من حبس دون البيت بمرض، فإنه لا يحل حتى يطوف بالبيت وبين الصفا والمروة".

ش: أي قال جماعة آخرون، وأراد بهم: الليث بن سعد ومالكًا والشافعي وأحمد

(1) في "الأصل، ك": "المريض"، والمثبت من "أحكام القرآن" للجصاص (1/ 334).

(2)

في "الأصل، ك": "به دم"، والمثبت من "أحكام القرآن" للجصاص.

ص: 219

وإسحاق، فإنهم قالوا: لا يكون الإِحصار إلا بالعدو خاصة، ولا يكون بالمرض، وهو قول عبد الله بن عمر وبين ذلك بما أخرجه عنه من طريقين صحيحين:

أحدهما: عن أبي شريح القضاعي، عن محمد بن يوسف الفريابي شيخ البخاري، عن سفيان الثوري

إلى آخره.

والآخر: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، عن سالم، عن أبيه عبد الله بن عمر.

وأخرجه مالك في "موطإه"(1) وفي "شرح الموطأ": مذهب مالك والشافعي: أن المحصر بالمرض لا يحل دون البيت، وسواءٌ عند مالك شرط عند إحرامه التحلل للمرض أو لم يشترط، وقال الشافعي: له شرطه.

وقال أبو عمر: الإِحصار عند أهل العلم على وجوه: منها المحصر بالعدو، ومنها بالسلطان الجائر، ومنها بالمرض وشبهه، فقال مالك والشافعي وأصحابهما: من أحصره المرض فلا يحله إلا الطواف بالبيت، ومن حصر بعدو فإنه ينحر هديه حيث حصر، ويتحلل وينصرف ولا قضاء عليه، إلَاّ أن يكون ضرورة؛ فيحج الفريضة، ولا خلاف بين الشافعي ومالك وأصحابهما في ذلك، وقال ابن وهب وغيره: كل من حبس عن الحج بعدما يحرم بمرض، أو حصار من العدو، أو خاف عليه الهلاك، فهو محصر، عليه ما على المحصر، ولا يحل دون البيت، وكذلك من أصابه كسر أو بطن متحرق، وقال مالك: أهل مكة في ذلك كأهل الأفاق؛ لأن الإِحصار عنده في المكي: الحبس عن عرفة خاصة، قال: فإن احتاج المريض إلى دواء تداوى به وافتدى، وهو على إحرامه لا يحل من شيء منه حتى يبرأ من مرضه، فإذ برأ من مرضه مضى إلى البيت فطاف به سبعًا، وسعى بين الصفا والمروة، وحل من حجه أو عمرته، قال أبو عمر: هذا كله قول الشافعي أيضًا، وذهبا في المحصر يمرض إلى قول ابن عمر رضي الله عنهما.

(1)"موطأ مالك"(1/ 361 رقم 805).

ص: 220

ص: فلما وقع في هذا الاختلاف، وقد روينا عن رسول الله عليه السلام من حديث الحجاج بن عمرو وابن عباس وأبي هريرة رضي الله عنهم ما ذكرنا من قوله -يعني النبي عليه السلام:"من كسر أو عرج فقد حل وعليه حجة أخرى".

ثبت أن الإِحصار يكون بالمرض كما يكون بالعدو؛ فهذا وجه هذا الباب من طريق تصحيح الآثار.

ش: أي فلما وقع في حكم المحصر هذا الاختلاف بين العلماء من الصحابة وغيرهم، والحال أنا روينا عن النبي عليه السلام

إلى آخره، وهو ظاهر.

قوله: "ثبت" جواب لقوله: "فلما".

قوله: "هذا" أي ما ذكرنا من ذلك "وجه هذا الباب من طريق" التوفيق بين معاني الآثار.

ص: وأما وجهه من طريق النظر: فإنا قد رأيناهم أجمعوا أن إحصار العدو يجب به للمحصر الإِحلال كما ذكرنا.

واختلفوا في المرض؛ فقال قوم: حكمه حكم العدو في ذلك إذا كان قد منعه من المضي في الحج كما منعه العدو، وقال آخرون: حكمه بائن من حكم العدو فأردنا أن ننظر ما أبيح بالضرورة من العدو هل يكون مباحًا بالضرورة بالمرض أم لا؟

فوجدنا الرجل إذا كان يطيق القيام كان فرضه أن يصلي قائمًا، وإن كان يخاف إن قام أن يعاينه العدو فيقتله أو كان العدو قائمًا على رأسه فيمنعه عن القيام؛ فكل قد أجمع أنه قد حل له أن يصلي قاعدًا وسقط عنه فرض القيام.

وأجمعوا أن رجلاً لو أصابه مرض أو زمانه [فمنعه](1) ذلك من القيام؛ أنه قد سقط عنه فرض القيام وحل له أن يصلي قاعدًا، يركع ويسجد إذا أطاق ذلك، أو يومئ إن كان لا يطيق ذلك، فرأينا ما أبيح له من هذا بالضرورة في العدو قد أبيح له

(1) في "الأصل، ك": "تمنعه"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ص: 221

بالضرورة من المرض، ورأينا الرجل إذا حال العدو بينه وبين الماء سقط عنه فرض الوضوء ويتيمم ويصلي وكانت هذه الأشياء التي قد عذر فيها بالعدو قد عذر فيها أيضًا بالمرض وكانت الحال في ذلك سواء ثم رأينا المحصر بالعدو قد عذر فجعل له في ذلك أن يفعل ما جعل للمحصر أن يفعل حتى يحل، واختلفوا في المحصر بالمرض فالنظر على ما ذكرنا من ذلك أن يكون ما ذهب له من العدو بالضرورة بالعدو يجب له أيضًا بالضرورة بالمرض ويكون حكمه في ذلك سواء كما كان حكمه في ذلك أيضًا سواء في الطهارات والصلاة.

ش: أي وأما وجه هذا الباب من طريق النظر والقياس.

قوله: "فقال قوم" هم أبو حنيفة وأصحابه والثوري ومن قال بقولهم.

قوله: "وقال آخرون" هم مالك والشافعي وأحمد ومن قال بقولهم.

قوله: "حكمه بائن" أراد أن حكم من منعه المرض مخالف لحكم من منعه العدو وحاصل وجه هذا القياس أن يقال أن الحج عبادة كالصلاة ففي الصلاة يعذر المكلف بالمرض وبالعدو جميعًا، فالنظر على ذلك ينبغي أن يعذر أيضًا في الحج بالمرض والعدو، ثم اعلم أن الله تعالى قال في كتابه الكريم:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (1) قال الكسائي وأبو عبيدة وأكثر أهل العلم باللغة: الإِحصار المنع بالمرض أو ذهاب النفقة، والحصر حصر العدو ويقال: أحصره المرض وحصره العدو، وحكي عن الفراء أن أجاز كل واحد منهما مكان الآخر وأنكره المبرد والزجاج وقالا: وهما مختلفان في المعنى ولا يقال في المرض: حصره ولا في العدو أحصره وإنما هذا كقولهم: حبسه إذا جعله في الحبس وأحبسه أي عرضه للحبس وقتله أوقع به القتل وأقتله أي عرضه للقتل، وقبره دفنه في القبر، وأقبره عرضه للدفن في القبر، وكذلك حصره حبسه، وأحصره عرضه للحصر، وقد روى ابن أبي نجيح عن عطاء، عن ابن عباس "أن الحصر يختص بالعدو وأن المرض

(1) سورة البقرة، آية:[196].

ص: 222

لا يسمى حصرًا"، وقال البخاري: قال عطاء: "الإِحصار من كل شيء يحبسه" ولما ثبت أن اسم الإِحصار يختص بالمرض، وقال تعالى:{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} وجب أن يكون اللفظ مستعملاً فيما هو حقيقة وهو المرض ويكون العدو داخلًا فيه بالمعنى فإن قيل: قد حكي عن الفراء فيهما لفظ الإِحصار قيل له: لو صح ذلك كانت دلالة الآية قائمة في إثباته بالمرض لأنه لم يدفع وقوع الاسم على المرض وإنما أجازه في العدو فلو وقع الاسم على الأمرين كان عمومًا فيهما موجبًا للحكم في المريض والمحصور جميعًا.

فإن قيل: لم يختلف الرواة أن هذه الآية نزلت في شأن الحديبية وكان النبي عليه السلام وأصحابه رضي الله عنهم ممنوعين بالعدو فأمرهم الله بهذه الآية بالإِحلال من الإِحرام فدل على أن المراد بالآية هو العدو.

قيل له: لما كان سبب نزول الآية هو العدو ثم عدل عن ذكر الحصر وهو مختص بالعدو إلى الإِحصار الذي يختص بالمرض، دل على أنه أراد إفادة الحكم في المرض ليستعمل اللفظ على ظاهره، ولما أمر النبي عليه السلام[أصحابه](1) بالإِحلال وحَلَّ هو، دل على أنه أراد حصر العدو من طريق المعنى لا من جهة اللفظ، فكان نزول الآية مقيدًا للحكم في الأمرين، ولو كان مراد الله تخصيص العدو بذلك دون المرض لذكر لفظًا يختص به دون غيره، ومع ذلك لو كان اسمًا للمعنيين لم يكن نزوله على سبب موجبًا للاقتصار بحكمه عليه، بل كان الواجب اعتبار عموم اللفظ دون السبب، ويدل عليه من جهة السنة حديث الحجاج بن عمرو -على ما ذكرناه- ومن جهة النظر والقياس على ما ذكره الطحاوي رحمه الله.

فإن قيل: قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ} (2) بعد قوله: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} (2) يدل على أن المريض غير مراد بالإِحصار؛ لأنه لو كان كذلك لما استأنف له ذكرًا مع كونه أول الخطاب.

(1) في "الأصل، ك": "لأصحابه". وما أثبتناه أنسب للسياق.

(2)

سورة البقرة، آية:[196].

ص: 223

قلت: لما قال: {الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (1) منعه الإِحلال مع وجود الإِحصار إلى وقت بلوغ الهدي محله وهو ذبحه في الحرم، فأبان عن حكم المريض قبل بلوغ الهدي محله وأباح له حلق الرأس مع إيجاب الفدية، وأيضًا ليس كل مرض يمنع الدخول إلى البيت، ألا ترى أنه عليه السلام قال لكعب بن عجرة (2):"أيؤذيك هوام رأسك؟ قال: نعم، فأنزل الله الآية". ولم يكن هوام رأسه مانعة من الدخول إلى البيت؛ فرخص الله له في الحلق، فأمر بالفدية، وكذلك المرض في الآية يجوز أن يكون المرض الذي لا يمنع الدخول إلى البيت، والله تعالى إنما جعل المرض إحصار إذا منع الوصول إلى البيت، فليس في ذكره حكم المريض بما وصف ما يمنع كون المرض إحصارًا؛ فافهم.

ص: ثم اختلف الناس بعد هذا في المحرم بعمرة يحصر بعدو أو مرض؛ فقال قوم: يبعث بهدي ويواعدهم أن ينحروه عنه فإذا نحر يحل، وقال آخرون: بل يقيم على إحرامه أبدًا وليس لها وقت كوقت الحج.

ش: أي ثم اختلفوا -بعد اختلافهم في الإِحصار هل يكون بالعدو وحده أو بالعدو والمرض وغيرهما- في المحرم بالعمرة إذا أحصر بعدو أو مرض، فقال قوم وأراد بهم جمهور العلماء منهم: أبو حنيفة ومالك -في رواية- والشافعي وأصحابه وأحمد وأبو يوسف ومحمد وزفر؛ فإنهم قالوا: إن المحرم بعمرة إذا أحصر فهو كالمحصر بالحج يبعث هديًا ويواعد ناسًا يذبحونه عنه، فإذا ذبح حل، ثم قال أبو حنيفة وأصحابه: عليه أن يقضيها بعد ذلك، وبه قال عكرمة والشعبي والنخعي ومجاهد.

وقال الشافعي وأحمد: لا قضاء عليه؛ لأن تحلله مسقط لما وجب عليه بالدخول فيها.

(1) سورة البقرة، آية:[196].

(2)

متفق عليه: البخاري (4/ 1534 رقم 3954)، ومسلم (2/ 859 رقم 1201).

ص: 224

وفي "شرح الموطأ": وهكذا عند مالك وأكثر أصحابه، وأما ابن الماجشون فذلك عنده بمنزلة إتمامها فتجزئه عن حجة الإِسلام إن كان أرادها بها.

قوله: "وقال آخرون" أي جماعة آخرون، وأراد بهم: محمد بن سيرين ومالكًا -في رواية- وبعض الظاهرية، فإنهم قالوا: لا يكون الإِحصار عن العمرة، بل يقيم على إحرامه أبدًا؛ لأنه ليس لها وقت معين يخاف فواتها.

وقال أبو عمر: وقد اختلف فيمن أحصر بعمرة، فعلى قول الجمهور له أن يتحلل، وحكي عن مالك ألَّا يتحلل؛ لأنه لا يخاف الفوت. والله أعلم.

ص: وكان من حجة الذين ذهبوا إلى أنه يحل منها بالهدي ما روينا عن رسول الله عليه السلام في أول هذا الباب لما أحصر زمن الحديبية حصرته كفار قريش فنحر الهدي وحل ولم ينتظر أن يذهب عنه الإِحصار إذْ كان لا وقت لها كوقت الحج، ثم جعلوا العدو في الإِحصار بها كالعدو في الإِحصار بالحج، فثبت بذلك أن حكمها في الإِحصار فيهما سواء، وأنه يبعث بالهدي حتى يحل به مما أحصر به منهما، إلَاّ أن عليه في العمرة قضاء عمرة مكان عمرته، وعليه في الحجة حجة مكان حجته وعمرة لإِحلاله، وقد روينا في هذه العمرة أنه قد يكون المحرم محصرًا بها ما قد تقدم في هذا الباب عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فهذا وجه هذا الباب من طريق الآثار.

ش: أي وكان من دليل أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه من أن المحرم بعمرة إذا أحصر يحل منها بالهدي ما روينا عن رسول الله عليه السلام، وهو ما رواه المسور بن مخرمة:"أن رسول الله نحر يوم الحديبية قبل أن يحلق، وأمر أصحابه بذلك". وقد تقدم ذكره في أول الباب، وقال الجصاص: وقد تواترت الأخبار بأن النبي عليه السلام كان محرمًا بالعمرة عام الحديبية، وأنه أحل من عمرته بغير طواف، ثم قضاها في العام القابل في ذي القعدة وسميت عمرة القضاء، وقال الله تعالى:{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} ثم قال: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} (1) وذلك حكم عائد إليهما

(1) سورة البقرة، آية:[196].

ص: 225

جميعًا، وغير جائز الاقتصار على أحدهما دون الآخر؛ لما فيه من تخصيص حكم اللفظ بغير دلالة.

قوله: "إذ كان لا وقت لها يحله" إذْ: للتعليل، والضمير في لها للعمرة.

قوله: "إلَاّ أن عليه في العمرة قضاء عمرة" وذلك لأجل العمرة التي دخل فيها ثم أحل عنها بالإِحصار، وإنما يجب عليه القضاء في ذلك لكون اعتمار النبي عليه السلام من العام المقبل من عام الحديبية إنما كان قضاء لتلك العمرة، ولذلك لم يقل لأحد من الصحابة: عليكم قضاء هذه العمرة، ولا حفظ ذلك عنه بوجه من الوجوه، ولا قال في العام المقبل: إن عمرتي هذه قضاء عن العمرة التي أحصرت فيها، ولم ينقل ذلك عنه، فدل ذلك أن المحصر بالعمرة إذا أحل منها لا قضاء عليه.

قلت: هذا الذي ذكرته كله لا يستلزم نفي وجوب القضاء، وثبت وجوب القضاء بما ذكرنا آنفًا ولقول ابن مسعود رضي الله عنه لما استفتى في ذلك اللديغ:"يبعث بهدي ويواعد أصحابه موعدًا، فإذا نحر عنه حل ثم عليه عمرة بعد ذلك".

وقد مر ذكره في هذا الباب، وكذلك قال ابن عباس؛ قال ابن أبي شيبة في "مصنفه" (1): نا ابن علية، عن أيوب، عن عكرمة، عن ابن عباس قال:"أمر الله بالقصاص، أفيأخذ منكم العدوان؟! حجة بحجة وعمرة بعمرة".

قوله: "وعليه في الحجة حجه" أي وعلى المحصر بالحج حجة من قابل لمكان حجته، وعمرة لإِحلاله قبل أوانها.

وقال الشافعي: عليه حجة لا غير، واستدل بما روي عن ابن عباس الذي ذكرناه آنفًا، ولأن القضاء يكون مثل الفائت والفائت هو الحجة لا غير فيقضي الحجة وحدها.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 162 رقم 13068).

ص: 226

وأصحابنا استدلوا بما روي عن ابن مسعود وابن عمر رضي الله عنهم قالا في المحصر بحجة: يلزمه حجة وعمرة، وروي ذلك عن عكرمة والحسن والنخعي ومحمد بن سيرين والقاسم وسالم.

قال ابن أبي شيبة (1): ثنا أبو خالد الأحمر، عن الأعمش، عن إبراهيم، عن عكرمة قال:"إذا أهلّ الرجل بالحج فأحصر فليبعث بهديه؛ فإن مضى جعلها عمرة وعليه الحج من قابل [ولا هدي] (2) عليه، وإن هو أخر ذلك حتى يحج فعليه حجة وعمرة وما استيسر من الهدي، فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج آخرها يوم عرفة".

ثنا [هشيم](3)، عن يونس وحميد، عن الحسن قال:"عليه حجة وعمرة".

ثئا هشيم عن مغيرة، عن إبراهيم مثله.

ثنا (4) ابن أبي عدي، عن ابن عون، عن محمد:"إذا افترض الرجل الحج فأصابه حصر فإنه يبعث بهديه، فإذا بلغ الهدي محله حل، فإذا كان عام قابل حل بالحج والعمرة".

ثنا (5) ابن أبي عدي، عن ابن عوف قال: "سألت القاسم وسالمًا عن المحصر، فقالا نحو قول محمد.

وأما الجواب عن قول ابن عباس: فإنه تمسك بالسكوت وهو لا يصح؛ لأن قوله: "حجة بحجة وعمرة بعمرة" يقتضي وجوب الحجة بالحجة والعمرة بالعمرة ولا يقتضي نفي وجوب العمرة بالحجة، فكان مسكوتًا عنده، فيقف على قيام

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 162 رقم 13069).

(2)

في "الأصل، ك": "ولا حج"، ولعله سبق قلم من المؤلف، والمثبت من "المصنف".

(3)

في "الأصل، ك": "هشام"، والمثبت من "المصنف"(3/ 163 رقم 13072، 13073).

(4)

"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 163 رقم 13075).

(5)

"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 163 رقم 13076).

ص: 227

الدليل، وقد قام الدليل بما روي عن ابن مسعود وابن عمر، وهؤلاء الذين ذكرناهم، وعن عطاء في رواية في الذي يفوته الحج قال:"يحل بعمرة وليس عليه حج قابل".

وعن طاوس مثله، وروى ابن الماجشون عن مالك في المحصر بعذر:"يحل بسنة الإِحصار ويجزئه عن حجة الإِسلام". وهو قول أبي مصعب صاحب مالك، ومحمد ابن سحنون، وابن شعبان.

وفي "المدونة": لا قضاء على المحصر في حج التطوع ولا هدي؛ لأن النبي عليه السلام لم يأمر أصحاب الحديبية بقضاء ولا هدي، إلَّا أن تكون حجة الإِسلام فعليه حج قابل وهدي، وبه قال أبو عبد الله الشافعي وأبو ثور. انتهى.

وأما المحصر إذا كان قارنًا فعليه قضاء حجة وعمرتين، أما قضاء الحجة والعمرة فلوجوبهما بالشروع، وأما عمرة أخرى فلفوات الحج في عامه ذلك، وهذا على أصلنا، وأما على أصل الشافعي فليس عليه إلَاّ حجة بناء على أصله: أن القارن محرم بإحرام واحد ويدخل إحرام العمرة في الحجة، فكان حكمه حكم المفرد بالحج والمفرد بالحج إذا حصر لا يجب عليه إلَّا قضاء حجه عنده، وكذا القارن.

ص: وأما النظر في ذلك فإنا قد رأينا أشياء قد فرضت على العباد مما جعل لها وقت خاص، وأشياء فرضت [عليهم](1) مما جعل الدهر كله وقتًا لها، منها الصلوات فرضت عليهم في أوقات خاصة تؤدى في تلك الأوقات بأسباب متقدمة لها من التطهر بالماء وستر العورة.

ومنها الصيام في كفارات الظهار وكفارات الصيام و [كفارات](2) القتل؛ جعل ذلك على المظاهر والقاتل لا في أيام بعينها بل جعل الدهر كله وقتًا لها، وكذلك كفارة اليمين جعلها الله عز وجل على الحانث في يمينه، وهي إطعام عشرة مساكين أو

(1) في "الأصل، ك": "عليه"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

(2)

في "الأصل، ك": "كفارة"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ص: 228

كسوتهم، أو تحرير رقبة، ثم جعل الله عز وجل لن فرض عليه الصلاة بالأسباب التي تتقدمها والأسباب المفعولة فيها في ذلك عذرًا لمن منع منه، فمن ذلك ما جعل له في عدم الماء من سقوط الطهارة بالماء والتيمم، ومن ذلك ما جعل لمن منع من ستر العورة أن يصلي بادي العورة، ومن ذلك ما جعل لمن منع من القبلة أن يصلي إلى غير قبلة، ومن ذلك ما جعل للذي منع من القيام أن يصلي قاعدًا يركع ويسجد فإن منع من ذلك أيضًا أومأ إيماءً، فجعل له ذلك وان كان بقي عليه من الوقت ما قد يجوز أن يذهب عنه ذلك العذر ويعود إلى حاله قبل العذر، وهو في الوقت لم يفته، وكذلك جعل لمن لا يقدر على الصوم في الكفارات التي أوجب الله عز وجل عليه فيها صيام، لمرض حل به مما قد يجوز برؤه منه بعد ذلك ورجوعه إلى حال الطاقة لذلك الصوم، فجعل له ذلك عذرًا في إسقاط الصوم عنه به، ولم يمنع من ذلك إذا كان ما جعل عليه من الصوم لا وقت له، وكذلك فيما ذكرنا من الإِطعام في الكفارات والعتق فيها والكسوة إذا كان الذي فرض عليه معدمًا وقد يجوز أن يجد بعد ذلك، فيكون قادرًا على ما أوجب الله عز وجل عليه من ذلك من غير فوات لوقت شيء مما كان أوجب عليه فعله فيه، فلما كانت هذه الأشياء يزول فرضها بالضرورة فيها، وإن كان لا يخاف فوت وقتها فجعل ذلك وما خيف فوت وقته سواء من الصلوات في أواخر أوقاتها وما أشبه ذلك؛ فالنظر على ما ذكرت أن تكون كذلك العمرة، وإن كان لا وقت لها أن يباح في الضرورة فيها له ما يباح بالضرورة في غيرها مما له وقت معلوم، فثبت بما ذكرنا قول من ذهب إلى أنه قد يكون الإِحصار بالعمرة كما يكون الإِحصار بالحج سواء، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهم الله.

ش: لما ثبت أن المحرم بالعمرة يكون محصرًا كالمحرم بالحج وقد أشار إليه بقوله: وقد روينا في هذه العمرة أنه قد يكون المحرم محصرًا بها ما تقدم في هذا الباب عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه شرع هَا هنا بذكر وجه القياس أيضًا بقوله: "وأما النظر في ذلك" أي وأما وجه النظر والقياس في تحقيق الإِحصار في حق المحرم بالعمرة والمساواة بين المحصر بالعمرة والمحصر بالحج في التحلل بالهدي

ص: 229

ووجوب القضاء بعده، وملخص ما قاله: إنا وجدنا أشياء من الفرائض المؤقتة بوقت معين، وأشياء منها غير مؤقتة بوقت يزول فرضها بالضرورة، وإن كان لا يخاف فوت وقتها، وقد تساوى فيها ما يخاف فوت وقتها وما لم يخف، فالنظر على ذلك أن تكون العمرة كذلك، وإن كان لا يخاف فوت وقتها لعدم وقت معين لها؛ فيباح فيها في حالة الضرورة ما يباح في غيرها كذلك مما له وقت معلوم، وهذا حاصل وجه هذا النظر، والله أعلم.

ص: ثم تكلم الناس بعد هذا في المحصر إذا نحر هديه، هل يحلق رأسه أم لا؟

فقال قوم: ليس عليه أن يحلق؛ لأنه قد ذهب عنه النسك كله، وممن قال ذلك: أبو حنيفة ومحمد رحمهم الله.

وقال آخرون: بل يحلق، فإن لم يحلق حل ولا شيء عليه، وممن قال ذلك: أبو يوسف.

وقال أخرون: يحلق ويجب ذلك عليه كما يجب على الحاج والمعتمر.

ش: أي ثم تكلم الناس بعد اختلافهم في المحرم بعمرة إذا أحصر مطلقًا هل يحل بنحر الهدي أم يقيم على إحرامه أبدًا كما مر؟ وهل يحلق رأسه أم لا بعد نحر هديه؟

فقال قوم وهم سفيان الثوري والنخعي والشافعي: ليس عليه أن يحلق؛ لأنه قد ذهب عنه النسك كله، وممن قال بذلك: أبو حنيفة ومحمد.

وقال آخرون أي قوم آخرون وهم: عطاء بن أبي رباح وأبو ثور والشافعي -في قول-: بل يحلق؛ لأنه عليه السلام حلق، فإن لم يحلق حل ولا شيء عليه؛ لأنه قد كان حل بنحر الهدي، فإذا حلق بعده صار حلقه وهو حلال فلا شيء عليه، وممن قال بذلك: أبو يوسف.

وقال آخرون أي قوم آخرون، وهم: مالك وأحمد وإسحاق والشافعي -في قول-: يحلق، ويجب عليه الحلق كما يجب على الحاج والمعتمر.

ص: 230

وقال أبو عمر (1): إنما منع المحصر من الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار، فسقط عنه ما قد حيل بينه وبينه، وأما الحلاق فلم يحل بينه وبينه وهو قادر على أن يفعله، وما كان قادرًا على أن يفعله فهو غير ساقط عنه، وإنما يسقط عنه ما قد حيل بينه وبين عمله، وقد روي عن النبي عليه السلام ما يدل على أن الحلق باق على المحصر كما هو على من وصل إلى البيت وهو الدعاء للمحلقين ثلاثًا وللمقصرين واحدة، وهو الحجة القاطعة والنظر الصحيح في هذه المسألة، وإلى هذا ذهب مالك وأصحابه، الحلاق عندهم نسك يجب على الحاج الذي قد أتم حجه، وعلى من فاته الحج، والمحصر بعدو والمحصر بمرض، وقد حكى ابن أبي عمران، عن ابن سماعة، عن أبي يوسف في "نوادره": أن عليه الحلاق أو التقصير، لا بد له منه، واختلف قول الشافعي في هذه المسألة على قولين:

أحدهما: أن الحلاق للمحصر من النسك، وهو قول مالك.

والآخر: ليس من النسك.

ص: فكان من حجة أبي حنيفة ومحمد -رحمهما الله- في ذلك أنه قد سقط عنه بالإِحصار جميع مناسك الحج من الطواف والسعي بين الصفا والمروة، وذلك مما يحل به المحرم من إحرامه، ألا ترى أنه إذا طاف بالبيت يوم النحر حل له أن يحلق فيحل له بذلك الطيب واللباس والنساء قالوا: فلما كان ذلك مما يفعله حتى يحل فسقط ذلك عنه كله بالإِحصار، سقط عنه أيضًا سائر ما يحل به المحرم بسب الإِحصار، هذه حجة أبي حنيفة ومحمد.

ش: هذا كلام ظاهر، ولكن الطحاوي لم يختر ذلك وإنما اختار دليل من يقول: لا بد من الحلق على المحصر على ما يجيء بيانه إن شاء الله تعالى، والصواب معه؛ لأن الحلق من جملة النسك وهو قادر على فعله فلا يسقط عنه. والله أعلم.

(1)"التمهيد"(15/ 237).

ص: 231

ص: وكان من حجة الآخرين عليهما في ذلك: أن تلك الأشياء من الطواف بالبيت، والسعي بين الصفا والمروة، ورمي الجمار، قد صد عنه المحرم وحيل بينه وبينه فسقط عنه أن يفعله، والحلق لم يُحَلْ بينه وبينه وهو قادر على أن يفعله، فما كان يصل إلى أن يفعله فحكمه فيه في حال الإِحصار كحكمه في غير حال الإِحصار، وما لا يستطيع أن يفعله في حال الإِحصار فهو الذي يسقط عنه بالإِحصار، فهو النظر عندنا، فإذا كان حكمه في وقت الحلق عليه وهو محصر كحكمة في وجوبه عليه وهو غير محصر كان تركه إياه وهو محصر كتركه إياه وهو غير محصر.

ش: أي وكان من حجة الآخرين على أبي حنيفة ومحمد: أن تلك الأشياء

إلى آخره ظاهر غني عن زيادة البيان ولمح بهذه العبارة على أن اختياره هو حجة الآخرين؛ فلذلك قال: فهو النظر عندنا.

قوله: "قد صد" أي منع الضمير في "عنه" يرجع إلى كل واحد من الأشياء المذكورة، وكذلك في قوله:"وبينه" وفي "أن يفعله".

ص: وقد روي عن رسول الله عليه السلام ما قد دل على أن حكم الحلق باق على المحصرين كما هو على من وصل إلى البيت، وذلك أن ربيعًا المؤذن حدثنا، قال: ثنا أسد بن موسى، قال: ثنا يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، قال ثنا ابن إسحاق، قال: حدثني عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال:"حلق رجال يوم الحديبية، وقصر آخرون، فقال رسول الله عليه السلام: يرحم الله المحلقين، قالوا: يا رسول الله، والمقصرين؟ قال: يرحم الله المحلقين، قالوا: يا رسول الله، والمقصرين؟ قال: يرحم الله المحلقين، قالوا: يا رسول الله [و]، (1) المقصرين؟ قال: والمقصرين، قالوا: فما بال المحلقين ظاهرت لهم بالترحم؟ قال: إنهم لم يَشُكُّوا".

حدثنا فهد، قال: ثنا يوسف بن بهلول، قال: ثنا ابن إدريس، عن ابن إسحاق

فذكر بإسناده مثله.

(1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ص: 232

حدثنا محمد بن عبد الله بن ميمون، قال: ثنا الوليد بن مسلم، عن الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي إبراهيم الأنصاري، قال: ثنا أبو سعيد الخدري قال: "سمعت النبي عليه السلام يستغفر يوم الحديبية للمحلقين ثلاثًا، وللمقصرين مرة".

حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا هارون بن إسماعيل الخزاز، وقال: ثنا علي بن المبارك، قال: ثنا يحيى بن أبي كثير، أن أبا إبراهيم حدثه، عن أبي سعيد الخدري:"أن رسول الله عليه السلام عام الحديبية استغفر للمحلقين مرة وللمقصرين مرة وحلق رسول الله عليه السلام وأصحابه رءوسهم غير رجلين من الأنصار ورجل من قريش".

قال أبو جعفر رحمه الله: فلما حلقوا جميعًا إلَاّ من قصر منهم، وفضل رسول الله عليه السلام من حلق منهم على من قصر؛ ثبت بذلك أنهم قد كان لهم الحلق أو التقصير كما كان عليهم لو وصلوا إلى البيت، ولولا ذلك لما كانوا فيه إلَاّ سواء، ولا كان لبعضهم في ذلك فضيلة على بعض، ففي تفضيل النبي عليه السلام في ذلك المحلقين على المقصرين دليل على أنهم كانوا في ذلك كغير المحصرين، فقد ثبت بما ذكرنا أن حكم الحلق أو التقصير لا يزيله الإِحصار.

ش: لما بين أن حكم الحلق باق في حصر المحصر بالعمرة بالنظر والعقل؛ ذكر أحاديث تدل على ذلك وتقويه، وأخرجها عن ابن عباس وأبي سعيد الخدري، وأخرج حديث ابن عباس من طريقين صحيحين:

الأول: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن يحيى بن زكريا بن أبي زائدة، عن محمد بن إسحاق، عن عبد الله بن أبي نجيح يسار المكي، عن مجاهد، عن ابن عباس.

وأخرجه ابن ماجه (1): نا عبد الله بن نمير، نا يونس بن بكير، ثنا ابن إسحاق، حدثني ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس قال:"قيل: يا رسول الله، لم ظاهرت المحلقين ثلاثاً والمقصرين واحدة؟ قال: إنهم لم يشكوا".

(1)"سنن ابن ماجه"(2/ 1012 رقم 3045).

ص: 233

الثاني: عن فهد بن سليمان، عن يوسف بن بهلول التميمي الأنباري شيخ البخاري واحد أصحاب أبي حنيفة، عن عبد الله بن إدريس الأودي الزعافري، عن محمد بن إسحاق بن يسار، عن عبد الله بن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1): ثنا يزيد قال: نا محمد بن إسحاق، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد، عن ابن عباس قال: قال رسول الله عليه السلام: "اللهم اغفر للمحلقين -قالها ثلاثًا- قال: فقالوا: يا رسول الله، ما بال المحلقين ظاهرت لهم الترحم؟ قال: إنهم لم يشكوا".

وكذلك أخرج حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه من طريقين:

الأول: عن محمد بن عبد الله بن ميمون الإِسكندراني اليشكري شيخ أبي داود والنسائي، عن الوليد بن مسلم القرشي الدمشقي، عن عبد الرحمن بن عمرو الأوزاعي، عن يحيى بن أبي كثير الطائي، عن أبي إبراهيم الأشهلي الأنصاري المدني، لا يسمى، وذكره ابن أبي حاتم وقال: يروي عن أبيه، روى عنه يحيى ابن أبي كثير سمعت أبي يقول: أبو إبراهيم الأنصاري الذي روى عنه يحيى بن أبي كثير لا يدري من هو ولا أبوه وفي "التكميل": قال قوم: إن إبراهيم هذا هو عبد الله بن أبي قتادة، وقال شيخنا: ولا يصح ذلك وإن كان عبد الله بن أبي قتادة كنيته أبو إبراهيم؛ لأنه من بني سلمة، وهذا من عبد الأشهل. والله أعلم.

روى له الترمذي والنسائي، وصحح الترمذي حديثه، وقد بسطنا الكلام فيه في أسماء رجال الكتاب.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(2): نا يزيد، نا هشام، عن يحيى، عن أبي إبراهيم، عن أبي سعيد الخدري:"أن النبي عليه السلام أحرم وأصحابه عام الحديبية غير عثمان وأبي قتادة، فاستغفر للمحلقين ثلاثًا وللمقصرين مرة".

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 220 رقم 13618).

(2)

"مسند أحمد"(3/ 20 رقم 11165).

ص: 234

الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق، عن هارون بن إسماعيل الخزاز البصري، عن علي بن المبارك الهنائي البصري، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي إبراهيم، عن أبي سعيد الخدري

إلى آخره.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(1) وقال: ثنا يزيد بن هارون، ثنا هشام الدستوائي، عن يحيى بن أبي كثير، عن أبي إبراهيم، عن أبي سعيد الخدري، عن النبي عليه السلام نحوه.

قوله: "رحم الله المحلقين" إنشاء في صورة الإِخبار، ومعناه: اللهم ارحم المحلقين.

قوله: "والمقصرين" يعني: يا رسول الله، ويرحم الله المقصرين أيضًا؟ أو ادع الله أن يرحم المقصرين أيضًا، والمقصر هو الذي يقصر من شعر رأسه ويأخذ من أطرافه ولا يحلقه.

قوله: "فما بال المحلقين"، أي ما شأنهم وما حالهم.

قوله: "ظاهرت لهم بالترحم" أي قصرتهم وأعنتهم وساعدتهم.

قوله: "إنهم"، أي إن المحلقين "لم يشكوا" قيل: معناه لم يشكوا في أن الحلق أفضل عن التقصير وقيل: معناه لم يتوقفوا فيما أمرهم به النبي عليه السلام من الحلق، حيث بادروا بالامتثال وحلقوا واستجابوا له، بخلاف المقصرين فإنهم لم يكن معهم هدي، فلما أمرهم النبي عليه السلام بالحلق وجدوا من ذلك وأحبوا أن يأذن لهم في المقام على إحرامهم حتى يكملوا الحج، وكانت طاعة رسول الله عليه السلام أولى بهم، فلما لم يكن لهم بد من الإِحلال كان القصر في نفوسهم أخف من الحلق فمالوا إليه، فلما رأى رسول الله عليه السلام ذلك منهم أخرهم في الدعاء، وقدم عليهم من حلق ثلاث مرات ودعا للمقصرين مرة، وجعل لهم أيضًا نصيبًا من دعوته حتى لا يجنب أحد من أمته من صالح دعوته.

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 220 رقم 13617).

ص: 235

وقيل: إنما دعا للمحلقين ثلاثًا لأن الحلق أبلغ في العبادة وأدل على صدق النية في القلب بخلاف المقصر؛ لأنه مبق لنفسه من الزينة التي أراد الله تبارك وتعالى أن يأتيه المستجيبون لدعوته في الحج متبرئين منها مظهرين للمزلة والخشوع.

قوله: "غير رجلين: رجل من الأنصار" وهو أبو قتادة الأنصاري الحارث بن ربعي، ورجل من قريش وهو عثمان بن عفان؛ فإنهم لم يحلقا رءوسهما ولم يقصرا، لأنهم لم يكونا محرمين كما صرح بذلك في رواية أحمد.

ويستفاد منه: أن الحلق نسك لا إباحة، ولو كان إباحة لم يستحق الدعاء والثواب عليه.

وأيضًا فيه دلالة على أن الحلق أفضل، والتفاضل لا يكون في الإِباحة.

وفيه جواز التقصير وفيه أن المحصر لا ينبغي له أن يترك الحلق.

فإذا تركه يصير كتركه وهو غير محصر.

ثم اعلم أن أحاديث دعوة النبي عليه السلام للمحلقين رواها جماعة من الصحابة رضي الله عنهم، وقال الترمذي عقيب إخراجه حديث ابن عمر في هذا: وفي الباب عن ابن عباس وأم الحصين ومارب وأبي سعيد وأبي مريم وحبشي بن جنادة وأبي هريرة.

قلت: وفي الباب عن جابر بن عبد الله أيضًا وقد أخرج الطحاوي حديث ابن عباس وأبي سعيد الخدري كما مرّ.

وأما حديث عبد الله بن عمر فأخرجه البخاري (1): ثنا عبد الله بن يوسف، ثنا مالك، عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله عليه السلام قال:"اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين يا رسول الله؟ قال: اللهم ارحم المحلقين، قالوا: والمقصرين؟ قال: والمقصرين".

وقال الليث: ثنا نافع: رحم الله المحلقين مرة أو مرتين، قال: وقال عُبيد الله:

حدثني نافع، قال: وفي الرابعة قال: "والمقصرين".

(1)"صحيح البخاري"(2/ 616 رقم 1640).

ص: 236

وأخرجه مسلم (1) وأبو داود (2) والترمذي (3).

وأما حديث أم الحصين فأخرجه مسلم (4): نا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: نا وكيع وأبو داود الطيالسي، عن شعبة، عن يحيى بن الحصين، عن جدته:"أنها سمعت النبي عليه السلام في حجة الوداع دعا للمحلقين ثلاثًا، وللمقصرين مرة واحدة" ولم يقل وكيع: "في حجة الوداع".

وأما حديث مارب -بالميم- ويقال: قارب -بالقاف- بن الأسود بن مسعود الثقفي".

وهو ابن أخي عروة بن مسعود فأخرجه الحميدي في "مسنده"(5): عن ابن عيينة، عن إبراهيم بن ميسرة، عن وهب بن عبد الله بن قارب أو مارب -على الشك- عن أبيه، عن جده:"أن النبي عليه السلام قال: يرحم الله المحلقين".

قال أبو عمر: لا أحفظ هذا الحديث من غير رواية ابن عيينة، وغير الحميدي يقول:"قارب" من غير شك، وهو الصواب وهو مشهور ومعروف من وجوه ثقيف.

وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه"(6): ثنا سفيان بن عيينة، عن إبراهيم بن ميسرة، بن وهب بن عبد الله -أراه عن أبيه- قال:"كنت مع أبي، فرأيت النبي عليه السلام يقول بيده: يرحم الله المحلقين، فقال رجل: يا رسول الله، والمقصرين؟ قال في الثالثة: والمقصرين".

(1)"صحيح مسلم"(2/ 945 رقم 1301).

(2)

"سنن أبي داود"(2/ 202 رقم 1979).

(3)

"جامع الترمذي"(3/ 256 رقم 913).

(4)

"صحيح مسلم"(2/ 946 رقم 1303).

(5)

"مسند الحميدي"(2/ 415 رقم 931).

(6)

"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 220 رقم 13616).

ص: 237

وأما حديث أبي مريم فأخرجه ابن أبي شيبة أيضًا في "مسنده"(1): ثنا يونس بن محمد، قال: ثنا أوس بن عبد الله السلولي، حدثني عمي يزيد بن أبي مريم، عن أبيه مالك بن ربيعة سمعت النبي عليه السلام يقول:"اللهم اغفر للمحلقين، قال رجل: يا رسول الله، والمقصرين؟ قال: والمقصرين".

وأما حديث حبشي بن جنادة فأخرجه ابن أبي شيبة أيضًا (2): نا عُبيد الله، نا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن حبشي بن جنادة قال: قال رسول الله عليه السلام: "اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: يا رسول الله، والمقصرين؟ قال: اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: يا رسول الله، والمقصرين؟ قال: [اللهم] (3) اغفر للمقصرين".

وأما حديث أبي هريرة فأخرجه البخاري (4): نا عياش بن الوليد، نا محمد بن الفضل، نا عمارة بن القعقاع، عن أبي زرعة، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله عليه السلام: "اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: والمقصرين؟ قال: اللهم اغفر للمحلقين، قالوا: والمقصرين؟ -قالها ثلاثًا- قال: والمقصرين".

وأخرجه مسلم أيضًا (5).

وأما حديث جابر فأخرجه أبو قرة في "سننه" من حديث زمعه بن صالح، عن زياد بن سعد، عن أبي الزبير، سمع جابر بن عبد الله رضي الله عنه يقول:"حلق رسول الله عليه السلام يوم الحديبية، فحلق ناس كثير من أصحابه حين رأوه حلق، وقال آخرون: والله ما طفنا بالبيت، فقصروا، فقال رسول الله عليه السلام: يرحم الله المحلقين، وقال في الرابعة وللمقصرين".

(1)"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 221 رقم 13622).

(2)

"مصنف ابن أبي شيبة"(3/ 220 رقم 13621).

(3)

ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "المصنف".

(4)

"صحيح البخاري"(2/ 617 رقم 1641).

(5)

"صحيح مسلم"(2/ 946 رقم 1302).

ص: 238