المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ص: باب: الهدي يصد عن الحرم هل ينبغي أن يذبح في غير الحرم - نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار - جـ ١٠

[بدر الدين العيني]

فهرس الكتاب

- ‌ص: باب: الجمع بين الصلاتين كيف هو

- ‌ص: باب: وقت رمي جمرة العقبة للضعفاء الذين يرخص لهم في ترك الوقوف بمزدلفة

- ‌ص: باب: رمي جمرة العقبة ليلة النحر قبل طلوع الفجر

- ‌ص: باب: الرجل يدع رمي جمرة العقبة يوم النحر ثم يرميها بعد ذلك

- ‌ص: باب: التلبية متى يقطعها الحاج

- ‌ص: باب: اللباس والطيب متى يحلان للمحرم

- ‌ص: باب: المرأة تحيض بعدما طافت للزيارة قبل أن تطوف للصدر

- ‌ص: باب: من قدم من حجه نسكًا قبل نسك

- ‌ص: باب: المكيّ يريد العمرة من أين ينبغي له أن يحرم

- ‌ص: باب: الهدي يصد عن الحرم هل ينبغي أن يذبح في غير الحرم

- ‌ص: باب: المتمتع الذي لا يجد هديًا ولا يصوم في العشر

- ‌ص: باب: حكم المحصر بالحج

- ‌ص: باب: حج الصغير

- ‌ص: باب: دخول الحرم هل يصلح بغير إحرام

- ‌ص: باب: الرجل يوجه بالهدي إلى مكة ويقيم في أهله هل يتجرد إذا قلد الهدي

- ‌ص: باب: نكاح المحرم

- ‌ص: كتاب النكاح

- ‌ص: باب: بيان ما نهى عنه من سوم الرجل على سوم أخيه وخطبته على خطبة أخيه

- ‌ص: باب: نكاح المتعة

- ‌ص: باب: مقدار ما يقيم الرجل عند الثيب أو البكر إذا تزوجها

- ‌ص: باب: العزل

- ‌ص: باب: الحائض ما يحل لزوجها منها

- ‌ص: باب: وطء النساء في أدبارهنَّ

- ‌ص: باب: وطء الحُبالى

- ‌ص: باب: انتهاب ما ينثر على القوم مما يفعله الناس في النكاح

الفصل: ‌ص: باب: الهدي يصد عن الحرم هل ينبغي أن يذبح في غير الحرم

‌ص: باب: الهدي يصد عن الحرم هل ينبغي أن يذبح في غير الحرم

ش: أي هذا باب في بيان أن الهدي إذا منع من بلوغه إلى الحرم، هل ينبغي أن يذبح خارج الحرم أم لا؟ والهدي ما يهدى إلى الحرم من الأنعام.

ص: حدثنا فهد، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، قال: ثنا سفيان بن عيينة، عن عُبيد الله بن أبي يزيد، عن أبيه، عن سباع بن ثابت، عن أم كرز قالت:"أتيت النبي عليه السلام بالحديبية أسأله من لحوم الهدي".

ش: إسناده صحيح، وأبو بكر اسمه عبد الله بن محمد بن أبي شيبة صاحب "المسند" و"المصنف"، وشيخ البخاري ومسلم وأبي داود وابن ماجه، وعبيد الله ابن أبي يزيد المكي روى له الجماعة، وأبوه أبو يزيد المكي مولى آل قارظ حلفاء بني زهرة، وثقه ابن حبان، وروى له الأربعة غير النسائي، وسباع بن ثابت حليف بني زهرة وثقه ابن حبان وروى له الأربعة، وأم كرز الكعبية الخزاعية المكية الصحابية.

وأخرجه النسائي (1): أنا [عبيد الله بن سعيد](2) نا سفيان، عن عبيد الله -وهو ابن أبي يزيد- عن سباع بن ثابت، عن أم كرز قالت:"أتيت النبي عليه السلام بالحديبية [أسأله] (3) عن لحوم الهدي فسمعته يقول: على الغلام شاتان، وعلى الجارية شاة، لا يضركم ذكرانًا كن أم إناثًا".

(1)"المجتبى"(7/ 165 رقم 4217).

(2)

كذا في "الأصل، ك"، وفي "المجتبى":"قتيبة"، ولعله انتقال نظر من المؤلف رحمه الله، فعبيد الله ابن سعيد هو شيخ النسائي في الحديث الذي قبل هذا الحديث في "المجتبى". والله أعلم.

(3)

ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "المجتبى".

ص: 162

وأخرجه أبو داود (1) والترمذي (2) وابن ماجه (3)، ولكن ليس في رواياتهم السؤال عن لحوم الهدي.

وقال الترمذي: حديث حسن صحيح.

وأخرجه أحمد في "مسنده"(4): نا سفيان، نا عُبيد الله بن أبي يزيد، عن أبيه، عن سباع بن ثابت، سمعه من أم كرز الكعبية التي تحدث عن النبي عليه السلام[قالت] (5):"سمعت النبي عليه السلام بالحديبية وذهبت أطلب من اللحم: عن الغلام شاتان وعن الجارية شاة، لا يضركم ذكرانًا كن أم إناثًا، قالت: وسمعت النبي عليه السلام يقول: أقروا الطير على مكناتها".

فهذا كما ترى نحو رواية الطحاوي عن عُبيد الله بن أبي زيد، عن سباع، وليس فيه ذكر عن أبيه، وكلاهما صحيح؛ لأن عُبيد الله هذا روى عن أبيه، عن سباع، وروى عن سباع أيضًا.

قوله: "بالحُدَيبية" أي حال كون النبي عليه السلام بالحديبية -بضم الحاء وفتح الدال وسكون الياء آخر الحروف وكسر الباء الموحدة وفتح الياء آخر الحروف- وكثير من المحدثين يشددون هذه الياء، وهي قرية كبيرة من مكة سميت ببئر هناك، وقد استوفينا الكلام فيها مرة.

قوله: "عن لحوم الهدي" أي الهدي الذي ذبحه رسول الله عليه السلام هناك لأجل إحلاله من عمرته التي صد عنها.

(1)"سنن أبي داود"(3/ 105 رقم 2836).

(2)

"جامع الترمذي"(4/ 98 رقم 1516).

(3)

"سنن ابن ماجه"(2/ 1056 رقم 3162).

(4)

"مسند أحمد"(6/ 381 رقم 27183).

(5)

في "الأصل، ك": "قال"، والمثبت من "مسند أحمد".

ص: 163

ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى أن الهدي إذا صد عن الحرم نحو في غير الحرم، واحتجوا في ذلك بهذا الحديث، وقالوا: لما نحر رسول الله عليه السلام بالحديبية إذ صد عن الحرم؛ دل ذلك على أن لمن منع من إدخال هديه الحرم أن يذبحه في غير الحرم.

ش: أراد بالقوم هؤلاء: مجاهدًا والزهري ومالكًا والشافعي وأحمد؛ فإنهم قالوا: بجواز ذبح الهدي الذي يصد عن الحرم في غير الحرم، واستدلوا على ذلك بالحديث المذكور.

ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: لا يجوز نحر الهدي إلَاّ في الحرم.

ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم عطاء بن أبي رباح والحسن البصري وإبراهيم النخعي وابن إسحاق وأبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا؛ فإنهم قالوا: لا يجوز ذبح الهدي إلَاّ في الحرم.

ص: وكان من حجتهم في ذلك: قول الله عز وجل: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} " (1) فكان الهدي قد جعله الله عز وجل ما بلغ الكعبة، فهو كالصيام الذي جعله الله عز وجل متتابعًا في كفارة الظهار وكفارة القتل، فلا يجوز غير متتابع، وإن كان الذي وجب عليه غيرَ مُطيقٍ للإِتيان به متتابعًا فلا تبيحه الضرورة أن يصومه متفرقًا، فكذلك الهدي الموصوف ببلوغ الكعبة لا يجزئ الذي هو عليه كذلك وإن صد عن بلوغ الكعبة للضرورة أن يذبحه فيما سوى ذلك.

ش: أي وكان من حجة الآخرين فيما ذهبوا إليه قول الله عز وجل {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} (1)، وقوله تعالى:{ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} (2) وصار بلوغ الكعبة صفة للهدي ولا يجزئ دونها، وأيضًا لما كان ذبحًا تعلق وجوبه بالإِحرام؛ وجب أن يكون مخصوصًا بالحرم كجزاء الصيد وهدي المتعة.

(1) سورة المائدة، آية:[95].

(2)

سورة الحج، آية:[33].

ص: 164

فإن قيل: لما قال النبي عليه السلام لكعب بن عجرة: اذبح شاة، ولم يشترط له مكانًا، وجب أن لا يكون مخصوصًا بموضع.

قلت: إن كعب بن عجرة أصابه ذلك وهو بالحديبية، وبعضها من الحل وبعضها من الحرم، فجائز أن يكون ترك ذكر المكان اكتفاء بعلم كعب بأن ما تعلق من ذلك بالإِحرام فهو مخصوص بالحرم، وقد كان أصحاب النبي عليه السلام عالمين بحكم تعلق الهدايا بالحرم، لما كانوا يرون النبي عليه السلام يسوق البدن إلى الحرم لينحرها هناك.

ص: وكان من الحجة لهم على أهل المقالة الأولى في نحر النبي عليه السلام لذلك الهدي الذي نحره [بالحديبية](1) لما صد عن الحرم، وتصدق بلحمه بقديد، أن قومًا قد زعموا أن نحره إياه كان في الحرم.

حدثنا إبراهيم بن أبي داود، قال: ثنا مخول بن إبراهيم بن مخول بن راشد، عن إسرائيل، عن مجزأة بن زاهر، عن ناجية بن جندب الأسلمي رضي الله عنه قال:"أتيت النبي عليه السلام حين صد الهدي فقلت يا رسول الله، ابعث معي بالهدي فلأنحره في الحرم، قال: وكيف يا جندب، قال آخذ به في أودية لا يقدرون عليّ فيها فبعثه معي حتي نحرته في الحرم".

فقد دل هذا الحديث أن هدي النبي عليه السلام ذلك نحر في الحرم.

ش: أي وكان من الدليل والبرهان لأهل المقالة الثانية وأراد منها الجواب عما احتجت به أهل المقالة الأولى فيما ذهبوا إليه بنحره عليه السلام في الحديبية، وبين ذلك بوجهين:

أحدهما: ما أشار إليه بقوله: إن قومًا زعموا أن نحره إياه كان في الحرم، أي أن نحر النبي عليه السلام هديه إنما كان في الحرم، ولم يكن في الحل، واستدلوا على ذلك بحديث ناجية بن جندب الأسلمي فإنه يدل على أن هديه عليه السلام قد نحر في الحرم.

(1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".

ص: 165

وأراد بالقوم هؤلاء: عطاء بن أبي رباح والنخعي وطاوسًا ومحمد بن إسحاق، فإنهم ادعوا ذلك محتجين بالحديث المذكور.

وأخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن مخول -بضم الميم وفتح الخاء المعجمة وتشديد الواو- بن إبراهيم بن مخول النهدي الكوفي، رافضي ولكنه صدوق، عن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق السبيعي روى له الجماعة، عن مجزأة -بفتح الميم، وكسرها بعضهم، وسكون الجيم، وفتح الزاي المعجمة بعدها همزة، قاله الجياني، وقال غيره: لا تُهْمَز- ابن زاهر بن الأسود الأسلمي الكوفي، قال أبو حاتم والنسائي: ثقة. روى له البخاري ومسلم والنسائي.

عن ناجية بن جندب بن كعب، وقيل: ناجية بن كعب بن جندب بن عمر بن معمر الأسلمي صاحب بدن النبي عليه السلام.

وأخرجه النسائي (1) بسند صحيح، عن ناجية بن جندب نحوه.

ص: وقال آخرون: كان النبي بالحديبية عليه السلام وهو يقدر على دخول الحرم، قالوا: ولم يكن صد إلَاّ عن البيت، واحتجوا في ذلك بما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا سفيان بن بشر [الكوفي](2) قال: ثنا يحيى بن أبي زائدة، عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن عروة، عن المسور:"أن رسول الله عليه السلام كان بالحديبية خباؤه في الحل ومصلاه في الحرم".

فثبت بما ذكرنا أن النبي عليه السلام لم يكن صد عن الحرم، وأنه قد كان يصلي إلى بعضه، ولا يجوز في قول أحد من العلماء لمن قدر على دخول شيء من الحرم أن ينحر هديه دون الحرم، فلما ثبت بالحديث الذي ذكرنا أن النبي رضي الله عنه كان يصلي إلى بعض الحرم؛ استحال أن يكون نحو الهدي في غير الحرم؛ لأن الذي يبيح الهدي في غير الحرم إنما يبيحه في حال الصد عن الحرم لا في حال القدرة على

(1)"السنن الكبرى"(2/ 453 رقم 4135).

(2)

تكررت في "الأصل، ك".

ص: 166

دخوله، فانتفى بما ذكرنا أن يكون النبي عليه السلام نحر الهدي في غير الحرم، وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.

ش: أي وقال قوم آخرون، وأراد بهم: عروة بن الزبير ومروان والمسور؛ فإنهم قالوا: كان النبي عليه السلام نازلاً بالحديبية والحال أنه يقدر على دخول الحرم، ولم يكن صد أي منع إلَاّ من دخول البيت، وهذا هو الوجه الثاني من الوجهين.

قوله: "واحتجوا في ذلك" أي احتج هؤلاء الآخرون فيما قالوا من هذا القول بما أخرجه عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن سفيان بن بشر بن أيمن الكوفي الأسدي، ذكره ابن يونس في الغرباء، وسكت عنه، عن يحيى بن أبي زائدة الكوفي روى له الجماعة، عن محمد بن إسحاق بن يسار المدني، عن محمد بن مسلم الزهري، عن عروة بن الزبير بن العوام، عن المسور -بكسر الميم- بن مخرمة -بفتح الميم- له ولأبيه صحبه توفي رسول الله عليه السلام وهو ابن ثمان سنين، وقد روى عن رسول الله عليه السلام وصح سماعه منه.

وأخرجه البيهقي (1): من حديث يونس، عن ابن إسحاق، نا الزهري، عن عروة، عن مروان والمسور بن مخرمة، قالا: "خرج رسول الله عليه السلام زمن الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه

" الحديث بطوله، وفيه: "وكان مضطربه في الحل، وكان يصلي في الحرم". انتهى.

قلت المضطرب: هو البناء الذي يضرب ويقام على أوتاد مضروبة في الأرض، والخِبَاء -بكسر الخاء- بيت من صوف أو وبر فإذا كان شعر سمى بيتًا، والجمع: أخبية.

فإن قيل: روى البيهقي عن الشافعي أنه قال: إنما ذهبنا إلى أنه نحر الهدي في غير الحرم لأن الله تعالى يقول: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 215 رقم 9857).

ص: 167

وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} (1) والحرم كله محله عند أهل العلم، والحديبية موضع منه ما هو في الحل ومنه ما هو في الحرم، وإنما نحر الهدي عندنا في الحل، وفيه مسجد رسول الله عليه السلام الذي بويع فيه تحت الشجرة، فأنزل الله تعالى:{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (2) وقال في قوله: {تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} (3) محله -والله أعلم- هَا هنا بيّنه أن يكون إذا أحصر نحر حيث أحصر، ومحله من غير الإِحصار الحرم، وهو كلام عربي واسع.

قلت: فإذا كانت الحديبية بعضها في الحرم كيف يجوز أن يترك هذا الموضع وينحر في الحل؟ والحال أن بلوغ الكعبة صفة للهدي في قوله: {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} (4) وحديث ناجية بن جندب الذي ذكره أيضًا وقد قال ابن أبي شيبة في "مصنفه"(5): ثنا أبو أسامة، عن أبي العميس، عن عطاء قال:"كان منزل النبي عليه السلام يوم الحديبية في الحرم".

فإذا كان منزل النبي عليه السلام الحرم، كيف ينحر هديه في الحل؟ وهذا محال، وفي "الاستذكار": قال عطاء وابن إسحاق: لم ينحر عليه السلام هديه يوم الحديبية إلَاّ في الحرم".

ص: وقد احتج قوم في تجويز نحر الهدي في غير الحرم بما حدثنا علي بن شيبة، قال: ثنا أبو نعيم، قال: ثنا سفيان، عن يحيى بن سعيد، عن يعقوب بن خالد، عن أبي أسماء مولى عبد الله بن جعفر قال: "خرجت مع عثمان وعلي رضي الله عنهما فاشتكى

(1) سورة الفتح، آية:[25].

(2)

سورة الفتح، آية:[18].

(3)

سورة البقرة، آية:[196].

(4)

سورة المائدة، آية:[95].

(5)

"مصنف ابن أبي شيبة"(7/ 389 رقم 36856).

ص: 168

الحسين رضي الله عنه بالسقيا وهو محرم، فأصابه برسام فأومئ إلى رأسه، فحلق علي رضي الله عنه رأسه، ونحر عنه جزورًا فأطعم أهل الماء".

حدثنا يونس، قال: أنا ابن وهب، أن مالكًا حدثه، عن يحيى

فذكر بإسناده مثله، غير أنه لم يذكر عثمان، ولا أن الحسين كان محرمًا.

فاحتجوا بهذا الحديث لأن فيه أن عليًّا رضي الله عنه نحر الجزور دون الحرم.

ش: أراد بالقوم طائفة من أهل المقالة الأولى، فإنهم احتجوا في جواز نحر الهدي في غير الحرم بحديث أبي أسماء؛ لأنه يخبر أن عليًّا رضي الله عنه نحر الجزور في دون الحرم، وأخرجه من طريقين صحيحين:

الأول: عن علي بن شيبة، عن أبي نعيم الفضل بن دكين، عن سفيان الثوري، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، عن يعقوب بن خالد بن المسيب وثقه ابن حبان، عن أبي أسماء مولى عبد الله بن جعفر ذكره ابن حبان في الثقات من التابعين.

الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن مالك، عن يحيى ابن سعيد الأنصاري

إلى آخره.

وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث مالك، عن يحيى بن سعيد، عن يعقوب بن خالد المخزومي، عن أبي أسماء مولى عبد الله بن جعفر:"أنه أخبره أنه كان مع عبد الله بن جعفر فخرج معه من المدينة فمروا على حسين بن علي رضي الله عنهما وهو مريض بالسقيا، فأقام عليه عبد الله حتى إذا خاف الفوات خرج، وبعث إلى علي وأسماء بنت عميس وهما بالمدينة، فقدما عليه، ثم إن حسينًا أشار إلى رأسه، فأمر علي برأسه فَحُلِقَ، ثم نسك عنه بالسقيا فنحر عنه بعيرًا، قال يحيى: وكان حسين خرج مع عثمان رضي الله عنهما في سفره ذاك إلى مكة".

(1)"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 218 رقم 9868).

ص: 169

قوله: "بالسقيا" بضم السين المهملة وسكون القاف وبالياء آخر الحرف مقصور، وهي قرية جامعة بين مكة والمدينة من عمل الفرع، قال أبو عبيد: إنما سميت بذلك لما سقيت من الماء العذب، وهي كثيرة الآبار والعيون والبرك، وكثير منها صدقات للحسين بن زيد.

وقال ياقوت في "المشترك": هي من النحر على سبعة فراسخ.

وقال الزمخشري في كتاب "أسماء البلاد": السقيا: المسيل الذي يفرغ في عرفة، بها مسجد إبراهيم عليه السلام.

وفي "المطالع" السقيا: قرية جامعة من عمل الفرع بينهما مما يلي الجحفة سبعة عشر ميلًا.

قوله: "برسام" بكسر الباء علة معروفة، وهي تحدث عن سوء مزاج حار في الدماغ، أو ورم صار في أغشية الدماغ، فالذي يكون عن ورم يكون أشد خطرًا، ويعرض لصاحب البرسام أن يتنبه من نومه بصياح ووثوب ويخشن لسانه ويسود ومع هذا يكون سيئ الخلق غضوبًا لجوجًا إن كان الورم صفراويًّا، وإن كان دمويًّا يكون عنده ضحك ونوم وحمرة في العين، وإن كان سوداويًّا يكون كثير الهدبابات والفزع والخوف والبكاء.

ص: فكان من الحجة عليهم في ذلك: أنهم لا يبيحون لمن كان غير ممنوع من الحرم أن يذبح في غير الحرم، وإنما يختلفون إذا كان ممنوعًا عنه، فدل ما ذكرنا أن عليًّا رضي الله عنه لما نحر في هذا الحديث في غير الحرم وهو واصل إلى الحرم أنه لم يكن أراد به الهدي ولكنه أراد به معنى آخر من الصدقة على أهل ذلك الماء والتقرب إلى الله عز وجل بذلك، مع أنه ليس في الحديث أنه أراد به الهدي، فكما يجوز لمن حمله أنه هدي ما حمله عليه من ذلك، فكذلك يجوز لمن حمله على أنه ليس بهدي ما حمله من ذلك، وقد بدأنا بالنظر في ذلك وذكرنا في أول هذا الباب؛ فأغنانا ذلك عن إعادته هَا هنا.

ص: 170

ش: أي فكان من الحجة على هؤلاء القوم، وأراد بها الجواب عما احتجوا به من حديث أبي أسماء في جواز نحر الهدي في غير الحرم، وهو ظاهر، وقال الجصاص في جواب هذا قريبًا مما قاله الطحاوي، وهو أنه ليس فيه دلالة على أنه يأتي جواز الذبح في غيى الحرم، لأنه يجوز أن يكون جعل اللحم صدقة، وذلك جائز عندنا، وذكر الإِشبيلي في شرح "الموطأ": إن هذا الذي نحره علي رضي الله عنه كان فدية الأذى، وفدية الأذى يجوز ذبحها بكل موضع؛ لأنها نسك كالأضحية والعقيقة وليست بهدي فيكون لها تعلق بالبيت، ولا تقلد ولا تشعر ولا تحتاج أن يجمع لها بين الحل والحرم ولا يجوز أن يدعى أن البعير الذي نحر عنه ليتحلل بذلك الموضع، لوجوه أحدهما: أن أبا حنيفة الذي يبيح التحلل في موضع المرض لا يرى أن ينحر الهدي إلَاّ بمكة، والشافعي الذي يرى التحلل بالشرط ويرى أن ينحر [الهدي](1) حيث يحل، لا يمكنه أن يعلم أنه اشترط التحلل، ولا علمنا أن أحدًا عمل به، وقال الزهري: لم يقل أحد بالشرط، ولو سلم له هذا فإن عليًّا اشترى ما نحر حيث نحره، روى ذلك حماد بن زيد، ولم يقلده ولا أشعره، فلم يكن هديًا ساقه وإنما كان دم فدية أذى واختار إخراج الأفضل، وكانت الشاة تجزئه، وكان حسين رضي الله عنه خرج مع عثمان يريد الحج، ومرض بالعرج فتحامل، فلما بلغ السقيا اشتد به المرض، فمضى عثمان وتركه بالسقيا.

قوله: "ما حمله عليه" في الموضعين فاعل لقوله "يجوز" في الموضعين، فافهم.

(1) في "الأصل، ك": "بالهدي".

ص: 171