الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: المكيّ يريد العمرة من أين ينبغي له أن يحرم
ش: أي هذا باب في بيان من كان بمكة إذا أراد العمرة، من أين ينبغي له أن يحرم؟.
ص: حدثنا يونس، قال: ثنا سفيان، عن عمرو بن دينار، أخبره عن عمرو بن أوس، قال: أخبرني عبد الرحمن بن أبي بكر قال: "أمرني النبي عليه السلام أن أردف عائشة رضي الله عنها إلى التنعيم فأعمرها".
حدثنا فهد، قال: أنا داود بن عبد الرحمن، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن يوسف بن ماهك، عن حفصة بنت عبد الرحمن، عن أبيها:"أن رسول الله عليه السلام قال لعبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما: أردف أختك فأعمرها من التنعيم، فإذا هبطت بها من الأكمة فمرها فلتحرم؛ فإنها عمرة متقبلة".
ش: هذان طريقان صحيحان:
الأول: عن يونس بن عبد الأعلى، عن سفيان بن عُيينة، عن عمرو بن دينار، عن عمرو بن أوس بن أبي أوس واسمه حذيفة الثقفي الطائفي، عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، والكل رجال الصحيح.
وأخرجه البخاري (1): ثنا علي بن عبد الله، ثنا سفيان، عن عمرو، سمع عمرو ابن أوس، أن عبد الرحمن بن أبي بكرة أخبره:"أن رسول الله عليه السلام أمره أن يردف عائشة ويعمرها من التنعيم".
وأخرجه بقية الجماعة (2).
(1)"صحيح البخاري"(2/ 632 رقم 1692).
(2)
مسلم في "صحيحه"(2/ 880 رقم 1212)، والترمذي في "جامعه"(2/ 74 رقم 1862)، والنسائي في "الكبرى"(2/ 473 رقم 4230)، وابن ماجه في "سننه"(2/ 997 رقم 2999).
الثاني: عن فهد بن سليمان، عن داود بن عبد الرحمن العطار المكي روى له الجماعة، عن عبد الله بن عثمان بن خثيم القاري، من القارة المكي روى له المجماعة البخاري مستشهدًا، عن يوسف بن ماهك -بفتح الهاء- بن بهزاد المكي روى له الجماعة، عن حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهم، قال العجلي: تابعية ثقة روى لها مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه.
وأخرجه أبو داود (1): ثنا عبد الأعلى بن حماد، قال: ثنا داود بن عبد الرحمن، قال: حدثني عبد الله بن خثيم، عن يوسف بن ماهك
…
إلى آخره نحوه سواء.
وأخرجه البزار في "مسنده"(2) وقال: لا نعلم روت حفصة عن أبيها إلَاّ هذا الحديث.
قوله: "إلى التنعيم" على وزن تفعيل، قد ذكرنا أنه منتهى حد الحرم من ناحية المدينة، بينه وبين مكة نحو من أربعة أميال، وفيه مسجد عائشة رضي الله عنها.
قوله: "فأعمرها" بالنصب عطف على قوله: "أن أردف" من الإِعمار يقال: اعتمرت وأعمرت غيري.
والعُمرة في اللغة: الزيارة، يقال: اعتمر أي زاد، فهو معتمر.
وفي الشرع: زيارة البيت الحرام بشروط مخصوصة.
قوله: "من الأكمة" بفتح الهمزة وبعدها كاف وميم مفتوحتان وتاء تأنيث، وجمعها آكام بفتح الهمزة والمد، ويقال: إكام بكسر الهمزة، ويجمع أيضًا على أُكُم وأَكَم بضمتين وفتحتين، قيل: هي الجبال الصغار، وقيل: ما اجتمع من التراب أكبر من الكدمة، وقيل: هي ما غلظ من الأرض ولم يبلغ أن يكون حجرًا وكانت أشد ارتفاعًا مما حولها كالتلول ونحوها، وقيل: هي الراية وقيل: التل العظيم المرتفع.
(1)"سنن أبي داود"(2/ 206 رقم 1995).
(2)
"مسند البزار"(6/ 236 رقم 2270).
قوله: "فمُر" أَمْرٌ من أَمَرَ يَأْمُر، أي "فمر عائشة فلتحرم" من الإِحرام.
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى أن العمرة لمن كان بمكة لا وقت لها غير التنعيم، وجعلوا التنعيم خاصةً وقتًا لعمرة أهل مكة، وقالوا لا ينبغي لهم أن يتجاوزوه كما لا ينبغي لغيرهم أن يجاوزوا ميقاتًا مما وقته له رسول الله عليه السلام.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: عمرو بن دينار وطائفة من السلف؛ فإنهم قالوا: وقت العمرة لمن كان بمكة هو التنعيم، واحتجوا في ذلك بالحديث المذكور؛ لأنه خصصه فدل أنه وقت معين لمن كان بمكة ممن يريد العمرة.
وقال القاضي: قال قوم: لا بد من الإِحرام من التنعيم خاصَّة، وهو ميقات المعتمرين من مكة.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون، فقالوا: وقت أهل مكة الذين يحرمون منه بالعمرة: الحل، فمن أي الحل أحرموا بها أجزأهم ذلك، والتنعيم وغيره من الحل عندهم في ذلك سواء.
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم جماهير العلماء من التابعين وغيرهم، منهم: أبو حنيفة وأصحابه ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وغيرهم؛ فإنهم قالوا: وقت العمرة لمن كان بمكة: الحل، وهو خارج الحرم، فمن أي الحل أحرموا بها جاز، سواء كان ذلك التنعيم أو غيره من الحل.
وقال ابن حزم في "المحلى"(1): ومن أراد العمرة وهو بمكة إما من أهلها وأما من غير أهلها ففرض عليه أن يخرج للإِحرام بها إلى الحل ولا بد، فيخرج إلى أي الحل شاء ويحرم بها.
وقال القاضي: اختلفوا فيمن اعتمر من مكة ولم يخرج إلى الحل، فذهب أصحاب الرأي وأبو ثور والشافعي -في قول- أن عليه دمًا كتارك الميقات، وقال
(1)"المحلى"(7/ 98).
عطاء: ولا شيء عليه، وقال مالك والشافعي أيضًا: لا يجزئه، ويخرج إلى الحل ثم يعيد عمل العمرة.
ص: وكان من الحجة لهم في ذلك أنه قد يجوز أن يكون النبي عليه السلام قصد إلى التنعيم في ذلك لأنه كان أقرب الحل منها؛ لأن غيره من الحل ليس هو في ذلك كهو، ويحتمل أيضًا أن يكون أراد به التوقيت لأهل مكة في العمرة ولا يجاوزوه لها إلى غيره.
فنظرنا في ذلك فإذا يزيد بن سنان قد حدثنا، قال: ثنا عثمان بن عمر، قال: ثنا أبو عامر صالح بن رستم، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة رضي الله عنهما قالت:"دخل عليَّ رسول الله عليه السلام بسرف وأنا أبكي، فقال: ما ذاك؟ قلت: حضت، قال: فلا تبكي، اصنعي ما يصنع الحاج، فقدمنا مكة، ثم أتينا منى، ثم غدونا إلى عرفة، ثم رمينا الجمرة تلك الأيام، فلما كان يوم النفر [ارتحل] (1) فنزل الحصبة، قالت: والله ما نزلها إلَاّ من أجلي، فأمر عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما فقال: احمل أختك فأخرجها من الحرم، قالت: والله ما ذكر الجعرانة ولا التنعيم، فلتهل بعمرة فكان أدنانا من الحرم التنعيم، فأهللت بعمرة، فطفنا بالبيت وسعينا بين الصفا والمروة ثم أتينا فارتحل".
فأخبرت عائشة أن النبي عليه السلام لم يقصد لما أراد أن يعمرها إلَاّ إلى الحل لا إلى موضع منه بعينه خاصة، وأنه إنما قصد بها عبد الرحمن التنعيم لأنه كان أقرب الحل إليهم، لا لمعنى فيه يَبِينُ من سائر الحل غيره، فثبت بذلك أن وقت أهل مكة لعمرتهم هو الحل، وأن التنعيم في ذلك وغيره سواء، وهذا كله قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.
ش: أي وكان من الدليل والبرهان للآخرين، وأراد بها الجواب عما احتج به أهل المقالة الأولى، بيانه: أن أمره عليه السلام عبد الرحمن أن يعمرها من التنعيم يحتمل
(1) ليست في "الأصل، ك"، والمثبت من "شرح معاني الآثار".
أن يكون قصد به إلى أنه كان أقرب الحل من مكة لأن غير التنعيم ليس كالتنعيم في ذلك، وهو معنى قوله:"لأن غيره من الحل ليس هو في ذلك كهو" أي لأن غير التنعيم ليس هو في القرب كهو أي كالتنعيم، ذلك لأن بين التنعيم الذي هو منتهى حد الحرم قربًا من المدينة وبين مكة نحو من أربعة أميال، وغيره أبعد منه؛ لأنهم ذكروا أن حد الحرم من طريق المدينة ثلاثة أميال، ومن طريق اليمن والعراق وعرفة والطائف وبطن نمرة سبعة أميال، ومن طريق الجعرانة تسعة أميال، ومن طريق جدة عشرة أميال، ومن بطن عرنة أحد عشر ميلًا، فهذا كما رأيت أقرب الحل إلى مكة التنعيم؛ لأن على طريق المدينة، وقال بعضهم: حد الحرم من طريق المدينة ثلاثة أميال عند بيوت السُّقيا، ومن اليمن سبعة أميال عند أضاة لِيفٍ، ومن العراق سبعة أميال على ثنية رحل وهو جبل بالمنقطع، ومن الجعرانة سبعة أميال من شعب ينُسب إلى عبد الله بن خالد بن أسيد، ومن جده عشرة أميال عند منقطع الأعناس، ومن الطائف سبعة أميال عند طرف عرنة ومن بطن عرنه أحد عشر ميلاً، ويحتمل أيضًا أن يكون النبي عليه السلام أراد به التوقيت لأهل مكة في العمرة، والتعيين به كما ذهب إليه أهل المقالة الأولى.
فلما تحقق الاحتمالان نظرنا في ذلك، فوجدنا حديث ابن أبي مليكة، عن عائشة يخبر أنه عليه السلام لما أعمرها لم يقصد إلَاّ إلى الحل الذي هو خارج الحرم ولم يقصد إلى موضع معين خاص، فظهر أن قوله في الحديث الآخر:"أعمرها من التنعيم" إنما كان لكونه أقرب الحل إلى مكة، لا لمعنى آخر في التنعيم مختص به ويمتاز به عن غيره من سائر الحل.
فثبت بذلك أن وقت من كان بمكة للعمرة هو الحل أي حل كان، وأن التنعيم وغيره في ذلك سواء.
ثم إسناد الحديث المذكور صحيح ورجاله رجال الجماعة غير يزيد بن سنان القزاز، وابن أبي مليكة هو عبد الله بن عبيد الله بن أبي مليكة زهير بن عبد الله القرشي أبو محمد الأحول المكي القاضي لابن الزبير والمؤذن له.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا صالح بن رستم، عن ابن أبي مليكة، قال: قالت عائشة رضي الله عنها: "دخل عليَّ النبي عليه السلام وأنا بسرف وأنا أبكي، فقال: ما يبكيك يا عائشة؟ قالت: قلت: يرجع الناس بنسكين ثم أرجع بنسك واحد، قال: ولم ذلك؟ قلت: إني حضت، قال: ذاك شيء كتبه الله على بنات آدم [اصنعي] (2) ما يصنع الحاج، قالت: فقدمنا مكة، ثم ارتحلنا إلى منى، ثم ارتحلنا إلى عرفة، ثم وقفنا مع الناس، ثم وقفت بجمع، ثم رميت الجمرة يوم النحر، ثم رميت الجمار مع الناس تلك الأيام، قالت: ثم ارتحل حتى نزل الحصبة، قالت: والله ما نزلها إلَاّ من أجلي -أو قال ابن أبي مليكة فيها: إلَاّ من أجلها- ثم أرسل إلى عبد الرحمن فقال: احملها خلفك حتى تخرجها من الحرم، فوالله ما قال فتخرجها إلى الجعرانة ولا إلى التنعيم فلتهل بعمرة، قالت: فانطلقنا، فكان أدنانا إلى الحرم التنعيم، فأهللت منه بعمرة ثم أقبلت، فأتيت البيت فطفت به وطفت بين الصفا والمروة، ثم أتيته فارتحل، قال ابن أبي مليكة: وكانت عائشة رضي الله عنها تفعل ذلك بعده".
وهذا الحديث أخرجه الجماعة وغيرهم من أهل السنة والمسانيد بوجوه مختلفة وطرق متعددة.
قوله: "بسرف" أي من سرف -بفتح السين وكسر الراء المهملتين، وفي آخره فاء- موضع بينه وبين مكة ستة أميال، وقيل: سبعة، وقيل: تسعة، وقد مر تفسيره مرة.
قوله: "فلما كان النفر" أي الرحيل، وهو اليوم الثالث من أيام منى.
قوله: "فنزل الحصبة" بفتح الحاء وسكون الصاد المهملتين، أي المحصب وهو موضع بين مكة ومنى، وهو إلى منى أقرب وإليها يضاف، ويعرف بالبطحاء
(1)"مسند أحمد"(6/ 245 رقم 26127).
(2)
في "الأصل، ك": "اصنعي بنا"، ولفظة "بنا" ليست في "مسند أحمد" وهي زائدة في السياق.
والأبطح، وهو خيف بني كنانة، قال الخطابي: هو فم الشعب الذي يجمع إلى الأبطح، وهو منزل النبي عليه السلام في حجته، وبه كانت تقاسمت قريش على بني هاشم وبني عبد المطلب في شأن الصحيفة.
قوله: "الجعرانة" بكسر الجيم وسكون العين، ويروى بكسر العين وتشديد الراء، وهو موضع معروف بين الطائف ومكة وهي إلى مكة أقرب، وقد مر تفسيرها مرة.
قوله: "فكان أدنانا" أي أقربنا وفي رواية "أدناها" أي أقربها وهي الأظهر.
***