الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ص: باب: وقت رمي جمرة العقبة للضعفاء الذين يرخص لهم في ترك الوقوف بمزدلفة
ش: أي هذا باب في بيان وقت رمي جمرة العقبة لمن لم يقف بمزدلفة من أصحاب الأعذار والضعفاء كالنسوان والصبيان، ويسبق الناس إلى الرمي.
ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عامر (ح).
وحدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، عن ابن أبي ذئب، عن شعبة مولى ابن عباس، عن ابن عباس قال:"كنت فيمن بعث به النبي عليه السلام يوم النحر، فرمينا الجمرة مع الفجر".
حدثنا علي بن معبد، قال: ثنا خلاد بن يحيى، قال: ثنا إسماعيل بن عبد الملك ابن أبي الصفيراء، عن عطاء، قال: أخبرني ابن عباس: "أن رسول الله عليه السلام قال للعباس ليلة المزدلفة: اذهب بضعفائنا ونسائنا فليصلوا الصبح بمنى، وليرموا جمرة العقبة قبل أن تصيبهم دفعة الناس، قال: فكان عطاء يفعله بعدما كبُر وضعف".
ش: هذه ثلاث طرق:
الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو العقدي، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب المدني، عن شعبة بن دينار المدني مولى ابن عباس فيه مقال، فعن مالك: ليس بثقة. وعن أبي زرعة: ضعيف الحديث. وقال ابن سعد: لا يحتج به.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): نا حسين، أنا ابن أبي ذئب، عن شعبة، عن ابن عباس "أن النبي عليه السلام بعث به مع أهله إلى منى يوم النحر، فرموا الجمرة مع الفجر".
الثاني: عن يونس بن عبد الأعلى، عن عبد الله بن وهب، عن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ذئب، عن شعبة، عن ابن عباس نحوه".
(1)"مسند أحمد"(1/ 320 رقم 2938).
وأخرجه أحمد أيضًا في "مسنده"(1): عن هاشم، عن ابن أبي ذئب نحوه.
الثالث: عن علي بن معبد بن نوح، عن خلاد بن يحيى بن صفوان السلمي الكوفي شيخ البخاري، عن إسماعيل بن عبد الملك بن أبي الصفيراء المكي فيه مقال، فعن أبي حاتم: ليس بقوي في الحديث. وليس حدّه الترك، وفي "الميزان": وهاه ابن مهدي.
ص: قال أبو جعفر رحمه الله: فذهب قوم إلى أن للضعفة أن يرموا جمرة العقبة بعد طلوع الفجر، واحتجوا بهذا الحديث.
ش: أراد بالقوم هؤلاء: عطاء بن أبي رباح وطاوس بن كيسان ومجاهدًا والنخعي والشعبي وسعيد بن جبير والشافعي؛ فإنهم قالوا: يجوز رمي جمرة العقبة بعد طلوع الفجر للذين يتقدمون الناس.
وقال عياض: مذهب الشافعي رمي الجمرة من نصف الليل، ويتعلق بأن أم سلمة قدمت قبل الفجر وكان عليه السلام أمرها أن تفيض وتوافيه الصبح بمكة، وظاهر هذا عنده تعجيل الرمي قبل الفجر.
ومذهب مالك: أن الرمي يحل بطلوع الفجر. ومذهب الثوري والنخعي أنها لا ترمى إلَاّ بعد طلوع الشمس.
وقال الكاساني: قال الشافعي: إذا انتصفت ليلة النحر دخل وقت الجواز، كما قال في الوقوف بعرفة ومزدلفة، وإذا طلعت الشمس وجب.
وقال الثوري: لا يجوز قبل طلوع الشمس.
ص: وخالفهم في ذلك آخرون فقالوا: لا ينبغي لهم أن يرموها حتى تطلع الشمس، فإن رموها قبل ذلك أجزأتهم وأساءوا.
(1)"مسند أحمد"(1/ 320 رقم 2937).
ش: أي خالف القوم المذكورين جماعة آخرون، وأراد بهم: أبا حنيفة وأبا يوسف ومحمدًا ومالكًا وأحمد وإسحاق، فإنهم قالوا: لا ينبغي أن ترمي جمرة العقبة إلَاّ بعد طلوع الشمس فإن رموها قبل طلوع الشمس أجزأتهم، وقد أساءوا، وعند الثوري والنخعي: لا يجزئهم قبل طلوع الشمس ويعيدون هذه، وقال الكاساني: أول وقته المستحب ما بعد طلوع الشمس، وآخر وقته آخر النهار، كذا قال أبو حنيفة: إن وقت الرمي يوم النحر يمتد إلى غروب الشمس، وقال أبو يوسف: يمتد إلى وقت الزوال، فإذا زالت الشمس يفوت الوقت ويكون فيما بعده قضاء، فإن لم يرم حتى غابت الشمس يرمي قبل الفجر من اليوم الثاني ولا شيء عليه في قول أصحابنا.
وللشافعي قولان:
في قول: إذا غربت الشمس فقد فات الوقت وعليه الفدية.
وفي قول: لا يفوت إلَاّ في آخر أيام التشريق، فإن أخر الرمي حتى طلع الفجر من اليوم الثاني رمى وعليه دم للتأخير في قول أبي حنيفة، وفي قول أبي يوسف ومحمد: لا شيء عليه، وبه قال الشافعي.
وقال مالك في "الموطأ"(1): سمعت بعض أهل العلم يكره رمي الجمرة حتى يطلع الفجر من يوم النحر، ومن رمى فقد حلَّ له النحر.
ص: وقالوا: لم يذكر ابن عباس في حديث شعبة مولاه أنهم رموا الجمرة عند طلوع الفجر بأمر النبي عليه السلام أيَّاهم بذلك، وقد يجوز أن يكونوا فعلوا ذلك بالتوهم منهم أنه وقت الرمي لها، ووقته في الحقيقة غير ذلك، وأما ما رواه عطاء عنه فإنه لم يذكر وقت رمي جمرة العقبة هل هو بعد طلوع الشمس أو قبل ذلك؟
ش: أي قال هؤلاء الآخرون في الجواب عن الحديثين المذكورين، وهما ما رواه شعبة مولى ابن عباس، عن ابن عباس، وما رواه عطاء بن أبي رباح، عن
(1)"موطأ مالك"(1/ 391 رقم 876).
ابن عباس، وهذا لجواب بطريق التنزيل والتسليم، وإلَّا لو قيل: إن هذين الحديثين ضعيفان فلا يحتاج إلى هذا الجواب، فافهم.
ص: واحتج أهل المقالة الأولى لقولهم أيضًا بما حدثنا يونس، قال: ثنا ابن وهب، قال: أخبرني يونس، عن ابن شهاب، عن سالم:"أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان يقدم ضعفة أهله فيقفون عند المشعر الحرام والمزدلفة بليل فيذكرون الله عز وجل ما بدا لهم، ثم يدفعون قبل أن يقف الإِمام وقبل أن يدفع، فمنهم من يقدم منى لصلاة الفجر، ومنهم من يقدم بعد ذلك، فإذا قدموا رموا الجمرة، وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: "رخص لأولئك رسول الله عليه السلام".
ش: إسناده صحيح، ورجاله كلهم رجال الصحيح.
فيونس الأول هو ابن عبد الأعلى شيخ مسلم أيضًا.
ويونس الثاني هو ابن يزيد الأيلي.
وابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري.
وأخرجه البخاري (1): نا يحيى بن بكير، نا الليث، عن يونس، عن ابن شهاب قال: سالم: "كان عبد الله بن عمر يقدم ضعفة أهله
…
إلى آخره".
وأخرجه مسلم (2) أيضًا: عن أبي الطاهر وحرملة بن يحيى كلاهما عن ابن وهب، عن يونس
…
إلى آخره نحوه.
قوله: "ضعفة أهله". هو جمع ضعيف، وأراد بهم النساء والصبيان.
قوله: "والمزدلفة". بواو العطف في رواية الطحاوي، وفي روايتي البخاري ومسلم:"بالمزدلفة" بالباء الظرفية.
فعلى الأول "الواو" تفسيرية، فيكون المشعر الحرام والمزدلفة شيئًا واحدًا.
(1)"صحيح البخاري"(2/ 602 رقم 1592).
(2)
"صحيح مسلم"(2/ 941 رقم 1295).
وعلى الثاني يكون المشعر الحرام اسمًا لموضع الوقوف في المزدلفة، فافهم.
قوله: "ما بدا لهم" أي ما ظهر لهم، وأراد به: ما تيسر لهم.
ص: فكان من الحجة عليهم لأهل المقالة الأخرى أنه لم يذكر في هذا الحديث عن ابن عمر أن رسول الله عليه السلام رخص لهم في رمي جمرة العقبة حينئدٍ، وقد يجوز أن تكون تلك الرخصة التي كان رخصها لهم هي الدفع عن مزدلفة بليل خاصة.
ش: أي فكان من الدليل والبرهان على أهل المقالة الأولى، وأراد به الجواب عن الحديث المذكور، وهو ظاهر.
ص: واحتجوا أيضًا في ذلك بما حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسدٌ، قال: ثنا سعيد بن سالم، عن ابن جريج، قال: أخبرني عبد الله مولى أسماء، عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما أنها قالت:"أي بني، هل غاب القمر ليلة الجمع؟ قال: قلت: لا، فصلت ساعة، ثم قالت: أي بني هل غاب القمر -وقد غاب-؟ فقلت: نعم، قالت: فارتحلوا إذا، فارتحلنا، ثم مضينا بها حتى رمت الجمرة، ثم رجعت فصلت الصبح في منزلها، فقلت لها: أي هنتاه، لقد غَلَّسْنَا، قالت: كلّا يا بني، إن النبي عليه السلام أذن للظعن".
فقد يحتمل أن يكون أراد بالتغليس في الدفع من مزدلفة، ويجوز أن يكون أراد بالتغليس في الرمي، فأخبرته أن نبي الله عليه السلام أذن لهم في التغليس لمَّا سألها عن التغليس به من ذلك.
ش: أي واحتج أهل المقالة الأولى أيضًا فيما ذهبوا إليه بحديث أسماء رضي الله عنها، وإسناده صحيح.
وسعيد بن سالم القداح أبو عثمان الخراساني، قال ابن معين: ليس به بأس.
وقال أبو حاتم: محله الصدق. روى له أبو داود.
وابن جريج: هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي.
وأخرجه البخاري (1): نا مسدد، عن يحيى، عن ابن جريج، قال: حدثني عبد الله مولى أسماء، عن أسماء: "أنها نزلت ليلة جمع عند المزدلفة، فقامت تصلي، فصلت ساعة ثم قالت: يا بني، هل غاب القمر؟ قلت: لا
…
إلى آخره نحوه".
وأخرجه مسلم (2): عن محمد بن أبي بكر المقدمي، عن يحيى القطان، عن ابن جريج
…
إلى آخره نحوه.
قوله: "أي بني". يعني يا بني.
قوله: "أي هنتاه". أصله من الهن، يكنى به عن الشيء، والأنثى هَنة، فإذا وصلتها بالهاء قلت: يا هَنتاه، ومن العرب من يقول: يا هَنتوه، وللرجل: يا هناه، ولا يستعمل كذا إلَاّ في النداء، ومعنى يا هَنْتَاه: يا هذه، وقال صاحب "العين": إذا أدخلوا التاء في هن فتحوا النون فقالوا: يا هَنَة، وإن زادوا التاء سكنوا النون فقالوا: يا هَنْتَاه ويا هَنْتَوه.
وقال أبو حاتم: يقال للمرأة: يا هنة أقبلي استخفافًا، فإذا ألحقت الزوائد قلت: يا هنتاه للمرأة ويا هناه للرجل.
وقال السفاقسي: ضبط بإسكان النون وبفتحها مثل قوله: يا هذه، من غير أن يراد به مدح ولا ذم.
وقال ابن الأثير: بضم الهاء الأخيرة وتسكن، وفي التثنية هَنْتان، وفي الجمع: هنات، وفي المذكر هَنٌ وهنان وهنون، ولك أن تلحقها الهاء لبيان الحركة فتقول: يا هَنَّة، وأن تشبع الحركة فتصير ألفًا فتقول: يا هَنَاه، ولك ضم الهاء فتقول: يا هَنَاهُ أقبل، وقال أبو نصر: هذه اللفظة مختصة بالنداء، وقيل: معنى يا هَنْتَاَهُ: يا بلهاء كأنها نسبة إلى قلة المعرفة بمكائد الناس وشرورهم.
وقال أبو زيد: تلغى الهاء في المدح فيقال: يا هنا، هلم.
(1)"صحيح البخاري"(2/ 603 رقم 1595).
(2)
"صحيح مسلم"(2/ 940 رقم 1291).
قوله: "لقد غَلَسْنَا". بتخفيف اللام وأراد به: رمينا بالغلس، والغلس آخر الليل حين يشتد سواده. قاله أبو زيد، ومنه غَلَّسْنَا أي فعلنا ذلك وأتيناه في ذلك الوقت.
قوله: "أذن للظُّعُن". بضم الظاء والعين وبإسكانها: جمع ظعينة وهي المرأة في الهودج، سميت به على حد تسمية الشيء باسم الشيء لقربه منه، وقيل: سميت بذلك؛ لأنها تظعن مع زوجها، ولا تسمى ظعينة إلَاّ وهي في هودج، وعن ابن السكيت: كل امرأة ظعينة، كانت في هودج أو غيره. وقال ابن سيده: الجمع ظعائن وظُعُن وأَظْعَان وظَعُنَات الأخيرتان جمع الجمع، وفي "الجامع" قالوا: الظعن والأظعان: الهوادج كانت فيها نساء أو لم تكن، ولا يقال: ظُعُن إلَاّ للإِبل التي عليها الهوادج.
وقيل: الظعن الجماعة من النساء والرجال، وفي "المحكم": الظُعُن جمع ظاعن، والظَّعَن اسم للجمع، والظعون من الإِبل الذي تركبه المرأة خاصة. وتقول: ظَعَنَ يَظْعن ظَعِينًا وظُعونًا ذهب، وأظعنه هو، والظعينة: الجمل يظعن عليه، والظعينة المرأة في الهودج.
قوله: "فقد يحتمل
…
إلى آخره" جواب عن احتجاجهم بالحديث المذكور، وهو ظاهر.
ص: فكان من الحجة للذين ذهبوا إلى أن وقت رميهم بعد طلوع الشمس ما حدثنا ابن أبي داود، قال: ثنا المقدمي، قال: ثنا فضيل بن سليمان، قال: ثنا موسى بن عقبة، قال: ثنا كريب، عن ابن عباس:"أن النبي عليه السلام يأمر نساءه وثقله صبيحة جمع أن يفيضوا مع أول الفجر بسوادٍ، ولا يرموا الجمرة إلَاّ مصبحين".
ففي هذا الحديث أن رسول الله عليه السلام أمرهم بالإِفاضة مع أول الفجر بسواد، ولا يرموا حتى يصبحوا، فدل ذلك على أن الوقت الذي أمرهم بالرمي فيه ليس أول طلوع الفجر، ولكن أوله الإِصباح الذي بعد ذلك.
حدثنا محمد بن خزيمة، ثنا حجاج، قال: ثنا حماد، قال: ثنا الحجاج، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس رضي الله عنهما:"أن رسول الله عليه السلام بعثه في الثقل، وقال: لا ترموا الجمار حتى تصبحوا".
ش: من جملة ما احتجت به أهل المقالة الثانية حديث ابن عباس هذا.
وأخرجه من طريقين:
الأول: إسناده صحيح، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن محمد بن أبي بكر بن علي بن عطاء بن مقدم المقدَّمي -بفتح الدال- البصري شيخ البخاري ومسلم. والكل رجال الصحيح ما خلا شيخ الطحاوي.
وأخرجه البيهقي في "سننه"(1): من حديث فضيل بن سليمان، عن موسى بن عقبة، عن كريب
…
إلى آخره نحوه.
الثاني: عن محمد بن خزيمة، عن حجاج بن منهال الأنماطي شيخ البخاري، عن حماد بن سلمة، عن حجاج بن أرطاة النخعي متكلم فيه، ولكن احتجت به الأربعة، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم بن بَجَرَة -بالباء والجيم والراء المفتوحات- مولى عبد الله بن الحارث، ويقال له: مولى عبد الله بن عباس؛ للزومه له، روى له الجماعة سوى مسلم.
وأخرجه الطبراني (2): من حديث الحجاج بن أرطأة، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس ولفظه:"لا ترموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس".
قوله: "وثقله" بفتح الثاء المثلثة والقاف، وهو متاع المسافر.
قوله: "أن يفيضوا" أي بأن يفيضوا، أي بالإِفاضة؛ لأن "أن" مصدرية.
قوله: "مصبحين" حال من الضمير الذي في: "ولا ترموا".
(1)"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 132 رقم 9350).
(2)
"المعجم الكبير"(11/ 387 رقم 12078).
قوله: "فدل ذلك" أي أمر النبي عليه السلام إياهم بأن لا يرموا إلَاّ مصبحين على أن الوقت الذي أمرهم برمي الجمرة فيه ليس أول طلوع الفجر، ولكن أوله الإِصباح الذي يكون بعد ذلك.
ص: فاحتمل أن يكون ذلك الإِصباح هو طلوع الشمس، واحتمل أن يكون قبل ذلك، فنظرنا في ذلك فإذا ابن أبي داود قد حدثنا، قال: ثنا أحمد بن عبد الله بن يونس، قال: ثنا أبو بكر بن عياش، عن الأعمش، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال: قال رسول الله عليه السلام لبني هاشم: "يا بني أخي، تعجلوا قبل زحام الناس، ولا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس".
حدثنا سليمان بن شعيب، قال: ثنا خالد بن عبد الرحمن، قال: ثنا المسعودي، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال:"قدَّم رسول الله عليه السلام ضعفة أهله ليلة الجمع قال: فأتى رسول الله عليه السلام إنسانًا منهم، فحرك فخذه وقال: لا ترمين جمرة العقبة حتى تطلع الشمس".
حدثنا محمد بن عمرو بن يونس قال: ثنا يحيى بن عيسى (ح).
وحدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا محمد بن كثير (ح).
وحدثنا الحسين بن نصر، قال: ثنا أبو نعيم، قالوا: ثنا سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن الحسن العرني، عن ابن عباس، قال:"قدمنا رسول الله عليه السلام أغيلمة بني عبد المطلب من جمع بليل، فجعل يلطح أفخاذنا ويقول: أي بني، لا ترموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس".
حدثنا فهد، قال: ثنا محمد بن عمران بن أبي ليلى، قال: ثنا أبي، قال: ثنا ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس، عن رسول الله عليه السلام مثله، غير أنه قال:"وكان يأخذ بعضد كل إنسان منا".
حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا أبو عاصم، عن سفيان، عن سلمة بن كهيل، عن الحسن العُرني، عن ابن عباس قال:"أفضنا من جمع، فلما أن صرنا بمنى قال رسول الله عليه السلام: لا ترموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس".
فبين رسول الله عليه السلام لهم في هذا الحديث وقت الإِصباح الذي أمرهم بالرمي فيه في الحديث الذي في الفصل الذي قبل هذا، وأنه بعد طلوع الشمس.
ش: لما دل حديث كريب عن ابن عباس أن وقت الرمي ليس أول طلوع الفجر ولكن أوله الإِصباح الذي بعده؛ شرع يبين المراد من الإِصباح ما هو؟ فإنه يحتمل أن يكون طلوع الشمس، ويحتمل أن يكون قبل طلوعها، ولكن وجدت روايات عن ابن عباس أيضًا تدل صريحًا على أن المراد من ذلك الإِصباح هو طلوع الشمس، وهو ما رواه عن النبي عليه السلام:"لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس" فدل ذلك على أن معنى قوله عليه السلام في حديث كريب: "حتى تصبحوا" أي حتى تطلع الشمس عليكم؛ وذلك لأن الإِصباح هو الدخول في الصباح، والصباح في اللغة نقيض المساء، وهو وإن كان يتناول ما قبل طلوع الشمس من حين طلوع الفجر ولكن الحديث بيَّن أن المراد منه طلوع الشمس.
ثم إنه أخرج تلك الروايات عن ابن عباس من سبع طرق:
الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي، عن أحمد بن عبد الله بن يونس شيخ البخاري، عن أبي بكر بن عياش بن سالم الكوفي الحناط -بالنون- المقرئ، قيل: اسمه محمد، وقيل: عبد الله، وقيل: سالم، وقيل: شعبة، وقيل غير ذلك، روى له الجماعة -مسلم في مقدمة كتابه- عن سليمان الأعمش، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم بن بجرة. وهذا إسناد صحيح.
وأخرجه أحمد في "مسنده"(1): ثنا أسود بن عامر، ثنا أبو بكر بن عياش، عن الأعمش، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال:"قال رسول الله عليه السلام ليلة المزدلفة: يا بني أخي -لبني هاشم- تعجلوا قبل زحام الناس، ولا يرمين أحد منكم العقبة حتى تطلع الشمس".
(1)"مسند أحمد"(1/ 371 رقم 3513).
الثاني: عن سليمان بن شعيب الكيساني، عن خالد بن عبد الرحمن الخراساني بي محمد المروذي، وثقه يحيى وروى عنه، وروى له أبو داود والنسائي.
عن المسعودي، وهو عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود الكوفي، وثقه ابن نمير وابن سعد، وقال النسائي: ليس به بأس. وروى له الأربعة، واستشهد به البخاري.
وأخرجه الترمذي (1): عن أبي كريب، عن المسعودي
…
إلى آخره نحوه، وقال: حديث حسن صحيح.
الثالث: عن محمد بن عمرو بن يونس التغلبي السنوسي، عن يحيى بن عيسى ابن عبد الرحمن النهشلي الكوفي الجزار، روى له الجماعة سوى النسائي، لكن البخاري في الأدب، عن سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل بن حصين الحضرمي الكوفي أحد مشايخ أبي حنيفة، عن الحسن بن عبد الله العرني البجلي الكوفي، روى له الجماعة سوى الترمذي، لكن البخاري مقرونًا بغيره، وقال المنذري: الحسن العرني ثقة، احتج به مسلم غير أن حديثه عن ابن عباس منقطع. وقال الإِمام أحمد: الحسن العرني لم يسمع من ابن عباس شيئًا. وقال يحيى بن معين: يقال: إنه لم يسمع من ابن عباس.
وأخرجه النسائي (2): أنا محمد بن عبد الله بن يزيد المقرىء، ثنا سفيان، عن سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل، عن الحسن العرني، عن ابن عباس قال:"بعثنا رسول الله عليه السلام أغيلمة بني عبد المطلب على حمرات، يلطح أفخاذنا ويقول: أبينيَّ، لا ترموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس".
الرابع: عن إبراهيم بن مرزوق، عن محمد بن كثير العبدي البصري شيخ البخاري وأبي داود، عن سفيان الثوري، عن سلمة
…
إلى آخره.
(1)"جامع الترمذي"(3/ 240 رقم 893).
(2)
"المجتبى"(5/ 270 رقم 3064).
وأخرجه أبو داود (1): نا محمد بن كثير، قال: أنا سفيان، قال: حدثني سملة ابن كهيل، عن الحسن العُرني، عن ابن عباس قال:"قدَّمنا رسول الله عليه السلام ليلة المزدلفة أغيلمة بني عبد المطلب على حمرات، وجعل يلطح أفخاذنا، ويقول: أبَنيّ، لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس".
الخامس: عن الحسين بن نصر بن المعارك، عن أبي نعيم الفضل بن دكين شيخ البخاري، عن سفيان الثوري
…
إلى آخره.
وأخرجه ابن ماجه (2): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، وعلي بن محمد، قالا: ثنا وكيع، نا مسعر وسفيان، عن سلمة بن كهيل، عن الحسن العرني، عن ابن عباس قال:"قدمنا رسول الله عليه السلام أغيلمة بني عبد المطلب على حمرات لنا من جمع، فجعل يلطح أفخاذنا ويقول: أبنيّ، لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس". زاد سفيان فيه: "ولا إخال أحدًا يرميها حتى تطلع الشمس".
السادس: عن فهد بن سليمان الكوفي، عن محمد بن عمران بن أبي ليلى، وهو محمد بن عمران بن محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الأنصاري الكوفي، عن أبيه عمران بن محمد، عن جده محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى الفقيه الكوفي قاضيها فيه مقال، روى له الأربعة، عن الحكم بن عتيبة، عن مقسم بن بجرة، عن ابن عباس.
وأخرجه الطبراني في "الكبير"(3): ثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، ثنا محمد بن عمران بن أبي ليلى، حدثني أبي، ثنا ابن أبي ليلى، عن الحكم، عن مقسم، عن ابن عباس قال:"بعثني النبي عليه السلام من مزدلفة إلى منى في ضعفة أهل بيته، وأخذ بعضد كل إنسان منا فقال: لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس".
(1)"سنن أبي داود"(2/ 194 رقم 1940).
(2)
"سنن ابن ماجه"(2/ 1007 رقم 3025).
(3)
"المعجم الكبير"(11/ 385 رقم 12073).
السابع: عن إبراهيم بن مرزوق، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد، عن سفيان الثوري، عن سلمة بن كهيل
…
إلى آخرة".
قوله: "أغيلمةً". بالنصب على أنه بدل من الضمير المنصوب في قوله: "قدمنا" وقد عرف أن المظهر يبدل من المضمر الغائب دون المتكلم والمخاطب، وهو من أقسام بدل الكل من الكل، وقد عرف أيضًا أن المبدل هو الذي يعتمد بالحديث، وإنما يذكر الأول لنحو من التوطئة، ولمجموعها فضل تأكيد وتبيين لا يكون في الإِفراد.
"والأغيلمة" تصغير أغلمة جمع غلام في القياس، ولم يرد في جمعه أغلمة وإنما قالوا: غلمة، ومثله: أصيبية تصغير صِبْيَة.
وأراد بالأغيلمة: الصبيان، ولذلك صغرهم، قال الجوهري: الغلام معروف، وتصغيره غليم، والجمع غلمة وغلمان، واستغنوا بالغلمة عن الأغلمة، وتصغير الغلمة أغيلمة على غير مكبره، كأنهم صغروا أغلمة وإن كانوا لم يقولوه، وبعضهم يقول: غليمة على القياس.
قوله: "من جمع". أي من مزدلفة.
قوله: "بليل". أي في ليل.
قوله: "فجعل يلطح" بالطاء والحاء المهملتين، قال أبو داود: اللطح: الضرب بالكف، وقال الجوهري: اللطح مثل الحَطْأ وهو الضرب اللين على الظهر ببطن الكف، وقد لطحه، ويقال أيضًا: لطح به إذا ضرب به الأرض.
قوله: "أي بني" يعني: يا بني، وأصله يا بنون، فلما أضيف إلى "ياء" المتكلم سقطت النون، فصار يا بنوي اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء في الياء، فصار يا بَنيُّ بضم النون، ثم أبدلت من الضمة كسرة لأجل الياء فصار يا بَني بفتح الياء وكسر النون، ثم دخلت عليه ها هنا حرف النداء وهو الهمزة فقيل: أبَنيَّ يعني: يا بَنيّ، وفي رواية
النسائي وابن ماجه: "أُبَيْنِيَّ" بضم الهمزة وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف وكسر النون وتشديد الياء، قال الأزهري: تصغير بنين، قلت: تحقيقه أنه لما صُغِّرَ عادت الهمزة، فصار: أبنيون، ولما أضيف إلى ياء المتكلم صار: أبينوي؛ لأن النون سقطت للإِضافة، ففعل به ما ذكرنا الآن فصار: أبيني، والتقدير: يا أبيني حذف حرف النداء للعلم به، وقال الجوهري: الابن أصله بَنَوٌ والذاهب منه "واو" كما ذهب من أب وأخ، والتصغير بني وتصغير أبناء أبيناء وإن شئت أبينون على غير مكبره، قال الشاعر:
مَنْ يَكُ لا ساءَ فقد ساءني
…
تَركُ أُبَيْنِيكَ إلى غَيرِ راعِ
كأن واحده ابن، مقطوع الألف، فصغره فقال: أبينون
قوله: "على حُمُرات" بضم الحاء المهملة والميم جمع صحة لحمر الذي هو جمع حمار.
ص: فهذا الحديث هو أولى من حديث شعبة مولى ابن عباس، لأن هذا قد تواتر عن ابن عباس بأمر رسول الله عليه السلام إياهم على ما ذكرنا.
ش: هذا جواب عما يقال: إن حديثي ابن عباس متعارضان ظاهرًا، فلا يتم الاستدلال بهما، فقال: هذا الحديث أولى؛ لأنه صحيح الإِسناد ورواته ثقات، وكثرت طرقه وهو معنى قوله:"تواتر عن ابن عباس بأمر رسول الله عليه السلام إياهم" بخلاف حديث شعبة مولى ابن عباس المذكور في أول الباب، فإنه ضعيف على ما ذكرنا، وليس فيه أمرٌ من النبي عليه السلام بذلك في طريقيه على ما مرَّ.
ص: ولأن الإِفاضة من مزدلفة إنما رخص للضعفاء فيها ليلاً، لئلا تصيبهم حطمة الناس في وقت إفاضتهم، فإذا صاروا إلى منى أمكنهم من رمي جمرة العقبة بعد طلوع الشمس قبل مجيء الناس ما يمكن غير الضعفاء إذا جاءوا؛ لأن غير الضعفاء إنما يأتونهم في وقت ما يفيضون وذلك قبل طلوع الشمس، هكذا أمرهم رسول الله عليه السلام.
ش: هذا دليل عقلي في ترجيح الحديث المذكور على الحديث الأول وهو ظاهر. "والحَطْمة" بفتح الحاء وسكون الطاء: الدفعة، ومنه حطمة السيل وهي دفعته.
ص: حدثنا ابن مرزوق، قال: ثنا وهب، قال: ثنا شعبة، عن أبي إسحاق (ح).
وحدثنا يزيد بن سنان، قال: ثنا أبو عاصم، عن سفيان، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، قال:"كنا وقوفًا مع عمر رضي الله عنه بجمع، فقال: إن أهل الجاهلية كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس، ويقولون: أَشْرِق ثبير، وإن رسول الله عليه السلام خالفهم فأفاض قبل طلوع الشمس".
حدثنا ربيع المؤذن، قال: ثنا أسد (ح).
وحدثنا فهد، قال: ثنا أبو غسان، قالا: ثنا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، قال:"كنا وقوفًا مع عمر رضي الله عنه بجمع فقال: إن أهل الجاهلية كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس، ويقولون: أشرِق ثبير كيما نُغِير، وإن رسول الله عليه السلام خالفهم فأفاض قبل طلوع الشمس بقدر صلاة المسافر صلاة الصبح".
فلما كان غير الضعفاء إنما يفيضون من مزدلفة قبل طلوع الشمس بهذه المدة اليسيرة؛ أمكن الضعفاء الذين تقدموهم إلى منى أن يرموا الجمرة بعد طلوع الشمس قبل مجيء الآخرين إليهم، فلم يكن للرخصة للضعفاء أن يرموا قبل طلوع الشمس معنى؛ لأن الرخصة إنما تكون في مثل هذا للضرورة، وهذا لا ضرورة فيه، فثبت بذلك ما ذكرنا من حديث ابن عباس الذي رويناه في تأخير جمرة العقبة إلى طلوع الشمس.
وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله.
ش: هذه أربع طرق صحاح:
الأول: عن إبراهيم بن مرزوق، عن وهب بن جرير بن حازم، عن شعبة بن الحجاج، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي، عن عمرو بن ميمون الأودي الكوفي.
وأخرجه البخاري (1): ثنا حجاج بن منهال، نا شعبة، عن أبي إسحاق، سمعت عمرو بن ميمون يقول:"شهدت عمر رضي الله عنه صلى بجمع الصبح، ثم وقف فقال: إن المشركين كانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس، ويقولون: أشرق ثبير، وإن النبي عليه السلام خالفهم ثم أفاض قبل أن تطلع الشمس".
الثاني: عن يزيد بن سنان القزاز، عن أبي عاصم النبيل الضحاك بن مخلد شيخ البخاري، عن سفيان الثوري، عن أبي إسحاق
…
إلى آخره.
وأخرجه أبو داود (2): نا ابن كثير، قال: أنا سفيان، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، قال: قال عمر بن الخطاب: "كان أهل الجاهلية لا يفيضون حتى يروا الشمس على ثبير، فخالفهم النبي عليه السلام فدفع قبل طلوع الشمس".
الثالث: عن ربيع بن سليمان المؤذن صاحب الشافعي، عن أسد بن موسى، عن إسرائيل بن يونس، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله، عن عمرو بن ميمون
…
إلى آخره.
وأخرجه ابن ماجه (3): ثنا أبو بكر بن أبي شيبة، ثنا أبو خالد الأحمر، عن حجاج، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، قال: "حججنا مع عمر بن الخطاب، فلما أردنا أن نفيض من المزدلفة قال: إن المشركين كانوا يقولون: أشرِق
(1)"صحيح البخاري"(2/ 604 رقم 1600).
(2)
"سنن أبي داود"(2/ 194 رقم 1938).
(3)
"سنن ابن ماجه"(2/ 1006 رقم 3022).
ثبير كيما نغير، وكانوا لا يفيضون حتى تطلع الشمس، فخالفهم رسول الله عليه السلام فأفاض قبل طلوع الشمس".
الرابع: عن فهد بن سليمان، عن أبي غسان مالك بن إسماعيل النهدي شيخ البخاري، عن إسرائيل بن يونس، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون.
وأخرجه الدارمي في "سننه"(1): نا أبو غسان مالك بن إسماعيل، نا إسرائيل، عن أبي إسحاق، عن عمرو بن ميمون، عن عمر بن الخطاب قال:"كان أهل الجاهلية يفيضون من جمع بعد طلوع الشمس، وكانوا يقولون: أشرِق ثبير، وإن رسول الله عليه السلام خالفهم فدفع قبل طلوع الشمس بقدر صلاة [المسفرين] (2). أو قال: المسفرين -بصلاة الغداة".
وأخرجه الترمذي (3) والنسائي (4) وأحمد (5) والبيهقي (6) وأبو يعلى وغيرهم أيضًا.
قوله: "أشرق ثبير" أي: يا ثبير، حذف حرف النداء منه، وأَشرِق بفتح الهمزة من أشرق يشرق إشراقًا، قال الهروي: معناه: ادخل أيها الجبل في الشروق، كما يقال: أجنب إذا دخل في الجنوب، وأشمل إذا دخل في الشمال، ويقال: إشرق بكسر الهمزة من شَرَق أو أضاء وفيه نظر؛ لأن شرق بفتح عين مضارعه يشُرق بالضم والأمر منه لا يجيء إلَاّ بضم الهمزة كما تقول في نصر ينصر انْصُر، فعلى هذا قول القائل ينبغي أن يقال: اشْرُق نحو انصر.
و"ثبير" بفتح الثاء المثلثة وكسر الباء الموحدة بعدها الياء آخر الحروف وراء: هو
(1)"سنن الدارمي"(2/ 83 رقم 1890).
(2)
في "الأصل، ك": "المشرقين" والمثبت من "سنن الدارمي".
(3)
"جامع الترمذي"(3/ 242 رقم 896).
(4)
"المجتبى"(5/ 265 رقم 3047).
(5)
"مسند أحمد"(1/ 50 رقم 358).
(6)
"سنن البيهقي الكبرى"(5/ 124 رقم 9302).
جبل المزدلفة على يسار الذاهب إلى منى وقيل: هو أعظم جبال مكة، عُرف برجل من هذيل كان اسمه ثبيرًا دفن فيه، وذكر ياقوت أن بمكة سبعة جبال كل منها يسمى ثبيرًا:
الأول: أعظمها وأكبرها بينها وبين عرفة وهو المراد من قولهم: أشرِق ثبير كيما نغير، قال الأصمعي: هو ثبير حراء. وقال البكري: ويقال له: ثبير الأبيرة.
الثاني: ثبير الزنج؛ لأن الزنج كانوا يلعبون عنده.
الثالث: ثبير الأعرج.
الرابع: ثبير الخضراء.
الخامس: ثبير النصع، وهو جبل المزدلفة على يسار الذاهب إلى منى.
السادس: ثبير عينا.
السابع: ثبير الأحدب، قال البكري: بالإِضافة، وحكى ابن الأنباري أنه على النعت، وقال الزمخشري: ثبيران جبلان يفترقان تصب بينهما أفاعيه وهي واد يصب من منى، يقال لأحدهما: ثبير عينا، وللآخر ثبير الأعرج.
قوله: "كيما نغير" أي ندفع ونفيض للنحر وغيره، وذلك من قولهم: أغار الفرس إغارة الثعلب، وذلك إذا دفع وأسرع في دفعه، وقال ابن الأثير: أي نذهب سريعًا، يقال: أغار يغير إذا أسرع في العدو، وقيل: أراد نغير على لحوم الأضاحي من الإِغارة النهب، وقيل: ندخل في الغَوْر وهو المنخفض من الأرض على لغة من قال: أغار إذا أتى الغور.
ثم هو بنصب الراء؛ لأن "أن" مقدرة بعد "كي"، ولا تظهر إلَاّ في الضرورة، قال:
فقالت أَكُل الناس أصبحت مانحا
…
لسانك كيما أن تفر وتخدعا
وكي تستعمل على ثلاثة أوجه:
أحدهما: أن يكون اسمًا مختصرًا من كيف، نحو قوله:
كي تجنحون إلى سلم وما ثيرت (1)
أراد: كيف تجنحون فحذف الفاء.
الثاني: أن تكون بمنزلة لام التعليل.
الثالث: أن تكون بمنزلة "أن" المصدرية، معنى وعملاً بخبر قوله تعالى:{لِكَيْلَا تَأْسَوْا} (2) وعن الأخفش: أن "كي" جَارَّة دائمًا، وأن النصب بعدها بـ "أن" ظاهرة أو مضمرة، وقد قال بعضهم: إن نُغير ها هنا بسكون الراء؛ لأجل المناسبة لثبير.
قلت: ثبير أصله بضم الراء؛ لأنه منادى مفرد معرفة، فيبنى على الضم، ولكن كأنهم سكنوه لأجل الوقت، فلما سكنوه سكنوا نغير أيضاً إقامة للسجع في كلامهم؛ لأنه مطلوب عندهم.
قوله: "فلما كان الضعفاء
…
إلى آخره". من كلام الطحاوي.
…
(1) كذا جاء شطر هذا البيت في "الأصل، ك"، وفي "مغني اللبيب" (1/ 241):
كي تجنحون إلى سِلْم وما ثئرت
…
قتلاكم ولظى الهيجاء تضطرم
(2)
سورة الحديد، آية:[23].