الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجزء الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم
الفن الثانى فى الإنسان وما يتعلق به
وهذا الفن قد اشتمل على معان مؤنسة للسامع، مشنّفة للمسامع؛ مرصّعة لصدور الطروس والدفاتر، جاذبة لنوافر القلوب والخواطر؛ واضحة البيان، معربة عن وصف الإنسان.
فمن تشبيهات فائقه، وغزليّات رائقه؛ وأنساب طاهره، ووقائع ظاهره؛ وأمثال امتدّت أطنابها، وتبينت أسبابها؛ وأوابد جعلتها العرب لها عادة ودليلا، واتخذتها ضلالة وتبديلا؛ ونصبتها أحكاما ونسكا، وصيرتها عبادة ومداواة فتبوّأت بها من النار دركا؛ وشى من أخبار الكهّان، وزجر عبدة الأوثان؛ وكنايات نقلت الألفاظ إلى معان أبهى من معانيها، وبلغت النفوس بعذوبتها غاية أمانيها؛ وألغاز غوّرت بالمعانى وأنجدت، وأشارت إليها بالتأويل حتّى إذا قرّبتها من الأفهام أبعدت؛ ومدائح رفعت للممدوح من الفضل منارا، وأهاجى صيّرت المهجوّ من القوم يتوارى؛ ومجون ترتاح إليها عند خلوتها النفوس، ويبتسم عند سماعها ذو الوجه العبوس؛ وشىء مما قيل في الخمر والمعاقره، وأرباب الطّرب وذوى المسامره؛ وتهان نشرت من البشائر ملاء، ورفعت من المخامد لواء؛ وتعاز حسرت نقاب الحسرات، وأبرزت مصون العبرات.
وأوردت فيه نبذة من الزهد والإنابه، وجملة من الدعوات المستجابه.
وطرّزته بذكر ملك، مدّ رواق العدل، ونشر لواء الفضل؛ وقام بفروض الجهاد وسننه، وأراع العدوّ في حالتى يقظته ووسنه؛ وعمّ الأولياء بمواصلة برّه وموالاة نواله، وقهر الأعداء بمراسلة سهامه ومناضلة نصاله؛ وشمل رعاياه بعدله وجوده، واردف سراياه بجيوشه وجنوده، فهو الملك الذى جمع بين شدّة البأس، ولين النّدى، وأزال مرارة الإياس، بحلاوة العطا.
وما يحتاج إليه لإقامة المملكة: من نائب ناهيك به من نائب!، يكفّ بعزمه كفّ الحوادث ويفلّ بحزمه ناب النوائب؛ وينصف الضعيف من القوىّ، ويفرّق ببديهته بين المريب والبرىّ؛ ويتفقد أحوال الجيوش ويصرف همته إليهم، ويجعل اهتمامه بهم وفكرته فيهم وتعويله عليهم؛ إلى غير ذلك من استكمال عددها، والمطالبة بعرض خيولها وإصلاح عددها؛ وسدّ ثغور الممالك، وضبط الطرق وتسهيل المسالك؛ وقمع المفسدين، وإرغام الملحدين؛ وبث السّرايا، وتيسير الأرزاق والعطايا.
ووزير يشيّد قواعد ملكه بحسن تدبيره وجميل سداده، ويعمل فكره فيما يستقرّ بسببه نظام الملك على مهاده؛ ويأمر بتحصيل الأموال من جهات حلّها، ويقرّ مناصب الدّولة الشريفة في الكفاة من أهلها؛ ويتصفّح الأقاليم والمعاملات والأعمال، ويستكفى لمباشرتها أمناء النظّار ومحقّقى المستوفين وكفاة العمال.
وقائد جيوش إن انتدبه للقاء عدوّ بدر الكتائب، وأنهل من دمائهم السّمر العوالى وعلا هامهم بالبيض القواضب؛ تتبعه عساكر تنفر قلوبهم عن الفرار، ويحلّوا من قاتلهم من أعداء الله دار البوار؛ يدّرعون السابريّة [1] الذوائل، ويعتقلون السّمهرية الذّوابل؛
[1] هى دروع دقيقة النسج في إحكام، والذوائل جمع ذائلة وهى الطويلة «قاموس» .
ويتقلدون المشرفية البواتر؛ ويتنكّبون القسىّ النواتر [1] ، ويمتطون من كل جواد صفا منه أديمه وعيناه وحوافره، واتسع منه جوفه وجبهته ومناخره؛ وطال منه أنفه وعنقه وذراعه، وقصر منه ظهره وساقه وعسيبه وامتدّ عند الحضر باعه: فهو من أكرم الأصائل، والمعنىّ بقول القائل:
وقد أغتدى قبل ضوء الصّباح
…
وورد القطا في الغطاط الحثاث.
بصافى الثّلاث عريض الثلاث
…
قصير الثلاث طويل الثّلاث.
وذكرت ما ورد في فضل الرباط والجهاد، وما أعدّ الله تعالى من الثواب لمن أنفق فيه الطّوارف والتّلاد؛ وبذل الكريمين:(النفس والمال) لحسن المآل؛ وهجر الحبيبين: (الوطن والعيال) لبلوغ الآمال.
ومن قاض يحكم بين الناس بالعدل، ويقدّم ذوى النباهة والفضل.
ومتولّى مظالم يردّها على أهلها بقهره وسلطانه، وسطوته وأعوانه.
وناظر حسبة يجرى الأمور على قواعدها الشرعية، وأوضاعها العرفية وقوانيها المرضية.
إلى غير ذلك:
من كاتب، ذى رأى صائب، وفهم ثاقب؛ انقادت له المعانى بأسهل زمام، وأغنت صحائفه عن صفحات الحسام:
لولا حظت عين ابن أوس كتبه
…
ما قال: «إن السيف منها أصدق» .
[1] فى القاموس «قوس ناترة تقطع وترها لصلابتها» .
وكاتب خراج ضبط بقلمه الأموال، وحرّر بنباهته الغلال؛ وبسط الموازين، ووضع القوانين؛ وفصل بين الخراجىّ والهلالى، وميز ما بين الأعمال والتوالى.
وما لا بدّ للملك منه من خواصّ جبلت على محبته قلوبهم، وتجافت عن المضاجع فى خدمته جنوبهم.
ومن معقل شمخ على الجوزاء بأنفه، واتخذ الثريّا وشاحا لعطفه؛ توارى في قرار التخوم أساسه، ولاح للسارى ككوكب الظلماء مقياسه. فالأرض تدّعيه:
لأنه ثبت على مناكبها، والسماء تنازعها فيه: لأنه تمنطق بكواكبها؛ والجبال تقول منى اتّخذت أحجاره، والمياه تقول علىّ استقرّ قراره؛ وجفن السحاب يهمع لانحطاطه عن هذه الرتبة، والطير تقول إن لم أبلغه فقد اتّحد به من بينى وبينه نسبه.
وضمّنت هذا الفن من المنقول ما يسهل تعاطيه على الأفهام، ووضعته على خمسة أقسام.