الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الحسن الوجه يحبها، وليس له في قلبها محبة. فبينا نحن على شرابنا إذ سرّ الفتى الحسن الوجه فتغنّى وقال:
بيد الذى شغف الفؤاد بهم
…
فرج الذى ألقى من السّقم!
فاستيقنى أن قد كلفت بكم
…
ثم افعلى ما شئت عن علم!
فأقبلت عليه، وقالت: قد علمنا ذاك، فمه! ثم تركته، وأقبلت على القبيح الوجه، فلبثنا ساعة، ثم تغنى الفتى أيضا:
ألا ليتنى أعمى أصمّ تقودنى
…
بثينة لا يخفى علىّ كلامها!
فقالت: اللهم أعط عبدك ما سأل! فغاظتنى، فقلت لها: يا فاجرة تختارين هذا، وهو أقبح من ذنوب المصرّين، على هذا الذى هو أحسن من توبة التائبين، فقالت لى: ليس الهوى بالاختيار! ثم أنشأت تغنى وتقول:
فلا تلم المحبّ على هواه
…
فكلّ متيمّ كلف عميد
يظنّ حبيبه حسنا جميلا،
…
وإن كان الحبيب من القرود!
فقلت: أجل! إنه لكما قلت، وليس في هذا حيلة، وذكرت قول عمر ابن أبى ربيعة:
فتضاحكن، وقد قلن لنا:
…
حسن في كلّ عين ما تودّ!
فصل
قالوا: ويتأكد العشق بإدمان النظر، وكثرة اللقاء، وطول الحديث. فإن انضم إلى ذلك معانقة أو تقبيل فقد تمّ استحكامه.
وقد ذكر حكماء الأوائل أنه إذا وقعت القبل بين المتحابّين ووصلت بلّة من ريق كل واحد منهما إلى معدة الآخر، اختلط ذلك بجميع البدن ووصل إلى جرم
بد، وهكذا إذا تنفس كل واحد منهما في وجه صاحبه، فإنه يخرج مع ذلك النفس شىء من نسيم كل واحد منهما فيختلط بأجزاء الهواء، فإذا استنشق من ذلك الهواء دخل في الخياشيم، فوصل بعضه إلى الدماغ فسرى فيه كسريان النّور في جرم البلّور، ووصل بعضه إلى جرم الرئة، ثم إلى القلب فيدبّ في العروق الضوارب في جميع البدن فينعقد في بدن هذا ما تحلل من بدن هذا فيصير مزاجا، فيتولد به العشق وينمى.
هذا ما قيل في سبب العشق والله أعلم.
وأما ما قيل في مدحه وذمّه والممدوح منه والمذموم، قال ابن الجوزىّ فى كتابه المترجم ب «ذمّ الهوى» : اختلف الناس في العشق، هل هو ممدوح أو مذموم. فقال قوم: هو ممدوح، لأنه لا يكون إلا من لطافة الطبع، ولا يقع عند جامد الطبع. ومن لم يجد منه شيئا فذلك من غلظ الطبيعة. فهو يجلو العقول، ويصفّى الأذهان، ما لم يفرط. فإن أفرط عاد سمّا قاتلا. وقال آخرون: هو مذموم، لأنه يستأسر العاشق ويجعله في مقام المستعبد. قال: قلت: وفصل الحكم فى هذا الفصل أن نقول: أما المحبة والودّ والميل إلى الأشياء المستحسنة والملائمة فلا يذم، وأما العشق الذى يزيد على حدّ الميل والمحبة فيملك العقل ويصرّف صاحبه على غير مقتضى الحكمة فذلك مذموم. ويتحاشى من مثله الحكماء.
هذا ما قيل في مدحه وذمّه مجملا. والله تعالى أعلم.
فأما الممدوح منه، وهو الذى قدّمنا ذكره، فقد وقع فيه جماعة من الخلفاء والأكابر فلم يعب عليهم ولا نقصهم. وقد تكلموا في مدحه وتفضيله بما سنذكر منه إن شاء الله تعالى طرفا.
فقالوا: العشق يولّد الأخلاق الحميدة! وقالوا: لو لم يكن في الهوى إلا أنه يشجّع الجبان، ويصفّى الأذهان، ويبعث حزم العاجز، لكفاه شرفا! وقال أعرابىّ: من لم يحبّ قط فهو ردىء التركيب جافى الطبع كزّ المعاطف.
وقد روى أن الشعبىّ كان ينشد:
إذا أنت لم تعشق ولم تدر ما الهوى،
…
فأنت وعير في الفلاة سواء!
وسمع ابن أبى مليكة غناء وهو يؤذّن، فطرب. فقيل له في ذلك، فقال:
إذا أنت لم تطرب ولم تدر ما الهوى
…
فكن حجرا من يابس الصّخر جلمدا.
وسئل أبو نوفل: هل يسلم أحد من العشق؟ فقال: نعم الجلف الجافى الذى ليس فيه فضل ولا عنده فهم. فأما من في طبعه أدنى ظرف أو معه دماثة أهل الحجاز ورقّة أهل العراق، فهيهات! وحكى أبو الفرج بن الجوزىّ بسند يرفعه إلى اليمان بن عمرو مولى ذى الرياستين، قال: كان ذو الرياستين يبعثنى ويبعث أحداثا من أهله إلى شيخ عالم بخراسان، له أدب وحسن معرفة بالأمور، ويقول لنا: تعلّموا منه الحكمة، فإنه حكيم!، وكنا نأتيه.
فإذا انصرفنا من عنده، سألنا ذو الرياستين واعترض ما حفظناه فنخبره به. فقصدناه ذات يوم، فقال: أنتم أدباء، وقد سمعتم الحكمة ولكم جدات ونعم، فهل فيكم عاشق؟
فقلنا: لا. فقال: اعشقوا، فإن العشق يطلق اللسان العيىّ، ويفتح جبلّة البليد، ويبعث على التنظيف وتحسين اللباس وتطييب المطعم، ويدعو إلى الحركة والذّكاء، ويشرّف الهمة! وإياكم والحرام! فانصرفنا من عنده إلى ذى الرياستين، فسألنا عما أخذنا في يومنا ذلك فهبناه أن نخبره. فعزم علينا فأخبرناه، فقال: صدق والله! فهل
تعلمون من أين أخذ هذا؟ فقلنا: لا. قال ذو الرياستين: إن بهرام جوركان له ابن، وكان قد رشّحه للأمر من بعده، فنشأ الفتى ناقص الهمة، ساقط المروءة، خامل النفس، سيئ الأدب. فغمه ذلك ووكّل به من يلازمه من المؤدّبين والحكماء ليعلموه.
فكان يسألهم عنه فيحكون عنه ما يغمّه من سوء فهمه وقلة أدبه. إلى أن سأل بعض مؤدّبيه يوما، فقال له المؤدّب: قد كنا نخاف سوء أدبه، فحدث من أمره ما صيّرنا إلى اليأس من فلاحه، قال: وما ذاك الذى حدث؟ قال: إنه رأى ابنة فلان المرزبان فعشقها حتى غلب عليه هواها، فهو لا يهذى إلا بها، ولا يتشاغل إلا بذكرها. فقال بهرام: الآن رجوت فلاحه! ثم دعا بأبى الجارية، فقال: إنى مسرّ إليك سرّا فلا يعدونّك. فضمن له ستره. فأعلمه أن ابنه قد عشق ابنته، وأنه يريد أن ينكحها إياه، وأمره أن يأمرها بإطماعه في نفسها ومراسلته من غير أن يراها، فإذا استحكم طمعه فيها تجنّت عليه وهجرته، فإن استعتبها أعلمته أنها لا تصلح إلا لملك ومن همته همة الملوك، وأنه يمنعها من مواصلته أنه لا يصلح للملك. ثم ليعلمه خبرهما، فقبل أبوها ذلك منه. ثم قال للمؤدّب الموكل به خوّفه منى وشجعه على مراسلة المرأة! ففعل ذلك وفعلت الصبيّة ما أمرها به أبوها. فلما انتهت إلى التجنى عليه، وعلم الفتى السبب الذى كرهته له، أخذ في الأدب وطلب الحكمة والعلم والفروسية والرّماية وضرب الصوالجة حتّى مهر في ذلك. ثم رفع إلى أبيه أنه محتاج من الدوابّ والآلات والمطاعم والملابس والندماء إلى فوق ما عنده. فسرّ الملك بذلك، وأمر له بما طلب. ثم دعا مؤدّبه، فقال: إن الموضع الذى وضع به ابنى نفسه من حبّ هذه المرأة لا يزرى به. فتقدّم إليه أن يرفع ذلك إلىّ ويسألنى أن أزوّجه إياها. ففعل.
ورفع الفتى ذلك إلى أبيه، فاستدعى أباها، وزوّجه بها، وأمر بتعجيلها إليه، وقال له:
إذا اجتمعت بها فلا تحدث شيئا حتّى آتيك! فلما اجتمع أتاه، فقال: يا بنىّ لا يضعنّ منها عندك مراسلتها إيّاك، وليست في حبالك! فإنى أنا أمرتها بذلك. وهى أعظم الناس منّة عليك، بما دعتك إليه من طلب الحكمة والتخلق بأخلاق الملوك، حتّى بلغت الحدّ الذى تصلح معه للملك بعدى. فزدها من التشريف والإكرام بقدر ما تستحق منك! ففعل الفتى ذلك، وعاش مسرورا بالجارية، وعاش أبوه مسرورا به، وأحسن ثواب أبيها، ورفع مرتبته وشرفه بصيانة سره وطاعته، وأحسن جائزة المؤدّب، وعقد لابنه على الملك من بعده.
قال اليمان: ثم قال لنا ذو الرياستين: سلوا الشيخ الآن: لم حملكم على العشق؟
فسألناه: فحدّثنا بحديث بهرام جور وابنه.
فهذا ممن ارتفع بالهوى وترقّى بسببه إلى مرتبة الملك.
وحكى ابن الجوزىّ أيضا، قال: حدّث القاسم بن محمد النّميرىّ، قال: ما رأيت شابا ولا كهلا من ولد العباس أصون لنفسه، وأضبط لجأشه وأعفّ لسانا وفرجا من عبد الله بن المعتزّ! وكان ربما عبثنا بالهزل في مجلسه، فجرى معنا فيه فيما لا يقدح به عليه قادح. وكان أكثر ما يشغل به نفسه سماع الغناء، وكان كثيرا ما يعيب العشق، ويقول: هو ضرب من الحمق! وكان إذا رأى منا من هو مطرق أو مفكّرا تهمه بالعشق ويقول: وقعت والله يا فلان! وقلّ عقلك وسخفت! إلى أن رأيناه، وقد حدث به سهو شديد، وفكر دائم، وزفير متتابع، وسمعناه ينشد أشعارا منها:
مالى أرى الثّريّا
…
ولا أرى الرّقيبا؟
يا مرسلا غزالا،
…
أما تخاف ذيبا؟
وسمعناه مرة أخرى ينشد، وهو يشرب في إناء قد لفه، فاتهمناه فيه، وكتب عين هذا الشعر:
ما قليل منك لى بقليل،
…
يا منى عينى وغاية سولى!
سل بحقّ الله عينيك عنّى:
…
هل أحسّت في الهوى بقتيل؟
أنت أفسدت حياتى بهجر،
…
ومماتى بحساب طويل!
وأنشد:
أسر الحبّ أميرا
…
لم يكن قبل أسيرا.
فارحموا ذلّ عزيز
…
صار عبدا مستجيرا!
وأنشد يوما، وقد راى دار بعض الناس، فقال:
أيا داركم فيك من لذّة
…
وعيش لنا، كان ما أطيبه!
ومن قينة أفسدت ناسكا،
…
وكانت له في التّقى مرتبه.
وقال أيضا مرّة:
لقد قتلت عيناك نفسا كريمة،
…
فلا تأمنن إن متّ سطوة ثائر!
كأنّ فؤادى في السّماء معلّق،
…
إذا غبت عن عينى، بمخلب طائر.
وأنشد يوما، وفي يده خاتم:
حصلت منك على خا
…
تم حوته البنان!
فما يفارق كفّى
…
كأنّه قهرمان.
يا أهل ودّى بعدتم
…
وأنتم جيران!
قال النميرىّ: فقلت له: جعلنا الله فداك! هذه أشياء قد كنت تعيب أمثالها منا، ونحن الآن ننكرها منك! وكان يرجع عن بعض ذلك تصنعا، ثم لا يلبث
مستوره ان يظهر حتى تحقق عندنا عشقه، ودخل في طبقة المرحومين، فسمعته يوما ينشد:
مكتوم، يا أحسن خلق الله
…
لا تتركينى هكذا بالله!
ثم تنفس إثر ذلك فأجبته:
قد ظفر العشق بعبد الله
…
وانهتك السّتر بحمد الله.
فقل له: سمّ لنا سيّدى
…
هذا الذى تهوى، بحقّ الله!
فضحك وقال: لا، ولا كرامة! فكتبت إليه من الغد:
بكت عينه وشكا حرقة
…
من الوجد في القلب ما تنطفى.
فقلت له: سيّدى، ما الذى
…
أرى بك؟ قال: سقام خفى.
فقلت: أعشق؟ فقال: اقتصر
…
على ما ترى بى، أما تكتفى؟
فكتب إلىّ:
يا من يحدّث عنّى
…
بظنّ سمع وعين!
إن كنت تخطب سرّى،
…
فارجع بخفّى حنين!
فكتبت إليه:
هيهات لحظك عندى
…
يقرّ فيه بعشقك!
دع عنك خفّى حنين
…
واحرص على حلّ ربقك!
تعال نحتال فيما
…
تهوى، برفقى ورفقك!
وصرت إليه فقال: يا أبا طيب، قد عصيت إبليس أكثر مما عصى ربّه إلى أن أوقعنى في حبائله، فأنشدته:
من أين لا كان إبلي
…
س جاءنى بك يسعى؟
أبداك لى من بعيد
…
فقلت: طوعا وسمعا!
فأخبرنى بقصته. فسعيت له بلطيف الحيلة وأعاننى بحزم الرأى حتّى فاز بالظفر.
قال أبو بكر الصولى: اعتل عبد الله بن المعتز فأتاه أبوه عائدا وقال: ما عراك، يا بنىّ؟ فأنشأ يقول:
أيّها العاذلون، لا تعذلونى
…
وانظروا حسن وجهها تعذرونى!
وانظروا هل ترون أحسن منها،
…
إن رأيتم شبيهها فاعذلونى!
بى جنون الهوى، وما بى جنون
…
وجنون الهوى جنون الجنون!
قال: فتتبع أبوه الحال حتّى وقع عليها، فابتأع الجارية التى شغف بها بسبعة آلاف دينار، ووجّهها إليه.
وحكى أن الرشيد كان له ثلاث جوار اشتدّ شغفه بهنّ، فقال العباس بن الأحنف على لسانه:
ملك الثّلاث الآنسات عنانى
…
وحللن من قلبى بكلّ مكان!
مالى تطاوعنى البريّة كلّها،
…
وأطيعهنّ وهنّ في عصيانى؟
ما ذاك إلا أن سلطان الهوى
…
وبه عززن أعزّ من سلطانى!
أخذ المعنى والروىّ سليمان بن الحكم المستعين، أحد خلفاء بنى أمية بالأندلس، فقال:
عجبا يهاب الليث حدّ سنانى،
…
وأهاب لحظ فواتر الأجفان!
وأقارع الأهوال لا متهيّبا
…
منها سوى الإعراض والهجران!
وتملّكت نفسى ثلاث كالدّمى
…
زهر الوجوه نواعم الأبدان!
ككواكب الظلماء لحن لناظر
…
من فوق أغصان على كثبان.
هذى الهلال، وتلك بنت المشترى
…
حسنا، وهذى أخت غصن البان!
حاكمت فيهنّ السّلوّ إلى الصّبا
…
فقضى لسلطان على سلطان.
فأبحن من قلبى الحمى وثنيننى
…
عن عزّ ملكى كالأسير العانى.
لا تعذلوا ملكا تذلّل في الهوى!
…
ذلّ الهوى عزّ وملك ثانى!
إن لم أطع فيهنّ سلطان الهوى
…
كلفا بهنّ، فلست من مروان!
وإذا الكريم أحبّ، أمّن إلفه
…
خطب القلى وحوادث السّلوان!
وقال العباس:
لا عار في الحبّ إنّ الحبّ؛ مكرمة
…
لكنّه ربّما أزرى بذى الخطر!
وأما القسم المذموم منه، وهو الذى ثنّينا بذكره في صدر هذا الفصل فقد أكثر الناس القول في ذمه، وبيّنوا أسبابه.
فقال ابن الجوزىّ: بيان ذمه أن الشىء إنما يعرف مذموما أو ممدوحا بتأمل ذاته وفوائده وعواقبه، وذات العشق لهج بصورة، وهذا ليس فيه فضيلة فتمدح، ولا فائدة في العشق للنفس الناطقة، إنما هو أثر غلبة النفس الشّهوانية.
وقال بعض الحكماء: ليس العشق من أدواء الحصفاء الحكماء، إنما هو من امراض الخلعاء الذين جعلوا دأبهم ولهجهم متابعة النفس وإرخاء عنان الشهوة وإمراح النظر في المستحسنات من الصور. فهنالك تتقيد النفس ببعض الصور فتأنس، ثم تألف، ثم تتوق، ثم تلهج، فيقال «عشق» . وليس هذا من صفة الحكماء:
لأن الحكيم من استطال رأيه على هواه، وتسلطت حكمته على شهوته. فرعونات طبعه مقيّدة أبدا كصبىّ بين يدى معلمه أو عبد بمرأى سيده؛ وما كان العشق قط إلا لأرعن بطّال. وقلّ أن يكون لمشغول بصناعة أو بتجارة، فكيف لمشغول بالعلوم والحكم، فإنها تصرفه عن ذلك. ولهذا لا تكاد تجده في الحكماء.
وقال ابن عقيل: العشق مرض يعترى النفوس العاطلة، والقلوب الفارغة المتلمحة للصور لدواع من النفس، ويساعدها إدمان المخالطة، فيتأكد الإلف ويتمكن الأنس، فيصير بالإدمان شغفا. وما عشق قط إلا فارغ. فهو من علل البظّالين وأمراض الفارغين من النظر في دلائل العبر، وطلب الحقائق؛ المستدل بها على عظم الخالق. ولهذا قلما تراه إلا في الرّعن البطرين، وأرباب الخلاعة النّوكى. وما عشق حكيم قط: لأن قلوب الحكماء أشدّ تمنعا عن أن توقفها صورة من صور الكون مع شدّة تطلبها، فهى أبدا تلحظ وتخطف ولا تقف. وقلّ أن يحصل عشق من لمحة، وقلّ أن يضيف حكيم إلى لمحة نظرة، فإنه مارّ في طلب المعانى، ومن كان طالبا لمعرفة الله لا توقفه صورة عن الطلب لأنها تحجبه عن الصور.
وقال ابن الجوزىّ: واعلم أن العشاق قد جاوزوا حدّ البهائم في عدم ملكة النفس فى الانقياد إلى الشهوات: لأنهم لم يرضوا أن يصيبوا شهوة الوطء وهى أقبح الشهوات عند النفس الناطقة من أىّ موضع كان حتى أرادوها من شخص بعينه فضمّوا شهوة إلى شهوة، وذلّوا للهوى ذلّا على ذل. والبهيمة إنما تقصد دفع الأذى عنها حسب. وهؤلاء استخدموا عقولهم في تدبير نيل شهواتهم.
ثم قال: والعشق بيّن الضرر في الدّين والدنيا. أما في الدّين فإنه يشغل القلب عن الفكر فيما له خلق: من معرفة الله تعالى، والخوف منه، والقرب إليه. ثم ينفذ ما ينال
من موافقة غرضه المحرّم الذى يكون فيه خسران آخرته، ويعرّضه لعقوبة خالقه.
فكلما قرب من هواه، بعد من مولاه. ولا يكاد العشق يقع في الحلال المقدور عليه فان وقع، فياسرعان زواله! قالت الحكماء: كل مملوك مملول. وقال الشاعر:
وزادنى شغفا بالحبّ أن منعت
…
أحبّ شىء إلى الإنسان مانحا.
فان كان المعشوق لا يباح، اشتدّ القلق به والطلب له. فإن نيل منه غرض، فالعذاب الشديد في مقابلته. على أن بلوغ الغرض يزيد ألما فتربى مرارة الفراق على لذّة الوصال. كما قال الشاعر:
كلّ شىء ربحته في التّدانى
…
والتّلاقى، خسرته في الفراق.
فإن منعه خوف الله تعالى عن نيل غرض، فالامتناع عذاب شديد فهو معذب فى كل حال.
هذا ضرره في الدّين.
وأما ضرره في الدّنيا فإنه يورث الهمّ الدائم، والفكر اللازم، والوسواس، والأرق، وقلة المطعم، وكثرة السهر. ويتسلط على الجوارح فتنشأ الصفرة في البدن، والرّعدة فى الأطراف، واللّجلجة في اللسان، والنّحول في الجسد. فالرأى عاطل، والقلب غائب عن تدبير مصلحة، والدموع هواطل، والحسرات تتتابع، والزّفرات تتوالى، والأنفاس لا تمتدّ، والأحشاء تضطرم. فإذا غشّى على القلب غشاء ثانيا أخرج إلى الجنون. وما أقربه حينئذ من التلف! قال: هذا، وكم جنى من جناية على العرض، ووهّن الجاه بين الخلق. وربما أوقع فى عقوبات البدن وإقامة الحدود.
وقال جالينوس: العشق من فعل النفس، وهى كامنة في الدماغ والقلب والكبد.
وفي الدماغ ثلاثة مساكن:
مسكن للتخيّل، وهو في مقدّم الرأس؛ ومسكن للفكر، وهو في وسطه؛ ومسكن للذّكر، وهو في مؤخّره.
ولا يسمى عاشقا إلا من إذا فارق معشوقه لم يخل من تخيله فيمتنع من الطعام والشراب باشتغال الكبد، ومن النوم باشتغال الدماغ بالتخيل والفكر والذكر فيكون جميع مساكن النفس قد اشتغلت به.
وقال الجاحظ: ذكر لى عن بعض حكماء الهند أنه قال: إذا ظهر العشق عندنا فى رجل أو امرأة، غدونا على أهله بالتعزية.
قال: وبلغنى أن عاشقا مات بالهند عشقا، فبعث ملك الهند إلى المعشوق فقتله به.
وقال الربعى: سمعت أعرابية تقول: مسكين العاشق! كل شىء عدوّه! هبوب الريح يقلقه، ولمعان البرق يؤرّقه، ورسوم الديار تحرقه، والعذل يؤلمه، والتذكّر يسقمه، والبعد والقرب يهيجه، والليل يضاعف بلاءه، والرقاد يهرب منه. ولقد تداويت بالقرب والبعد فلم ينجع فيه دواء، ولا عزّ بى عزاء.
وقال شاعر:
وقد زعموا أنّ المحبّ إذا دنا
…
يملّ، وأن النّأى يشفى من الوجد!
بكلّ تداوينا، فلم يشف ما بنا!
…
على أنّ قرب الدار خير من البعد!
وأنشد المارستانىّ:
إذا قربت دار كلفت، وإن نأت
…
أسفت! فلا بالقرب أسلو ولا البعد!
وإن وعدت زاد الهوى لانتظارها،
…
وإن بخلت بالوعد متّ على الوعد!
ففى كلّ حبّ لا محالة فرحة،
…
وحبّك ما فيه سوى محكم الجهد!
وحكى الزبير بن بكّار قال: حدّثنى موهوب بن راشد قال: وقفت امرأة من بنى عقيل على أخت لها، فقالت لها: يا فلانة، كيف أصبحت من حبّ فلان؟
قالت: قلقل والله حبّه الساكن، وسكّن المتحرّك! ثم أنشدتها:
ولو أنّ ما بى بالحصى فلق الحصى،
…
وبالرّيح لم يسمع لهنّ هبوب!
ولو أنّنى أستغفر الله كلّما
…
ذكرتك لم يكتب على ذنوب!
قالت: لا جرم والله، لا أقف حتّى أسأله كيف أصبح من حبّك! فجاءته فسألته فقال: إنما الهوى هوان، وإنما خولف باسمه، وإنما يعرف ما أقول من كان مثلى قد أبكته المعارف والطلول.
وقال مسلم بن عبد الله بن جندب الهذلىّ: خرجت أنا وريان السوّاق إلى العقيق فلقينا نسوة نازلات من العقيق ذوات جمال وفيهن جارية حسناء العينين، فأنشد ريان قول أبىّ:
ألا يا عباد الله، هذا أخوكم
…
قتيل! فهلّا فيكم اليوم ثائر؟
خذوا بدمى إن متّ كلّ خريدة
…
مريضة جفن العين، والطّرف ساحر!
وأقبل علىّ، وأشار إليها فقال: يا ابن الكرام دم أبيك في أثوابها فلا تطلب أثرا بعد عين! قال: فأقبلت علىّ امرأة جميلة، أجمل من تيك، فقالت: أنت ابن جندب؟ فقلت: نعم. قالت: إن أسيرنا لا يفكّ، وقتيلنا لا يودى، فاحتسب أباك، واغتنم نفسك! ومضين.