المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ومما قيل في طيف الخيال - نهاية الأرب في فنون الأدب - جـ ٢

[النويري، شهاب الدين]

فهرس الكتاب

- ‌الجزء الثاني

- ‌الفن الثانى فى الإنسان وما يتعلق به

- ‌القسم الأوّل فى اشتقاقه، وتسميته، وتنقلاته، وطبائعه، ووصفه، وتشبيهه

- ‌الباب الأوّل من القسم الأوّل من الفن الثانى (فى اشتقاقه، وتسميته، وتنقلاته، وطبائعه، وما يتصل بذلك)

- ‌فصل

- ‌فصل وأما ترتيب أحواله وتنقل السنّ به إلى أن يتناهى:

- ‌فصل فى ظهور الشيب وعمومه

- ‌الباب الثانى من القسم الأوّل من الفن الثانى (فى وصف أعضاء الإنسان وتشبيهها)

- ‌فصل فى تفصيل أوصافه

- ‌ذكر ما قيل في الشيب والخضاب من المدح والذم

- ‌ومما وصف به صفاء الوجه ورقّة البشرة، فمن ذلك ما قيل مذكرا

- ‌فصل فى عوارض العين

- ‌فصل فى كيفية النظر وهيئته

- ‌فصل فى ترتيب البكاء

- ‌فصل فيما قيل في الأنف

- ‌فصل فى تقسيم ماء الفم

- ‌فصل فى ترتيب الضحك [1]

- ‌فصل فى مقابحها

- ‌فصل فى ترتيب الأسنان

- ‌فصل فى عيوبه

- ‌فصل فى ترتيب العىّ

- ‌فصل فى ترتيب الصّمم

- ‌ما يتمثل به من ذكر الأنف

- ‌ما يتمثل به من ذكر الفم، واللسان، والأسنان

- ‌ما يتمثل به من ذكر الأذن

- ‌ما يتمثل به من ذكر العنق

- ‌ما يتمثل به من ذكر اليد

- ‌ما يتمثل به من ذكر الصدر والقلب

- ‌ما يتمثل به من ذكر الظهر والبطن والجنب

- ‌ما يتمثل به من ذكر الكبد والدّم والعروق

- ‌ما يتمثل به من ذكر الساق والقدم، يقال:

- ‌من ضرب به المثل من الرجال على لفظ أفعل للتفضيل

- ‌وأمّا من ضرب بها المثل من النساء

- ‌الباب الثالث من القسم الأوّل من الفن الثانى (فى الغزل، والنّسيب، والهوى، والمحبة، والعشق)

- ‌فأما كلام الحكماء والفلاسفة

- ‌وأما كلام الإسلاميين وما قالوه فيه

- ‌ذكر مراتب العشق وضروبه

- ‌ذكر ما قيل في الفرق بين المحبة والعشق

- ‌‌‌فصل

- ‌فصل

- ‌فصل

- ‌ذكر شىء من الشعر المقول في ذمّ العشق والحب

- ‌ذكر شىء مما ورد في التحذير من فتنة النساء، وذمّ الزنا، والنظر إلى المردان، والتحذير من اللّواط، وعقوبة اللّائط

- ‌ذكر نبذة مما قيل في الغزل والنسيب

- ‌فمما قيل في المذكر

- ‌ومما قيل في المطلق والمشترك

- ‌ومما قيل في طيف الخيال

- ‌الباب الرابع من القسم الأوّل من الفن الثانى في الأنساب

- ‌الطبقة الأولى الجذم

- ‌والطبقة الثانية الجماهير، والتجمهر:

- ‌والطبقة الثالثة الشعوب

- ‌والطبقة الرابعة القبيلة

- ‌والطبقة السادسة البطون

- ‌والطبقة السابعة الأفخاذ

- ‌والطبقة الثامنة العشائر

- ‌والطبقة التاسعة الفصائل

- ‌والطبقة العاشرة الرهط

- ‌أصل النسب

- ‌(أبو البشر آدم عليه السلام

- ‌إبراهيم خليل الله عليه الصلاة والسلام

- ‌ذكر نسب قيس وبطونها

- ‌الياس بن مضر بن نزار

- ‌مدركة بن الياس بن مضر

- ‌كعب بن لؤىّ بن غالب

- ‌مرّة بن كعب

- ‌كلاب بن مرة بن كعب

- ‌عبد مناف بن قصىّ

- ‌عبد المطّلب بن هاشم

الفصل: ‌ومما قيل في طيف الخيال

وقال الطغرائىّ:

رويدكم! لا تسبقوا بقطيعتى

صروف الليالى، إنّ في الدّهر كافيا.

ويا قلب، عاود ما ألفت من الجوى!

معاذ الهوى أن تصبح اليوم ساليا!

ويا كبدى، ذوبى! ويا مقلتى، اسهرى!

ويا نفس لا تبقى من الوجد باقيا!

فلا تطمعوا في برء مابى، فإنّه

هو الداء قد أعيا الطبيب المداويا!

‌ومما قيل في طيف الخيال

، قال قيس بن الخطيم:

إنى شربت، وكنت غير شروب!

وتقرّب الأحلام غير قريب.

ما تمنعى يقظى، فقد تؤتينه

فى النوم غير مكدّر محسوب.

كان المنى تلقاءها، فلقيتها

ولهوت من لهو امرئ مكذوب!

وقال عمرو بن قميئة:

نأتك أمامة، إلا سؤالا

وإلّا خيالا يوافى خيالا.

خيالا يخيّل لى نيلها،

ولو قدرت لم يخيّل نوالا!

قال أبو هلال العسكرى: ومن هاتين القطعتين أخذ المحدثون أكثر معانيهم فى الخيال.

وقال البعيث:

أزارتك ليلى، والرّكاب خواضع؟

وقد بهر الليل النجوم الطّوالع!

وأعطتك غايات المنى غير أنّها

كواذب ان حصّلتها وخوادع.

ص: 237

وقال أبو تمام:

استزارته فكرتى في المنام،

فأتاها في خفية واكتتام.

يا لها ليلة تزاورت الأر

واح فيها سرّا عن الأجسام!

مجلس لم يكن لنا فيه عيب

غير أنّا في دعوة الأحلام!

وقال الحمدونىّ:

لم أنله، فنلته بالأمانى

فى منامى سرّا من الهجران!

واصل الحلم بيننا بعد هجر،

فاجتمعنا ونحن مفترقان.

وكأنّ الأرواح خافت رقيبا،

فطوت سرّها عن الأبدان.

منظر كان نزهة العين إلّا

أنه منظر بغير عيان.

وقال ابن الرومىّ:

طرقتنا، فأنالت نائلا

شكره- لو كان في النّبه- الجحود.

ثم قالت، وأحسّت عجبى

من سراها حيث لا تسرى الأسود.

لا تعجّب من سرانا، فالسّرى

عادة الأقمار والناس هجود.

أخذ العسكرىّ المعنى، فقال:

رقبت غفلة الرّقيب، فزارت

تحت ليل مطرّز بنهار.

فتعجّبت من سراها، فقالت:

غير مستطرف سرى الأقمار!

ثم مالت بكأسها فسقتنى

جلّناريّة على جلّ نارى!

وقال آخر:

فيا ليت طيفا، خيّلته لى المنى،

وإن زادنى شوقا إليك، يعود!

أكلّف نفسى عنك صبرا وسلوة،

وتكليف ما لا يستطاع شديد!

ص: 238

وقال العسكرىّ:

طرق الخيال، فزار منه خيالا.

فسرى يغازل في الرّقاد غزالا.

يا كشفة للكرب، إلّا أنّه

ولّى على دبر الظّلام فزالا.

قعد المتيّم، وهو أكثر صبوة

وأشدّ بلبالا وأكسف بالا!

وقال العماد الأصفهانىّ:

ظبى طربت لطيفه المتأوّب

طرب العليل لرؤية المتطبّب.

لم أدر زورته، أكانت خطفة

من بارق أم لمعة من كوكب.

زار الكرى متهيّبا رقباءه،

أهلا به من زائر متهيّب!

لمّا رأى وجدى، تأوّه رحمة.

لله من متأوّه متأوّب!

وأتى ليقرب من وساد متيّم؛

لمّا أحسّ بناره، لم يقرب.

وقال محمد بن بختيار:

لو أنّ طيف الخيال يسرى،

بلّ سراه غليل صدرى.

ولو أراد الحبيب أن لا

يضيمنى، ما استطاب هجرى.

يلومنى في هواه من لا

يعلم أنّ الملام يغرى.

كم ليلة زار في دجاها،

فكان تحت الظلام بدرى.

يتحفنى باحمرار خدّ

مورّد وابيضاض ثغر.

يجمع لى بين سكر لحظ

وسكر ريق وسكر خمر،

ودرّ لفظ ودرّ ثغر

ودرّ كأس ودرّ نحر.

ص: 239

وقال آخر:

قلت للمعرض الّذى صدّ عنّى:

إنّ طيف الخيال لى عنك يغنى.

قال: لا تحمد الخيال فما زا

رك إلّا عن اختيارى وإذنى.

كدت تقضى أسى، فقلت لطيفى:

أحى لى روحه بزور التّمنّى!

ليس شحّا بأن تموت؛ ولكن

خفت أن تستريح بالموت منّى!

وقال آخر:

فإن يحجبوها بالنهار، فما لهم

بأن يحجبوا بالليل عنّى خيالها!

وقال المجنون:

وإنّى لأستغشى، وما بى نعسة؛

لعلّ لقاها في المنام يكون!

تخبّرنى الأحلام أنّى أراكم،

ألا ليت أحلام المنام يقين!

وقال المؤمل:

أتانى الكرى ليلا بشخص أحبّه؛

أضاءت له الآفاق، والليل مظلم.

فكلّمنى في النّوم غير مغاضب،

وعهدى به يقظان لا يتكلّم!

وذكر العباس بن الأحنف العلة في طروق الخيال، فقال:

خيالك حين أرقد نصب عينى

إلى وقت انتباهى لا يزول.

وليس يزورنى صلة، ولكن

حديث النفس عنك به الوصول.

وتبعه الطائىّ فقال:

زار الخيال لها، لا بل أزاركه

فكر، إذا نام فكر الحلو لم ينم.

ظبى تقنّصته لمّا نصبت له

فى آخر الليل أشراكا من الحلم.

ص: 240

ومما قيل في الردّ على العذول، قال أبو نواس:

ما حطّك الواشون من رتبة

عندى، ولا ضرّك مغتاب.

كأنّما أثنوا- ولم يشعروا-

عليك عندى بالذى عابوا.

وقال تاج الملوك:

مه يا عذول عن المحبّ، فإنّما

عذل المحبّ يزيد في بلباله!

لا تعذلنّ على الصّبابة مغرما

حتّى تبيت من الزّمان بحاله!

وقال أيضا من قصيدة:

ولقد قلت للذى لا منى في

ك، وما زال حاله مثل حالى:

يا عذولى في حبّه، كفّ عذلى.

أنا ما للعذول فيه وما لى!

كلما زدت في ملامى وعذلى،

زدت في لوعتي وفي بلبالى!

وقال الأرّجانى:

وجدى بلومك، يا عذول يزيد!

فاستبق سهمك، فالرمىّ بعيد!

بلغ الهوى من سرّ قلبى موقعا:

لا العذل يبلغه ولا التفنيد!

وتنمّ بالشّجو المكتّم عبرتى،

ومن الدّموع على الغرام شهود!

وقال سيف الدين المشدّ:

يا عاذلى، خلّ عنّى!

أسمعت غير سميع!

لا ترج منّى سلوّا!

فما فؤادى مطيعى!

وكيف أكتم ما بى

من لوعة وولوع،

والذّاريات جفونى،

والمرسلات دموعى [1] !

[1] إشارة إلى اسم السورتين الكريمتين: الذاريات والمرسلات.

ص: 241

وقال ابن الخيمى:

وتأمرنى العذّال بالصبر عنكم،

ومن ذا الذى يرضى عن الحلو بالصّبر؟

ومن أعجب الأشياء أنّ عواذلى

يطيلون لومى في الهوى، والهوى عذرى!

ومما قيل في رجوع العذول، قال ابن وكيع:

أقبل والعذّال يلحوننى،

فكلّهم قال: من البدر؟

فقلت: ذا من طال في حبّه

منكم لى التعنيف والزّجر!

قالوا: جهلنا، فاغتفر جهلنا

فليس عن ذا لامرئ صبر!

عذرك في الحبّ له واضح،

وما لنا في لومنا عذر!

وقال أيضا:

أبصره عاذلى عليه،

ولم يكن قبل ذا رآه.

فقال لى: لو عشقت هذا،

ما لامك الناس في هواه!

قل لى: إلى من عدلت عنه

فليس أهل الهوى سواه؟

وظلّ من حيث ليس يدرى،

يأمر بالحبّ من نهاه!

ومما قيل في الوصال، قال ابن الرومىّ:

ولقد يؤلّفنا اللّقاء بليلة

جعلت لنا حتّى الصباح نظاما.

نجزى العيون جزاءهنّ عن البكا

وعن السّهاد ولا نصيب أثاما.

فنبيحهنّ مرادهنّ، يردنه

فيما ادّعين، ملاحة ووساما.

ص: 242

ونكافئ الآذان، وهى حقيقة

إذ لا تزال تكابد اللّوّاما.

فنثيبهنّ من الحديث مثوبة

تشفى الغليل وتكشف الأسقاما.

ونكافئ الأفواه عن كتمانها،

إذ لا يزال لها الصّمات لجاما.

فنبيحهنّ ملاثما ومراشفا،

ما ضرّها أن لا تكون مداما!

نجزى الثلاثة أنصباء ثلاثة

مقسومة آناؤها أقساما.

ومما قيل في الفراق والبين، قال بعض الكتّاب: فى الفراق مصافحة التسليم، ورجاء الأوبة، والسلامة من الملال، وعمارة القلب بالشوق، والدلالة على فضل المواصلة واللقاء.

قال شاعر:

جزى الله يوم البين خيرا، فإنّه

أزانا على علّاته أمّ ثابت!

وقال ابن الرومىّ:

فإذا كان في الفراق اعتناق،

جعل الله كلّ يوم فراقا!

وقال أبو حفص الشطرنجىّ:

من يكن يكره الفراق، فإنّى

أشتهيه لموضع التّسليم!

إنّ فيه اعتناقة لفراق

وانتظار اعتناقة لقدوم.

وقال سيف الدولة بن حمدان:

راقبتنى العيون فيك، فأشفق

ت؛ ولم أخل قطّ من إشفاق.

ورأيت العدوّ يحسدنى في

ك مجدّا بأنفس الأعلاق.

ص: 243

فتمنّيت أن تكون بعيدا،

والذى بيننا من الودّ باق!

ربّ هجر يكون من خوف هجر

وفراق يكون خوف فراق!

وأرى هذا كلّه على سبيل التعلل ليس إلا، وإنما الفراق لا شكّ في إيلامه للقلوب.

قال بعض الشعراء:

فلم لا تسبل العبرات منّى،

ولست على اليقين من التّلاقى؟

فلا وأبيك، ما أبصرت شيئا

أمرّ على النّفوس من الفراق!

وقال آخر:

يا ربّ، باعد بين جفنى والكرى

مادام من أهواه في هجرانى!

إنّى لأخشى أن أنام فألتقى

بخياله، خوف الفراق الثانى!

وقال آخر:

فارقته وبودّى لو تفارقنى

روح الحياة، وأنّى لا أفارقه!

وقال أبو تمام:

الموت عندى والفرا

ق: كلاهما ما لا يطاق!

يتعاونان على النفو

س: فذا الحمام وذا السّياق!

لو لم يكن هذا كذا،

ما قيل: موت أو فراق!

وقال غريب بن سعيد شاعر «اليتيمة» :

ألان يوم الفراق قسوته

حتّى جرى دمعه وما شعرا.

فخلت ما سال من مدامعه

درّا على وجنتيه منتثرا.

لم يبك شوقا، لكن بكى جزعا

لهول يوم الفراق إذ حضرا.

ص: 244

فى مشهد لو أطاق شاهده

فيه استتارا لوجهه، سترا.

أبى أساه وفيض أدمعه

إلا اشتهارا في الحبّ، فاشتهرا.

وقال أحمد بن محمد بن عبد ربه:

هيّج البين دواعى سقمى،

وكسا جسمى ثوب الألم!

أيّها البين، أقلنى مرّة

فإذا عدت، فقد حلّ دمى.

يا خلىّ الرّوع، نم في غبطة!

إنّ من فارقته لم ينم.

ولقد هاج لقلبى سقما

ذكر من لو شاء، داوى سقمى.

وقال آخر:

بكت وبكيت لوشك الفراق؛

فقف، تر من مد معينا العجب!

فذا فضّة في عقيق جرى،

وهذا عقيق جرى في ذهب!

وقال آخر:

قلت له والرّقيب يزعجه

مستعجلا للفراق: أين أنا؟

فمدّ كفّا إلى ترائبه

وقال: كن آمنا، فأنت هنا!

وقال آخر:

قد قلت إذ سار السّفين به،

والشّوق ينهب مهجتى نهبا:

لو كان لى ملك أصول به،

«لأخذت كلّ سفينة غصبا»

وقال كشاجم:

مزجت دموع العين م

نّى يوم بانوا بالدّما.

فكأنّما مزجت بخدّ

ى مقلتى خمرا بما!

ص: 245

وقال آخر:

لم أنس يوم الفراق موقفها،

وطرفها في دموعها غرق.

وقولها، والرّكاب سائرة:

تتركنا هكذا، وتنطلق؟

ومنه ما قيل في مفارقة الأصحاب:

لمّا رأيت مصاحبى ومعاشرى

لجديد ودّى بالقطيعة مزّقا،

فارقته وسللت من يده يدى،

وقرأت لى وله: «وإن يتفرّقا» .

وقال آخر:

قالوا: قطعت صديقك البرّ الذى

منه استفدت مكارم الأخلاق.

فأجبتهم: بعض المفاصل ربّما

فسدت، فتقطع في صلاح الباقى!

وقال آخر:

ولقد شكرت مفارقى

إذ ساء في أخلاقه.

لو كان أحسن عشرتى،

لهلكت يوم فراقه.

ومثله قول الآخر:

علّمتنى بهجرها الصّبر عنها،

فهى مشكورة على التّقبيح!

وأرادت بذا قبيح فعال

صنعته، فكان عين المليح!

ومما قيل في التوديع، قال البحترىّ:

أقول له عند توديعه،

وكلّ بعبرته مبلس:

لئن قعدت عنك أجسامنا،

لقد سافرت معك الأنفس!

ص: 246

وقال أبو الطيب المتنبى:

يا راحلا، كلّ من يودّعه

مودّع دينه ودنياه.

إن كان فيما نراه من كرم

فيك مزيد، فزادك الله!

وقال البحترىّ:

ألم ترنى يوم فارقته

اودّعه، والهوى يستزيد

أولّى إذا أنا ودّعته،

فيغلبنى الشوق حتّى أعود.

وقال أبو تمام:

نأى وشيك وانطلاق،

وغليل شوق واحتراق.

بأبى فتى ودّعته

تاهت بصحبته الرّفاق!

بدر يضىء لعاشقي

هـ فما يطيف به المحاق!

وقال ابن زيدون:

ودّع الصبر محبّ ودّعك،

حافظ من سرّه ما استودعك!

يقرع السّنّ على أن لم يكن

زاد في تلك الخطا، إذ شيّعك!

يا أخا البدر سناء وسنا،

حفظ الله زمانا أطلعك!

إن يطل بعدك ليلى، فلكم

بتّ أشكو قصر الليل معك!

وقال أبو عبد الرحمن شاعر «اليتيمة» :

إذا دهاك الوداع فاصبر

ولا يهولنّك البعاد!

وانتظر العود عن قريب،

فانّ قلب الوداع عادوا.

ص: 247

وقال آخر:

ودّعته حيث لا تودّعه

روحى، ولكنّها تسير معه

ثم تولّى وفي القلوب له

ضيق مجال وفي الدموع سعه

وقال الإمام الصولى:

لو كنت يوم الوداع حاضرنا

وهنّ يشكون علّة الوجد،

لم تر إلا الدّموع جارية

تسقط من مقلة على خدّ.

كأنّ تلك الدّموع قطر ندى،

يقطر من نرجس على ورد!

وقال أبو منصور أحمد بن محمد اللخمىّ:

وقفت يوم النوى منهم على بعد

ولم أودّعهم وجدا وإشفاقا.

إنّى خشيت على الأظعان من نفسى

ومن دموعى: إحراقا وإغراقا.

وقال ابن نباتة:

ولمّا استقلّت للّرواح حمولهم

ولم يبق إلا شامت وغيور،

وقفنا: فمن باك يكفكف دمعه،

وملتزم قلبا يكاد يطير!

وقال آخر:

ولمّا وقفنا للوداع، وقلبها

وقلبى يبثّان الصّبابة والوجدا،

بكت لؤلؤا رطبا ففاضت مدامعى

عقيقا فصار الكلّ في نحرها عقدا.

وقال آخر:

ودّعتها ولهيب الشّوق في كبدى

والبين يبعد بين الرّوح والجسد،

وداع صبّين لم يمكن وداعهما

إلا بلحظة عين أو بنان يد.

ص: 248

وحاذرت أعين الواشين فانصرفت

تعضّ من خوفها العنّاب بالبرد.

وكان أوّل عهد العين يوم نأت

بالدّمع آخر عهد القلب بالجلد.

وقال الهيثم الكلاعىّ، من شعراء «اليتيمة» :

ولم أنسها يوم الوداع، ومسحها

بوادر دمع العين. والعين تذرف.

أفانين تجرى من دموع ومن دم

على الخدّ منها تستهلّ وترعف.

وتكرارنا نجوى الهوى ذات بيننا،

وكلّ إلى كلّ يلين ويعطف.

جعلنا هناك الهجر منّا بجانب،

وللبين داع بالتّرحّل يهتف.

ولولا النوى، لم نشك ضعفا عن الأسى!

ومن يحمل الأشجان بالبين يضعف!

فقلت: كلانا مثقل من صبابة؛

ولكنّنى عن حملها منك أضعف.

وقال الظاهر البصرىّ:

نفسى الفداء لمن جاءت تودّعنى

يوم الفراق بقلب خائف وجل!

قد كنت فارقت روحى يوم فرقتها؛

لكن حييت بطيب الضّمّ والقبل!

وقال يزيد بن معاوية:

جاءت بوجه كأنّ البدر برقعه

حسنا على مثل غصن البانة الثّمل.

إحدى يديها تعاطينى معتّقة

كخدّها عصفرته حمرة الخجل.

ثمّ استبدّت وقالت وهى عالمة،

بما تقول وشمس الكأس لم تفل:

لا ترحلنّ، فما أبقيت لى جلدا

مما أطيق به توديع مرتحل!

ولا من الصبر ما ألقى الفراق به

ولا من الدّمع ما أبكى على طلل!

ومن الناس من كره الوداع. وفي ذلك يقول البحترىّ:

الله جارك في انطلاقك

تلقاء شامك أو عراقك!

ص: 249

لا تعذلنّى في مسي

رى يوم سرت ولم ألاقك!

إنّى خشيت مواقفا

للبين تسفح غرب ماقك!

وعلمت أنّ بكاءنا

حسب اشتياقى واشتياقك!

وذكرت ما يجد المودّ

ع عند ضمّك واعتناقك،

فتركت ذاك تعمّدا

وخرجت أهرب من فراقك!

وقال آخر:

الله يعلم ما تركت وداعه،

ولقد جزعت لبعده وفراقه،

إلا مخافة أن يذيب فؤاده

ما في فؤادى منه عند عناقه!

وقال آخر:

إنّ تركى فضيلة التشييع

لاجتنابى مشقّة التّوديع.

ما يفى أنس ذا بوحشة هذا،

فرأيت الصّواب ترك الجميع!

وقال آخر:

ما تركت الوداع يوم افترقنا

عن ملال ولا لوجه قبيح.

أنت روحى على الحقيقة ما زل

ت، وما اخترت أن أودّع روحى!

ومما قيل في الصدّ والهجران، قال أبو عبادة البحترىّ:

هجر الحبيب، فمتّ من شغف

لمّا حرمت عزيمة الصّبر!

فإذا قضيت، فناد: يا حزنى،

هذا قتيل الصّدّ والهجر!

والبدر في حلّ وفي سعة

من سفكه دم عبده الحرّ!

ص: 250

وقال ابن ميّادة:

كانوا بعيدا، فكنت آملهم

حتّى إذا ما تقاربوا، هجروا.

فالبعد منهم على رجائهم

أنفع من قربهم إذا هجروا!

وقال أبو الحسن أحمد بن عمر النهروانىّ:

على قلبى الاحبّة بالت

مادى في الهوى غلبوا.

وبالهجران من عين

ىّ طيب النوم قد سلبوا.

وما طلبوا سوى قتلى،

فهان علىّ ما طلبوا!

ولما سمع الشيخ العالم صدر الدين محمد بن الوكيل هذه الأبيات، عارضها، وأنشدنى لنفسه في صفر الأغر الميمون سنة ثلاث عشرة وسبعمائة.

لئن غلبوا على عقلى،

لقد سلبوا لمن غلبوا!

وإن أبكى تبسّمهم،

فخلّب برقهم خلبوا!

وإن ترج العيون، فقد

إليها السّهد قد جلبوا!

وإن عطفوا برقّتهم،

فدرّ مدامعى حلبوا.

ومما قيل في الزيارة، قال الوزير ابو عبد الله بن الحدّاد:

إذا جاءنى زائرا حسنه

أقام عليه رقيبا عتيدا.

إذا ما بدا، سربلته العيون

وخرّت وجوه إليه سجودا.

هو البدر والغصن: خدّا وقدّا،

كما أنه الظّبى: لحظا وجيدا.

أتى زائرا وفؤادى خلىّ،

فمرّ به مستهاما عميدا.

وغادرنى بعده في غرام

تضرّم بين ضلوعى وقودا!

ص: 251

وقال نصير الخبز أرزّى، شاعر «اليتيمة» عفا الله عنه:

خليلىّ! هل أبصرتما أو سمعتما

بأكرم من مولى تمشّى إلى عبد!

أتى زائرا من غير وعد وقال لى:

أصونك عن تعليق قلبك بالوعد!

وقال الوأواء الدمشقى:

زار بليل على صباح

على قضيب على كثيب!

حتّى أتت ألسن الليالى

معتذرات من الذّنوب.

فيالها زورة أخذنا

بها أمانا من الخطوب!

وقال أبو عبد الله الحدّاد:

يا زائرا، ملأ النّواظر نورا

والنّفس لهوا والفؤاد سرورا!

لو أستطيع، فرشت كلّ مسالكى

حدقا وبيض سوالف ونحورا.

وقال آخر:

أهلا وسهلا بطارق طرقا،

أحببت فيه السهاد والارقا!

زار على غفلة الرقيب ويم

ناه تدارى وشاحه القلقا.

فبتّ منه معانقا صنما

ينفح مسكا وعنبرا عبقا.

لو شئت، أنشأت من ذوائبه

ليلا، ومن نور وجهه فلقا!

وقال أبو عبد الله الحامدىّ من شعراء «اليتيمة» :

مشتاقة طرقت في الليل مشتاقا!

أهلا بمن لم يخن في العهد ميثاقا!

أهلا بمن ساق لى طيف الأحبّة في

ليل الدّجنّة، بل أهلا بما ساقا!

يا زائرا زار من قرب على بعد،

آنست مستوحشا! لا ذقت ماذاقا!

ص: 252

الله يعلم لو أنى استطعت، لقد

فرشت ممشاك آماقا وأحداقا!

يا ليل، عرّج على إلفين قد جعلا

عقد السواعد للأعناق أطواقا!

وقال مؤيد الدين الطغرائىّ:

وزائرة وافت، فأجللت خدّها

وقبّلت إكراما لموردها الأرضا!

فيازورة جاءت على غير موعد،

فقرّت عيون واشتفت أنفس مرضى!

فلم أر إلّا ما ألذّ وأشتهى،

ولم أر إلّا ما أودّ وما أرضى!

على أنّها ولّت ولم أقض سنّة

- من الوطر الممطول دهرا- ولا فرضا!

وما سوّغتنا ليلة الوصل قرضها

إلى أن بدا الإصباح يسترجع القرضا.

وقال ابن سكّرة، من شعراء «اليتيمة» :

أهلا وسهلا بمن زارت بلا عدة

تحت الظلام ولم تحذر من الحرس!

تستّرت بالدّجى عمدا، فما استترت

وبات إشراقها ليلا على قبس!

ولو طواها الدّجى عنّا، لأظهرها

برق اللّثات وعطر النّحر والنّفس!

ومما قيل في تخفيف الزيارة وموانعها، قال شاعر الحماسة:

ولمّا رأيت الكاشحين تتّبعوا

هوانا وأبدوا دوننا نظرا شزرا،

جعلت- وما بى من جفاء ولا قلى-

أزوركم يوما وأهجركم شهرا!

وقال مسلم بن الوليد:

أقلل زيارتك الصّدي

ق، يراك كالثّوب استجدّه!

إنّ الصّديق يملّه

أن لا يزال يراك عنده.

إلّا الكرام ذوى النّهى،

إنّ الكريم يديم عهده!

ص: 253

وقال آخر:

إذا ما كثرت على صاحب

وقد كان يدنيك من نفسه،

فلا بدّ من ملل واقع،

يغيّر ما كان من أنسه!

وقال آخر:

لئن تأخّرت عن مفروض خدمتكم

تجشّما، فضميرى غير متّهم!

سعى ودادى إليكم بالوفاء لكم،

والسّعى بالقلب فوق السعى بالقدم!

وقال ابن المعلم:

لم أطو بحر نداك- مع قربى- قلى

إلا مخافة موجه المتراكب.

وعلمت أنّى إن أتيتك زائرا،

ثقّلت، والتثقيل ليس بواجب.

وقال المعوّج:

ثلاثة منعتها من زيارتنا،

وقد طوى الليل جفن الكاشح الحنق:

نور الجبين، ووسواس الحلىّ، وما

يمسّ أردانها من عنبر عبق.

هب الجبين بفضل الثوب تستره،

والحلى تنزعه، ما الشأن في العرق؟

وقال أبو فراس الحمدانىّ:

لقد نافسنى الدّهر

بتأخيرى عن الحضره.

فما ألقى من العل

ة ما ألقى من الحسرة!

ومنها التأخر عن عيادة المرضى، قال ابن زريق الكوفىّ الكاتب:

يا مريضا لسقمه،

مرض العلم والوفا!

لم يكن تركى العيا

دة هجرا ولا جفا.

ص: 254

لم أطق أن أراك يا

أكرم الناس مدنفا!

طال خوفى عليك، وال

حمد لله إذ كفى!

وقال آخر:

منعتنى عليك رقّة قلبى

من دخولى عليك في العوّاد.

لو بأذنى سمعت منك أنينا،

لتفرّى على الأنين فؤادى.

وقال آخر:

فو الله! ليس انقطاعى جفا

وفي كبدى منك نار تشبّ!

ولكنّنى قطّ لا أشتهى

أرى من أحبّ كما لا أحبّ!

ومما قيل في المدامع، قال العسكرىّ: أبلغ ما قيل في امتلاء العين من الدمع قول بعض الأعراب:

فظلت كأنّى من وراء زجاجة

إلى الدّار من فرط الصّبابة أنظر.

وقال البحترىّ:

ويحسن دلّها والموت فيه،

وقد يستحسن السيف الصّقيل!

وقفنا والعيون مثقّلات

يعالج دمعها طرف كليل!

نهته رقبة الواشين حتّى

تعلّق: لا يغيض ولا يسيل!

وقال السرىّ:

بنفسى من ردّ التحية ضاحكا،

فجدّد بعد اليأس في الوصل مطمعى!

إذا ما بدا، أبدى الغرام سرائرى

وأظهر للعذّال ما بين أضلعى.

وحالت دموع العين بينى وبينه،

كأنّ دموع العين تعشقه معى.

ص: 255

وقال الصولىّ:

قد كان في طول البكالى راحة،

وعنان سرّى في يد الكتمان.

حتّى إذا الإعلان نبّه واشيا،

رقأت دموعى خشية الإعلان!

وقال بشّار:

ماء الصّبابة، نار الشّوق تحدره

فهل سمعتم بماء فاض من نار؟

وقال أبو هلال العسكرىّ:

أشكو الهوى بدموع قادها قلق

حتّى علقن بجفن ردّها الفرق.

ففى الفؤاد سبيل للأسى جدد،

وفي الجفون مقيل للكرى قلق.

لهيب قلبى أفاض الدّمع من بصرى،

والعود يقطر ماء وهو يحترق!

وقال الصولىّ: أنشد أبو الحسن بن رجاء المبرّد يوما بيت ذى الرّمّة:

«لعلّ انحدار الدمع يعقب راحة

من الوجد أو يشفى شجىّ البلابل!»

وقال: من قال في مثله، فقد ملح.

وقال الحسن بن وهب:

ابك! فما أكثر نفع البكا!

والحبّ إشفاق وتعليل!

افزع إليه في ازدحام الجوى

ففيه مسلاة وتسهيل.

وهو إذا انت تأمّلته

حزن على الخدّين محلول!

وقال العباس بن أحمد بن الأحنف:

إنّى لأجحد حبّكم وأسرّه

والدمع معترف به لم يجحد.

والدمع يشهد أنّنى لك عاشق

والناس قد علموا وإن لم يشهد!

ص: 256

وقال آخر:

فلا تنكرن لون الدّموع فإنّما

يبيّضها تصعيدها من دم القلب!

وقال العسكرىّ:

آفة السّر من دمو

ع دوام دوامع!

كيف يخفى مع الدّمو

ع الهوامى الهوامع؟

ما رأينا أخا هوى

سرّه غير ذائع!

إنّ نيران حبّه

باديات الطلائع!

وقال خالد الكاتب:

بكيت دما حتّى بقيت بلا دم،

بكاء فتى فرد على شجن فرد!

أأبكى الذى فارقت بالدّمع وحده؟

لقد جلّ قدر الدمع فيه إذا عندى!

وقال آخر:

غدت بأحبّتى كوم المطايا،

فبان النوم وامتنع القرار.

وكان الدّمع لى ذخرا معدّا،

فأنفقت الذخيرة يوم ساروا!

وقال آخر:

طال عهدى بها فلمّا رأتنى،

نظمت لؤلؤا على تفّاح!

وقال آخر:

إذ لا جواب لمفحم متحيّر

إلا الدموع تصان بالأطراف.

وقال آخر:

تقول غداة البين عند وداعها:

إلى الكبد الحرّى: فسر، ولك الصّبر!

وقد سبقتها عبرة: فدموعها

على خدّها بيض، وفي نحرها حمر!

معناه: أن الدّموع إذا انحدرت إلى نحرها احمرّت من الطّيب.

ص: 257

قالوا: وأحسن ما قيل في صفة الدّموع إذا امتزجت بالدماء، قول أبى الشّيص:

لهون عن الإخوان إذ سفر الضّحى

وفي كبدى من حرّهنّ حريق.

مزجت دما بالدّمع حتّى كأنما

يذاب بعينى لؤلؤ وعقيق.

وقول أبى تمام:

نثرت فريد مدامع لم تنظم،

والدمع يحمل بعض ثقل المغرم!

وصلت نجيعا بالدّموع، فخدها

فى مثل حاشية الرّداء المعلم!

ومن أجود ما قيل في بياض الدمع على حمرة الخدّ قول الصولىّ:

كأنّ تلك الدّموع قطر ندى

يقطر من نرجس على ورد!

وهى أبيات تقدّمت في التوديع.

ونحوه قول ابن الرومىّ:

لمّا دنا البين وزاح الدّلّ،

ودّعتها ودمعها منهلّ.

وخدّها من قطره مخضلّ

كأنه ورد عليه طلّ!

وقال آخر:

كأنّ الدّموع على خدّها

بقيّة طلّ على جلّنار.

ومما قيل في الرضا من المحبوب باليسير، فمن ذلك قول حميد بن ثور:

أقلّب طرفى في السماء لعلّه

يوافق طرفى طرفها حين تنظر!

ومثله قول ابن المعلوط:

أليس اللّيل يجمع أمّ عمرو

وإيّانا؟ فذاك لنا تدانى!

بلى، وأرى السماء كما تراها،

ويعلوها النهار كما علانى!

ص: 258

وقال جميل:

وإنى لأرضى منك، يابثن، بالّذى

لو استيقن الواشى لقرّت بلابله!

بلا، وبأن لا أستطيع، وبالمنى

وبالأمل المكذوب قد خاب آمله!

وبالنّظرة العجلى، وبالحول ينقضى،

أواخره لا نلتقى وأوائله!

وقريب منه قول الآخر:

يودّ بأن يمسى سقيما لعلّها

إذا سمعت منه بشكوى تراسله!

ويهتزّ للمعروف في طلب العلا

لتحمد يوما عند سلمى شمائله!

أخذ العسكرىّ المعنى فقال:

وقلت: عساها إن مرضت تعودنى

فأحببت لو أنّى غدوت مريضا!

وزدت اتّساعا في المكارم والعلا

ليصبح جاهى عندهنّ عريضا!

وقال أبو الفضل بن عبد العزيز:

يا من هجرت فلا تبالى!

هل ترجع دولة الوصال؟

هل أطمع يا عذاب قلبى

أن ينعم في هواك بالى؟

الطّرف كما عهدت باك

والجسم كما ترين بالى!

ما ضرّك أن تعلّلينى

فى الوصل بموعد المحال!

أهواك وأنت حظّ غيرى،

يا قاتلتى، فما احتيالى؟

ومما قيل في النحول، فمن ذلك قول المتنبى:

أبلى الهوى أسفا يوم النّوى بدنى،

وفرّق الهجر بين الجفن والوسن!

روح تردّد في مثل الخلال إذا

أطارت الريح عنه الثوب لم يبن.

ص: 259

كفى بجسمى نحولا أننى رجل

لولا مخاطبتى إيّاك- لم ترنى!

وقال آخر:

أسرّ إذا بليت، وذاب جسمى

لعلّ الريح تحملنى إليه!

وقال ابن المعتزّ:

ماذا ترى في مدنف

يشكوك طول سقمه؟

أضنيته فما يطي

ق ضعفه حمل اسمه،

ولا يراك عائدا

إلا بعين وهمه!

وقال كشاجم:

وما زال يبرى أعظم الجسم حبّها

وينقصها حتّى لطفن عن النّقص.

فقد ذبت حتّى صرت لو أنا زرتها،

أمنت عليها أن يرى أهلها شخصى.

ومن أبلغ ما قيل في ذلك، قول ديك الجنّ:

أنحل الوجد جسمه والحنين،

وبراه الهوى فما يستبين!

لم يعش أنّه جليد؛ ولكن

دقّ جدّا، فما تراه المنون!

وقال نصير بن أحمد:

أنحلنى الحبّ فلو زجّ بى

فى مقلة النائم، لم ينتبه!

وكان لى فيما مضى خاتم

واليوم لو شئت، تمنطقت به!

وقال الحسن بن وهب:

أبليت جسمى من بعد جدّته،

فما تكاد العيون تبصره.

كأنه رسم منزل خلق

تعرفه العين، ثمّ تنكره!

ص: 260

ومما قيل في المحبوب إذا اعتلّ، قال العباس بن الأحنف:

زعموا لى أنّها صارت تحمّ!

ابتلى الله بهذا من زعم!

اشتكت أكمل ما كانت، كما

يكسف البدر إذا ما قيل تمّ!

وقال أحمد بن إسحاق الطالقانىّ:

لقد حلّت الحمّى بساحة خدّه

فأبدلت التّفّاح بالسّوسن الغضّ!

قال أبو هلال العسكرىّ: والأصل في ذلك قول عبد بنى الحسحاس. ونقل فى كتابه ديوان المعانى بسند رفعه قال: كتب عبد الله بن عامر إلى عثمان بن عفّان رضى الله عنه: إنى اشتريت لك عبدا حبشيا شاعرا. فكتب إليه عثمان: لا حاجة لى فيه، فإن قصارى الشاعر منهم أن يهجو أعراضهم ويشبب بكريمتهم. فاشتراه بنو الحسحاس، فرئى يوما وهو ينشد:

ماذا يريد السّقام من قمر

كلّ جمال لوجهه تبع؟

ما يبتغى- خاب- من محاسنه؟

أما له في القباح متّسع؟

غيّر من لونه وصفّر ما

ورّد منه الجمال والبدع.

لو كان يبغى الفداء، قيل له:

ها أنا دون الحبيب يا وجع!

ثم يقول لنفسه: أحسنك والله! يريد أحسنت. وكان العبد كما حدس عثمان، فما زال يهجو مواليه ويشبّب بنسائهم، حتّى قتلوه. فضحكت منه امرأة وقد ذهبوا به ليقتلوه، فقال:

فإن تضحكى منّى، فيا ربّ ليلة

جعلتك فيها كالقباء المفرّج!

ص: 261

وقال لهم:

فلقد تحدّر من جبين فتاتكم

عرق على ظهر الفراش وطيب!

وهو الذى مدح نفسه بقوله:

إن كنت عبدا، فنفسى حرّة كرما؛

أو أسود اللون، إنى أبيض الخلق!

ولم أورد هذه الواقعة هنا لأنه موضعها من كل وجه، وإنما الشىء بالشىء يذكر.

وقال شاعر:

لو لم تكن حمّاه مشغوفة

تعشقه طورا وتهواه،

ما عانقبت إذ أقبلت جسمه

وقبّات إذ فارقت فاه!

وقال آخر:

لو كان كلّ مريض

يزداد مثلك حسنا،

لكان كلّ صحيح

يودّ لو كان مضنى!

وقال محمد بن العباس الخوارزمىّ، من شعراء «اليتيمة» :

ولى من أمّ ملدم كلّ يوم

ضجيع لا يلذّ له منام!

مقبّلة وليس لها ثنايا،

معانقة وليس لها التزام!

كأنّ لها ضرائر من غذائى،

فيغضبها شرابى والطّعام.

إذا ما صافحت صفحات جسمى،

غدا ألفا وأمسى وهو لام.

ومما يناسب هذا الفصل ما قيل في شرب الدواء، فمن ذلك قول أبى تمام:

أعقبك الله صحّة البدن،

ما هتف الهاتفات في الغصن.

كيف وجدت الدّواء؟ أوجدك الله

شفاء به مدى الزّمن!

ص: 262

وقال ابن حجاج:

يا من به تتباهى

مجالس الخلفاء!

ومن تقصّر عنه

مدائح الشّعراء!

يا سيّدى كيف أصبح

ت بعد شرب الدّواء؟

خرجت منه تضاهى

فى الحسن بدر السّماء!

فى ثوب صحّة جسم

مطرّز بالشّفاء.

ومما قيل على لسان الورقاء- وكل مطوّقة عند العرب حمامة: كالدّبسى والقمرىّ والورشان وما أشبه ذلك. وجمعها حمام. يقال للذكر والأنثى منه حمامة.

والحمامة تبكى، وتغنّى، وتنوح، وتغرّد، وتسجع، وتقرقر، وتترنّم.

وإنما لها صوت سجيع لا يفهم: فجعله الحزين بكاء، والطّرب غناء.

قال حميد بن ثور:

مطوّقة خطباء تسجع كلّما

دنا الصيف وانزاح الربيع فأنجما.

تغنّت على غصن عشاء فلم تدع

لنائحة في نوحها متلوّما.

فلم أر مثلى شاقه صوت مثلها،

ولا عربيّا شاقه صوت أعجما!

وقال مجنون بنى عامر:

ألا يا حمامات اللّوى عدن غدوة

فإنّى إلى أصواتكنّ حزين!

فعدن؛ فلمّا عدن، كدن يمتننى

وكدت بأسرار لهنّ أبين!

فلم تر عينى مثلهنّ حمائما

بكين، ولم تدمع لهنّ عيون!

ص: 263

وقال أبو الأسود الدؤلى:

وساجع في فروع الأيك هيّجنى!

لم أدر لم ناح ممّا بى ولم سجعا؟

أباكيا إلفه من بعد فرقته،

أم جازعا للنّوى من قبل أن يقعا؟

يدعو حمامته، والطير هاجعة:

فما هجعت له ليلى وما هجعا!

شكا النّوى فبكى خوف الأسى فرمى

بين الجوانح من أوجاعه وجعا!

كأنّه راهب في رأس صومعة

يتلو الزّبور، ونجم الصّبح قد طلعا!

وقال جحدر العكلىّ:

وقدما هاجنى فازددت شوقا

بكاء حمامتين تجاوبان.

تجاوبتا بلحن أعجمىّ

على عودين من غرب وبان.

فكان البان أن بانت سليمى

وفي الغرب اغتراب غير دانى!

وقال عوف بن محلّم:

ألا يا حمام الأيك إلفك حاضر

وغصنك ميّاد! ففيم تنوح؟

وقال ابن عبد ربه من ابيات:

وكيف، ولى قلب اذا هبّت الصّبا

أهاب بشوق في الضّلوع دفين؟

ويهتاج منه كلّ ما كان ساكنا

دعاء حمام لم تبت بوكون.

وإنّ ارتياحى من بكاء حمامة

كذى شجن داويته بشجون.

كأنّ حمام الأيك لمّا تجاوبت،

خزين بكى من رحمة لحزين!

وقال ابن قلاقس:

غناء حمام في معاطف بان

إلى مذهب الحبّ القديم ثنانى.

ص: 264

تغنّى فأعطاف الغصون رواقص

وأحداق أزهار الرّياض روانى.

فذكّرنى شرخ الزمان فمدمعى

سفوح وقلبى دائم الخفقان.

وقال أعرابىّ:

وقبلى أبكى كلّ من كان ذا هوى

هتوف البواكى والدّيار البلاقع.

وهنّ على الأغصان من كلّ جانب

نوائح، ما تخضلّ منها المدامع!

وقال فتح الدين بن عبد الظاهر:

نسب الناس للحمامة حزنا،

وأراها في الحزن ليست هنا لك!

خضبت كفّها وطوّقت الجي

د وغنّت، وما الحزين كذلك!

وقال ابن الرومىّ:

أشجتك داعية مع الإشراق،

هتفت بساق من ذؤابة ساق؟

أيكيّة تدعو، ولم أر باكيا

ريب الزمان قرينها لفراق.

تبدو أواميت [1] الشّجى في صوتها

وترى عليها أنّة الإطراق.

لو تستطيع، تسلّبت من طوقها

لو كان منتحلا من الأطواق.

ومما قيل في المراجعات، فمن ذلك قول وضّاح اليمن:

قالت: ألا لا تلجن دارنا،

إنّ أبانا رجل غائر!

أما رأيت الباب من دوننا؟

قلت: فإنّى واثب طافر!

قالت: فإن القصر من دوننا!

قلت: فإنّى فوقه ظاهر!

[1] يطلق الامت في اللغة على الضعف والوهن ويجمع على إمات وأموت ولم تر جمعه على أواميت.

ص: 265

قالت: فإنّ الليث عال به

قلت: فسيفى مرهف باتر!

قالت: فهذا البحر ما بيننا

قلت: فإنّى سابح ماهر!

قالت: أليس الله من فوقنا؟

قلت: بلى! وهو لنا غافر.

قالت: فإمّا كنت أعييتنا،

فأت إذا ما هجع السّامر!

واسقط علينا كسقوط النّدى،

ليلة لا ناه ولا زاجر!

وقال المؤمل بن أميل:

وطارقات طرقننى رسلا،

والليل كالطّيلسان معتكر.

فقلن: جئنا إليك عن ثقة

من عند خود كأنّها قمر!

هل لك في غادة منعّمة

يحار فيها من حسنها النّظر؟

فى الجيد منها طول إذا التفتت

وفي خطاها إذا خطت قصر.

فقمت أسعى إلى محجّبة

تضىء منها البيوت والحجر.

فقلت لمّا بدا تخفّرها:

جودى، ولا يمنعنّك الخفر.

قالت: توقّر، ودع مقالك ذا

أنت امرؤ بالقبيح مشتهر!

والله لا نلت ما تحاول أو

ينبت في بطن راحتى شعر!

لا أنت لى قيّم فتجبرنى

ولا أمير علىّ مؤتمر.

قلت: ولكن ضيف أتاك به

تحت الظلام القضاء والقدر.

فاحتسبى الأجر في إنالته،

ويا سرى قد تطاول العسر!

قالت: فقد جئت تبتغى عملا

تكاد منه السماء تنفطر.

فقلت: لمّا رأيتها حرجت

وغشيتها الهموم والفكر:

لا عاقب الله في الصّبا أبدا

أنثى ولكن يعاقب الذّكر!

ص: 266

قالت: لقد جئتنا بمبتدع،

وقد أتتنا بغيره النّذر.

قد بيّن الله في الكتاب فلا

وازرة غير وزرها تزر.

قلت: دعى سورة لهجت بها

لا تحرمنّا لذّاتنا السّور.

وجهك وجه تمّت محاسنه،

لا وأبى لا تمسّه سقر.

وقال آخر:

خطرت فقلت لها مقالة مغرم:

ماذا عليك من السّلام فسلّمى.

قالت: بمن تعنى فحبّك بيّن

فى سقم جسمك؟ قلت: بالمتكلّم.

فتبسّمت، فبكيت، قالت: لا ترع

فلعلّ مثل هواك بالمتبسّم.

قلت: اتّفقنا في الهوى، فزيارة

أو موعدا قبل الزيارة قدّمى.

فتضاحكت عجبا، وقالت: يا فتى

لو لم أدعك تنام، بى لم تحلم.

وقال آخر:

ولمّا نزلنا على زمزم،

ونحن نريد طواف الإفاضه،

بكيت، فقالت: علام البكا؟

فقلت: على الودّ أخشى انتقاضه.

فقالت: ثكلتك من عاشق

تشمّر ذيلك قبل المخاضه.

فقلت: صدقت، ولكنّنى

أعلّم نفسى طريق الرّياضه.

ومما قيل في المردوف، قال بعض الشعراء:

عيناك على سفك دمى أسرفتا

والجسم نحيل.

أطلق برضاك في الهوى أسرفتى

حيران ذليل.

ص: 267

فى ريقك خمرتان قد حرّمتا

من غير دليل.

والعاشق ظمآن فيا حرّ! متى

تسقيه قليل؟

وقال آخر:

فى خدّك وردتان قد ركّبتا

من فوق قضيب.

فى قلبى جمرتان قد أضرمتا:

نار ولهيب.

حلّفتك بالإله يا خير فتى

رفقا بكئيب.

حيران يهيم بين حتّى ومتى

والأمر عجيب.

وقال آخر:

يا بدر! عصيت في الهوى عذّالى

طوعا لهواك.

وانقدت لأمرك الكبير العالى

ما قلّ وفاك!.

إن كان رضاك سقم جسمى البالى

صبرا لرضاك.

عذّب جسدى بسائر الأحوال

إلا بجفاك.

وقال آخر:

يا مرتحلا إلى الحمى مصرفه

بالله عليك

خذ معك كتاب، فيه خبرى.

لى ثمّ رشا عساك تستعطفه

إن هان عليك

فى رد جواب، للمنتظر.

إن عرّض بى، فقل: نعم أعرفه

يشتاق اليك

قد رقّ وذاب، بين البشر.

ما يتركه هواك أو تتلفه

والأمر اليك

ما الهجر صواب، من مقتدر.

ومما قيل في الجناس، قال ابو الفضل الميكالى:

مواعيده بالوصل أحلام. نائم

أشبّهها بالقفر أو بسرابه

فمن لى بوجه لو تحيّر في الدجى

أخو سفر في جنح ليل سرى به

ص: 268

وقال أيضا:

صل محبّا، أعياه وصف هواه

فضناه ينوب عن ترجمانه.

كلّما راقه سواك، تصدّت

مقلتاه بدمعه ترجمانه.

وقال آخر:

ما ضرّ من قد أباح قتلى

فى حبّه لو أباح ريقه.

أبى فؤادى السلوّ عنه

لكنه ما أبى حريقه.

وقال آخر:

أقول والليل مرخىّ غياهبه

والدّير يسمعنى حسّ النواقيس:

يا نفس كم بين مسرور بلذّته

وبين مبلى بتشتيت النوى قيسى.

وقال آخر:

يا من تنكّدت الدنيا لغيبته

أساخط أنت عنى اليوم أم راضى؟

أمرضت بالهجر قلب المستهام فما

عليك، بالوصل لو داويت أمراضى؟

وقال آخر:

لقد راعنى بدر الدجى بصدوده

ووكّل أجفانى برعى كواكبه.

فيا عبرتى سحّى دما لفراقه

ويا كبدى صبرا على ما كواك به!

وقال آخر:

قلت له: ماذا السواد الذى

فيك تبدّى؟ قال: ذا غاليه.

فقلت: قبّلنى إذا قبلة

فقال: خذها قبلة غاليه.

فقلت: ما تغلو على عاشق

فى حبكم، ذى كبد غاليه.

ص: 269

وقال آخر:

شافه كفّى رشأ

بقبلة ما شفت.

فقلت إذ قبّلها:

يا ليت كفّى شفتى!

وقال آخر:

لم يكفكم أخذ قلبه سلبا

حتى أخذتم عن طرفه وسنه.

كم ليلة بات للغرام وكم

يوم وشهر ما نامه وسنه.

وقال آخر:

يا من لحظاته أسود وثبت

قد صحّ هواك في فؤادى وثبت.

جرّدت لها سيوف صبرى فنبت

يا من غرس الهوى بقلبى فنبت.

وقال آخر:

يا من بحشاشتى- إذا غاب- سكن

هيّجت من الغرام ما كان سكن.

يا من شرع الصدود في الحبّ وسنّ

من بعدك مهجورك ما ذاق وسن.

وقال آخر:

أهوى قمرا سفك دمى حلّ له

فى أىّ شريعة ومن حلّله.

ما بلّل شعره وما حلّله

إلا سمح البخيل وانحلّ له.

وقال آخر:

من بلّل صدغ قاتلى من سلسل؟

من أودع ثغره رحيقا سلسل؟

من علّلنى في حبّه؟ من سلسل؟

يا عاذل إن جهلت ما بى سل سل.

وقال آخر:

يا بانة لحبّها

فى القلب أصل قد نبت.

ص: 270

سيوف صبرى عن سيو

ف مقلتيك قد نبت.

تلك لحاظ أعين

أم أسد غيل وثبت؟ [1]

لواحظ لو برزت

فى يوم حرب، لسبت.

وعقرب الصّدغ التى

لكلّ قلب لسبت.

أسناؤكم تاقت لها الن

فوس يوما وصبت.

لا سيّما إن حملت

نشرك ريح وصبت.

فخيلهم دون بلو

غ السّول فينا قد كبت.

أفدى حبيبا زارنى

فكم عدوّ قد كبت.

رعى حقوقى في الهوى

عليه لمّا وجبت.

وسكّن الأحشاء بال

وصال لمّا وجبت.

وقال أيضا:

من لفتى، جار علي

هـ طرفه فيما قضى؟

صبّ إذا الدهر قضى

عليه بالبين، قضى.

يبكى على دهر تول

ى بالتدانى أو مضى.

تمطر عيناه إذا ال

برق الشآمى أو مضا.

وقال آخر:

رمى حرّ قلبى بهجرانه

رشا مادرى قدر ما قد رمى.

وقد كان قدّم إحسانه

ولكنه قدّ ما قدّما.

فتسليم أمرى به للقضا

ذخرت به أجر ما أجرما.

[1] لعل هنا بيتا سقط من الأصل ولم نعثر عليه.

ص: 271

ومما قيل في الموشّحات، فمن ذلك ما قاله بعض الأندلسيين:

يد الإصباح، قدحت زناد الأنوار

فى مجامر الزّهر.

دهر جذلان، واعتدال ريعان

فما الإظعان؟ عن طلّا وغزلان.

راق الزمان، وشدت على البان

ذات الجناح، وانثنت قدود الأشجار.

فى الغلائل الخضر

لنا أجساد، للسرور تنجذب

كما تنقاد، لربيعها العرب.

حتى الجماد، لا يفوته الطرب

طافت بالراح، سحب فسكر النّوّار.

من سلافة القطر

إن انخلاعى، مع رشا وصهباء

لدى بقاع، حكت وشى صنعاء.

وللشّعاع، لهب على الماء

وللرياح، فى متون تلك الأنهار.

شبك من التّبر

وريم المى، بات بيده صدرى

كبدر تمّا، وسط غرّة الشهر.

شدوت لمّا، راعنى سنا الفجر

قل للصباح: إن تدن بطرد الأقمار.

فمع الدجى نسرى

وغصن مائل، الهلال أعلاه

له من نابل، فى النفوس قتلاه.

سيف الحمائل، غمده عذاراه

طوع الجماع، إن يكن كثير النّفار.

فهى عادة العفر

وقال ابن بقى:

ما بى شمول، إلا شجون

مزاجها في الكأس، دمع هتون.

ص: 272

لله ما بذّر، من الدموع

صبّ قد استعبر، من الولوع.

أودى به جؤذر، يوم البقيع

فهو قتيل؛ لابل طعين.

بين الرجا والياس، له منون

[خرجت للحين، كفّى بكفّى

وحيل ما بينى، وبين إلفى.

لا شك بالبين، يكون حتفى

حان الرحيل، ولى ديون.

إن ردها العباس، فهو الأمين] [1]

أما ترى البدرا؟ بدر السعود

قد اكتسى خضرا، من البرود.

إذا انثنى نضرا، من الفدود

أضحى يقول،: مت يا حزين.

قد اكتسى بالياس، الياسمين

قلت وقد شرّد، النوم عنّى

وآيس العوّد، السقم منّى:

صدّ فلما صدّ، قرعت سنّى

جسمى نحيل، لا يستبين.

يطلبه الجلّاس، حيث الأنين

تجاوز الحدّا، قلبى اشتياقا

وكلّف السهدا، من لا أطاقا.

قلت وقد مدّا، ليلى رواقا

ليلى طويل، ولا معين:

يا قلب بعض الناس، أما تلين؟

وقال سراج الدين عمر الكتّانى الحلبىّ، يمدح الملك المنصور صاحب حماه:

جسمى ذوى، بالكمد، والسهر، والوصب، من جانى

ذى شنب، كالبرد، كالدّرر، كالحبب، جمانى.

[1] الزيادة من نفح الطيب.

ص: 273

لى غصن بان نضر

يسبيك منه الهيف.

يرتع فيه النظر

فزهره يقتطف.

والخدّ منه قفر

والجسم منه ترف.

قد جاءنا يعتذر

عذاره المنعطف.

ثم التوى، كالزرد، معبقرى، معقربى، ريحانى

فى مذهب، مورّد، مدنّر، مكتّب، سوسانى.

ظبى له مرتشف

كالسلسبيل البارد.

غصن نقا ينعطف

من لين قدّ مائد.

بدر علاه سدف

من ليل شعر وارد.

مقرطق مشنّف

يختال في القلائد.

بين اللّوى، وثهمد، كجؤذر، فى ربرب، غزلانى

ذى ضرب، ذى غيد، ذى حور، ذى هدب، وسنانى.

أما وحلى جيده!

ورنّة الخلاخل!

والضمّ من بروده

قدّ قضيب مائل.

والورد من خدوده،

إذ نمّ في الغلائل.

لا كنت من صدوده

متصلا بعاذل!

نار الجوى، لا تخمدى، واستعرى، وكذّبى، سلوانى

وأسبلى، واطّردى، وانهمرى كالسّحب، أجفانى.

ص: 274

مولاى جفنى ساهر

مؤرّق كما ترى.

فلا خيال زائر

يطرقنى ولا كرى.

إنّى عليل صابر

فما جزا من صبرا؟

إن سحّ دمعى الهامر

فلا تلمه إن جرى.

جال الهوى، فى جلدى، ومضمرى، أضرّبى، كتمانى

مؤنّبى، اتّئد، لا تفتر. وجنّب، عن عانى.

إن صال بالهجر وصد

رحت بصبرى مرتدى.

عنه وإن طال الأمد

إلى ذرى محمد.

وكيف يخشى من قصد

ملكا كريم المحتد.

الملك المنصور قد

سما سماء السّودد.

ثم استوى، بأجرد، مضمّر، ومقضب، يمانى

ذى شطب، مهنّد. وسمهرى. مضطرب، مرّانى.

ملكا علت همّاته

من فوق هام المشترى.

وبخّلت راحاته

سحّ السحاب الممطر.

وعوّذت راياته

بمحكمات السّور.

بدر بدت هالاته

من الصباح المسفر.

تحت لوى، منعقد، بالظّفر، فى موكب، فرسانى

كالأشهب، فى الأسعد، كالأقمر. فى أعذب، سيحانى.

ص: 275