الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يقال: رجل متبول؛ والتّدليه، ذهاب العقل من الهوى، يقال: رجل مدلّه؛ والهيوم أن يذهب على وجهه؛ والشّغف إحراق القلب مع لذة يجدها وهو شبيه باللّوعة.
وقال أبو عبد الله بن عرفة: الإرادة قبل المحبة، ثم المحبة، ثم الهوى، ثم العشق.
وقال ابن دريد: الصّبابة رقّة الهوى. واشتقاق الحب من أحب البعير، إذا برك من الإعياء.
ذكر ما قيل في الفرق بين المحبة والعشق
قالوا: المحبة جنس، والعشق نوع. فإن الرجل يحب أباه وأمه، ولا يبعثه ذلك على تلف نفسه، بخلاف العاشق.
وقد حكى أن بعض العشاق نظر إلى جارية كان يهواها، فارتعدت فرائصه وغشى عليه، فقيل لبعض الحكماء: ما الذى أصابه؟ فقال: نظر من يحبّه، فانفرج قلبه، فتحرّك الجسم لانفراج القلب! فقيل له: فنحن نحب أهالينا ولا يصيبنا ذلك فقال: تلك محبة العقل، وهذه محبة الرّوح! وقالوا: كل عشق يسمّى حبّا، وليس كل حب يسمّى عشقا. لأن العشق اسم لما فضل عن المحبة، كما أن السّرف اسم لما جاوز الجود، والبخل اسم لما نقص عن الاقتصاد، والجبن اسم لما فضل عن شدّة الاحتراس، والهوج اسم لما فضل عن الشجاعة.
قال الشاعر:
ثلاثة أحباب: فحبّ علاقة،
…
وحبّ تملّاق، وحبّ هو القتل!
وأما سبب العشق وما قيل فيه، فقالوا: سبب العشق مصادفة النفس ما يلائم طبعها فتستحسنه وتميل إليه. وأكثر أسباب المصادفة النظر. ولا يكون ذلك بالملح، بل بالتثبت في النظر ومعاودته بالنظر، فإذا غاب المحبوب عن العين طلبته النفس، ورامت التقرّب منه، وتمنّت الاستمتاع به. فيصير فكرها فيه، وتصويرها إياه في الغيبة حاضرا، وشغلها كله به، فيتجدّد من ذلك أمراض لانصراف الفكر إلى ذلك المعنى. وكلما قويت الشهوة البدنية، قوى الفكر في ذلك. وقد أمر الله عز وجل بغضّ البصر فقال:(قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ)
(وَقُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ)
. فقرن غض البصر بحفظ الفرج، لأنه يسببه ويؤول إليه.
وعن علىّ رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم! قال: «لا تتبع النظرة النظرة، فإن لك الأولى! وليست لك الآخرة» .
وعن أبى هريرة رضى الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «العينان تزنيان، وزناهما النظر» .
وعن علىّ رضى الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم! «يا علىّ، اتّق النظرة بعد النّظرة! فإنها سهم مسموم، يورث الشّهوة في القلب» .
وعن أنس رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نظر الرجل إلى محاسن المرأة سهم مسموم من سهام إبليس» .
وعن يحيى بن سعيد قال: كان عيسى بن مريم عليه السلام يقول: «النظر يزرع في القلب الشهوة، وكفى بها خطيئة!» .
وعن سفيان قال: قال عيسى عليه السلام: «إيّاكم والنظر! فإنّه يزرع في القلب الشهوة، وكفى بها لصاحبها فتنة!» .
وقال الحسن البصرىّ: من أطلق طرفه، أطال أسفه.
وقال ذو النون: اللّحظات تورث الحسرات: أوّلها أسف، وآخرها تلف. فمن تابع طرفه، تابع حتفه.
وقال حكيم: أوّل العشق النظر، وأوّل الحريق الشّرر.
وقال أبو الفرج بن الجوزىّ: البصر صاحب خبر القلب. ينقل إليه أخبار المبصرات، وينقش فيه صورها، فيجول الفكر فيها فيشغله ذلك عن الفكر فيما ينفعه من أمر الآخرة. فاحذر من شر النظر! فكم أهلك من عابد، وفسخ عزم زاهد! وهو سبب الآفات، إلا أن علاجه في بدايته قريب. فإذا كرر تمكن الشرّ فصعب علاجه. فإن النظرة إذا أثّرت في القلب، فإن أعجل الحازم بغضها وحسم المادّة من أوّلها سهل علاجه، وإن كرر النظر نقّب عن محاسن الصورة ونقلها إلى قلب متفرّغ ونقشها فيه. فكلما تواصلت النظرات كانت كالمياه تسقى بها الشجرة، فلا تزال تنمو فيفسد القلب، ويعرض عن الفكر فيما أمر به، ويخرج بصاحبه الى المحن، ويوجب ارتكاب المحظورات، ويلقى في التلف.
وقد أكثر الشعراء في وصف ما يحدثه النظر من البلايا، فمن ذلك، قول الفرزدق:
تزوّد منها نظرة لم تدع له
…
فؤادا، ولم يشعر بما قد تزوّدا.
فلم أر مقتولا ولم أر قاتلا
…
بغير سلاح مثلها حين أقصدا.
وقال إبراهيم بن العباس بن صول الكاتب:
فمن كان يؤتى من عدوّ وحاسد،
…
فإنّى من عينى أتيت ومن قلبى!
هما اعتورانى نظرة ثم فكرة،
…
فما أبقيا لى من رقاد ولا لبّ!
وقال إسمعيل بن عمار الأعرابىّ:
عينان مشئومتان، ويحهما!
…
والقلب حيران مبتلى بهما.
عرّفتاه الهوى لظلمهما،
…
يا ليتنى قبله عدمتهما!
وقال أبو عبد الله المارستانىّ:
رمانى بها طرفى فلم يخط مقتلى،
…
وما كلّ من يرمى تصاب مقاتله!
إذا متّ، فابكونى قتيلا لطرفه
…
قتيل عدوّ حاضر ما يزايله!
وقال ابن المعتز:
متيّم يرعى نجوم الدّجى
…
يبكى عليه رحمة عاذله!
عينى أشاطت بدمى في الهوى،
…
فابكوا قتيلا بعضه قاتله!
وقال المتنبى:
وأنا الّذى اجتلب المنيّة طرفه
…
فمن المطالب؟ والقتيل القاتل!
وقال ابن المعتز:
وما أدرى، إذا ما جنّ ليل،
…
أشوقا في فؤادى أم حريقا؟
ألا يا مقلتىّ، دهيتمانى
…
بلحظكما فذوقا! ثم ذوقا!
وقال أبو عبد الله بن الحجاج:
يا من رأى سقمى يزي
…
د وعلّتى تعيى طبيبى.
لا تعجبنّ فهكذا
…
تجّنى العيون على الدّلوب!
وقال أبو منصور بن الفضل:
لواحظنا، تجنى ولا علم عندها
…
وأنفسنا مأخوذة بالجرائر.
ولم أر أغبى من نفوس عفائف
…
تصدّق أخبار العيون الفواجر.
ومن كانت الأجفان حجّاب قلبه
…
أذنّ على أحشائه بالفواقر!
وقال أبو محمد بن الخفاجىّ:
رمت عينها عينى، وراحت سليمة!
…
فمن حاكم بين الكحيلة والعبرا؟
فياطرف، قد حذّرتك النظرة التى
…
خلست فما راقبت نهيا ولا زجرا!
ويا قلب، قد أرداك من قبل مرة!
…
فويحك! لم طاوعته مرّة أخرى؟
وقال عبد المحسن بن غالب الصورىّ:
ما نظرة إلا لها سكرة
…
كأنّما طرفك خمّار.
هذا هوى يصدر عنه جوى
…
يتلوه لوعات وأفكار.
وهذه أفعالها، هذه!
…
ما بعد رأى العين إخبار.
ولم يكن أوّل من غرنى!
…
كلّ غرير الطّرف غرّار!
وقال أبو شجاع الوزير:
لأعذّبنّ العين غير مفكّر
…
فيها، جرت بالدمع أم فاضت دما!
ولأهجرنّ من الرّقاد لذيذه
…
حتّى يصير على الجفون محرّما!
سفكت دمى، فلأسفكنّ دموعها
…
وهى التى بدأت فكانت أظلما!
هى أوقعتنى في حبائل فتنة:
…
لو لم تكن نظرت، لكنت مسلّما!
وقال آخر عفا الله عنه:
يا عين أنت قتلتنى،
…
وجعلت ذنبك من ذنوبى!