الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الإمام: اختلف في أن كفر الكافر الأصلي أقبح أم كفر المنافق؟
فقال قوم: الأصلي أقبح؛ لأنه جاهل بالقلب، كاذب باللسان.
وقال آخرون: بل النفاق؛ لأن المنافق أيضاً كاذب باللسان، فإنه يخبر عن كونه على ذلك الاعتقاد، مع أنه ليس عليه، وقد اختص بمزيد أمور منكرة.
منها: أنه قصد التلبيس، ورضي لنفسه بسمة الكذب، وضم إلى كفره الاستهزاء، والكافر الأصلي بخلاف ذلك (1).
قوله: (وقصتهم عن آخرها معطوفة على قصة المصرين)
قال الطيبي: يحتمل وجهين:
أحدهما: أن العطف من حيث حصول مضمون الجملتين في الوجود.
والثاني: أن الجهة الجامعة بين من محض الكفر ظاهرا وباطنا، وبين من أظهر الإيمان وأبطن الكفر التوافق في الكفر (2).
وقال الشيخ سعد الدين: المراد أنه من عطف مجموع الكلام المسوق لغرض، على مجموع قبله، مسوق لغرض آخر، لا يشترط فيه إلا تناسب الغرضين، ولا يتكلف لجملة من هذا مناسبة مع جملة من ذلك.
ولا يرد باشتمال أحد المجموعين على ما لا يناسب المذكور في المجموع الآخر (3).
وقال الشريف: أي ليس هذا من عطف جملة على جملة ليطلب بينهما المناسبة المصححة لعطف الثانية على الأولى، بل من عطف مجموع جمل متعددة مسوقة لغرض على مجموع جمل أخرى، مسوقة لغرض آخر، فيشترط فيه التناسب بين الغرضين، دون آحاد الجمل الواقعة في المجموعين.
قال: وهذا أصل عظيم في باب العطف، لم يتنبه له كثيرون، فأشكل عليهم الأمر في مواضع شتى (4).
* * *
قوله (والناس أصله أناس)
قال ابن الشجري في " أماليه ": وزن أناس فعال، وناس منقوص منه عند أكثر
النحويين -، فوزنه عال، والنقص والإتمام فيه متساويان في كثرة الاستعمال ما دام منكورا، فإذا دخلت الألف واللام التزموا فيه الحذف، فقالوا: الناس، ولا يكادون يقولون: الأناس إلا في الشعر، كقوله:
إِنَّ المَنَايَا يَطْلَعـ. . نَ عَلى الأنَاسِ الآمِنِيْنَا (1)
وحجة هذا المذهب وقوع الأنس على الناس، فاشتقاقه من الأنس نقيض الوحشة؛ لأن بعضهم يأنس ببعض.
وذهب الكسائي إلى أن الناس لغة مفردة، وهو اسم تام، وألفه منقلبة عن واو.
واستدل بقول العرب في تحقيره نويس.
قال: ولو كان منقوصا من أناس لرده التحقير إلى أصله، فقيل: أنيس.
وقال بعض من وافق الكسائي في هذا القول: إنه مأخوذ من النوْس، مصدر ناس ينوس إذا تحرَّك، ومنه قيل لملك من ملوك حمير: ذو نواس؛ لضفيرتين كانتا تنوسان على عاتقه.
قال الفراء: والمذهب الأول أشبه، وهو مذهب المشيخة.
وقال أبو عليٍّ: أصل الناس الأناس، فحذفت الهمزة التي هي فاء، ويدلك على ذلك الإنس والأناسي، فأمَّا قولهم في تحقيره: نويس فإن الألف لما صارت ثانية زائدة أشبهت ألف ضارب، فقيل: نويس، كما قيل: ضويرب.
وقال سلمة بن عاصم (2) - وكان من أصحاب الفراء -: الأشبه في القياس أن يكون كل واحد منهما أصلا بنفسه، وأناس من الأنس، وناس من النوس، لقولهم في تحقيره: نويس، كبويب في تحقير باب (3). انتهى.
وقال ابن جني في " الخصائص ": الناس أصله أناس، قال الشاعر (4):
وإنَّا أُنَاسٌ لا نَرَى القَتْلَ سُبَّةً. . . إذا ما رَأَتْهُ عَامِرٌ وَسَلُوْلُ
ولا تكاد الهمزة تستعمل مع لام التعريف، غير أن أبا عثمان أنشد:
إِنَّ المَنَايَا يَطْلَعـ. . نَ عَلى الأنَاسِ الآمِنِيْنَا (1)
وقال ابن يعيش في " شرح المفصل ": أصله أناس حذفوا الهمزة، وصارت الألف واللام في " الناس " عوضا منها، ولذلك لا يجتمعان، فأمَّا قولهم:
إِنَّ المَنَايَا يَطْلَعـ. . نَ عَلى الأنَاسِ الآمِنِيْنَا
فمردود لا يعرف قائله (2).
وقال ابن يعيش في " شرح التصريف الملوكي ": أصل ناس أناس، ووزنه عال، محذوف الفاء، وهو فعال من الأنس، واشتقاقه من آنست الشيء إذا رأيته، كأنهم سموا بذلك لظهورهم، أو من آنست، أي علمت، كأنهم سموا بذلك لعلمهم.
وإنسان فعلان مثه، وجمعه أناسي، قال تعالى (وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا)[سورة الفرقان 49] قلبوا النون ياء.
ومثله ظِرْبَانٌ وظِرَابِي.
وقيل: أناسي جمع أنسي، كبختي وبخاتي.
وقيل: أصله ناس، ووزنه فعل في الأصل، من ناس ينوس إذا اضطرب، والهمزة في أناس زائدة، دل على ذلك قولهم في التصغير نويس.
وقال الكسائي: هما لغتان ليس أخدهما أصلا للآخر، والوجه الأول، وهو مذهب سيبويه (3). انتهى.
قوله (فحذفت الهمزة، حذفها في لوقة)
في " الصحاج ": اللوقة بالضم الزبدة، وفيها لغتان، لُوْقَةٌ، وَأَلُوْقَةٌ قال الشاعر:
وَإنِّيْ لِمَنْ سَألَتُمْ لأَلُوْقَةٌ. . . وإنِّيْ لِمَنْ عَادَيْتُمْ سُمٌّ أَسْوَدِ (4)
قوله: (وقوله: إِن المَنَايَا يَطلِعْـ. . . نَ على الأنَاسِ الآمِنِيْنَا)
ذكر ابن يعيش أنه لا يعرف قائله، وبعده:
فَتَذَرْهُمُ شَتَّى وَقَدْ. . . كَانُوْا جَمِيْعاً وَافِرِيْنَا
قوله: (وهو اسم جمع)
زاد غيره: لإنسان وإنسانة.
الطيبي: الفرق بين الجمع الحقيقي، وبين اسم الجمع، أن اسم الجمع في حكم الأفراد بدليل جواز التصغير فيه، ولا يجوز تصغير الجمع الحقيقي إذا كان جمج الكثرة. مثال اسم الجمع ركْب وسَفْر، وصَحْب، يجوز أن يقال: رُكَيب، سُفَير، صُحَيب، ولا يجوزون في جمع الكثرة، بل يجب أن يرد إلى واحده، أو إلى جمع قلة إن وجد (1).
قوله: (كرخال) هو بضم الراء، وبكسرها أيضاً، الواحد رخل بكسر الخاء، الأنثى من أولاد الضأن، والذكر حَمَل.
وفي " الصحاح ": إن الرخال جمع الرخل (2).
قال الطيبي: وكذا عن صاحب " الكشاف " في أبيات له (3).
قال: وهو مخالف لما ذكره هنا (4)، وفي الأعراف (5) من كونه اسم جمع.
والأبيات المذكورة قوله:
مَا سَمِعْنَا كَلِماً غَيْرَ ثَمانٍ. . . هُنَّ جَمْعٌ وهي فِي الوَزْنِ فُعالٌ
فَرُبَاب وفُرَارٌ وتُوَءامٌ. . . وعُراقٌ وعُرَامٌ ورُخَال
وظوار جَمْعُ ظِئْرٍ، وبُسَاطٌ. . . جَمْعُ بِسْط، هكذا في ما يُقالٌ
الرباب جمع رُبَّى، على فعلى بالضم، وهي الشاة التي وضعت حديثا. والفرار جمع فرير، وهو ولد البقرة الوحشية. والتُّؤام جمع توأم، على فوعل. والعُراق جمع عَرْق بفتح العين، العظم الذي أخذ عنه اللحم. والعرام بمعناه. والظؤار جمع ظئر، وهي المرضعة. والبساط جمع بسط بكسر الباء، وهي الناقة تخلى مع ولدها، لا يمنع منها.
قلت: قال ابن خالويه (6) في كتابه " ليس ": لم يجمع على فُعال إلا نحو عشرة
أحرف، فذكر من هذه الثمانية ستة، وزاد: ثِنى وثُناء، وهو الولد الذي بعد البكر، ورَذْلٌ، ورُذَال، وهو الشيء الرديء، ونَذْلٌ ونُذال، وهو الخسيس (1).
وقال القالي في " أماليه ": لم يأت من فُعال إلا أحرف قليلة جدا، فذكر بعض ما تقدم، وزاد قولهم: نعم جُفال للكثيرة، ونعم كُثاب كثيرة، وبراء جمع بريء (2).
وقد حصل مما زاده (3) ستة ألفاظ، وقد نظمتها مذيلا على أبيات الزمخشري، فقلت:
قلت: قد زيد ثُناء وبُراء. . . ونُذال ورُذال وجُفال
وكُثاب في كتابي (4) ليس مَعْ. . . كتب القالي، هيا يا رجال
وقل عرف بذلك أن قول المصنف: (إذ لم يثبت فعال في أبنية الجمع) منقوض بما ذكرناه.
قوله: (مأخوذ من أنِسَ أو آنَسَ)
اقتصر عليهما بناء على ما ذكره من أن أصله أناس، وذكر غيره قولين آخرين:
أنه مأخوذ من النسيان، أو من ناس ينوس نوسا إذا تحرّك، فلا همزة ولا حذف.
والقول بأنه من النسيان هو الصحيح الوارد عن ابن عباس، كما أخرجه الطبراني وغيره (5).
وعليه فأصله نَسَيٌ، قلبت اللام قبل العين فصار نَيَساً، تحرّكت الياء وانفتح ما قبلها قلبت ألفا، فصارت ناسا.
فإن قلت: قوله: (مأخوذ من أنس) مشكل من وجهين: ()
أحدهما: أن الاشتقاق إنما يكون في (1) الأفعال والصفات، والناس، والإنسان اسم عين، لا فعل، ولا صفة، فكيف يصح اشتقاقه؟.
والثاني: أن أنس فعل، والفعل لا يشتق منه إلا على رأي الكوفيين.
قلت: هذه غفلة عن معنى الأخذ، وظن أنه مرادف للاشتقاق، وليس كذلك كما تقرر في أصولي الفقه والنحو من أن دائرة الأخذ أو سع من دائرة الاشتقاق.
وتحقيقه - على ما يؤخذ من " الخصائص " لابن جني وغيره - أن كل مادة ثلاثية فإن لها تقاليب ستة، منها المستعمل والمهمل، فالمستعمل منها يشترك في أمر عام يرجع إليه الأخذ.
مثاله مادة الكلام، ك ل م، فهذه الحروف الثلاثة بتقاليبها تدل على التأثير بشدة، فمنه الكَلامُ؛ لتأثيره في النفس، والكَلْمُ، وهو الجرح؛ لتأثيره في البدن، والمِلْكُ، لتأثيره في التضرّف في الأعيان، والمُلْكُ؛ لتأثيره في التصرف فيما زاد على المِلك، والمَلْكُ بالفتح، وهو شدة التأثير في العجين، واللَّكْمُ، وهو أشد الضرب، وتأثيره واضح، والكَمَال؛ لتأثيره في المعنى المقصود له، فهذه أربع تقاليب مستعملة.
وبقي اثنان مهملان، مَكْلٌ، لَمْكٌ، وكلها راجعة إلى مادة ك ل م، أعني الحروف الثلاثة، فهذا هو معنى الأخذ، وليس فيه اشتقاق (2).
والحاصل أن حروف المادة كالخشب مثلا يتخذ منه سرير، وباب، وكرسي، إلى غير ذلك، فأسماؤها وصيغها مختلفة، ومادتها المأخوذة منها شيء واحد، وهو في الألفاظ كذلك من غير اشتقاق، ولا موافقة في معنى، ولا عمل.
قوله: (ولذلك سموا بشرا)
في بعض الحواشي: أراد أن بشرتهم ظاهرة، وبشرة غيرهم مستترة بصوف، أو ريش، أو غيره.
قوله: (واللام فيه للجنس، و " من " موصوفة؛ إذ لا عهد، كأنه (3) قال: ومن الناس ناس يقولون، وقيل: للعهد، والمعهود هم الذين كفروا، أو " من " موصولة مرادا (4)
بها ابن أبي وأصحابه).
قال ابن هشام في " المغني ": قال الزمخشري: إن قدرت " ال " في الناس للعهد فموصولة، مثل (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ)[سورة التوبة 63] أو للجنس فموصوفة، مثل (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ)[سورة الأحزاب 24] ويحتاج إلى تأمل (1).
يعني في تخصيص الموصولة بالعهد، والموصوفة بالجنس.
قال ابن المنير في " تفسيره ": يحتمل أن يكون رأى أن العهد بالموصولة أشبه؛ لأن تعريف الموصول عهدي، وأما إذا كانت اللام للجنس فلا عهد ولا تعريف، فناسب ذلك الموصوفة؛ لأنها نكرة، فاستبعد أن يكون المنكور بعض المعهود.
وقال الشيخ سعد الدين: فإن قيل: ما وجه هذا التخصيص؟ ولم لا يجوز أن تكون موصولة على تقدير الجنس، وموصوفة على تقدير العهد؟
قلنا: مبناه على المناسبة، والاستعمال.
أما لمناسبة فلأن الجنس لإبهامه يناسب الموصوفة، لتنكيرها (2)، والعهد لتعينه يناسب الموصولة؛ لتعرفها.
وأما الاستعمال فلأن الشائع في مثل هذا المقام هو النكرة الموصوفة، إذا
جعل بعضا من الجنس، كقوله تعالى (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا) والموصول مع الصلة إذا كان بعضا من المعهود، كقوله تعالى (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ) والقرآن يفسر بعضه بعضا.
وقد يقال: إن العلم بالجنس لا يستلزم العلم بأبعاضه، فتكون باقية على التنكير، فيكون المعبر بها عن البعض نكرة موصوفة، وعهدية، الكل يستلزم عهد أبعاضه، فتكون موصولة، وهذا أيضاً - بعد تسليمه - إنما يتم بما ذكرنا من وجه المناسبة، وإلا فلا امتناع في أن يعبر عن المعين بلفظ النكرة؛ لعدم القصد إلى تعيينه، وفي أن يتعين بعض من الجنس الشائع، فيعبر عنه بلفظ المعرفة (3). انتهى.
ولخصه الشريف فقال: وجعل " من " موصوفة مع الجنس، موصولة مع العهد،
رعاية للمناسبة والاستعمال.
أما المناسبة فلأن الجنس مبهم لا توقيت فيه، فناسب أن يعبر عن بعضه بما هو نكرة، والمعهود معين، فناسب أن يعبر عن بعضه بمعرفة.
وأما الاستعمال فكما في الآيتين، لما أريد بالمؤمنين الجنس عبر عن بعضهم بالنكرة، ولما أريد بضمير (منهم) جماعة معينة من المنافقين عبر عن بعضهم بالمعرفة.
قيل: والسر في ذلك أنك إذا قلت: من هذا الجنس طائفة شأنها كذا كان التقييد بالجنس مفيدا، بخلاف ما إذا قلت: من هذا الجنس الطائفة الفاعلة كذا؛ لأن من عرفهم عرف كونهم من الجنس أولاً.
وإذا قلت: من هؤلاء الذي فعل كذا كان جنسا؛ إذ فيه زيادة تعريف له، ولا يحسن كل الحسن أن يقال: فاعل كذا؛ لأنه عرفهم كلهم إلا إذا كان في تنكيره غرض، كستر عليه، أو تجهيل (1). انتهى.
وقال صاحب " الفرائد ": الوجه أن يكون اللام للعهد، ولا وجه أن تكون للجنس؛ لأن (من الناس) خبر (من يقول) فلو كان للجنس لكان المعنى من يقول من الناس، والظاهر أنه لا فائدة فيه.
وأما إن كانت للعهد فمعناه: ومن الناس المذكورين جماعة يقولون كذا، ولم يلزم أن تكون موصولة في العهد، بل يجوز كلا هما.
وكذا قال صاحب " التقريب ": يحتمل أن تكون موصولة إن جعل التعريف للجنس، وموصوفة إن جعل للعهد (2).
وأجاب بعضهم عما ذكره صاحب " الفرائد " من عدم الفائدة بأنها موجودة، وهي استعظام أن يختص بعفمن الناس بمثل تلك الصفات، فإنها تنافي الإنسانية بحيث كان ينبغي أن لا (3) يعد المتصف بها من جنس الناس.
قال الشيخ سعد الدين: وهذا الجواب ضعيف؛ لأن مثل هذا التركيب شائع ذائع في مواضع، لا يتأتى فيها مثل هذه الاعتبارات، ولا يقصد فيها إلا الإخبار بأن من هذا الجنس طائفة تتصف بكذا.
قال: فالوجه أن يجعل مضمون الجار والمجرور مبتدأ، يعني وبعض الناس من هو كذا وكذا، فيكون مناط الفائدة تلك الأوصاف (1). انتهى
وأورده الشريف ثم قال: ولا استبعاد في وقوع الظرف بتأويل معناه مبتدأ، يرشدك إلى ذلك قول الحماسي (2):
مِنْهُمْ لُيُوْثٌ لا تُرَامُ، وبَعْضُهمْ. . . مِمَّا قَمَشْتَ وضَمَّ حَبلُ الحَاطِبِ
حيث قابل لفظ " منهم " بما هو مبتدأ، أعني لفظة " بعضهم "
قال: وقد يقع الظرف موقع المبتدإ بتقدير الموصوف، كقوله تعالى (وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ)[سورة الجن 12](وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ)[سورة الصافات 165] فالقوم قدروا الموصوف في الظرف الثاني، وجعلوه مبتدأ، والظرف الأول خبرا، وعكسه أولى بحسب المعنى.
أي جمع منا دون ذلك، وما منا أحد إلا له مقام معلوم، لكن وقوع الاستعمال على " أنَّ من الناس رجالا كذا وكذا " دون " رجال " يشهد لهم (3).
وقال الطيبي: قد منع بعضهم أن يكون اللام للعهد، و " من " موصولة، وقال: بل اللام للجنس، و " من " موصوفة، فإن المراد بالذين كفروا الذين محضوا الكفر ظاهرا وباطنا، وبينهم وبين المنافقين تناف، فلم يكونوا نوعا تحت ذلك الجنس.
وكيف وقد حكم على أولئك بالختم على القلوب وغيره، فعلم كفرهم الأصلي، وعلى هؤلاء بقوله (أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى) وأشار إلى تمكنهم من الهدى وتنور فطرتهم.
قال الطيبي: وأقول: إن التقصي عن هذا المقام لا يستتب إلا ببيان كيفية نظم الآيات، فإنه مَحَكُّ البلاغة، ومنتقد البصيرة، ومضمار النُّظَّار، ومتفاضل الأنظار، ولا يهتدي إليه من ديدنه المجادلة، ودأبه المماراة، ولم يتكلم عن مقتضى الحال، ولم يعين لكل مقام مقالا، وليس كل ما يصح تقديره بحسب اللغة، أو النحو يعتبر عند علماء هذا الفن، فإن ذلك قد يعد من النعيق في بعض المقامات.
ألا ترى إلى صاحب " الكشاف " في سورة طه في قوله (أَنِ اقْذِفِيهِ فِي
التَّابُوتِ) [سورة طه 39] كيف بالغ فيه، حيث قال:" حتى لا تفرق الضمائر، فيتنافر عليك النظم الذي هو أم إعجاز القرآن، والقانون الذي وقع عليه التحدي، ومراعاته أهم ما يجب على المفسر "(1).
وفي سورة الحاقة في قوله (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ * وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ)[سورة الحاقة 5، 6]
كيف ذهب إلى المعنى بقوله (بالطاغية)
بالواقعة المجاوزة للحد في الشدة، ليطابق قوله (صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ) وعدل عن حمله على المصدر، وأنه الظاهر؛ لأن الطاغية كالعافية، أي بطغيانهم (2)؛ لأن الواجب رعاية حسن النظم بين آي التنزيل.
وكم له أمثال ذلك، فالواجب على من يخوض في هذا الكتاب أن يستوعب معرفة جميع المقامات، وجميع خواص التركيب، لينزل كلا في مقامه.
إذا علم هذا فنقول: إذا كان النظم هو ما ذكر افتتح سبحانه وتعالى بذكر الذين أخلصوا دينهم لله تعالى، ثم ثنى بذكر الذين محضوا الكفر ظاهرا وباطنا، وثلث بالذين آمنوا بأفواههم، ولم تؤمن قلوبهم، فالواجب حمل التعريف في الأقسام الثلاثة إما على الجنس بأسرها، وإما العهد برمتها.
وإذا حمل على الجنس فلا يجوز أن يقال: مَن في (مَن يقول) موصولة، كما قال أبو البقاء: هذه الآيات استوعبت أقسام الناس، فالآيات الأوَّلُ تضمنت ذكر المخلصين في الإيمان، وقوله (إن الذين كفروا) تضمن من أبطن الكفر وأظهره، وهذه الآية تضمنت ذكر من أظهر الإيمان، وأبطن الكفر، و " مِن " للتبعيض، و " مَنْ " نكرة موصوفة، ويضعف أن تكون بفعنى الذي؛ لأن " الذي " يتناول قوما بأعيانهم، والمعنى هاهنا على الإبهام (3). تم كلامه.
فإن قلت: آثرت الموصوفة على الموصولة، وهي أيضاً محتملة للجنس، فيلزم الإبهام أيضاً كما في قوله (الذين كفروا).
قلت: الموصوفة نص في الشياع، بخلاف الموصولة، لاحتمال الأمرين فيها.
بقي أن يقال: فما معنى قوله: من يقول من الناس، وأي فائدة فيه؟
فيقال: إنه تعالى نظم الآيات الثلاث في سلك واحد، لكن خص كل صنف بفن من الفنون، لا سيما خصَّ هذا الصنف بمبالغات وتشديدات لم يخص الصنفين بها، وأبرز أيضاً نفس التركيب إبرازا غريبا، حيث قدم الخبر على المبتدإ، وأبهمه غاية الإبهام ونكر المبتدأ، ووصفه بصفات عجيبة؛ ليشوق السامع إلى ذكر ما بعده من قبائحهم، ونكرهم نعيا عليهم، وتعجيبا من شأنهم
يعني انظروا إلى هؤلاء الخبثة، وقبيح ما ارتكبوه كيف اختصوا من بين سائر الناس بما لم يرض العاقل أن ينتسب إليه.
نعم لم يفد شيئا أن لو أريد مجرد الإخبار، ونظيره قوله تعالى (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه)[سورة الأحزاب 23] أي امتاز من بين سائر المؤمنين بهذه المناقب الشريفة رجال كرماء، فدل التنكير في (رجال) على تعظيم جانبهم، كما دل الإبهام في (من يقول) على خلاف ذلك هاهنا.
وأما إذا حمل التعريف في الناس على العهد فيقال: المراد بالمتقين من شاهد حضرة الرسالة من الصحابة المنتخبين، وينصره تقدير إرادة أهل الكتاب - أعني عبد الله بن سلام وأصحابه - من قوله تعالى (والذين يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك) معطوفا على قوله (الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة)
فعلى هذا يحمل قوله تعالى (إن الذين كفروا) على قوم بأعيانهم، كأبي جهل، وأبي لهب، وأضرابهم، وأن يراد بقوله (ومن الناس من يقول آمنا) عبد الله بن أبي، ومعتب بن قشير، وجد بن قيس، وأشباههم، فلا وجه إذن لقول من قال: ويحتمل أن تكون موصوفة إن جعلت التعريف للعهد؛ لأن المراد بقوله (من يقول) حينئذ قوم بأعيانهم وأشخاصهم، كعبد الله بن أبي وأصحابه، فكيف تجعل موصوفة؛ لأن " من " نكرة، والقوم معهودون.؟
قال: ثم إني بعد برهة من الزمان وقفت على قول صاحب " الكشاف " في قوله تعالى (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا)[سورة النحل 76]" الظاهر أن " من " موصوفة، كأنه قيل: وحرا رزقناه ليطابق عبدا، ولا يمتنع أن تكون موصولة "(1)
يريد أن الآية من باب التضاد، فالظاهر أن تراعى المطابقة بين كلمات
القرينتين، فإذا قلت: عبدا مملوكا، والحر الذي رزقناه ذهبت المطابقة، وفاتت الطلاوة، فلا يذهب إليه إلا الكز الجافي، والغليظ الجاسي (1).
وأما الجواب عن قول من قال: بينهم وبين المنافقين تناف: فهو عين ما ذكره صاحب " الكشاف ": في الجواب عن سؤاله " كيف يجعلون بعض أولئك، والمنافقون غير المختوم على قلوبهم "؟ (2)
وحاصل جوابه أن كون هؤلاء مخصوصين بحكم النفاق لا يخرجهم من جنس المصممين، بل يفيد تميزهم عنهم بما لم يتصفوا به، وإليه الإشارة بقوله:" بزيادة زادوها على الكفر الجامع بينهما " فالتعريف في قوله: " الكفر جمع الفريقين " وقوله: " الكفر الجامع بينهما " للعهد، وهو الكفر الخاص؛ لأنه جنس أيضا باعتبار النوعين.
وهذا من فصيح الكلام ووجيزه؛ لأن الجنس إذا أطلق شاع في جميع متناولاته إن لم تنتهض قرينة على إرادة البعض، فإذا حصلت القرينة قيدت، فإذا كررت كرر، فإنه تعالى لما قال (إن الذين كفروا) تناول جميع الفرق من الكفرة، فقيد بقوله (سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم) بالمصممين، ثم قيده مرة أخرى مع ذلك القيد (ومن الناس من يقول)
ونحوه قول الأصوليين: يجوز تخصيص ما بقي غير محصور.
قال: ثم إني عثرت بعد هذا التقرير على كلام من جانب الإمام أفضل المتأخرين، القاضي ناصر الدين، تغمده الله برحمته ما شَدَّ بعضده:
قال: (واللام فيه للجنس) وساق كلام البيضاوي إلى آخره (4).
وقال أبو حيان (مَن) في قوله تعالى (من يقول) نكرة موصوفة، مرفوعة بالابتداء، والخبر الجار والمجرور المتقدم (5) الذكر، و (يقول) صفة.
هذا اختيار أبي البقاء، وجوز الزمخشري هذا الوجه، وكأنه قال: ومن
الناس ناس يقولون كذا، كقوله (من المؤمنين رجال صدقوا)
قال: إن جعلت اللام للجنس، يعني في قوله (ومن الناس)
قال: وإن جعلتها للعهد فموصولة، كقوله (ومنهم الذين يؤذون النبي)(1)
واستضعف أبو البقاء أن تكون موصولة، قال: لأن " الذي " تتناول قوما بأعيانهم، والمعنى هنا على الإبهام، والتقدير: ومن الناس فريق يقول (2).
وما ذهب إليه الزمخشري من أن اللام في (الناس) إن كانت للجنس كانت (من) نكرة موصوفة، وإن كانت للعهد كانت موصولة أمر لا تحقيق له، كأنه أراد مناسبة الجنس للجنس، والعهد للعهد.
ولا يلزم ذلك، بل يجوز أن تكون اللام للجنس، و (من) موصولة، ويجوز أن تكون للعهد، و (من) نكرة موصوفة، فلا تلازم بين ما ذكر.
وأما استضعاف أبي البقاء كون (من) موصولة، وزعمه أن المعنى على الإبهام فغير مسلم، بل المعنى أنها نزلت في ناس بأعيانهم معروفين، وهم عبد الله بن أبي وأصحابه.
قال: والذي نختاره أن تكون (من) موصولة، وإنما اخترنا ذلك لأنه الراجح من حيث المعنى، ومن حيث التركيب الفصيخ، ألا ترى جعل (من) نكرة موصوفة إنما يكون إذا وقعت في مكان يختص بالنكرة في أكثر كلام العرب، وهذا المكان ليس من المواضع التي تختص بالنكرة في أكثر كلام العرب، وأما أن تقع في غير ذلك فهو قليل جدا، حتى إن الكسائي أنكر ذلك (3). انتهى.
قوله: (تمويها) من موهت الشيء، إذا طليته وزينته.
قوله: (والقول هو التلفظ بما يفيد)
يحتمل أن يريد به مطلق الإفادة احترازا عن المهمل، كديز مقلوب زيد، فإنه لا يسمى قولا، وإنما يسمى لفظا، بخلاف الكلام، والكلم، والكلمة فإن كلا من الثلاثة يسمى (4) قولا، وهذا هو المشهور عند المتأخرين، وجزم ابن مالك في " الألفية "(5)
ويحتمل أن يريد الفائدة التامة احترازا من الكلمة، والمركب الذي لا يفيد، فلا يسمى قولا، وهو أحد الأقوال في المسألة.
قال الخويي في تفسيره: القول حقيقة في المركب المفيد، وإطلاقه على المفود والمركب الذي لا يفيد مجاز.
والقول الثالث فيه: أنه حقيقة في المفرد، وإطلاقه على المركب مجاز، وعليه ابن معط (1).
والرابع: أنه حقيقة في المركب سواء أفاد أم لا، وإطلاقه على المفرد مجاز.
ونقل ابن الصائغ (2) في " في شرح الألفية " عن سعيد بن فلاح (3) أنه قال في " الكافي ": دلالة القول بالنسبة إلى المفرد وضعية، وبالنسبة إلى المركب عقلية على قول من قال: المركب غير موضوع.
وقال الشيخ جمال الدين بن هشام في شرحه الكبير المسمى " رفع الخصاصة عن قراء الخلاصة "(4): قول ابن مالك:
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . والقول عم
أي أنه يطلق على الكلام، والكلمة، والكلم، وظاهر كلامه أن إطلاقه على الثلاثة على حد سواء، وهو المشهور.
وفي " فصول " ابن معط: والقول يعم الجميع، والأصل استعماله في المفرد (5).
فعلى هذا يكون استعماله في الكلام، والكلم بطريق المجاز.
وقيل: إن القول خاص بالمركب، وقيل: خاص بالمركب المفيد، فهذه أربعة أقوال. انتهى.
وبقي قول خامس: أنه يطلق على المهمل أيضاً كاللفظ، حكاه أبو حيان في باب ظن من " شرح التسهيل ".
ونحوه قول أبي البقاء في " اللباب ": القول يقع على المفيد، وغير المفيد؛ لأن معناه التحرك والتقلقل، فكلما يمذل به اللسان ويحركه يسمى قولا (1).
وقال ابن إياز في " شرح الفصول ": اختلف الناس في القول، فذهب بعضهم إلى أنه عبارة عن كل ما نطق بها اللسان تاما كان أو ناقصا، مفيدا أو غير مفيد، وهو مصدر، قال تعالى (ما يلفظ من قول)[سورة ق 18] أي ما يطرح ويلقي، وهو اختيار المصنف يعني ابن معط غير أنه قال: والأصل استعماله في المفرد، وغيره، ممن اختار هذا لم يقل كذا (2)، بل قال: استعماله في المفرد والمركب على حد سواء.
وذهب بعضهم إلى أنه لا فرق بين الكلام والقول.
وذهب آخرون إلى أن القول يطلق على المركب خاصة سواء كان مفيدا أو غير مفيد (3). انتهى.
وقال الرضي: القول والكلام واللفظ من حيث أصل اللغة بمعنى، يطلق على كل حرف من حروف المعجم كان، أو من حروف المعاني، وعلى أكثر منه، مفيدا كان أولا، لكن القول اشتهر في المفيد، بخلاف اللفظ، واشتهر الكلام في المركب من جزئين فصاعدا (4).
قوله: (ويقال بمعنى المقول)
أي، فيكون من باب إطلاق المصدر وإرادة المفعول.
قوله: (والمعنى المتصور في النفس المعبر عنه باللفظ، والرأي والمذهب مجازا)
قال ابن إياز في " شرح الفصول ": اعلم أنه قد يطلق القول على الآراء
والاعتقادات، فيقال: هذا قول الشافعي، وقول أبي حنفية، يراد بذلك رأيه وما ذهب إليه.
والذي سوغ هذا الإطلاق كون الرأي والاعتقاد خافيا، لا يظهره غالبا سوى القول، فلما كان القول سببا في إظهاره والإعلام به أطلق عليه.
فإن قيل: قد يطلق على الرأى والاعتقاد الكلام والقول، فأيهما أولى بالإطلاق عليهما؟
قلنا: قال شيخنا أبو جعفر (1): إن إطلاق القول عليهما أولى من إطلاق الكلام، وذلك لأن الرأي والاعتقاد كل منهما كما ذكرته خاف لا يظهر بنفسه، بل يحتاج إلى ما يظهره، كما أن القول قد لا يستقل بنفسه، بل يحتاج إلى ما يتممه (2)، فقد اشتركا في الاحتياج، ولا كذلك الكلام، فإنه مستقل مستغن بنفسه.
قال: وقد يستعمل القول أيضاً لغير ذي لفظ تجوزا، قال الشاعر:
فَقَالَتْ لَهُ العَيْنَانِ سَمْعاً وَطَاعَةً. . . وَأَبْدَتْ كَمِثْلِ الدُّرِّ لِمَا يُثْقِبُ (3)
وإنما جاز ذلك؛ لأن صورة حالهما قائمة مقام قولهما: سمعا وطاعة (4).
قوله: (وما هم بمؤمنين) إنكار لما ادعوه)
قال الطيبي: يعني أن مقتضى المطابقة لقوله (آمنا) أن يقال: وما آمنوا، ليتحدا في ذكر شأن الفعل، فإن (وما هم بمؤمنين) في ذكر شأن الفاعل، لا الفعل.
والجواب: المصير إلى التأويل، والحمل على الكناية الإيمائية، ليفيد التأكيد، ويحصل التطابق.
بيانه: أنه تعالى لما أولى الضمير حرف النفي، وحكم عليهم بأنهم ليسوا بمؤمنين، وكان ذلك جوابا عن دعواهم أنهم اختاروا الإيمان بجانبيه على صفة الاستحكام، دلّ على إخراج ذواتهم وأنفسهم من أن يكونوا طائفة من طوائف المؤمنين، وإذا شهد عليهم بذلك لزم نفي ما ادعوه، على سبيل البت والقطع.
قال الطيبي: وهذا إنما يصح لو قيل: وما هم من المؤمنين؛ إذ ليس قوله (وما هم بمؤمنين) مثل ما هم من المؤمنين، لكن الأول أبلغ؛ لأنه نفى لأصل الإيمان، والثاني نفي للكمال (1).
وقال الشيخ سعد الدين: من قواعدهم أنهم يقدمون الذي شأنه أهمّ، وهم ببيانه أعنى، فقولهم " آمنا " بتقديم الفعل كلام في شأن الفعل، وأنه صادر عنهم متحقق، وقوله (ما هم بمؤمنين) كلام في شأن الفاعل، وأنه بحيث لم يصدر عنه الفعل، حتى إن تقديم الضمير، وإيلاءه حرف النفي ربما يفيد اختصاصه بنفي الفعل، كما سنذكر في قوله تعالى (وما أنت علينا بعزيز)[سورة هود 92] وأمثاله، فكيف ما كان لا تكون الجملة الاسمية المشتملة على إيلاء الضمير حرف النفي مطابقة لمقتضى الحال في رد كلامهم.
والجواب أن هذا ليس من باب التقديم لإفادة الاختصاص، أو لجعل الكلام في شأن الفاعل أنه كذا، أو ليس كذا، بل من باب العدول إلى الجملة الاسمية، لرد كلامهم بأبلغ وجه وآكده، كأنه قيل: إنهم ليسوا في شيء من الإيمان، ولا يصدق هذا الوصف عليهم ألبتة.
لا يقال: الاسمية تدل على الثبات، فنفيها يفيد نفي الثبات، لا ثبات النفي
وتأكده، لأنا نقول: ذاك إذا اعتبر الثبات بطريق التأكيد والدوام، ونحو ذلك، ثم
نفي، وهاهنا اعتبر النفي أولا، ثم أكد، وجعل بحيث يفيد الثبات، أو الدوام، وذلك
كما أنَّ " ما أنا سعيت في حاجتك " لاختصاص النفي، لا لنفي الاختصاص،
وبالجملة ففرق بين تقييد النفي، ونفي التقييد (2). انتهى.
وقال الشريف: الجواب أن العدول إلى الاسمية لسلوك طريق الكناية في رد دعواهم الكاذبة، فإن انخراطهم في سلك المؤمنين، وكونهم طائفة من طوائفهم من لوازم ثبوت الإيمان الحقيقي لهم، وانتفاء اللازم أعدل شاهد على انتفاء ملزومه، ففيه من التأكيد والمبالغة ما ليس في نفي الملزوم ابتداء.
وكيف لا، وقد بولغ في نفي اللإزم بالدلالة على دوامه المستلزم لانتفاء حدوث الملزوم مطلقا، وأكد ذلك النفي بالباء أيضاً، فليس في هذه الاسمية تقديم
لقصد الاختصاص أصلا، ولا لجعل الكلام في شأن الفاعل أنه كذا، أو ليس كذا قطعا، بل المقصود بها ما ذكرناه من سلوك طريق هو أبلغ وأقوى في رد تلك الدعوى (1).
وفي بعض الحواشي: ادعى صاحب " الكشاف " هنا أن قولنا: زيد ليس بقائم، أبلغ من قولنا: ما قام، وما يقوم، ولم يصرح بحجة تدل عليه.
ولعله يشير إلى أن قولنا: زيد لا يقوم وصف له بالامتناع من القيام، وذلك قد يكون مع القدرة عليه، ومع عدم القدرة، وقولنا: زيد ليس بقائم، فيه سلب الاتصاف، فكأنَّه أقوى في (2) سلب أهلية الاتصاف.
وقال أبو حيان: لأجل التأكيد والمبالغة في نفي إيمانهم جاءت الجملة المنفية اسمية مصدرة ب " هم "، وتسلط النفي على اسم الفاعل الذي ليس مقيدا بزمان ليشمل النفي جميع الأزمان؛ إذ لو جاء النفي منسحبا على اللفظ المحكي الذي هو (آمنا) لكان وما آمنوا، فكان يكون نفيا للإيمان الماضي، والمقصود أنهم ليسوا متلبسين بشيء من الإيمان في وقت ما من الأوقات (3).
قوله: (انتحلوا) في " الأساس ": انتحل شعر غيره إذا ادعاه لنفسه (4).
قوله: (وأطلق الإيمان على معنى أنهم ليسوا من الإيمان في شيء، ويحتمل أن يقيد بما قيدوا به؛ لأنه جوابه)
في بعض الحواشي: هذا الاحتمال مطرد في التقييد بالمجرور، وظرف الزمان والمكان، والمفعول من أجله، والحال، وسين الاستقبال إذا عطف عليه ما خلا عن التقييد بها، كقولك: ضربت زيدا بعصى وعمرا، وأكرمت زيدا يوم الجمعة وعمرا، وضربت زيدا عندك وعمرا، وأكرمت زيدا وفاءً بحقه وعمرا، ولقيت زيدا راكبا وعمرا، وسيقوم زيد، ويكتسب (5) مالا.
ومنه قوله تعالى (كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ)[سورة مريم 79]
والذي يختص بهذه الآية أن الإطلاق فيها، والخلو عن التقييد أبلغ؛ لأنه يدخل