الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قوله: (أو بالفعل الذي دلَّ عليه الحمد)
قال أبو حيان: كأنه قيل: نحمد الله رب العالمين، قال: وهذا ضعيف؛ لأنه من مراعات التوهم، وهو من خصائص العطف، ولا ينقاس فيه.
قوله: (وفيه دليل على أن الممكنات كما هي مفتقرة إلى المحدث حال حدوثها، فهي مفتقرة إلى المبقي خال بقائها)
هذا مأخوذ من كلام الإمام، فإنه قال: إنما قال: رب العالمين، ولم يقل: خالق العالمين؛ لأن الناس أطبقوا على أن الحوادث مفتقرة إلى الموجد حال حدوثها، واختلفوا في أنها حال بقائها هل تبقى محتاجة إلى المبقي، أم لا؟
والمربي هو القائم بإبقاء الشيء، وإصلاح حاله حال بقائه فقوله (رب العالمين) تنبيه على أن جميع العالمين مفتقرة إليه في حال بقائها، فخصه بالذكر؛ لأنه الذي وقع الخلاف فيه، بخلاف افتقارها إليه حال حدوثها، فإنه أمر متفق عليه (1).
* * *
قوله: (وقرأ الباقون ملك
، وهو المختار).
عبارة غير حسنة؛ لأن كلتا القراءتين متواترة (2)، فلا يحسن أن يقال في إحداهما: إنها المختارة؛ لما يشعر به من أن الأخرى بخلاف ذلك.
وقد أنكر جماعة من الأئمة على من رجح قراءة على قراءة.
قال السمين: ما ذكر في ترجيح مالك على ملك، وبالعكس غير مرضي؛ لأن كلتا القراءتين متواترة، وقد روى أبو عمر الزاهد (3) عن ثعلب أنه قال: إذا اختلف
الإعراب في القرآن عن السبعة لم أفضل إعرابا على إعراب في القرآن، فإذا خرجت إلى كلام الناس فضلت الأقوى (1).
وقال أبو شامة: أكثر المصنفون من الترجيح بين هاتين القراءتين حتى إن بعضهم يبالغ (2) في ذلك إلى حد يكاد يسقط وجه القراءة الأخرى، وليس هذا (3) بمحمود بعد ثبوت القراءتين، وصحة اتصاف الرب تعالى بهما. والأولى أن يعبر بدل الاختيار بالأمدح والأبلغ (4).
قوله: (ولقوله تعالى (لمن الملك اليوم)[سوة غافر: 15].
قال الشيخ أكمل الدين: وجهه أن المراد باليوم يوم الدين، وقد ذكر فيه الملك والملك يؤخذ منه.
قوله: (والمالك هو المتصرف في الأعيان المملوكة كيف يشاء من المِلْكِ، والمَلِكُ هو المتصرف بالأمر والنهي في المأمورين من المُلْك).
حاصله أن بين المِلْكِ بالكسر والمُلكِ بالضم عموما وخصوصا مطلقاً، فكل ملك مالك، وليس كل مالك ملكا، وهو ما جنح إليه الراغب والزمخشري، وقيل: إن بينهما عموما وخصوصا من وجه، فالمضموم التسلط على من يتأتى منه الطاعة، ويكون باستحقاق وغيره، والمكسور التسلط على من يتأتى منه الطاعة وغيره، ولا يكون إلا باستحقاق، وفي ثالث: هما بمعنى، كحاذر وحذر، وفاره وفره.
قوله: (وقرئ ملك بالتخفيف) أي بسكون اللام.
قوله: (وملك بلفظ الفعل) أي الماضي.
قال أبو حيان: وهي على هذه القراءة جملة خبرية، لا موضع لها من الإعراب (5).
قوله: (ومالك بالنصب على المدح أو الحال).
قال أبو حيان: أو على النداء، قال: والقطع أعرب؛ لتناسق الصفات.
قوله: (ومليك مضافا)
زاد أبو حيان: وملاّك، قال: وهو محول من مالك للمبالغة، قال: وكذا مليك، أو يكون بمعنى ملك، فعلى الأوّل يأتي في إضافته ما في مالك، وعلى الثاني لا إشكال؛ لأنه وصف معرفة.
قال: وإضافة، الملك إلى يوم الدين على معنى اللام، لا على معنى " في "، خلافا لمن أثبت الإضافة بمعنى " في "
قوله: (ويوم الدين يوم الجزاء)
قال الخويي (1) في تفسيره: بين الدين والجزاء فرق لطيف، فإن الدين اسم للجزاء المحسوب المقدر بقدر ما يقتضيه الحساب إذا كان ممن معه وقع الأمر المجزي به، فلا يقال لمن جازى (2) عن غيره، أو أعطى كثيرا في مقابلة قليل: دين، ويقال: جزاء.
قوله: (ومنه كما تدين تدان)
قلت: هو مثل مشهور، وحديث مرفوع، أخرجه ابن عدي في الكامل بسند ضعيف من حديث ابن عمر مرفوعاً (3)، وله شاهد مرسل.
قال عبد الرزاق في المصنف: أنبأنا معمر (4)، عن أيوب (5)، عن أبي قلابة (6) قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " البر لا يبلى، والإثم لا ينسى،
والديان لا يموت، فكن كما شئت، كما تدين تدان (1) ".
أخرجه البيهقي في كتاب " الأسماء والصفات " من طريقه، وشاهد موقوف، أخرجه الإمام أحمد بن حنبل في كتاب " الزهد " عن مالك بن دينار (2) قال: مكتوب في التوراة، كما تدين تدان، وكما تزرع تحصد (3).
وأخرج الديلمي في " مسند الفردوس " عن فضالة ابن عبيد (4) قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مكتوب في الإنجيل كما تدين تدان، وبالكيل الذي تكيل تكتال (5) ".
قال الميداني في " الأمثال ": معناه كما تعمل تجازى، فسمى العمل المبتدأ دينا وجزاء، للمطابقة، على حد (فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ) [سورة البقرة 194]. قال: ويجوز أن يجري على ظاهره، أي كما تجازي أنت الناس على صنيعهم
كذلك تجازى أنت على صنيعك، والكاف في " كما " في محل نصب نعتا للمصدر، أي تدان دينا مثل دينك (1).
وأخرج الخرائطي (2) في كتاب " اعتلال القلوب " من طريق ابن الأعرابي (3)، عن بعض شيوخه قال: كان الحارث بن أبي شمر الغساني (4) إذا أعجبته امرأة بعث إليها، فاغتصبها نفسها، فبعث إلى الزاهرية بنت خويلد بن نفيل بن عمرو بن كلاب فاغتصبها، فأتاه أبوها، فقال في ذلك:
يَاْ أيّها الملكُ المخوفُ أما ترى. . . ليلا وصبحا كيف يختلفانِ
هل تستطيع الشمسَ أن تأتي بها. . . ليلا وهل لك بالمليك يدانِ
فاعلم وأيقن أن ملكك زائل. . . واعلم بأنَّ كما تدين تدانُ
فتذمم وخاف العقوبة، فردها وأعطاه ثلاثمائة بعير (6).
قوله: (وبيت " الحماسة ":
ولم يَبقَ سِوَى العُدْوا. . . ن دِنُّاهم كما دانوا
" الحماسة " كتاب لأبي تمام الطائي (7) جمع فيه أشعارا انتقاها من كلام
العرب، وصدره بما يتعلق بالحرب، ثم أتى بالنسيب، والمدح، والهجو، والأدب، وغلبت التسمية بالمصَدَّرِ بِه، والحماسة هي الشدة والشجاعة، يقال: حَمِسَ الرجل يحمس حماسة إذا تشدد.
قال بعض شراح " الحماسة ": لما قفل أبو تمام حبيب بن أوس الطائي من نيسابور متوجها نحو (1) العراق دخل همذان والزمان شتاء (2)، فحال الثلج بينه وبين المصير، فأضافه أبو الوفاء محمد بن عبد العزيز بن سهل (3)، وكان أديبا من أولاد الرؤساء، وله شعر ترتضيه الشعراء، فلما طال مقام أبي تمام عنده أحضره كتبه، فاختار أبو تمام منها هذا الاختيار، وشخص أبو تمام، وبقية الكتب عند أبي الوفاء لا يمكن أحدا منها إلى أن مات، ووقعت (4) كبته إلى رجل من أهل الدينور يعرف بأبي العواذل، فنسخ هذه الكتب الثلاثة، وحملها إلى أصبهان فانتشرت النسخ بها، وعني أهل أصبهان بتصحيحها، وصار هذا الكتاب في الآفاق، فلهذا لا تجد أحدا يرويه مسندا إلى أبي تمام.
قلت: قد وقع لنا مرويا بالإسناد من طريق أبي غالب محمد بن أحمد بن سهل الواسطي المعروف بابن بشران (5)، عن أبي عبد الله الحسين بن علي النمري (6)، عن أبي رياش أحمد
ابن أبي هاشم بن شبيل (7)، عن أبي المطرف الحسن بن يوسف الأنطاكي (8)،
عن أبي تمام.
وقد رواها من وجه آخر عن أبي رياش أبو بكر محمد بن علي ابن الفخار الجذامي (1) في فهرسته المسمى " صوان النخب في أسماء الشيوخ والكتب "
والبيت المذكور لِلْفِنْدِ، واسمه شهل - بالشين المعجمة - بن شيبان بن ربيعة بن زمان الزماني. قالها في حرب البسوس.
قال الخطيب التبريزي: وإنما سمي فندا لأن بكر بن وائل بعثوا إلى بني حنيفة في حرب البسوس يستنصرونهم، فأمدوهم به، فلما أتى بَكْراً وهو مسن جدا قالوا: وما يغني هذه العَشَبَةُ (2) عنا؟ قال: أو ما ترضون أن أكون لكم فندا تأوون إليه.
قال الخطيب: والفند القطعة من الجبل (3).
وقال غيره من شراح " الحماسة ": الفند شمراخ من الجبل، وقد لقب به لعظم خلقه تشبيها بالجبل، وأول القصيدة:
صَفَحْنَا عن بَني ذُهْلِ. . . وقلنا القوم إخوانُ
عسى الأيّامُ أن يرجعـ. . . ن قوما كالذي كانوا
فلما صرح الشر. . . فأمسى وهو عريان
ولم يبق سوى العدوا. . . ن دِنَّاهم كما دانوا
مشينا مشية الليث غداً. . . والليث غضبان
بضرب فيه تفجيع. . . وتخضيع وإقران
وطعن كفم الزّقّ. . . غذا والزق ملآن
وبعض الحلم عند الجـ. . . هل للذلة إذعان
وفي الشر نجاة حيـ. . . ن لا ينجيك إحسان (4)
قوله: صرح الشر، أي ظهر كل الظهور، وأكل ذلك بقوله: فأمسى وهو عريان، أي مكشوف. ودناهم كما دانوا، أي جازيناهم مثل ما ابتدءونا به.
قوله: (أضاف اسم الفاعل إلى الظرف) أي على قراءة مالك.
قال الشريف: وأما إضافة ملك فلا إشكال فيها؛ لأنها إضافة الصفة المشبهة إلى غير معمولها، كما في رب العالمين، فتكون حقيقية، لا لفظية، فإنها إضافتها إلى الفاعل.
قال: فإن قيل: المضاف إليه فيهما مفعول به في المعنى، فتكون إضافتهما غير محضة.
قلنا: الصفة المشبهة لا تعمل النصب أصلاً (1).
وقال أبو حيان: من قرأ بلفظ ملك، على فعل مكسور العين أو ساكنها، أو مليك بمعناه فظاهر؛ لأنه وصف معرفة، ومن قرأ مالك، أو ملاك، أو مليك محولين من مالك للمبالغة فإن كان بمعنى الماضي كانت إضافته محضة، فيكون إذ ذاك من وصف المعرفة بالمعرفة، ويدل عليه قراءة. من قرأ (مَلَكَ يوم الدين) فعلا ماضيا، وإن كان بمعنى الاستقبال - وهو ظاهر، لأن اليوم لم يوجد - فهو مشكل؛ لأن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال فإنه تكون إضافته غير محضة فلا يتعرف بالإضافة، وإن أضيف إلى معرفة فلا يكون إذ ذاك صفة؛ لأن المعرفة لا توصف بالنكرة، ولا بدل نكرة من معرفة؛ لأن البدل بالصفات ضعيف.
قال: وحل هذا الإشكال أن اسم الفاعل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال جاز فيه وجهان:
أحدهما: ما قدمناه من أنه لا يتعرف بما أضيف إليه إذ يكون منويا فيه الانفصال من الإضافة، وكأنه عمل النصب لفظا.
الثاني: أن يتعرف به إذا كان معرفة، فيلحظ فيه أن الموصوف صار معروفا بهذا الوصف، وكان تقييده بالزمان غير معتبر.
قال: وهذا الوجه غريب النقل لا يعوفه إلا من له اطلاع على كتاب سيبويه.
قال سيبويه: وزعم (1) يونس (2) والخليل أن الصفات المضافة التي صارت صفة للنكرة قد يجوز فيهن كلهن أن يكن معرفة (3). انتهى.
قوله: (إجراء له مجرى المفعول به)
قال الطيبي: روي بضم الميم من المزيد، والرواية الصحيحة بالفتح، بمعنى الإجراء، كقوله (وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا)[سورة نوح 17] أو بمعنى المكان (4).
وقال الشريف: يروى بالضم والفتح إما مصدرا، وإما مكانا (5).
وما ذكره المصنف من أنه على إجرائه مجرى المفعول هو المشهور في الآية،
وقد قيل: إنه مضاف إلى المفعول به حقيقة، والمعنى أنه تعالى يملك يوم الدين،
أن (6) يأتي به، ويؤيده قراءة مالك - منونا - يوم بالنصب، وعلى هذا مشى ابن
السراج (7)، فقال: هي إضافة حقيقية، والمراد مالك نفس اليوم، لا يقدر على
الإتيان به إلا الله تعالى، كقوله تعالى:(لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ)[سورة الأعراف 187].
قال: وحمله على الحقيقة أولى من حمله على المجاز.
قوله: (على الاتساع).
قال الطيبي: أي جعل المفعول فيه بمنزلة المفعول به (8).
وقال الشريف: الاتساع في الظرف أن لا يقدر معه " في " توسعا، فينصب نصب المفعول به، كقوله:
ويوم شهدناه سليما وعامراً (1). . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
قوله: (يا سارق الليلة أهل الدار).
وجه الاستشهاد أنه جعل الليلة مسروقة، وإنما هي مسروق فيها.
قال الشريف: وأهل الدار منصوب بسارق، لاعتماده على حرف النداء، كقولك: يا ضاربا زيدا، ويا طالعا جبلاً (2).
قوله: (ومعناه مالك الأمور يوم الدين)
قال الشريف: يعني أن الظرف وإن قطع في الصورة عن تقدير " في " وأوقع موقع المفعول به إلا أن المقصود الذي سيق الكلام لأجله على الظرفية؛ لأن كونه مالكا ليوم الدين كناية عن كونه مالكا فيه للأمر كله، فإنَّ تملك الزمان كتملك المكان يستلزم تملك جميع ما فيه (3).
قوله: (أوله الملك في هذا اليوم على جهة الاستمرار لتكون الإضافة حقيقية بعده، لوقوعه صفة للمعرفة).
قال الشيخ سعد الدين: فإن قيل: قد ذكر في " الكشاف " في قوله (وجعل الليل سكنا)[سورة الأنعام 96] أنه إذا قصد باسم الفاعل زمان مستمر كانت الإضافة لفظية.
قلنا: الاستمرار يحتوي على الأزمنة الماضية والآتية والحال، فتارة يعتبر جانب الماضي فتجعل الإضافة حقيقية، وتارة جانب الآتي والحال فتجعل لفظية، والتعويل على القرائن والمقامات.
فإن قيل: التقييد بيوم الدين ينافي الاستمرار لكونه صريحا في الاستقبال.
قلنا: معناه الثبوت والاستقرار من غير اعتبار حدوث في أحد الأزمنة، ومثل هذا المعنى لا يمتنع أن يعتبر بالنسبة إلى يوم الدين، كأنه قيل: هو ثابت المالكية في يوم الدين، أو المراد أنه يجعل يوم الدين لتحقق وقوعه بمنزلة الواقع،
فتستمر مالكيته في جميع الأزمنة.
فإن قيل: ما ذكر من الاتساع وجعل الظرف يجري مجرى المفعول به صريح في أن هذه إضافة الصفة إلى معمولها، فتكون لفظية قطعاً.
قلنا: المراد أنه إضافة إلى ما هو مفعول من جهة المعنى، كما يقال: في مالك عبيده أمس: إنه إضافة إلى المفعول، أي إلى ما يتعلق به تعلق المملوكية بحيث لو كانت الصفة على شرائط العمل كانت عاملة فيه (1). انتهى.
قوله: (وتخصيص اليوم بالإضافة إما لتعظيمه، أو لتفرده تعالى بنفوذ الأمر فيه).
قال الطيبي: في اختصاص يوم الدين دون يوم القيامة وغيره من أساميه فائدتان:
إحداهما: مراعاة الفاصلة.
وثانيتهما: العموم المطلوب في الألفاظ، فإن الجزاء يشتمل على جميع أحوال، القيامة، من ابتداء النشور إلى السرمد الدائم، بل يكاد يتناول أحوال النشأة الأولى بأسرها، فظهر من هذا الاختصاص ومن مآل معنى القراءتين في الصورتين إفادة التعميم المطلوب من ألفاظ هذه السورة الكريمة، والدلالة على التسلط والغلبة والتصرف والملكة، فسبيل ملك يوم الدين ومالك يوم الدين، سبيل رب العالمين في الحمل على المفهومين، فانظر إلى حسن هذا الترتيب السري، وهذا النظم الأنيق تدهش منه.
وذلك أن رب العالمين آذن بالتصرف العام في الدنيا ملكا وتربية، ومالك يوم الدين دل على ذلك في العقبى تسلطا وقهراً، وتوسيط الرحمن الرحيم بينهما مناد بترجيح جانب الرحمة، وأنه تعالى رحمن الدنيا، ورحيم الآخرة (2).
قوله: (وإجراء هذه الأوصاف على الله تعالى من كونه ربا للعالمين) إلى آخره.
قال الشريف: أي لما دل بلامي التعريف والاختصاص على أن جنس الحمد مختص به تعالى، وحق له أجري عليه تلك الأوصاف العظام ليكون حجة واضحة،
ودلالة قاطعة على انحصار الحمد فيه واستحقاقه إياه، فذكر أولا ما يتعلق بالابتداء من كونه ربا مالكا للأشياء كلها لا يخرج شيء منها من ملكوته، أي سلطنته الشاملة، ومن ربوبيته الكاملة، يتصرف فيها على وفق مشيئته ويربيها، أي يرقيها في مدارج الكمال على مقتضى عنايته بإفاضة الجود، وإعداد أسباب الكمالات.
وثانيا: ما يتعلق بالبقاء من إسباغه علينا نعما ظاهرة وباطنة جليلة ودقيقة.
وثالثا: ما يتعلق بالإعادة من كونه مالكا للأمر كله يوم الجزاء، كأنه قيل: الحمد لله الذي منه الابتداء والانتهاء، فهو الحقيق بالثناء (1).
قوله: (لا يستأهل لأن يحمد)
قلت: وقد عد الحريري (2) في " درة الغواص " هذه الكلمة من جملة أوهام الخواص فقال: يقولون: فلان يستأهل الإكرام، وهو مستأهل للإنعام، ولم تسمع هاتان اللفظتان في كلام العرب، ولا صوّب التلفظ بهما أحد من أعلام الأدب، ووجه الكلام أن يقال: فلان يستحق المكرمة، وهو أهل لإسداء المكرمة.
وأما قول الشاعر:
لا، بل كلي يا أم واستأهلي. . . إن الذي أنفقت من ماليه (3).
فإنه عنى بلفظ استأهلي اتخذي الإهالة، وهي ما يؤتدم به من السمن (4).
وقال الجوهري في " الصحاح ": تقول: فلان أهل لكذا، ولا تقل: مستأهل،
والعامة تقوله (1).
لكن في " القاموس " استأهل كذا استوجبه، لغة جيدة، وإنكار الجوهري باطل (2).
وفى " الأساس " فلان أهل لكذا، واستأهل لذلك، وهو مستأهل له، وقد سمعت أهل الحجاز يستعملونه استعمالا واسعاً (3).
قوله: (فضلا عن أن يعبد).
قال أبو حيان: سئلت عن قولهم: إن زيدا لا يملك درهما، فضلا عن دينار، بم انتصب " فضلا "، وما المعنى في ذلك؟
فقلت: الذي نقول في ذلك - بعد تسليم أن هذا الكلام من لسان العرب -: إن (4) بعض الناس قد نسب (5) ذلك إلى العرب، فأمَّا أبو علي الفارسي فقال في تعليق جمع فيه مسائل من المشكلات: إن قول القائل: إن زيدا لا يملك درهما فضلا عن دينار، ثم وجه النصب بما سنذكره، فقوله: إن قول القائل كذا ليس بنص أنه من كلام العرب.
وقد طالعت من دواوين العرب جاهليتها وإسلاميتها الجملة الكثيرة فلم أر مثل هذا وقع في كلامها، وقد جرت بيني وبين بعض فضلاء أصحابنا هذه المسألة فقال: كان الأستاذ أبو الرضي مساعد بن محمد بن عبد الواحد الأنصاري المرسي (6) قد جرت عنده هذه المسألة، فأنشدنا عن بعض النحاة، فيها ما يدل على أنها مسموعة، وهو قول الشاعر:
قَلَّمَا يَبْقَى عَلَى هَذَا القَلَقِ. . . صَخْرَةٌ صَمّاءُ فَضْلاً عَنْ رَمَقِ (7)
فظاهر هذا البيت يقتضي أن ذلك من لسان العرب.
وينبغي في إثبات مثل هذا إلى صحة نقل، ولا تغتر بكلام من قدمنا ذكره أن ذلك من لسان العرب، فليس بقول من هو ضابط في هذه الصناعة.
ونتكلم عليها - على تقدير أنها من كلام العرب - فنقول: القول على الإعراب مترتب على فهم المعنى، ومعنى هذا الكلام الإخبار أنه لا يملك درهما ولا ديناراً، وأن عدم ملكه للدينار (1) أولى، وكأنه قال: لا يملك درهما، فكيف يملك دينارا، أي إذا انتفى ملكه لدرهم كان أحق أن ينتفي ملكه لدينار؛ لأن من قدر على دينار كان في العادة قادرا على درهم؛ لأن القليل مندرج في الكثير، وكذلك إذا انتفى بقاء الصخرة الصماء على هذا القلق فكيف يبقى الرمق الذي عادته أن يفنى بأدنى شيء.
هذا شرح المعنى الذي يريده من يتكلم بهذا الكلام.
وأما الإعراب فنقل عن الفارسي أن " فضلا " يجوز نصبه على المصدر، أو الحال. انتهى ما نقل عنه. ونحن نقرر ذلك فنقول:" فضلا " ظاهره أنه من الفضلة، التي هي البقية، ومنه الفضالة، وهي الباقي من الشيء، يقال: فضل منه شيء، أي بقي، أو من فضل على زيد، أي زاد عليه في الخير.
قال الشاعر:
فكفى بنا فضلا على مَنْ غَيْرُنا. . . حب النبي محمد إيَّانا (2)
أي زيادة على ناس غيرنا، ويقال منه لمن صار ذلك سجية له: فضل الرجل، بضم الضاد.
ويحتمل أن يخرج (3) على هذين الاشتقاقين، وهما معنى البقية، ومعنى الزيادة، فإذا جعلناه مصدرا فلابد له من عامل، ولم يتقدمه ما يصلح أن يكون عاملا فيه، فيحتاج إلى إضماره، وتقديره: يفضل فضلا عن دينار، ففي " يفضل " ضمير يعود إلى الدرهم، ويفضل في موضع الصفة، ويصير المعنى أنه لا يملك
درهما فاضلا عن دينار، أي باقيا عن دينار، أو زائدا عن دينار، بل يملك الدرهم، ولا يكون فاضلا عن دينار، وإنما كان كذلك لأن النفي إذا دخل على شيء مقيد إنما يتسلط على ذلك القيد، فإذا قلت: ما قام رجل عاقل، فمنطوقه انتفاء القيام عن رجل عاقل، ومفهومه أنه قام رجل غير عاقل، وكذلك ما جاء زيد ضاحكاً، منطوقه انتفاء مجيء زيد في حال ضحك (1)، ومفهومه أنه جاء غير ضاحك.
وقد تقدم شرح المعنى في هذا الكلام، وأن المقصود به نفي ملكه الدرهم والدينار، وأن عدم ملكه للدينار أولى، لكن يتخرج ذلك على قاعدة للعرب، وهي أنه متى نفي شيء مقيد (2) فقد قدمنا أن النفي يتسلط على ذلك القيد، هذا هو الأكثر في كلامهم.
ولهم طريقة أخرى، وهي أنهم يقصدون نفي المحكوم عليه بانتفاء صفته، فيقولون: ما قام رجل عاقل، أي لا رجل عاقل فيقوم، وهي طريقة معروفة لهم، قال امرؤ القيس:
على لاحبٍ لا يهتدى بمناره (3). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
لا يريد أن يثبت لهذا الطريق مناراً، وينفي عنه الاهتداء، إنما يريد نفي المنار، أي فتنتفي الهداية به، أي لا منار لهذا الطريق فيهتدى به.
وقال الأَفْوَهُ الأَوْدِيُّ (4):
بِمَهْمَهٍ مَاِ لأنيِسٍ بِهِ. . . حِسٌّ فَمَا فِيْهِ لَهُ مِنْ رَسِيْسِ (5)
لا يريد أن بهذا القفر أنيسا لا حس له، إنما يريد لا أنيس به، فيكون له حس، وعلى هذه الطريقة يخرج قوله تعالى (فما تنفعهم شفاعة الشافعين)[سورة المدثر 49] أي لا شافع فتنفعهم شفاعته، وكذلك قوله تعالى (لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا)[سورة البقرة 274] أي لا سؤال فيكون إلحافاً.
وإذا تقررت هذه الطريقة فيتخرج قولك: هذا لا يملك درهما عن دينار، على هذه الطريقة، أي لا درهم له، فيفضل عن دينار له، وإذا انتفى ملكه للدرهم كان انتفاء ملكه للدينار أولى.
وإنما جعله أبو عليّ منصوبا على المصدر، فاحتيج في ذلك إلى إضمار فعل، وذلك الفعل في موضع الصفة، ولم يجعل " فضلا " صفة للدرهم؛ لأنه لا يكون المصدر صفة إلا إذا كان فيه معنى المبالغة، فلكثرة وقوع المصدر من الموصوف جعل كأنه وصف له، نحو قولهم: رجل صوم، أي كثير الصوم، ورجل زور، أي كثير الزيارة، وهذا المعنى مفقود هاهنا.
وأما من تأوّل المصدر بمعنى مطلق اسم الفاعل، أو على حذف ذي، أي صائم، وزائر، أو ذو صوم، وذو زور فإنه يجوّز في هذه المسألة أن يكون التقدير في " فضلا " فاضلاً، أو ذا فضل، وليس ذلك قول من تحقق في العربية، بل الصحيح أن المصدر لا يوصف به إلا إذا أريد به المبالغة.
وإذا جعلنا " فضلا " منصوبا على الحال فلا يكون حالا من زيد؛ لأن فضلا عن دينار ليس من أحوال (1) زيد، ولا من صفاته، إنما يكون من أوصاف الدرهم، ويحتمل تخريجه على الحال وجهين:
أحدهما: أن يكون حالا من درهم وإن كان نكرة؛ لأن الحال قد تأتي من النكرة، وخصوصا إذا قبح الوصف بها، وقد قبح بما قدمناه من أن المصدر في أجود الأقوال لا يوصف به حتى يراد به المبالغة، وقد جاءت الحال من النكرة في قولهم: مررت بماء قعدة رجل، وقوله تعالى (أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا)[سورة البقرة 265] وقد قاس سيبويه ذلك في كتابه (2).
والوجه الثاني: أن يكون حالا من المصدر المضمر في الفعل، على ما قرره سيبويه في قولهم: ساروا سريعا، لم يجعل سريعا نعتا لمصدر محذوف، أي سيرا سريعا، إنما جعله حالا من الضمير الذي للمصدر، كأنهم قالوا: ساروه، أي ساروا السير سريعا، أي في حال سرعته، فكذلك لا يملك درهما، أي لا يملكه، أي الملك في حال كونه فاضلا عن دينار، أي عن ملك دينار.
وهذا التخريج الثاني قلَّ من يعرفه، وإنما يذهب معربوا النحاة في قولهم: ساروا سريعا إلى أن سريعا نعت لمصدر محذوف، أي سيرا سريعا، وإضمار المصدر لدلالة الفعل عليه كثير في لسان العرب قال الله تعالى (اعدلوا هو أقرب للتقوى)[سورة المائدة 9] أي العدل، وقالت العرب: من كذب كان شرًّا له، أي كان هو، أي الكذب (1).
وتقرير اختيار سيبويه هذا التخريج على تخريج النحاة له مكان غير هذا، والمعنى الذي قررناه حالة إعرابه مصدرا يجري فيه حالة إعرابه حالا، وهو أن المقصود بذلك انتفاء الحال، وذي الحال، كما كان المعنى انتفاء الصفة والموصوف.
وقد صنف بعض معاصرينا في هذه المسألة جزءا وهو شهاب الدين أحمد بن إدريس المالكي المعروف بالقرافي (2)، وجوز في إعراب " فضلا " نيفا وأربعين وجهاً، يوقف عليها من كتابة، وفيها (3) غاية التمحل، والفضلاء لا يذكرون من الأعاريب إلا ما سهل مأخذه في (4) لسان العرب. انتهى كلام أبي حيان.
وقال الشيخ جمال الدين ابن هشام في رسالة ألفها في إعراب ألفاظ، منها هذا اللفظ:
أما قوله: فلان لا يملك درهما فضلا عن دينار، فمعناه أنه لا يملك درهما ولا ديناراً، وأن عدم ملكه الدينار أولى من عدم ملكه الدرهم، وكأنه قال: لا يملك درهما، فكيف يملك ديناراً.
وهذا التركيب زعم بعضهم أنه مسموع، وأنشد عليه:
قَلَّمَا يَبْقَى عَلَى هَذَا القلَقِ. . . صَخْرَةٌ صَمَاءُ فَضْلاً عَنْ رَمَقِ
الرمق بقية الحياة، ولا تستعمل " فضلا " هذه (1) إلا في النفي، وهو مستفاد في البيت من " قلما ".
قال بعضهم: حدث لـ " قلّ " حين كفت ب " ما " إفادة الاختصاص.
قال ابن هشام: وهذا خطأ: فإن قلّ تستعمل للنفي قبل الكفّ، يقال: قلّ أحد يعرف هذا إلا زيد، يعني لا يعرف هذا إلا زيد، ولهذا استعمل أحد، وصح إبدال المستثنى، وهو بدل إما من أحد، أو من ضميره، و " على " في البيت للمعية، مثلها في قوله تعالى (وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ)[سورة الرعد 7](الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ)[سورة إبراهيم 40].
وانتصاب " فضلا " على وجهين محكيين عن الفارسي:
أحدهما: أن يكون مصدرا لفعل محذوف، وذلك الفعل نعت للنكرة.
الثاني: أن يكون حالا من معمول الفعل المذكور.
هذا خلاصة ما نقل عنه، ويحتاج إلى بسط يوضحه.
اعلم أنه يقال: فضل عنه، وعليه، بمعنى زاد، فإن قدرته مصدرا بتقدير لا يملك درهما يفضل فضلا عن دينار، فذلك الفعل المحذوف صفة لدرهما. كذا حكي عن الفارسي.
ولا يتعيّن كون الفعل صفة، بل يجوز أن يكون حالا، كما جاز في " فضلا " أن يكون حالا، على ما سيأتي تقريره.
نعم، وجه الصفة (2) أقوى؛ لأن نعت النكرة كيف كانت أقيس من مجيء الحال منها.
وإن قدرته حالا فصاحبها يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون ضمير المصدر محذوفاً، أي لا يملكه، أي لا يملك الملك، على حد قوله:
هذا سراقة للقرآن يدرسه (3). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
أي يدرس الدرس؛ إذ ليس الضمير للقرآن، لأن اللام متعلقة ب " يدرس "
ولا يتعدى الفعل إلى ضمير اسم، وإلى ظاهره جميعا، ولهذا وجب في " زيدا ضربته " تقدير عامل على الأصح، وعلى هذا خرّج سيبويه والمحققون نحو قوله:" ساروا سريعا " أي ساروه، أي ساروا السير سريعاً، وليس سريعا عندهم نعتا لمصدر محذوف، لالتزام العرب تنكيره ولأن الموصوف لا يحذف إلا إذا كانت الصفة (1) مختصة بجنسه، كما في " رأيت كاتبا، أو حاسبا، أو مهندسا " فإنها مختصة بجنس الإنسان، ولا يجوز رأيت طويلا، ورأيت أحمر، وفي هذا الموضع بحث ليس هذا موضعه.
الثاني: أن يكون قوله: " درهما (2) "
فإن قلت: كيف جاز مجيء الحال من النكرة؟
قلت: أما على قول سيبويه فلا إشكال؛ لأنه يجوز عنده مجيء الحال من النكرة وإن لم يمكن الابتداء بها (3)، ومن أمثلته: فيها رجل فائما، ومن كلامهم: عليه مائة بيضا، وفي الحديث:" وصلى وراءه قوم قياما (4) ".
وأما على المشهور من أن الحال. لا تأتي من النكرة إلا بمسوغ فلها هنا مسوغان:
أحدهما: كونها في سياق النفي، والنفي يخرج النكرة من حيز الإبهام إلى حيز العموم فيجوز حييئذ الإخبار عنها، ومجيء الحال منها.
الثاني: ضعف الوصف، ومتى امتنع الوصف بالحال، أو ضعف ساغ مجيئها من النكرة، فالأول كقوله تعالى:(أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا) وقول الشاعر:
مضى زمن والناس يستشفعون بي (5). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
فإن الجملة المقرونة بالواو لا تكون صفة، خلافا للزمخشري، وكقولك: هذا خاتم حديدا عند من أعربه حالا؛ لأن الجامد المحض لا يوصف به.
والثاني: كقولهم: مررت بماء قعدة رجل، فإن الوصف بالمصدر خارج عن القياس.
فإن قلت: هلا أجاز الفارسي في " فضلا " كونه صفة لـ " درهما "؟
قلت: زعم أبو حيان أن ذلك لأنه لا يوصف بالمصدر، إلا إذا (1) أريدت المبالغة؛ لكثرة وقوع ذلك الحدث من صاحبه، وليس ذلك بمراد هنا.
قال: وأما القول بأنه يوصف بالمصدر على تأويله بالمشتق، أو على تقدير المضاف فليس قول المحققين.
قال ابن هشام: هذا كلام عجيب، فإن القائل بالتأويل الكوفيون، ويؤولون عدلا بعادل، ورضى بمرضي، وكذا يقولون في نظائرهما، والقائل بالتقدير البصريون، يقولون: التقدير ذو عدل، وذو رضى، وإذا كان كذلك فمن المحققون؟
ثم اختلف النقل عن الفريقين، والمشهور أن الخلاف مطلق.
وقال ابن عصفور (2): وهو الظاهر، إنما الخلاف حيث لا تقصد المبالغة، فإن قصدت فالاتفاق على أنه لا تأويل ولا تقدير (3).
وهذا الذي قاله ابن عصفور هو الذي في ذهن أبي حيان، ولكنه نسي فتوهم أن ابن عصفور قال: إنه لا تأويل مطلقا، فمن هنا - والله أعلم - فى خل عليه الوهم.
والذي ظهر لي أن الفارسي إنما لم يجز في " فضلا " الصفة؛ لأنه رآه منصوبا أبدا سواء كان ما قبله منصوبا، كما في المثال، أم مرفوعا، كما في البيت، أم مخفوضاً، كما في قولك: فلانٌ لا يهتدي إلى ظاهر النحو فضلا عن دقائق البيان.
فهذا منتهى القول في توجيه إعراب الفارسي.
وأما تنزيله على المعنى المراد فعسير (1)، وقد خرّج على أنه من باب قوله:
على لاحبٍ لا يهتدى بمناره. . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
ولم يذكر أبو حيان سوى ذلك، وقال: وقد يسلطون النفي على المحكوم عليه بانتفاء صفته، فيقولون: ما قام رجل عاقل، أي لا رجل عاقل فيقوم، ثم أنشد بيت امرئ القيس المذكور، وقال: ألا ترى أنه لا يريد إثبات منار للطريق، ونفي الاهتداء به، إنما يريد نفي المنار، فتنتفي الهداية به، أي لا منار لهذا الطريق فيهتدى به، وقال الأفوه:
بمهمهٍ ما لأنيس به حس. . . فما فيه له من رسيس
لا يريد أن بهذا القفر أنيسا لا حس له، إنما يريد لا أنيس به، فيكون له حس، وعلى هذا خرّج (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) أي لا شافع لهم فتنفعهم شفاعته و (لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) أي لا سؤال فيكون إلحافا، قال: وعلى هذا يتخرّج المثال المذكور أي لا يملك درهما فيفضل عن دينار، وإذا انتفى ملكه للدرهم كان انتفاء ملكه للدينار أولى.
قال ابن هشام: وهذا الكلام الذي ذكره لا تحرير فيه، فإن الأمثلة المذكورة من بابين مختلفين، وقاعدتين متباينتين، أميز كلا منهما عن الأخرى، ثم أذكر أن التخريج المذكور لا يتأتى على شيء منهما.
القاعدة الأولى: أن القضية السالبة لا تستلزم وجود الموضوع، بل كما تصدق مع وجوده تصدق مع عدمه، فإذا قيل: ما جاءني قاضي مكة، ولا ابن الخليفة صدقت القضية وإن لم يكن بمكة قاض، ولا للخليفة ابن، وهذه القاعدة هي التي تتخرج عليها (فما تنفعهم شفاعة الشافعين) وبيت امرئ القيس، فإن شفاعة الشافعين بالنسبة إلى الكافرين غير موجودة يوم القيامة؛ لأن الله تعالى لا يأذن لأحد في أن يشفع لهم؛ لأنه لا يأذن فيما لا ينفع؛ لتعاليه عن العبث، ولا يشفع أحد عند الله إذا لم يأذن الله له (من ذا الذي يشقع عنده إلا بإذنه)[سورة البقرة 256] وكذلك المنار غير موجود في اللاحب المذكور؛ لأن المراد التمدح بأنه يقطع الأرض المجهولة من غير هاد يهتدي به، فغرضه إنما تعلق بنفي وجود
ما يهتدي به في تلك الطريق التي سلكها، لا بنفي وجود الهداية عن شيء نصب فيها للاهتداء به.
وأما قول أبي حيان وغيره: المراد لا شافع لهم فتنفعهم شفاعته، ولا منار فيهتدى يه فليس بشيء؛ لأن النفي إنما يتسلط على المسند لا على المسند إليه، ولكئهم لما رأوا الشفاعة، والمنار غير موجودين توهموا أن ذلك من اللفظ، فزعموا ما زعموا.
وفرق بين قولنا: الكلام صادق مع عدم المسند إليه، وقولنا: إن الكلام اقتضى عدمه.
القاعدة الثانية: إن القضية السالبة المشتملة على مقيد نحو ما جاءني رجل شاعر تحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون نفي المسند باعتبار القيد، فيقتضي المفهوم في المثال المذكور وجود مجيء رجل ما غير شاعر، وهذا هو الاحتمال الراجح المتبادر، ْألا ترى أنه لو كان المراد نفيه عن الرجل مطلقا لكان ذكر الوصف ضائعا، ولكان زيادة في اللفظ، ونقصا في المعنى المراد.
الثاني: أن يكون نفيه باعتبار المقيد، وهو الرجل، وهذا (1) احتمال مرجوح، لا يصار إليه إلا بدليل (2)، فلا مفهوم حينئذ للقيد؛ لأنه لم يذكر للتقييد، بل ذكر لغرض آخر، كأن يكون المراد مناقضة من أثبت ذلك الوصف، فقال: جاءك رجل شاعر، فأردت التنصيص على نفي ما أثبته، وكان يراد التعريض، كما إذا أردت في المثال المذكور أن تعرّض بمن قال: جاء رجل شاعر، وهذه هي القاعدة التي يتخرّج عليها (لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا) فإن الإلحاف قيد في السؤال المنفي.
والمراد من الآية - والله أعلم - نفي السؤال البتة، بدليل (يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ) والتعفف لا يجامع المسألة، ولكن أريد بذكر الإلحاف - والله أعلم - التعريض بقوم ملحفين، توبيخا لهم على صنيعهم، أو التعريض بجنس الملحفين، وذمهم على الإلحاف؛ لأن النقيض للوصف الممدوح مذموم.
والمثال المبحوث فيه يتخرّج على هذه القاعدة - فيما زعموا - فإن " فضلا " مقيد للدرهم، فلو قدر النفي مسلطا على القيد اقتضى مفهومه خلاف المراد، وهو أنه يملك الدرهم، ولكنه لا يملك الدينار، ولما امتنع هذا تعيّن الحمل على الوجه المرجوح، وهو تسليط النفي على المقيد، وهو الدرهم، فينتفي الدينار؛ لأن الذي لا يملك الأقلّ لا يملك الأكثر، فإن المراد بالدرهم ليس الدرهم العرفي، لأنه يجوز أن يملك الدينار من لا يملكه، بل المراد ما يساوي من النقود درهما، فهذا توجيه التخريج.
وأما الاعتراض عليه فمن جهة أن القيد ليس نفس الدينار، حتى يصير المعنى لا يملك درهما فكيف ديناراً، وإنما القيد قولة " فضلا عن دينار " والكلام لم يسق لنفي ملك الزائد على الدينار، بل لنفي ملك الدينار نفسه، ثم يلزم عن ذلك انتفاء ملك ما زاد عليه.
والذي يظهر لي في توجيه هذا الكلام أن يقال: إنه في الأصل جملتان مستقلتان، ولكن الجملة الثانية دخلها حذف كثير وتغيير، حصل الإشكال بسببه.
وتوجيه ذلك: أن يكون هذا الكلام في اللفظ أو في التقدير جوابا لمستخبر قال: أيملك فلان ديناراً؟ أو ردًّا علي مخبر قال: فلان يملك دينارا، فقيل في الجواب: فلان لا يملك درهماً، ثم استأنف كلاما آخر، ولك في تقديره وجهان: أحدهما: أن يقال: أخبرتك بهذا زيادة عن الإخبار عن دينار استفهمت عنه، أو زيادة عن دينار أخبرتَ بملكه له، ثم حذفت جملة أخبرتك بهذا، وبقي معمولها، وهو " فضلا " كما قالوا: حينئذٍ، الآن، بتقدير: كان ذلك حينئذٍ، واسمع الآن، فحذفوا الجملتين، وأبقوا من كل منهما معمولها، ثم حذف مجرور " عن " وجار " دينار " وأدخلت " عن " الأولى على الدينار، كما قالوا: ما رأيت رجلا أحسن في عينيه الكحل من زيد، والأصل منه في عين زيد، ثم حذف مجرور " من " وهو الضمير، وجار العين، وهو " في " ودخلت " من " على العين.
الثاني: أن يقدر فضل انتفاء الدرهم عن فلان عن (1) انتفاء الدينار عنه. ومعنى ذلك أن يكون حال هذا المذكور في الفقر معروفة عند الناس، والفقير إنما ينفى عنه في العادة ملك الأشياء الحقيرة، لا ملك الأموال الكثيرة، فوقوع