المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فيه المقيد وغيره، لعموم النفي، بخلاف هذه الأمثلة. * * * ‌ ‌قوله: - نواهد الأبكار وشوارد الأفكار = حاشية السيوطي على تفسير البيضاوي - جـ ١

[الجلال السيوطي]

الفصل: فيه المقيد وغيره، لعموم النفي، بخلاف هذه الأمثلة. * * * ‌ ‌قوله:

فيه المقيد وغيره، لعموم النفي، بخلاف هذه الأمثلة.

* * *

‌قوله: (الخدع)

هو بفتح الخاء وكسرها كما في " الصحاح "(1) واقتصر بعضهم على الكسر.

قوله: (أن توهم)

قال الشيخ سعد الدين: هو متعد إلى مفعولين، يقال: وهمت الشيء، أهمه، أي وقع في خلدي، وأوهمته غيري وَوَهَّمتُهُ (2).

قوله: (الخارش) أي الصائد

قال القطب: الخرش مخصوص بصيد الضباب (3).

وفي " الصحاح ": فلان يخرش لعياله، أي يكتسب ويطلب الرزق (4)

قوله: (وأصله الإخفاء) أخذه من الإمام (5).

وقال ابن عطية نقلا عن أهل اللغة: أصله الفساد، ثم حكى الأول بصيغة التمريض (6) في كلام الراغب ما يوهم أن أصله التلون (7).

وقال الطيبي: قد يكون الخداع حسنا إذا كان الغرض استنزال الغير من ضلال إلى رشد، ومن ذلك استدراجات التنزيل على لسان الرسل في دعوة الأمم، وهذا يناسب أن يكون أصله الإخفاء (8).

قوله: (ومنه المخدع) وهو بضم الميم وكسرها.

قال ابن السكيت: والأصل الضم، وإنما كسر استثقالا (9).

قوله: (والأخدعان لعرقين خفيين)

قال الراغب: الخداع إنزال الغير عما هو بصدده بأمر يبديه على خلاف ما

ص: 376

يخفيه، ومنه خدع الضب إذا استتر في جحره، و " أخدع من ضب "(1) وطريق خادع، وخيدع مضل، كأنه يخدع سالكه، والمخدع بيت في بيت، كأنَّ بانيه جعله خادعا لمن رام تناول ما فيه، وخدع الريق إذا قلَّ، يتصور منه هذا المعنى، والأخدعان يتصور منهما الخداع لاستتارهما تارة، وظهورهما أخرى.

وفي الحديث " بين يدي الساعة سنون خداعة "(2) أي محتالة؛ لتلونها بالجدب تارة، وبالخصب تارة. (3) انتهى.

قوله: (وخداعهم مع الله ليس على ظاهره)

قال الإمام: لقائل أن يقول: مخادعة الله ممتنعة من وجهين:

أحدهما: أنه تعالى يعلم الضمائر والسرائر، فلا يمكن أن يخادع، بأن يخفى منه خلافه ما يبدى.

والثاني: أن المنافقين لم يعتقدوا أن الله بعث الرسول إليهم، فلم يكن قصدهم في نفاقهم مخادعة الله (4).

قوله: (بل المراد إما مخادعة رسوله على حذف المضاف)

قال الراغب: نسبة الخداع إلى الله تعالى من حيث إن معاملة الرسول كمعاملته، وجعل ذلك خداعا تفظيعا لفعلهم وتعظيما، وتنبيها على عظم الرسول وعظم أوليائه.

وقول أهل اللغة: إن هذا على حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، فيجب أن يعلم أن المقصود بمثله في الحذف لا يحصل لو أتي بالمضاف المحذوف؛ لما ذكرنا من التنبيه على أمرين:

أحدهما: فظاعة فعلهم فيما تحروه من الخديعة، وأنهم بمخادعتهم إياه يخادعون الله.

ص: 377

والثاني: التنبيه على عظم المقصود بالخداع، وأن معاملته كمعاملة الله. (1) انتهى.

قوله: (أو على أن معاملة الرسول معاملة الله من حيث إنه خليفته)

قال الشيخ سعد الدين: حاصل هذا الوجه أن المراد بخدع الله خدع الرسول، فالمجاز في التحقيق يكون في الهيئة التركيبية، والنسبة الإيقاعية، لا في لفظ " الله " وإطلاقه على الرسول؛ للإطباق على أن لفظ " الله " لا يطلق على غيره، لا حقيقة، ولا مجازا (2).

وفي بعض الحواشي: حاصل هذا الوجه يرجع إلى إطلاق اسم السبب على المسبب.

بيانه أن الملك إذا أمر بالقتل، فالقا تل هو المباشر، وأمر الملك هو السبب، فإذا قيل: قتل الملك فلانا، أطلقوا على المسبب اسم السبب.

قوله: (وإما أن صورة صنعهم مع الله) إلى آخره

قال الشيخ سعد الدين: حاصل هذا الوجه أن المراد بالخداع المعاملة الشبيهة به، فيكون استعارة تبعية تمثيلية (3).

وقال الشريف: الحاصل أن بينهم من الجانبين معاملة شبيهة بالمخادعة، فقوله:(يخادعون) استعارة تبعية، وليس في هذا اعتبار هيئة مركبة من الجانبين، وما يجري بينهما مشبهة بهيئة أخرى مركبة من الخادع والمخدوع والخدع؛ ليحمل الكلام على الاستعارة التمثيلية (4).

ص: 378

قوله: (بإجراء أحكام المسلمين عليهم)

قال الطيبي: يعني به جريان التوارث، وإعطاء السهم من المغنم، وغيرهما (1).

قوله: (لأنه بيان لـ (يقول) أو استئناف)

زاد في " الكشاف ": " كأنه قيل: ولم يَدَّعُون الإيمان كاذبين، وما رفقهم في ذلك؟

فقيل: يخادعون " (2)

قال أبو حيان: وعلى كلا الوجهين لا موضع للجملة من الإعراب. (3)

قوله: (والفعل متى غولب فيه)

قال الشيخ سعد الدين: أي عورض، وجرى بينه وبين صاحبه مباراة ومقابلة (4).

قوله: (كان أبلغ)

زاد في " الكشاف ": " لزيادة قوة الداعي إليه (5) "

قوله ": (وُيخْدَعُوْنَ وُيخَادَعُونَ على البناء للمفعول، ونصب أنفسهم بنزع الخافض)

قال ابن جني في " المحتسب ": وما يُخدعون قراءة عبد السلام بن شداد (6)، والجارود بن أبي سبرة (7).

وهذا على قولك: خدعت زيدا نفسه، ومعناه عن نفسه، فإن شئت قلت: حذف حرف الجر، فوصل الفعل، كقوله تعالى (واختار موسى قومه)[سورة الأعراف 155]

أي من قومه، وإن شئت قلت: حمله على المعنى، فأضمر له ما يناسبه.

ص: 379

وذلك أن قولك: خدعت زيدا عن نفسه يدخله معنى انتقصته نفسه، فلما تضمن معناه أجري مجراه في الاستعمال.

وعليه قوله تعالى (أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ) [سورة البقرة

187] وأنت لا تقول: رفثت إلى المرأة، وإنما تقول: رفثت بها، لكن لما ضمن معنى الإفضاء عدي ب " إلى "، كما يعدى أفضيت ب " إلى "(1)

وقال أبو حيان: ومن قرأ (وما يُخَادَعُوْنَ) أو (يُخْدَعُوْنَ) مبنيا للمفعول فانتصاب ما بعد إلاّ على ما انتصب عليه " زَيْدٌ غُبنَ رَأيَهُ " إما على التمييز على مذهب الكوفيين، صماما على التشبيه بالمفعول به، عَلى ما زعم بعضهم، وإما على إسقاط حرف الجر، أي في أنفسهم، أو عن أنفسهم، أو ضمن الفعل معنى ينتقصون ويسلبون، فينتصب على أنه مفعول به، كما ضمن الرفث معنى الإفضاء، فعدي ب " إلى "، ولا يقال: رفث إلى كذا، وكما ضمن (هل لك إلى أن تزكى)[سورة النازعات 18] معنى أدعوك، ولا يقال إلا: هل لك في كذا (2).

قوله: (والنفس ذات الشيء، وحقيقته) زاد الإمام: ولا تختص بالأجسام (3).

قوله: (ثم قيل للروح) إلى آخره

قال الشيخ سعد الدين، والشريف: ظاهر هذا الكلام أن لفظ النفس حقيقة في الذات، مجاز فيما عداها.

وكذا قال القطب، وعلله بأن الذات تقوم بالروح، وبالقلب وبالدم، وبالماء (4).

وقال الطيبي: قوله: " ثم قيل للقلب: نفس " متفرع على الأول، وقوله:" للدم نفس " متفرع على الثاني، يدل عليه " لأن قوامها " أي قوام الروح بالدم (5).

وقال الشريف: إطلاق النفس على الرأي من قبيل تسمية المسبب باسم السبب، أو استعارة مبنية على المشابهة (6).

قوله: (جعل اللحوق وبال الخداع) إلى آخره.

ص: 380

قال الشيخ سعد الدين: يعني أن قوله (لا يشعرون) أبلغ وأنسب من (لا يعلمون " (1)

قوله: (لأنها مانعة من نيل الفضائل) إلى آخره.

بيان لعلاقة المجاز، وهو مأخوذ من كلام الراغب (2).

قوله: (والآية تحتملهما).

أقول: الذي عليه أهل التفسير حمل الآية على الثاني، وهو المجاز، فقد أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن مسعود، وابن عباس، وأبي العالية، ومجاهد، وعكرمة (3)، والحسن، والربيع، وقتادة (4)، ولم يحكيا خلافه عن أحد. والتفسير مرجعه النقل.

والعجب من المصنف، وصاحب " الكشاف " أنهما في أكثر المواضع القرآنية والحديثية يحملان ما ظاهره الحقيقة على المجاز والاستعارة، مع عدم الداعية إليه، ومع تصريح أئمة الحديث والأجلاء بأن المراد الحقيقة على ظاهره، ويساعدهما الشريف، ومن جرى مجراه على ذلك، ويتركون أئمة الحديث بقولهم: زعم أهل الظاهر! ولا مستند لهم في ذلك إلا قولهم: إن المجاز أبلغ من الحقيقة.

وهاهنا ورد التفسير عن الصحابة والتابعين بالمجاز، ليس إلا، فلم يقتصروا عليه، وزادوا الحقيقة.

وليس في المتكلمين على الكشاف أكثر مشيا على طريقة المحدثين من الطيبي، فإنه كان - مع إمامته في المعقولات - محدثا صوفيا قوله:(أليم) أي مؤلم)

قال أبو حيان: وفعيل بمعنى مفعل مجاز (5).

أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: كل شيء في القرآن أليم فهو

ص: 381

الموجع (1).

قوله: (يقال: ألم، فهو أليم) إلى آخره

في بعض الحواشي: هذا فرار مما قاله الأكثرون، أن أليما بمعنى مؤلم، وجعلوه مثل (بديع السموات والأرض)[سورة البقرة 117] أي مبدعهما.

وقول الشاعر (2):

أَمِنْ رَيحَانَةَ الدَّاعِيْ السَّمِيْعُ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..

أي المسمع

والزمخشري يقول: إن فعيلا إنما يكون بمعنى فاعل، أو مفعول من الثلاثي، فأمَّا الرباعي فلا يجيء منه فعيل، فلا يقال: فعيل في " أحسن " ولا في " أعطى " فجعل أليما مأخوذا من " ألم " الثلاثي.

ونَظَّرَهُ بقولهم: وجع الرجل، فهو وجيع.

واحتاج إلى مجاز في الإسناد، وهو أن المتوجع والمتألم هو الإنسان، وقد ينسب ذلك إلى المصدر الحالِّ به، فيقال: ضرب وجيع، والوجع إنما هو للمضروب، ويقال: عذاب أليم، والألم إنما هو للمُعَذَّبِ، ونَظَّرَهُ بقولهم: جَدَّ جِدُّهُ، والجد في الأمر هو الاجتهاد، وهو على التحقيق فعل الجادِّ، لا فعل الجِدِّ (3).

وأما قوله (بديع السموات والأرض) فقد فسره الزمخشري في مكانه بأنه من باب الصفة المشبهة (4)، بديع السموات كقولك: جميل الوجه، وكريم الأب، وليس المعنى مبدع السموات، بل المعنى بديعة سمواته، كما أن المعنى جميل وجهه، وكريم أبوه.

وأما قوله:

أمن ريحانة الداعي السميع. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..

فقد ذكر الزمخشري - فيما علّق عنه، ورأيته بخطه على حاشية " الكشاف " - أن المراد من ريحانة داع من قلبي، سميع لدعاء داعيها، لا بمعنى مسمع منها.

ص: 382

ويؤيده قوله:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . يُؤَرِّقُنِيْ وَأَصْحَاْبِيْ هُجُوْعُ

فإن أكثر القلق والأرق إنما يكون من دواعي النفس وأفكارها. انتهى.

وهذه الحاشية التي أنقل عنها على الإبهام وقع لي منها مجلد على سورة البقرة، ولم يكتب عليه اسم مؤلفه، فانا أنقل عنه مبهما، وأظن أنها حاشية الجابردي (1)

قوله: (. . . . . . . . . . . . . . . . . . . تَحِيِّةُ بَيْنهِمْ ضرْبٌ وَجِيْعُ)

قال الطيبي: أنشد أوله الزجاج:

وَخَيْلٍ قَدْ دَلَفْتُ لَهُمْ بِخَيْلٍ (2). . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..

أي أصحاب خيل.

دلفت: دنوت، يقال: دلفت الكتيبة في الحرب، أي تقدمت. والتحية مصدر حييته تحية، أي رب جيش قد تقدمت إليهم بجيش، والتحية بينهم الضرب بالسيف، لا القول باللسان، كما هو العادة. والوجيع في الحقيقة المضروب، لا الضرب (3).

وقال الشريف: يقال: دلفت الكتيبة تقدمت، ودلف الشيخ إذا قارب الخطو، وكلا المعنيين حسن هنا، والباء في " بخيل " للتعدية (4).

وفي " شرح شواهد سيبويه " للزمخشري: أن هذا البيت لمعدي كرب (5).

قوله: (على طريقة قولهم: جَدَّ جدُّهُ)

قال الطيبي: أي طريقة الإسناد المَجازي (6).

وقال الشيخ سعد الدين: ظاهر هذا الكلام أنه من قبيل الإسناد إلى المصدر مثل جد جده، لكن لا يخفى أنه ليس مصدر الفعل المسند، وإنما يكون كذلك لو

ص: 383

قيل: أَلَمٌ أَلِيْمٌ، وَوَجَعٌ وَجِيْعٌ، فمن هنا قد يتكلف فيقال: العذاب هو الألم الفادح، والضرب أعني المضروبية هو الوجع (1).

قوله: (والمعنى بسبب كذبهم)

قال الشريف: أشار بذلك إلى أنَّ لفظة " ما " مصدرية (2).

وقال أبو حيان: زعم أبو البقاء أن كون " ما " موصولة أظهر، قال: لأن الهاء المقدرة عائدة إلى " الذي " دون المصدر (3).

ولا يلزم أن يكون ثَمَّ هاء مقدرة، بل من قرأ (يَكْذِبُوْنَ) بالتخفيف فالفعل غير متعد، ومن قرأ بالتشديد (4) فالمفعول محذوف، لفهم المعنى، تقديره بكونهم يُكَذَّبُوْنَ اللهَ في أخباره، والرسولَ فيما جاء به (5).

قوله: (من كَذَّبَهُ)

أي على أنه للتعدية، بمعنى يُكَذِّبُوْنَ النبيَّ، أي يعتقدونه كاذبا.

قوله: (أو من كَذَّبَ الذي هو للمبالغة أو التكثير)

قال الطيبي: الفرق بين الكثرة والمبالغة أن الكثرة تفيد صدور هذا المعنى من الشخص مرارا كثيرة، والمبالغة لا تستدعي المرات، بل المراد أن الشخص في نفسه بليغ في كذبه، كأنه بمنزلة مرار كثيرة (6).

وقال الشيخ سعد الدين: المبالغة الزيادة في الكيفية، أي يكذبون كذبا عظيما، والتكثير الزيادة في الكمية من جهة كثرة الفاعلين (7).

قوله: (مِثْلُ بَيَّنَ الشيْءُ) أي اتضح، بمعنى بأن، غير أن بَيَّنَ أبلغ؛ لأنه يدل على كمال ظهور الشيء واتضاحه.

قوله: (وَمَوَّتَتِ البَهَائِم) هو بمعنى ماتت، غير أنه يفيد الكثرة (8).

ص: 384

ففي كلام المصنف لف ونشر مرتب؛ فإن بين الشيء راجع إلى المبالغة، وموتت البهائم راجع إلى التكثير، كما أفصح به في " الكشاف "(1)

قوله: (أو من كَذَّبَ الوَحْشِيُّ) إلى آخره

قال الطيبي: فعلى هذا هو استعارة تبعية واقعة على التمثيل (2).

وقال الشيخ سعد الدين، والشريف: هو مجاز عن كَذَّبَ الذي هو للتعدية، كأنه يَكْذِبُ رأيه وظنه، فيتردد (3).

زاد الشريف: ولما كثر استعماله في هذا المعنى وكان حال المنافق شبيهة به جاز أن يستعار لها وإن كان ما تقدم أولى (4).

قوله: (والكذب هو الخبر عن الشيء على خلاف ما هو به، حرام كله)

تبع في ذلك " الكشاف (5) " وليس كما قالاه، بل من الكذب ما هو مباح، وما هو مندوب، وما هو واجب، كما هو مقرر في كتب الفقه.

وفي الحديث: " كل الكذب يكتب على ابن آدم إلا ثلاثا (6): الرجل يكذب في الحرب؛ فإن الحرب خدعة، والرجل يكذب على المرأة فيرضيها، والرجل يكذب بين الرجلين فيصلح بينهما "(7)

ص: 385

رواه الطبراني في " الكبير " من حديث النواس بن سمعان (1).

وروى الطبراني في " الأوسط ": حديث " الكذب كله إثم إلا ما نفع به مسلم، أو دفع به عن دين "(2)

قال النووي في " الأذكار ": وأما المستثنى منه فقد روينا في الصحيحين عن أم كلثوم (3) أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " ليس الكذاب الذي

ص: 386

يصلح بين الناس، فينمي خير أو يقول خيرا "

زاد مسلم قالت أم كلثوم: ولم أسمعه يرخص في شيء مما يقول الناس إلا في ثلاث: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرجل امرأته، والمرأة زوجها (1).

فهذا الحديث صريح في إباحة بعض الكذب للمصلحة.

وقد ضبط بعض العلماء ما يباح منه، وأحسن ما رأيته في ضبطه ما ذكره أبو حامد الغزالي فقال: الكلام وسيلة إلى المقاصد، فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعا، فالكذب فيه حرام؛ لعدم الحاجة إليه، وإن أمكن التوصل إليه بالكذب ولم يمكن بالصدق، فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحا، وواجب إن كان المقصود واجبا.

فإذا اختفى مسلم من ظالم وسأل عنه وجب الكذب بإخفائه، وكذا لو كان عنده، أو عند غيره وديعة، وسأل ظالم يريد أخذها منه وجب عليه الكذب بإخفائها، ولو استحلفه عليها لزمه أن يحلف، وُيوَرِّيْ في يمينه، وكذا لو كان المقصود حربا، أو إصلاح ذات البين، أو استمالة قلب المجني عليه في العفو عن الجناية لا يحصل إلا بالكذب، فالكذب ليس بحرام، وكذلك كلما ارتبط به غرض صحيح له أو لغيره، فالذي له مثل أن يأخذه ظالم ويسأله عن ماله ليأخذه فله أن ينكره، أو يسأله السلطان عن فاحشة بينه وبين الله تعالى ارتكبها فله أن ينكرها ويقول: ما زنيت، أو ما سرقت مثلا.

وقد اشتهرت الأحاديث بتلقين الذين أقروا بالحدود الرجوع عن الإقرار.

وأما غرض غيره فمثل أن يسأل عن سر أخيه فينكره، أو نحو ذلك.

وينبغي أن يقابل بين مفسدة الكذب، والمفسدة المترتبة على الصدق، فإن كانت المفسدة في الصدق أشد ضررا فله الكذب، وإن كان عكسه، أو شك حرم عليه الكذب. (2) انتهى.

وفي الحاشية المشار إليها: هذا الذي ذكره الزمخشري بناء على مذهبه في التحسين والتقبيح، فهم يقولون: الكذب كله قبيح وإن تضمن مصلحة بناء على أن الأحكام تابعة لأوصاف في الذات.

ص: 387

وأهل السنة يقولون: الكذب للمصلحة مباح، وقد يكون واجبا كما إذا اختفى مظلوم، وسئل عنه فإنه يحرم الصدق في الإعلام به، ويجب الكذب (1). انتهى.

وهذا الموضع مما مشى على (2) البيضاوي من " الكشاف "، فلم يتنبه أنه على مذهبه، وما تنزه عن الغفلة إلا الله سبحانه.

قوله: (وما روي أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كذب ثلاث كذبات)

روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه في حديث الشفاعة: " فيقول إبراهيم إني كذبت ثلاث كذبات (3) " وفي رواية: " وذكر قوله في الكوكب: هذا ربي، وقوله: بل فعله كبيرهم هذا، وقوله: إني سقيم (4) "

وروى الترمذي عن أبي سعيد في حديث الشفاعة: " فيأتون إبراهيم فيقول: إني كذبت ثلاث كذبات " ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " ما منها كذبة إلا ما حل بها عن دين الله "

وفي رواية عند أحمد، وأبي يعلى:" إني كذبت في الإسلام ثلاث كذبات والله إن أجادل بهن إلا عن دين الله: قوله: إني سقيم، وقوله: بل فعله كبيرهم هذا، وقوله لامرأته حين أتى على الملك: أختي (5) "

ص: 388

وفي الحاشية المشار إليها: حكى ابن خطيب الريِّ أنه باحث رجلا في هذا الحديث فقال: يجب القطع بكذب الراوي؛ لأنه قد ثبت عصمة الأنبياء، فقال له الرجل: كيف يكذب الراوي، والحديث ثابت في الصحيحين؟ فقال: تكذيب الراوي حتى يصدق إبراهيم أولى (1).

قال صاحب الحاشية: وهذا البحث فاسد من ابن الخطيب.

قوله: (فالمراد التعريض)

قال الشيخ أكمل الدين: اختلف في معنى التعريض هاهنا، فقيل: هو خلاف التصريح، وهو تضمين الكلام دلالة ليس لها فيه ذكر، وقيل: هو اللفظ المشار به إلى جانب، والغرض جانب آخر، وسمي تعريضا لما فيه من التعرج عن المطلوب (2).

وبهذا الأخير جزم الطيبي، وقال: يقال: نظر إليه بعرض وجهه، أي بجانبه، ومنه المعاريض في الكلام، وهي التورية بالشيء.

قال: ونوع من التعريض يسمى الاستدراج، وهو إرخاء العنان مع الخصم في المجاراة؛ ليعثر حيث يراد تبكيته، فسلك إبراهيم عليه السلام مع القوم هذا المنهج.

أما قوله في الكوكب: (هذا ربي) فكان أبوه وقومه يعبدون الأصنام والكواكب، فأراد أن ينبههم على الخطإ في دينهم، ويرشدهم إلى أن شيئا منها لا يصلح للإلاهية؛ لقيام دليل الحدوث فيها، وأن وراءها محدثا أحدثها.

وأما قوله: (بل فعله كبيرهم) فتنبيه على أن الإلاه الذي لم يقدر على دفع المضرة عن نفسه كيف يرجى منه دفع الضرر عن الغير.

ص: 389

وأما قوله: (إني سقيم) فإنه عليه السلام أوهمهم أنه استدل بأمارة علم النجوم على أنه سيسقم ليتركوه، فيفعل بالأصنام ما أراد أن يفعل، أو سقيم لما أجد من الغيظ والحنق باتخاذكم النجوم آلهة (1)

قال الشيخ سعد الدين: وأما قوله: هذه أختي فالغرض منه الأخوة في الدين، تخليصا من يد الظالم. (2)

قال الطيبي: فإن قلت: فإذا شهد له الصادق المصدوق بالبراءة فما باله (3) يشهد على نفسه بها؟

قلت: نحن وإن أخرجناها عن مفهوم الكذبات باعتبار التورية، وسميناها معاريض فلا ننكر أن صورتها صورة التعريج عن المستقيم، فالحبيب قصد إلى براءة ساحة الخليل عما لا يليق بها، فسماها معاريض، حيث قال: ما حل، أي جادل، وهو معنى التعريض؛ لأنه نوع من الكناية، والخليل لمح إلى مرتبة الشفاعة هنالك، وأنها مختصة بالحبيب، فتجوز في الكذبات.

ويمكن أن يقال: إنهم من هول ذلك اليوم، وما بهم من شأن أنفسهم يدفعونهم بذلك.

هكذا ينبغي أن يتصور هذا المقام؛ فإنه من مزال الأقدام، ألا ترى إلى الإمام كيف ذهل عن ذلك، وطعن في الأئمة، وقال في سورة يوسف: الأولى أن لا يقبل مثل هذه الأحاديث؛ لئلا يلزمنا تكذيب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولا شك أن صونهم عن نسبة الكذب إليهم أولى من صون الرواة. (4) انتهى.

قلت: قد وقع مثل ذلك (5) للإمام في غير ما حديث صحيح أنكره اعتمادا على صعوبة ظاهره، وكذا وقع أيضاً للقاضي أبي بكر الباقلاني، ولإمام الحرمين، ولابن فورك (6)، وللقاضي عياض، وللغزالي، وآخرين أجلاء، أنكروا أحاديث، وهي صحيحة

ص: 390

ثابتة في الصحيحين وغيرهما، قابلة للتأويل، وتعجب منهم أئمة الحديث في ذلك، وأرجو أن أجمعها في جزء، وسيمر بك في هذه الحاشية أشياء منها.

قوله: (عطف على (يكذبون) أو (يقول)

فيه أمور:

الأول: قال أبو حيان: إذا كان عطفا على (يكذبون) كان موضعه نصبا؛ لأنه معطوف على خبر كان، والمعطوف على الخبر خبر، وهي إذ ذاك جزء من السبب الذي استحقوا به العذاب الأليم.

وإذا كان عطفا على (يقول) فلا محل له من الإعراب؛ لأنه معطوف على صلة (من) والصلة لا محل لها، ولا يكون جزءا من السبب (1).

الثاني: قال في " الكشاف ": " والأول أوجه (2) "

قال صاحب " التقريب ": لأنه أقرب، وليفيد تسببه للعذاب أيضاً (3).

زاد الطيبي: وليؤذن أن صفة الفساق يحترز منها؛ لقبحها، كما يحترز من الكذب (4).

زاد الشيخ أكمل الدين، والشيخ سعد الدين: ولئلا يلزم تخلل البيان، أو الاستئناف فيما بين أجزاء الصلة، أو الصفة (5).

قال القطب، والطيبي، والتفتازاني، والشريف: ويمكن أن يقال: إن الثاني أوجه؛ لأن في العطف على (يقول آمنا) تصييرا للآيات على سننن تعديد قبائحهم، فيفيد صفة أخرى لهم على الاستقلال، ولأن قوله (وإذا قيل لهم)(وإذا لقوا) معطوفان على قوله (وإذا قيل لهم لا تفسدوا) فلو عطف على (يكذبون) كانا أيضا معطوفين عليه، فيدخلان في حيز تسبب العذاب، فتنتفي فائدة اختصاص الكذب بالذكر بالكلية (6).

ص: 391