الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
نفي ملك الدرهم عنه في الوجود فاضل عن وقوع نفي الدينار عنه، أي أكثر منه، و " فضلا " على التقدير الأول حال، وعلى الثاني مصدر، وهما الوجهان اللذان ذكرهما الفارسي، لكن توجيه الإعرابين مخالف لما ذكر، وتوجيه المعنى مخالف لما ذكروا؛ لأنه إنما يتضح تطابق اللفظ والمعنى على ما وجهت، لا على ما وجهوا.
ولعل من لم يَقْوَ أُنسه بتجوزات العرب في كلامها يقدح فيما ذكرت؛ بكثرة الحذف وهو كما قيل:
إِذا لَمْ يَكُنْ إِلَاّ الأَسِنَّةُ مرْكَبٌ. . . فَلا رَأْى لِلْمُحْتَاجِ إِلا رُكُوبُهَا (1)
وقد بينت في التوجيه الأول أن مثل هذا الحذف والتجوز واقع في كلامهم.
قال أبو الفتح: قال لي أبو علي: من عرف ألف، ومن جهل استوحش (2). انتهى كلام ابن هشام (3).
وقال الشيخ سعد الدين: " فضلا " مصدر فعل محذوف، يقع متوسطا بين نفي وإثبات لفظا، نحو فلانٌ لا ينظر إلى الفقير فضلا عن إعطائه، أو معنى نحو تقاصرت الهمم عن أدنى العدد فضلا عن أن تترقاه، أي لم تبلغه فضلا عن الترقي، والقصد فيه إلى استبعاد الأدنى، أعنى ما دخله النفي، بمعنى عده بعيدا عن الوقوع، كالنظر إلى الفقير، وبلوغ الهمم، واستحالة ما فوقه، أعني ما دخلته " عن " بمعنى عده بمنزلة المحال الذي لا يمكن وقوعه، كالإعطاء والترقي، وهو من قولك: أنفقت الدرهم، والذي فضل منه كذا، أي بقي، وفاعل الفعل ضمير النفي، أي انتفى العطاء بالكلية، والذي بقي منه عدم النظر، وهكذا انتفى الترقي، وبقي التقاصر.
والأحسن أنه لا محل لهذه الجملة وإن جعلها بعضهم حالا.
ومن الخطأ في حل هذا التركيب ما يقال: إن " فضلا " بمعنى تجاوزا، وأن المستبعد هو عدم النظر وقصور الهمم (4). انتهى.
* * *
قوله: (نخصك بالعبادة والاستعانة)
قال الشيخ أكمل الدين: اعترض عليه بأن المعنى نخص العبادة، ونخص طلب المعونة بك.
وكأن هذا المعترض إنما نظر إلى سياق الكلام بأن المعنى أنهم علموا أن العبادة لابد منها، وأنها ينبغي أن تكون لغير الله، أو له ولغيره، فقال: نخص العبادة بك، قصر قلب على الأول، وإفراد على الثاني، فوجب أن يحمل كلام المصنف على القلب.
وفيه نظر؛ لأن رد الخطأ * في باب القصر إنما يكون على المخاطب، وذلك فيما نحن فيه محال.
وأجيب بأنه على سبيل التعريض.
ورد بأنه ليس بصحيح على ما سيظهر.
وقيل: معنى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) نخصك بالعبادة، كما عبر عنه المصنف، لأن تقديره نعبدك، وتقديم المفعول أفاد أن يجعل المعنى نخصك بالعبادة، لا بغيرها من أفعالنا؛ لأن غيرها منها ما لا يصلح لك.
وليس بصحيح؛ لأنه من باب قصر الفعل على المفعول، دون عكسه، فليس لكلامه محمل صحيح سوى القلب، لكن النظر في دفع الخطأ لم يندفع (1). انتهى.
وقال الشيخ سعد الدين: قوله: " نخصك بالعبادة " أي نجعلك منفردا بها، لا نعبد غيرك، وهذا هو الاستعمال العربي، ولو قيل: نخص العبادة بك لكان استعمالا عرفيا (2).
قوله: (ليكون أدلّ على الاختصاص).
قال الشريف: تصريح بأنه الغيبة لها دلالة ما على ذلك، لتقدم ذكر الصفات المشعرة بذلك (3).
الشيخ أكمل الدين: لم يفرق بين التخصيص والاختصاص، ولا نزاع في الاصطلاح (4).
* في الأصل " الخطأ ".
قوله: (ومن عادة العرب التفنن في الكلام، والعدول من أسلوب إلى آخر).
لم يصرح باسم هذا، وسماه في " الكشاف " بالالتفات (1)، فأفاد وأجاد؛ لأن هنا ثلاثة أنواع متقاربة، ينبغي التمييز بينها؛ لئلا تلتبس.
قال الشيخ بهاء الدين السبكي: في " عروس الأفراح ": اعلم أني لم أر من أوضح العبارة عن حقيقة الالتفات، وربما توهم قوم أنه لفظي، وربما أشكل التمييز بين حقيقته وحقيقة التجريد، وحقيقة وضع الظاهر موضع المضمر، وعكسه، ثم كونه حقيقة أو مجازا، فالكلام في أربعة أمور:
الأول: في كشف الغطاء عن حقيقته.
اعلم أن الالتفات نقل الكلام من أسلوب لغيره، وهو نقل معنوي، لا لفظي فقط، وشرطه أن يكون الضمير في المنتقل إليه عائدا في نفس الأمر إلى الملتف عنه، يحتوز عن مثل أكوم زيدا، وأحسن إليه، فضمير " أنت " الذي هو فاعل أكرم غير الضمير في " إليه " وليس التفاتا.
وإنما قلت: " في نفس الأمر " لأنه بطريق الادعاء، يعود لغيره، فحينئذ إذا كان الضمير الأول في محله باعتبار الواقع في نفس الأمر، فقلت: إني أخاطبك، فأجب المخاطب، كنتَ أعدت الضمير في المخاطب، وهو ضمير غيبة على نفسك، وليس ذلك وضعا لضمير الغائب موضع ضمير المتكلم، بل جردت منك مثل نفسك، وأمرته بأن يجيبه، فضمير الغيبة واقع موقعه (2)، وكذلك (وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)[سورة يس 22] جرد من نفسه حقيقة مثلها وخاطبها، وفي قوله:
طحا بِكَ قَلْبٌ في الحِسَاد طَرُوْبُ. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
على رأي السكاكي جرد من نفسه حقيقة مثلها وخاطبها، فالضمير واقع في محله، فهو التفات وتجريد، وعلى رأي غيره هو تجريد فقط.
وفي قوله بعده:
تكلفني ليلى. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
التفات على القولين، ولا نقول: إنه أعاد الضمير على غير الأول، فيلزم أن
ْيكون الضميران، وهما الكاف والياء لشيئين، بل أعاده على الأول مدعيا أنه غير الثاني، فإن الحقيقة المجردة هي باعتبار الحقيقة عين المجرد عنها، وباعتبار التجريد غيرها، فذلك الذي جرده في قوله:" بك " هو في نفس الأمر نفسه، فالتفت له بهذا الاعتبار.
وبهذا علمنا أن الالتفات في " بك " على رأي السكاكي أوضح من الالتفات الذي في " تكلفني " لأن في " بك " خروجا عن ضمير المتكلم إلى شيء لا وجود له بالكلية، وفي " تكلفني " خروج عن الحقيقة المجردة إلى الحقيقة المجرد عنها، فهو عدول إلى الأصل، و " بك " عدول إلى الفرع.
وفي قوله تعالى (حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ)[سورة يونس 22] جرد من المخاطبين مثلهم، وعاد (1) الضمير عليهم، فهو تجريد والتفات، فالضميران في نفس الأمر لشيء واحد، وبالادعاء لشيئين.
وقوله تعالى (والله الذي أرسل الرياح)[سوة فاطر 9] في لفظ الجلالة - على رأي السكاكي - التفات، وتجريد، وعلى رأي غيره تجريد فقط.
وقوله تعالى (فسقناه) التفات عنى رأيهما؛ لأنه عائد على الله تعالى حقيقة، والكلام فيه كالكلام في:
تكلفني ليلى. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
وقوله تعالى (الحمد لله) التفات على رأي السكاكي وتجريد، و (إياك) التفات لا تجريد.
الثاني: في الفرق بين التجريد والالتفات.
وقد علم مما سبق أن بينهما عموما وخصوصا من وجه، فيوجد التجريد دون الالتفات كقولك: رأيت منه أسدا، ومثل:
تطاول ليلك. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
على رأي الجمهور، والتفات دون تجريد نحو:
تكلفني ليلى. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
ونحوه (فسقناه) والتفات وتجريد نحو (فصل لربك) ولا واحد منهما كغالب القرآن.
الثالث: وضع الظاهر موضع المضمر، وعكسه بالنسبة إلى الالتفات.
فعند السكاكي قد يجتمع وضع الظاهر موضع المضمر مع الالتفات في نحو (والله الذي أرسل الرياح) وأمير المؤمنين يأمرك بكذا، وقد ينفرد الالتفات نحو:
تطاول ليلك. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
وليس فيه وضع الظاهر موضع المضمر، بل وضع مضمر موضع مضمر، وقد ينفرد وضع الظاهر عن الالتفات كقوله تعالى (إن أبانا لفي ضلال مبين)[سورة يوسف 8] فإن أصله " إنه " لتقدمه في قوله (أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا)
وأما وضع المضمر موضع الظاهر فينفرد عن الالتفات في نحو: نعم رجلا زيد " و " ربه رجلا " لأن الضمير والظاهر كلاهما على أسلوب الغيبة، وينفرد الالتفات عنه كثيرا، نحو (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) ونحو: وبات وباتت له ليلة. . . . . ..
ويجتمعان في نحو قول الخليفة: نعم الرجل أمير المؤمنين.
وأما على رأي السكاكي فوضع الظاهر موضع المضمر والالتفات قد يجتمعان، مثل (فصل لربك وانحر) وقد ينفرد الالتفات، وهو الغالب، مثل (إياك نعبد) وقد ينفرد وضع الظاهر، مثل (الحمد لله) ونحو (والله الذي أرسل الرياح) ووضع المضمر (1) موضع الظاهر لا يجتمع مع الالتفات؛ لأن الالتفات لابد فيه من ضمير سابق يلتفت عنه، ومع ذلك فلا موقع للظاهر، ولكن ينفرد وضع المضمر في نحو: نعم رجلا زيد " وينفرد الالتفات في غير ذلك.
الرابع: في أن الالتفات حقيقة أو مجاز.
إذا تأملت ما سبق علمت أنه حقيقة حيث كان معه تجريد وحيث لم يكن، وقد صرح
الخطيبي (2) بأن الالتفات تجريد، والتحقيق ما تقدم من التفصيل (3). انتهى.
* * *
تنبيه: قال الشيخ بهاء الدين: قوله تعالى: (الحمد لله) وقوله (إياك نعبد) اتفقوا على أنه التفات واحد.
وفيه نظر؛ لأن الزمخشري ومن تابعه على أن الالتفات خلاف الظاهر مطلقا، يلزمهم أنه إن كان التقدير قولوا:(الحمد لله) ففيه التفاتان - أعني في الكلام المأمور بقوله -
أحدهما: في لفظ الجلالة، فإن الله تعالى حاضر، فأصله الحمد لك.
والثاني: (إياك) لمجيئه على خلاف الأسلوب السابق، وإن لم يقدر قولوا كان في (الحمد لله) التفات عن التكلم إلى الغيبة، فإن الله كأنه حمد (1) نفسه، ولا يكون في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) التفات؛ لأن قولوا مقدرة معها قطعا، فأحد الأمرين لازم للزمخشري والسكاكي، إما أن يكون في الآية التفاتان، أو لا يكون فيها التفات بالكلية.
هذا إن فرعنا على رأي السكاكي، وهو مقتضى كلام الزمخشري؛ لأنه جعل في أبيات امرئ القيس ثلاثا، وإن فرعنا على رأي الجمهور، ولم نقدر قولوا:(الحمد لله) فلا التفات؛ لأنا نقدر قولوا (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) وإن قدرنا قولوا قبل (الحمد لله) كان فيه التفات واحل في (إياك) وبطل قول الزمخشري أن في أبيات امرئ القيس ثلاث التفاتات (2) انتهى.
قوله: (تطرية له)
قال الشيخ بهاء الدين: أي إنه أشهى للقلب؛ لأن لذات النفوس في التنقلات؛ لما جبلت عليه من الضجر (3).
قؤله: (وتنشيطا للسامع)
أي فيكون أكثر إصغاء.
وقال في " المثل السائر ": قول الزمخشري: إن الالتفات يحصل به الفرار من الملل لا يصح؛ لأن الكلام الحسن لا يملّ (4).
ورده صاحب (5)" الفلك الدائر " بأن المستلذ قد يملّ. . . . . . . . . . . .
لكثرته (1).
قوله: (فيعدل من الخطاب إلى الغيبة، ومن الغيبة إلى التكلم، وبالعكس)
قال الشيخ بهاء الدين السبكي: قد قسموا الالتفات إلى ستة أقسام:
الأوّل: الالتفات من التكلم إلى الخطاب، ومثلوه بقوله تعالى (وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون) والأصل وإليه أرجع.
الثاني: التفات من التكلم إلى الغيبة، كقوله تعالى (إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك)[سورة الكوثر 1، 2].
الثالث: التفات من الخطاب إلى التكلم كقوله:
طحا بِكَ قَلْبٌ فِي الحِسَانِ طَرُوبُ. . . بُعَيدَ الشَّبابِ عَصْرَ حَانَ مَشِيبُ
تُكَلِّفُنِيْ لَيْلَى وَقَد شَطّ وَلْيُهَا. . . وَعَادَتْ عَوَادٍ بَيْنَنَا وَحُرُوبُ (2)
فالتفت في قوله: " تكلفني " عن قوله: " بك " من الخطاب إلى التكلم.
الرابع: من الخطاب إلى الغيبة، كقوله تعالى (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم)
الخامس: من الغيبة إلى الخطاب، كقوله تعالى (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ)
السادس من الغيبة إلى التكلم نحو (وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ)
وقول امرئ القيس:
تَطَاوَلَ لَيلُكَ بِالأَثْمُدِ. . . وَنَامَ الخَلِيُّ وَلَمْ تَرْقُدِ
وَبَاتَ وَبَاتَتْ لَهُ لَيْلَةٌ. . . كَلَيْلَةِ ذِيْ العَائِرِ الأَرْمَدِ
وَذَلِكَ مِن نبَإٍ جَاءَنِيْ. . . وَخُبّرْتُهُ عَن أَبِيْ الأَسْوَدِ (3)
هذه الأبيات مطلع قصيدة رواها الأصمعي، وأبو عمرو الشيباني (4)
وأبو عبيدة، وابن الأعرابي لامرئ القيس بن حجر الكندي.
وقال الشيخ جمال الدين ابن هشام في " شرح الشواهد ": وهو الثابت في كتاب " أشعار الشعراء الستة (1).
ورواها ابن الكلبي لعمرو بن معديكرب (2) في قتله بني مازن بأخيه عبد الله، وإخراجهم من بلادهم، ورواها ابن دريد (3) لامرئ القيس بن عانس - بالنون - الصحابي (4)، وبعد هذه الأبيات:
وَلَوْ عن نَثَا غَيْرِهِ جَاءَنِيْ. . . وَجُرحُ اللِّسَانُ كَجُرْحِ اليَدِ
لَقُلْتُ مِنَ القَوْلِ مَالا يَزَا. . . لُ يُؤْثَرُ عَنِّيْ يَدَ المُسْنَد
بِأيِّ عَلاقَتِنَا تَرْغُبُوْ. . . ن عَنْ دَمِ عَمْروٍ عَلَي مَرْثَدِ
فَإِن تَدْفِنُوْا الدَاءَ لا نَخْفِهِ. . . وَإن تَبْعَثُوا الحَرْبَ لا نَقْعُدِ
وَإنْ تَقْتُلُوْنَا نُقَتِّلْكُمْ. . . وَإنْ تَقصِدُوا لِدَمٍ نَقْصِدِ (5)
قوله:
تطاول ليلك. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . ..
كناية عن السهر
قال ابن هشام: وهو خطاب لنفسه، والأصل ليلي. والأثمد بفتح الهمزة، وسكون المثلثة، وضم الميم، ودال مهملة، اسم موضع. والخلي: الخالي (6) من الهموم. والعائر بمهملة وهمزة.
قال ابن هشام: هو قذى العين، وقيل: العائر الرمد، قال: والأوّل أولى ليكون أشق للجمع بينهما، ويحصل الترقي أيضاً ما فإن الرمد أبلغ من قذى العين، ولعدم تكرره.
قال: واشتقاق العائر من العُوَّار بضم العين وتشديد الواو: قذى العين.
قال: والضمير في " بات " وفي " له " ملتفت بهما عن الخطاب إلى الغيبة، والواو في " وبات " للعطف، وفي " وباتت له ليلة " للعطف، أو للحال، وهو أولى، أي وبت والحال أن بيتوتتي كانت شديدة، ودلّ على شدتها بالتشبيه المذكور، وإسناد البيتوتة إليها مجازي و " بات ". فيهما تامة، فالجار والمجرور يتعلق بالثانية، لا باستقرار محذوف، هو خبر، فإن ذلك لا يحسن لزوال التطابق، ولأنه لو قيل: باتت ليلته كان كافيا " وذلك " إشارة إلى المذكور كله، و " من " لابتداء الغاية.
و " النبأ " قال الراغب: خبر ذو فائدة عظيمة، يحصل به علم أو غلبة ظن، ولا يقال للخبر: نبأ حتى يتضمن ما ذكر (1)، فهو أخص من مطلق الخبر.
وأبو الأسود كنيته، واسمه ظالم بن عمرو، من بني الجون، آكل المرار، وهو ابن عم امرئ القيس، رثاه بهذه القصيدة، وقيل: بل " أبي " مضاف ومضاف إليه، و " الأسود " صفة للأب، وهو أفعل من السؤدد، أو من السواد (2).
والنثا ما نثي عن الرجل من قبيح فعله، و " يؤثر عني " يُحَدَّثُ به، و " يد المسند " آخر الدهر.
قال القالي: (3) لم يعرف الأصمعي، وأبو عمرو معنى " بأيّ علاقتنا ترغبون ".
وقال أبو عمرو: ولم يعرفه (4) أحد ممن سألته (5).
وقد اختلف في عدد الالتفات الذي وقع في هذه الأبيات، فذكر الزمخشري
أن فيها ثلاث التفاتات (1)، في " ليلك " لأن حقه أن يقول " ليلي، وفي " بات " لعدوله إلى الغيبة بعد الخطاب، وفى " جاءني " لعدوله بعدها إلى التكلم.
والمحققون على أن فيها التفاتينّ فقط، ما وأن الأول ليس بالتفات، بل هو تجريد، وقيل: إن الثاني والثالث " ذلك " و " جاءني "، ورجحه صاحب (2)" الإيضاح (3) "، أو " ذلك ".
" وخبرته "، ورجحه الشيخ بهاء الدين السبكي في " عروس الأفراح (4) "، وقيل: فيها أربع التفاتات " ليلك " و " ذلك " و " وجاءني " و " خبرته ".
وقد بالغ قوم فقالوا: إن فيها سبع التفاتات " ليلك " و " ترقد " و " بات " و " له " و " ذلك " و " جاءني " و " خبرته ".
قوله: (وإيَّا ضمير) إلى آخره.
قال صاحب " البسيط ": اختلف العلماء في " إياك " على سبعة أقوال: فذهب سيبويه، والأخفش، وجمهور البصريين، وأبو علي من المتأخرين إلى أن الاسم المضمر هو " إيا " وما يتصل بها حروف تدل على أحوال المرجوع إليه من التكلم، والخطاب، والغيبة.
وذهب الخليل إلى أن " إيا " اسم مضمر، وما بعدها مضمر مضاف إليه.
وذهب المبرد، وابن درستويه (5)، والسيرافي (6)، إلى أنه اسم مبهم أضيف
للتخصيص.
وذهب الزجاج إلى أنه اسم ظاهر خص بالإضافة إلى المضمرات.
وذهب قوم من الكوفيين، وأبو الحسن ابن كيسان، من البصريين إلى أن الضمير ما بعد " إيا "، و " إيا " دعامة لها تعتمد عليها.
وذهب آخرون من الكوفيين إلى أن الكلمة بكمالها اسم مضمر.
وذهب الخليل - في قول آخر - إلى أنه اسم مظهر ناب مناب الضمير (1).
حجة القول الأول من وجهين:
أحدهما: أنها بمنزلة الضمير المنصوب المتصل في الدلالة على المفعول به (2)، في قولك: ما أكرمني إلا أنت، وما أكرمتَ إلا إياي، فإذا ثبتت اسميتها لم يجز إضافتها؛ لأن الضمائر لا تضاف، وإذا امتنعت إضافتها تعين حرفية ما بعدها.
الثاني أنها لازمة للنصب، وليست ظرفا غير متمكن، ولا مصدرا غير متصرف، ولو كانت اسما ظاهرا لما لزمت النصب.
وحجة القول الثاني: أنه جاءت إضافته إلى الظاهر في قول العرب: " إذا بلغ الرجل الستين فإيَّاهُ وَإيَّا الشَّوَابِّ " ماذا ثبتت إضافته إلى الظاهر الذي يظهر فيه الإعراب وجب الحكم بإضافته إلى الضمير الذي لا يظهر فيه الإعراب.
وأما كون الضمائر لا تضاف فغير مانع من إضافة هذا النوع؛ لأن الأحكام العامة قد تتخلف في بعض الصور، بدليل تخلف " لدن " عن جر " غدوة "، وتخلف " لولا " عن وقوع ضمير المرفوع بعدها، وتخلف " عسى " عن اتصال ضمير المرفوع بها، فكذلك هذا النوع من المضمرات، تخلف عن حكم المضمرات في منع الإضافة.
وحجة القول الثالث: أنه مع إبهامه الغالب عليه الإظهار، فلا تمتنع إضافته، ولذلك تكلم في اشتقاقه.
وحجة القول الرابع: أنه ظاهر بدليل تحقق اشتقاقه، والظاهر لا تمتنع إضافته.
وأما لزومه للنصب فغير مستنكر، بدليل أن من الأسماء ما يلزم النصب، وهذا منها. وحجة القول الخامس: أن الياء والكاف والهاء في " إياي " و " إياك "،
و " إياه " هي الضمائر المتصلة بالفعل في " أكرمني " و " وأكرمك " و " وأكرمه " فوجب أن تكون هي الضمائر؛ لتحققها بالاسمية عند الاتصال بالفعل، إلا أنه لما لم يمكن قيامها بنفسها جعل قبلها ما تعتمد عليه، وتتصل به.
وأما كون " إيا " هي الضمير دون ما بعدها فضعيف؛ لأنه لم يعهد لها حالة يمكن حملها عليها، وقد عهد لهذه الضمائر الدلالة على الإضمار، فوجب الحمل على ما عهد، دون ما لم يعهد.
وأما كون ما تتصل به أكثر منها فغير مانع بدليل اتصالها بالفعل، وهو أكثر منها؛ لأن الغرض التوصل إلى جعلها منفصلة من الفعل، وهذا القول ليس ببعيد عن الصواب.
وحجة القول السادس: أن الحكم على بعض الكلمة بالاسمية، وعلى بعضها بالحرفية محض التحكم، لأنه لم يعهد كلمة واحدة بعضها اسم، وبعضها حرف، فوجب الحكم على جميع الكلمة بالاسمية.
وأما اختلافها فبحسب اختلاف الإضمار إلى التكلم والخطاب والغيبة، لأنه جعل ما يدل على كل نوع من المضمرين في آخر الكلمة.
وأما القول السابع فهو يناسب قول من قال بالإظهار. انتهى.
قوله: (واحتج بما حكاه عن بعض العرب: " إذا بلغ الرجل الستين فإياه وإيا الشوابّ ").
قال سيبويه: حدثني من لا أتهم عن الخليل أنه سمع أعرابيا يقول: فذكره (1).
قال الطيبي: الشوابّ جمع شابة، كدواب جمع دابة، أي فليحذر نفسه أن يتعرض للشواب، وليحذر الشواب أن يَفْتِنَّهُ (2).
قال صاحب " البسيط " في النحو: وروي: " فإياه وإيا السوآت " قال: وهذا أبلغ في التحذير من الجماع عند الكبر.
قال الزركشي (3) في حاشية كتبها على هذا الموضع: هذا يرد على من ادعى
أن هذا تصحيف.
قوله: (وهو شاذ لا يعتمد عليه)
قال الشيخ سعد الدين: هو وإن كان شاذا من حيث الإضافة إلى المظهر، لكن فيه دلالة على أن بين " إيا " واللواحق إضافة (1).
قوله: (والعبادة أقصى غاية الخضوع والتذلل)
هو كلام الراغب، وزاد أنها ضربان:
عبادة بالتسخير، كما في قوله تعالى (تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ)
[سورة الإسراء 44] وعبادة بالاختيار، وهي لذي النطق، وهو المأمور به في نحو قوله تعالى (اعبدوا ربَّكم)(2)[سورة البقرة 21].
قوله: (والمراد طلب المعونة في المهمات كلها، أو في أداء العبادات)
الأول هو الصواب، فإنه الوارد عن ابن عباس (3)، والأوفق للعموم المراد في ألفاظ الفاتحة.
قوله: (في عبادتهم) أي أثنائها
قوله: (وقدم المفعول للتعظيم، والاهتمام به والدلالة على الحصر)
نازع أبو حيان في دلالة التقديم على الحصر (4) مستندا إلى قول سيبويه: إذا
قلت: ضربت زيدا، وزيدا ضربمّا فالتقديم والتأخير فيه سواء (1).
وتعقبه الشيخ ولي الدين العراقي في " حاشيته على الكشاف " بأنه ليس في كلام سيبويه ما يرد ذلك، بل هو أمر مسكوت عنه، زاده البيانيون، وكم في كلام أهل البيان في دقائق العربية مما لم يصرح بذكره النحاة.
وعبر الزمخشري بدل الحصر بالاختصاص.
قال الشيخ ولي الدين: والمتبادر إلى الفهم من الاختصاص هو الحصر (2).
وقال الإمام تقي الدين السبكي: إنه غيره، فإن صح لم يكن بين كلام الزمخشري وأبي حيان تعارض.
وقال الشيخ بهاء الدين السبكي في " عروس الأفراح ": سلك الوالد في الاختصاص حيث وقع، إما بتقديم الفاعل المعنوي، أو بتقديم المعمول مسلكا غير ما هو ظاهر كلام البيانيين، وألف في ذلك تصنيفا لطيفا سماه " الاقتناص في الفرق بين الحصر والاختصاص (3) ".
قال فيه: قد اشتهر كلام الناس في أن تقديم المعمول يفيد الاختصاص، ومن الناس من ينكر ذلك، ويقول: إنما يفيد الاهتمام.
وقد قال سيبويه في كتابه: " وهم يقدمون ما هُم به أعنى (4) ".
والبيانيون على إفادته الاختصاص.
ويفهم كثير من الناس من الاختصاص الحصر، فإذا قلت: زيدا ضربت، يقول: معناه ما ضربت إلا زيدا، وليس كذلك، وإنما الاختصاص شيء والحصر شيء آخر، والفضلاء لم يذكروا في ذلك لفظة الحصر، وإنما قالوا: الاختصاص.
قال الزمخشري - في تفسير قوله تعالى (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) -: " وتقديم المفعول لقصد الاختصاص، كقوله تعالى (أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ)
[سورة الزمر 46](قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا)[سورة الأنعام 164] والمعنى نخصك بالعبادة، ونخصك بطلب المعونة (1) ".
وقال في قوله تعالى (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ): " معناه أفغير الله أعبد بأمركم "(2) وقال في قوله تعالى (قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا): " الهمزة للإنكار، أي منكرا أن أبغي ربا غيره (3) ".
وقال في قوله تعالى (قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي)[سورة الزمر 14] "
إنه أمر بالإخبار بأنه يختص الله تعالى وحده دون غيره بعبادته، مخلصا له دينه " (4).
وقال في قوله تعالى (أفغير دين الله يبغون)[سورة آل عمران 83]" قدم المفعول الذي هو (غير دين الله) على فعله؛ لأنه أهمّ من حيث إن الإنكار الذي هو معنى الهمزة متوجه إلى المعبود بالباطل "(5).
وقال في قوله تعالى (أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ)[سورة الصافات 86]: " إنما قدم المفعول على الفعل للعناية به، وقدم المفعول له على المفعول به؛ لأنه كان الأهمّ عنده أن يكافحهم؛ لأنهم على إفك وباطل في شركهم، ويجوز أن يكون إفكا مفعولا به، يعني أتريدون إفكا، ثم فسر الأوّل بقوله (آلِهَةً دُونَ اللَّهِ) على أنها إفك في أنفسها، ويجوز أن يكون حالا "(6).
فهذه الآيات كلها لم يذكر الزمخشري لفظ الحصر في شيء منها، ولا يصح إلا في الآية الأولى فقط، والقدر المشترك في الآيات الاهتمام، ويأتي الاختصاص في أكثرها.
ومثل قوله تعالى (أَئِفْكًا آلِهَةً) قوله تعالى (أهؤلاء إيَّاكم كانوا يعبدون)[سورة سبأ 40] وما أشبههما لا يأتي فيه إلا الاهتمام؛ لأن ذلك منكر من غير اختصاص، وقد يتكلف لمعنى الاختصاص في ذلك كما في بقية الآيات، وأما الحصر فلا.
فإن قلت: ما الفرق بين الاختصاص والحصر؟
قلت: الاختصاص افتعال من الخصوص، والخصوص مركب من شيئين:
أحدهما: عام مشترك بين شيئين، أو أشياء.
والثاني: معنى منضم إليه، يفصله عن غيره، كضرب زيد، فإنه أخص من مطلق الضرب، فإذا قلت: ضربت زيدا، أخبرت بضرب عام وقع منك، على شخص خاص، فصار ذلك الضرب المخبر به خاصا لما انضم إليه منك، ومن زيد، وهذه المعاني الثلاثة: أعني مطلق الضرب، وكونه واقعا منك، وكونه واقعا على زيد، قد يكون قصد المتكلم بها ثلاثتها على السواء، وقد يترجح قصده لبعضها على بعض، ويعرف ذلك بما. ابتدأ به كلامه، فإن الابتداء بالشيء يدل على الاهتمام به، وأنه هو الأرجح لغرض المتكلم.
فإذا قلت: زيدا ضربت، علم أن خصوص الضرب على زيد هو المقصود، ولاشك أن كل مركّب من خاص وعام له جهتان، فقد يقصد من جهة عمومه، وقد يقصد من جهة خصوصه، فقصده من جهة خصوصه هو الاختصاص، وأنه هو الأهم عند المتكلم، وهو الذي قصد إفادته للسامع من غير تعرض ولا قصد لغيره بإثبات ولا نفي.
وأما الحصر فمعناه نفي غير المذكور، وإثبات المذكور، ويعبر عنه ب " ما "، و " إلا "، أو ب " إنما ".
فإذا قلت: ما ضربت إلا زيدا كنت نفيت الضرب عن غير زيد، وأثبته لزيد، وهذا المعنى زائد على الاختصاص.
وإنما جاء هذا في (إيَّاك نعبد وإيَّاك نستعين) للعلم بأنه لا يعبد غير الله، ولا يستعان بغيره، ألا ترى أن بقية الآيات لم يطرد فيها ذلك، " فإن قوله تعالى (أفغير دين الله يبغون) لو جعل غير دين الله يبغون في معنى ما يبغون إلا غير دين الله، وهمزة الإنكار داخلة عليه، لزم أن يكون المنكر الحصر، لا مجرد بغيهم غير دين الله، ولاشك أن مجرّد بغيهم غير دين الله منكر، وكذلك بقية الآيات إذا تأملتها، ألا ترى أن (أفغير الله تأمرونّي أعبد) وقع الإنكار فيه على عبادة غير الله من غير حصر، وأن (أبغي رَبًّا) غيره منكر من غير حصر، ولكن الخصوص، وهو غير الله هو المنكر وحده، ومع غيره.
وكذلك (إياكم كانوا يعبدون) عبادتهم إياهم منكرة من غير حصر، وكذلك قوله تعالى (آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ) المنكر إرادتهم آلهة دون الله من غير حصر.
فمن هذا كله يعلم أن الحصر في (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) من خصوص المادة، لا من موضوع اللفظ. بل أقول: إن المصلي قد يكون مقبلا على الله وحده، لا يعرض له استحضار غيره بوجه من الوجوه، وغيره أحقر في عينه من أن يشتغل ذلك الوقت بنفي عبادته، وإنما قصد الإخبار بعبادة الله.
وأول ما حضر في ذهنه عظمة من هو واقف بين يديه فقال (إِيَّاكَ نَعْبُدُ) ليطابق اللفظ المعنى، ويتقدم ما تقدم حضوره في القلب، وهو الرب سبحانه وتعالى، ثم بنى على ما أخبر به من عبادته.
فمعنى اختصاصه بالعبادة اختصاصه بالإخبار بعبادته، وغيره من الأكوان لم يخبر عنه بشيء، بل هو معرض عنها.
وإذا تأملت مواقع ذلك في الكتاب والسنة، وأشعار العرب تجده كذلك، ألا ترى قول الشاعر (1):
أَكُلَّ امرِئٍ تَحَسَبِيْنَ امرءًا. . . ونَارٍ تَوَقَّدُ بِالليلِ نَارًا
لو قدرت فيه الحصر ب " ما " و " إلا " لم يصح المعنى الذي أراده.
وقد قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى (وبالآخرة هم يوقنون): " وفي تقديم الآخرة، وبناء (يوقنون) على (هم) تعريض بأهل الكتاب، وما كانوا عليه من إثبات أمر الآخرة على خلاف حقيقته، وأن قولهم ليس بصادر عن إيقان، وأن اليقين ما عليه من آمن بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك (2) ".
وهذا الذي قاله الزمخشري في غاية الحسن.
وقد اعترض عليه بعض الناس فقال: تقديم الآخرة أفاد أن إيقانهم مقصور على أنه إيقان بالآخرة، لا بغيرها.
وهذا الذي قاله هذا القائل بناه على ما فهمه من أن تقديم المعمول يفيد الحصر، وليس كذلك، لما بيناه.
ثم قال هذا القائل: وتقديم (هم) أفاد أن هذا القصر مختص بهم، فيكون إيقان غيرهم بالآخرة إيمانا بغيرها، حيث (قالوا لن يدخل)[سورة البقرة 111] و (لن تمسنا)[سورة البقرة 80].
وهذا من هذا القائل استمرار على ما في ذهنه من الحصر، أي أن المسلمين لا يوقنون إلا بالآخرة، وأهل الكتاب يوقنون بها وبغيرها، وهذا فهم عجيب.
ثم قال هذا القائل: ثم إن التعريض في قوله: " بأهل الكتاب "" وبما كانوا "" وأن قولهم " ظاهر معني قول الزمخشري.
قال هذا القائل: وأما في قوله: " وأن اليقين " فمشكل؛ لأنه ليس فيه تعريض بأن اليقين ما عليه من آمن، بل تصريح.
قلت: مراد الزمخشري أن التصريح بأن من آمن يوقنون تعريض بأن أهل الكتاب لا يوقنون، فكيف يرد عليه هذا؟
ثم قال هذا القائل: فالوجه أن يقال: " وأن اليقين " عطف على قوله: " تعريض " لا على معمولاته من " بأهل الكتاب " إلى آخره، فكأنَّه قال: وفي تقديم الآخرة وبناء يوقنون على (هم) تعريض، وأن اليقين. . ..
قلت: مراد الزمخشري أنه تعريض بنفي اليقين عن أهل الكتاب، وكأنه قال: دون غير من آمن، فلا يرد عليه، ولا يحتاج إلى تقدير العطف على ما ذكره هذا القائل، وهو إما أن يقدر:" دون غيرهم " أولا، فإن قدر فهو تعريض، لا تصريح، وإن لم يقدر فلا يحتاج إلى بناء (يوقئون) على (هم).
فحمل كلام الزمخشري على ما زعمه هذا القائل لا يصح بوجه من الوجوه، وهذا القائل فاضل، وإنما ألجأه إلى ذلك فهمه الحصر، وهو ممنوع، وعلى تقدير تسليمه فالحصر على ثلاثة أقسام:
أحدها: ب " ما " و " إلا " كقولك: ما قام إلا زيد، صريح في نفي القيام عن غير زيد، ويقتضي إثبات القيام لزيد، قيل: بالمنطوق، وقيل: بالمفهوم، وهو الصحيح، لكنه أقوى المفاهيم؛ لأن " إلاّ " موضوعة للاستثناء، وهو الإخراج، فدلالتها على الإخراج بالمنطوق، لا بالمفهوم، ولكن الإخراج من عدم القيام ليس هو عين القيام، بل قد يستلزمه، فلذلك رجحنا أنه بالمفهوم، والتبس على بعض الناس لذلك، فقال: إنه بالمنطوق.
والثاني: الحصر ب " إنما " وهو قريب من الأول فيما نحن فيه وإن كان جانب الإثبات فيه أظهر، فكأنَّه يفيد إثبات قيام زيد - إذا قلت: إنما قام زيد - بالمنطوق، ونفيه عن غيره بالمفهوم.
والقسم الثالث: الحصر الذي قد يفيده التقديم، وليس هو على تقدير تسليمه مثل الحصرين الأولين، بل هو في قوة جملتين:
إحداهما: ما صدر به الحكم نفيا كان أو إثباتا، وهو المنطوق
والأخرى: ما فهم من التقديم، والحصر يقتضي نفي المنطوق فقط، دون ما دل عليه من المفهوم؛ لأن المفهوم لا مفهوم له، فإذا قلت: أنا لا أكرم إلا إياك، أفاد التعريض بأن غيرك يكرم غيره، ولا يلزم أنك لا تكرمه.
وقد قال سبحانه وتعالى (الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة)[سورة النور 3] أفاد أن العفيف.
قد ينكح غير الزانية، وهو ساكت عن نكاحه الزانية فقال سبحانه وتعالى بعده (والزانية لا ينكحها إلا زان أو مشرك) بيانا لما سكت عنه في الأولى.
فلو قال (وبالآخرة هم يوقنون) أفاد منطوقُهُ إيقانهم بها، ومفهومُهُ عند من يزعم أنهم لا يوقنون بغيرها، وليس ذلك مقصودا بالذات، والمقصود بالذات قوة إيقانهم بالآخرة، حتى صار غيرها عندهم كالمدحوض، فهو حصر مجازي، وهو دون قولنا: يوقنون بالآخرة، لا بغيرها، فاضبط هذا، وإياك أن تجعل تقديره: لا يوقنون إلا بالآخرة.
إذا عرفت هذا فتقديم (هم) أفاد أن غيرهم ليس كذلك، فلو جعلنا التقدير لا يوقنون إلا بالآخرة كان المقصود المهم النفي، فيتسلط المفهوم عليه، فيكون المعنى إفادة أن غيرهم يوقن بغيرها، كما زعم هذا القائل، ويطرح إفهام أنه لا يوقن بالآخرة.
ولا شك أن هذا ليس بمراد (1)، بل المراد إفهام أن غيرهم لا يوقن بالآخرة، فلذلك حافظنا على أن الغرض الأعظم إثبات الإيقان بالآخرة، ليتسلط المفهوم عليه، وأن المفهوم لا يتسلط على الحصر؛ لأن الحصر لم يدل عليه بجملة (2) واحدة، مثل " ما " و " إلا " ومثل " إنما " وإنما دل عليه بمفهوم مستفاد من منطوق، وليس أحدهما متقيداً بالآخر حتى نقول: إن المفهوم أفاد نفي الإيقان المحصور، بل أفاد نفي الإيقان مطلقا عن غيرهم.
وهذا كله إنما احتجنا إليه على تقدير تسليم ما ادعاه هذا القائل من الحصر، وقد سبق إلى فهم كثير من الناس، ونحن قد منعنا ذلك أولا، وبينا أنه لا حصر
في ذلك، وإنما هو اختصاص، وفرقنا بين الاختصاص والحصر. وقول هذا القائل: تقديم (هم). من أين له أن هذا تقديم، فإنك إذا قلت: هو يفعل، احتمل أن يكون مبتدأ خبره يفعل، واحتمل أن يكون أصله يفعل هو، ثم قدمت وأخرت، والزمخشري لم يصرح بالتقديم، وإنما قال:" بناء (يوقنون) على (هم) " ولكنا مشينا مع هذا الفاضل على كلامه، وكل ذلك أوجبه (1) الوهم والتباس الاختصاص بالحصر (2). انتهى كلام الشيخ تقي الدين.
وقال الشيخ بهاء الدين السبكي: قال ابن الحاجب في " شرح المفصل ": الاختصاص الذي يتوهمه كثير من الناس من تقديم المعمول وهم.
واستدل على دْلك بقوله تعالى (فاعبد الله مخلصا له الدين) ثم قال تعالى (بل الله فاعبد)
قال: وهو استدلال ضعيف؛ لأن (مخلصا له الدين) أغنى عن إرادة الحصر في الآية الأولى، ولو لم يكن فما الذي يمنع من ذكر المحصور في محل بغير صيغة الحصر، كما تقول: عبدت الله، وتقول: ما عبدت إلا الله، كل سائغ.
قال الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ)[سورة الحج 77]، وقال تعالى (أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ)[سورة يوسف 40] بل قوله تعالى (بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ) من أقوى أدلة الاختصاص؛ فإن قبلها (لَئِنْ أَشْرَكْتَ) فلو لم تكن للاختصاص، وكان معناها: أعبد الله لما حصل الإضراب الذي هو معنى (بل).
قال: وقد رد الشيخ أبو حيان على مدعي الاختصاص، ونقل عن سيبويه أنه قال:" يقدمون ما هو الأهم من كلامهم، وهم به أعنى "
قال: وربما يعترض على مدعي الاختصاص بنحو قوله تعالى (أفغير الله تأمروني أعبد).
وجوابه: أنه لما كان من أشرك بالله غيره كأنه لم يعبد الله، كان أمرهم بالشرك كأنه أمر بتخصيص غير الله بالعبادة.
قال: ورد صاحب الفلك الدائر " بقوله (1) تعالى (كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ)(2).
وجوابه: أنا لا ندعي اللزوم، بل الغلبة، وقد يخرج الشيء عن الحقيقة، وعن الغالب (3). انتهى.
قوله: (ولذلك قال ابن عباس: معناه نعبدك، ولا نعبد غيرك)
أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم (4) من طريق الضحاك عنه.
قوله: (ولا يستتب له)
في الصحاح: استتب له الأمر: تهيأ واستقام.
الشيخ سعد الدين: يستتب، أي يتم، من التبات، وهو الهلاك (5).
قال في " الأساس ": والتبات يتبع التمام (6).
قوله: (وأصله أن يعدى باللام) إلى آخره
قال الزمخشري في غير " الكشاف ": " يقال: هداه لكذا، أو إلى كذا، إذا لم يكن في ذلك، فيصل إليه بالاهتداء، وهداه كذا بغير حرف محتمل للحالين، بين أن يكون فيه، وبين أن لا يكون، حتى لا يجوز أن يقال في قوله (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) [سورة العنكبوت 69] لسبلنا، أو إلى سبلنا " انتهى (7).
وللخويِّي فرق آخر ذكرته في " أسرار التنزيل (1) "
قوله: (وهداية الله تتنوع أنواعا) إلى آخره
نوعها الراغب إلى أربعة غير هذه:
الأولى: الهداية التي عم بها كل شيء، بحسب حاله، كما قال (أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)[سورة طه 50].
الثاني: الهداية التي جعلها للناس، بدعائه إياهم على ألسنة الأنبياء، وإنزال القرآن، وهو المقصود بقوله (وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا)[سورة الأنبياء 73].
الثالث: التوفيق الذي يختص به من اهتدى، وهو المعني بقوله (والذين اهتدوا زادهم هدى)[سورة محمد 17](ومن يؤمن بالله يهد قلبه)[سورة التغابن 11].
الرابع: الهداية في الآخرة إلى الجنة، وهو المعني بقوله (الحمد لله الذي هدانا لهذا)[سورة الأعراف 43] سيهديهم ويصلح بالهم (2)) [سورة محمد 5].
قوله: (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا)
قال الطيبي: تقرير الاستشهاد به أنه تعالى أثبت لهم الجهاد على لفظ الماضي، وأوقع ضمير التعظيم ظرفا له، على المبالغة، أي في سبيلنا ووجهنا مخلصين لنا، ولا يكون مثل هذا الجهاد إلا هداية، لا غاية بعدها، ثم قال (لنهدينهم سبلنا) على الاستقبال.
وصرّح بلفظ (سبلنا) ولا يستقيم تأويله إلا بما ذكر من طلب الزيادة بمنح الألطاف (3).
قوله: (ويميط) بضم أوله، أي تبعد وتنحي.
قوله: (غواشي) جمع غاشية.
قوله: (والأمر والدعاء يتشاركان لفظا)
أي صيغة ومعنى، أي فإن كلا منهما دال على الطلب
قوله: (ويتفاوتان بالاستعلاء والتسفل، وقيل: بالرتبة)
في مغايرة القول الثاني للأول نظر لا يخفى
قوله: (السابلة) هم المختلفون (1) في الطرقات لحوائجهم
قوله: (وهو كالطريق في التذكير والتأنيث)
أما في المعنى فيينهما فرق لطيف، أشار إليه الخُوَيِّي قال: الطريق كل ما يطرقه طاروا معتادا كان أم (2) غيره، والسبيل من الطرق ما هو معتاد السلوك، والصراط من السبيل ما لا التواء فيه ولا اعوجاج، فلا يذهب يمنة ولا يسرة، بل يكون على سمت القصد (3)، فهو أخص الثلاثة.
قال: فإن قيل: فما فائدة وصفه بالمستقيم حينئذٍ؟
أجيب بأن الصراط يطلق على ما فيه صعود أو هبوط، والمستقيم ما لا ميل فيه إلى شيء من الجوانب الأربعة، وأصل الاستقامة في قيام الشخص أن لا يكون منحنيا ولا مُقْعَنْسِساً، ولا مائلا إلى يمين أو يسار.
قوله: (والمراد به طريق الحق، وقيل: ملة الإسلام)
القولان مرويان عن ابن عباس، أخرجهما ابن جرير (4)، وليسا متغايرين (5) كما يفهمه إيراد المصنف، بل مؤداهما واحد.
قال ابن تيمية: الخلاف بين السلف في التفسير قليل جدا، وخلافهم في الأحكام أكثر من خلافهم في التفسير، وغالب ما يصح عنهم من الخلاف يرجع إلى اختلاف تنوع، لا اختلاف تضاد، وذلك كأن يعبر أحدهم عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه، تدل على معنى في المسمى، غير المعنى الآخر، مع اتحاد المسمى، مثال ذلك تفسير هم (الصراط المستقيم) فقال بعضهم: هو القرآن، أي اتباعه،