المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

بتكرير المعجمة والراء. في " الصحاح ": يقال: ألقى عليه شراشره، - نواهد الأبكار وشوارد الأفكار = حاشية السيوطي على تفسير البيضاوي - جـ ١

[الجلال السيوطي]

الفصل: بتكرير المعجمة والراء. في " الصحاح ": يقال: ألقى عليه شراشره،

بتكرير المعجمة والراء.

في " الصحاح ": يقال: ألقى عليه شراشره، أي نفسه، حرصا ومحبة (1). قال الكميت (2):

وتُلْقَى عليهِ عِندَ كُلِّ عَظِيمةٍ. . . شراشرُ من حَيَّيْ نِزَارٍ وَأَلْبُبِ (3)

وفي القاموس: الشراشر النفس، والأثقال، والمحبة، وجميع الجسد (4).

وفي الأمثال للقمي (5): قال الأصمعي: من أمثالهم: " ألقى عليه شراشره (6) " أي ألقى عليه نفسه من حبه.

والشراشر البدن، وكل ما عليه من الثياب، الواحدة شرشرة، ويقال: الشراشر ما تذبذب من الثياب.

قال ذو الرمة (7):

وكَائِن تَرَى مِن رَشْدَةٍ في كَرِيْهَةٍ. . . وَمِنْ غَيَّةٍ يُلْقَى عَلَيهَا الشَّرَاشِرُ (8)

* * *

قوله: ‌

‌(الحمد

هو الثناء على الجميل الاختياري)

قال الشريف: إذا خص الحمد بالأفعال الاختيارية يلزم أن لا يحمد الله على صفاته الذاتية، كالعلم والقدرة والإرادة، سواء جعلت عين ذاته، أو زائدة عليها،

ص: 154

بل على إنعامه، اللهم إلا أن تجعل تلك الصفات - لكون ذاته كافيه فيها - بمنزلة أفعال اختيارية، يستقل بها فاعلها. قال: والثناء هو الذكر بالخير (1).

قوله: (من نعمة)

قال الشريف: أي إنعام بنعمة (2).

قوله: (والمدح هو الثناء على الجميل مطلقا)

حاصل ما فرّق به الناس بين الحمد والمدح أمور:

أحدها: - وعليه اقتصر المصنف - أن الحمد على الجميل الاختياري، والمدح على ما لا اختيار فيه للعبد، كالحسن.

ثانيها، وثالثها: أن الحمد يشترط صدوره عن علم، لا ظن، وأن تكون الصفات المحمودة صفات كمال، والمدح قد يكون عن ظنّ، وبصفة مستحسنة وإن كان فيها نقص مّا.

رابعها: أن في الحمد من التعظيم والفخامة ما ليس في المدح، وهو أخص بالعقلاء والعظماء، وأكثر إطلاقا على الله.

قوله: (وقيل: هما أخوان).

قال الطيبي: أي متشابهان، لا مترادفان، فإن الأخ يستعمل في المشابهة.

قال في " الفائق " في قوله: " كأخ السرار " أي كلاما كمثل المسارة، وشبهها به لخفض صوته (3).

وقال الشريف: أي هما مترادفان، ويدل على ذلك أنه قال في " الفائق ": الحمد هو المدح، والوصف بالجميل، وأنه جعل هاهنا نقيض المدح، أعني الذمّ نقيضا للحمد.

وقيل: أراد أنهما أخوان في الاشتقاق الكبير أو الأكبر، أما الكبير فبأن يشتركا في الحروف الأصول من غير ترتيب، مع اتحاد في المعنى، أو تناسب فيه كالجذب والجبذ، وكالحمد والمدح، وأما الأكبر فبأن يشتركا في أكثر تلك الحروف فقط، مع الاتحاد، أو التناسب كَألَهٍ، ووله، وكالفلق والفلج (4).

ص: 155

وقال الشيخ أكمل الدين: المراد بالأخوة تلاقيهما في الاشتقاق؛ لتناسبهما في الحروف الأصلية - وهو ظاهر - مع الاشتراك في المعنى، وهو الثناء المطلق، أي الذكر بالجميل، وليس المراد ترادفهما؛ لأن الأخوة لا تقتضي الترادف.

وقيل: المراد بالأخوة الاستلزام، وذلك لأن الحمد لا يكون إلا على الأفعال الاختيارية، والمدح يستعمل في الأفعال الاختيارية وغيرها، فكان بينهما عموم وخصوص مطلقا، وإليه ذهب أكثر العلماء (1).

قوله: (والشكر مقابلة النعمة قولا وعملا واعتقادا).

قال الطيبي: هذا عرف أهل الأصول، فإنهم يقولون: شكر المنعم واجب، ويريدون به وجوب العبادة، والعبادة لا تتم إلا بهذه الثلاثة، وإلا فالشكر اللغوي ليس إلا باللسان (2).

قلت: وفيما ذكره نظر، فإن ظاهر القرآن والحديث إطلاق الشكر على غير اللساني، قال الله تعالى (اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا)[سورة سبأ 13]، وقال صلى الله عليه وسلم:" الحمد رأس الشكر (3) " فإنه دال على إطلاق الشكر عنى غير الحمد أيضاً.

وروى الطبراني في " الأوسط " عن النواس بن السمعان أن ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم الجدعاء سرقت، فقال:" لئن ردها الله عليّ لأشكرن ربي " فلما ردت قال: " الحمد لله " فانتظروا هل يحدث صوما أو صلاة، فظنوا أنه نسي، فقالوا له، فقال:" ألم أقل: الحمد لله (4) ".

ووجه الدلالة: أن الصحابة لولا فهموا إطلاق الشكر على العمل لم ينتظروه.

* * *

تنبيه: أطبق الناس على جعل أقسام الشكر ثلاثة.

وزاد بعضهم رابعا، وهو شكر الله بالله، فلا يشكره حق شكره إلا هو. ذكره صاحب التحرير (5)، وأنشد:

ص: 156

وَشُكْرُ ذَوِي الإحسانِ بالقلبِ تارةً. . . وبالقولِ أخرى، ثم بالعمل لا يُنْسى

وَشُكْرِي لِرَبِّي لا بقلبي وطاعتي. . . ولا بلساني، بل به شُكْرُهُ عنا

قوله: (أَفَادَتْكُمُ النَّعْمَاءُ منِّي ثلاثةً يدي ولساني والضميرَ المُحَجَّبَا)

رأيت بخط الشيخ جمال الدين ابن هشام في بعض تعاليقه ما نصه: في استدلال الزمخشري وجماعة بهذا البيت نظر؛ إذ لم يسم الشاعر هذه الأشياء شكرا ولا حمدا.

وقال الشيخ سعد الدين: عبارة " الفائق ": وأما الشكر فلا يكون إلا على النعمة، وهو مقابلتها قولا وفعلا ونية، وذلك أن يثني على المنعم بلسانه، ويدئب نفسه في الطاعة له، ويعتقد أنه ولي النعمة، وقد جمعها الشاعر في قوله:

أفادتكم النعماء مني ثلاثة (1). . . . . . . البيت

قال: فظهر أن المراد التمثيل لجميع شعب الشكر، لا الاستشهاد والاستدلال على أن لفظ الشكر يطلق عليها.

ومعنى البيت: أفادتكم إنعاماتكم عليّ ثلاثة أشياء مني: المكافأة باليد، ونشر المحامد باللسان، ووقف الفؤاد على المحبة والاعتقاد (2).

وقال الشريف: الشكر إما بالقلب بأن يعتقد اتصاف المنعم بصفات الكمال، وأنه وليّ النعمة، وإما باللسان بأن يثني عليه بلسانه، وإما بالجوارح بأن يدئب نفسه في طاعته وانقياده.

وقوله: أفادتكم النعماء. . . . . . . . . . . . . . . . . ..

استشهاد معنوي على أن الشكر يطلق على أفعال الموارد الثلاثة.

وبيان ذلك أنه جعلها بإزاء النعمة جزاء لها، متفرعا عليها، وكل ما هو جزاء النعمة عرفا يطلق عليه الشكر لغة.

ومن لم يتنبه لذلك زعم (3) أن المقصود مجرد التمثيل لجميع شعب الشكر،

ص: 157

لا الاستشهاد على أن لفظ الشكر يطلق عليها، فإنه غير مذكور.

فإن قلت: الشاعر جعل المجموع بإزاء النعمة، فالشكر يجب أن يطلق عليه، وأما على كل واحد من الثلاثة فلا.

قلت: الشكر يطلق على فعل اللسان اتفاقا، وإنما الاشتباه في إطلاقه على فعل القلب والجوارح، حتى توهم كثير من الناس أن الشكر في اللغة باللسان وحده، ولما جمعه الشاعر مع الآخَرَينِ، وجعلها ثلاثة علم أن كل واحد شكر للنعمة، وأنه أراد أن نعماءكم كثرت عندي وعظمت، فاقتضت استيفاء أنواع الشكر، وبالغ في ذلك حتى جعل موارده واقعة في مقابلة النعماء ملكا لأصحابها، مستفادا منها، كأنه قال: يدي ولساني وقلبي لكم، فليس في القلب إلا نصيحتكم ومحبتكم، ولا في اللسان إلا ثناؤكم ومحمدتكم، ولا في اليد والجوارح إلا مكافأتكم وخدمتكم.

وفي وصف الضمير بالمحجب إشارة إلى أنهم ملكوا ظاهره وباطنه (1). انتهى.

وقال الشيخ أكمل الدين: معنى قوله:

أفادتكم النعماء مني ثلاثة. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت

النعم التي أنعمتم بها عليّ أفادتكم يدي، أعينكم بها، ولساني أثني عليكم به، وقلبي أشغله في محبتكم.

وهذا كما ترى ليس فيه سوى أن النعم المنعم بها على المثني أورثت اشتغال هذه الأعضاء بما ينفع المنعم، وأما أن الشكر شيء تكون هذه الأشياء شعبا له فليس فيه دلالة على ذلك (2)، وهو واضح، فما ذكره العلماء قاطبة في معرض

ص: 158

بيان أن الشكر هذه الأشياء، وأن الحمد بعضه مستشهدين به ليس بمستند إلى أصل.

ويمكن أن يقال: إن ثبت عند العلماء أن مقابلة النعمة باللسان وحده هو الحمد فمقابلتها بالأعضاء الثلاثة لا تكون الحمد، وإلا كان الشيء مع غيره كالشيء، لا مع غيره، وهو محال، فلا بد وأن يكون شيئا آخر، وليس في هذا الباب بالاستقراء ما يدل على هذا المعنى إلا المدح والشكر، وقد تقدم أن المدح يؤاخي الحمد في المساواة في المفهوم، فلم يبق إلا الشكر.

ويمكن أن يقال: الجزاء من جنس العمل، فإذا كانت النعمة الواصلة إلى المثني صادرة عن لسان المنعم تقابل باللسان، وهو الحمد، وإذا كانت صادرة عن يده بكف شره أو شر غيره تقابل بمثلها، وإذا كانت صادرة عن قلبه كذلك، وتسمى مكافأة، لا حمدا ولا شكراً.

وأما إذا كانت صادرة عن الأعضاء الثلاثة فتقابل بمثلها، وتسمى شكرا، من شكرت الناقة إذا غزر درها، فظهر أن في كل شكر حمدا، ولا ينعكس (1). انتهى.

قوله: (ولما كان الحمد من شعب الشكر).

قال الشريف: أي باعتبار المورد وإن كان أعمّ منه باعتبار المُتَعَلَّقِ، فيكون الشكر باعتباره أحد شعب الحمد، وعبر عن الأقسام بالشعب؛ لأنها متشعبة عن مَقْسِمِهَا (2).

قوله: (كان أشيع): أي أكثر إشاعة.

وقال الشيخ أكمل الدين: هو أفعل من الإشاعة، وهو شاذ.

قال: والأولى أن يكون من الشيوع، من شاع الخبر (3).

قوله: (في إِدْآبِ الجوارح) أي إتعابها.

قال في " النهاية ": دأب في العمل: إذا جدّ وتعب، إلا أن العرب حولت معناه

ص: 159

إلى العادة والشأن (1).

قوله: والعمدة فيه قوله صلى الله عليه وسلم: " الحمد رأس الشكر، ما شكر الله من لم يحمده ".

قال الطيبي: لم أجده في الأصول، لكن ذكره ابن الأثير في " النهاية (2) ".

قلت: أخرجه. عبد الرزاق في " المصنف " عن معمر (3)، عن قتادة قال: تحدث به عبد الله بن عمرو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " الحمد لله رأس الشكر، ما شكر الله عبد لا يحمده (4) " ورجاله ثقات، إلا أنه منقطع بين قتادة وعبد الله بن عمرو.

وقد أخرجه من طريق عبد الرزاق الحكيم الترمذي (5) في " نوادر الأصول " والبيهقي في " شعب الإيمان " والخطابي في " غريب الحديث " والواحدي في " البسيط " والديلمي (6) في " مسند الفردوس ".

قال في " النهاية ": إنما كان رأس الشكر لأن فيه إظهار النعمة والإشادة بها (7).

ص: 160

وقال الشيخ سعد الدين: في قوله: " ما شكر الله عبد لا يحمده " يعني أن من لم يعترف بالمنعم ولم يجهر بالثناء عليه لم يعد شاكرا، ولم يظهر منه ذلك وإن أتى بالعمل والاعتقاد، وذلك لأن المنبئ عن ما في الضمير وضعا، والمظهر له حقا هو النطق.

وحقيقة معنى الشكر إشاعة النعمة والإبانة عنها، ونقيضه - وهو الكفران - ينبئ عن الستر والتغطية (1).

وبسطه الشريف فقال: لأنه إذا لم يعترف العبد بالنعم وإنعام المولى ولم يثن عليه بما يدلّ على تعظيمه وإكرامه لم يظهر منه شكر ظهورا كاملا وإن اعتقد وعمل فلم يعد شاكراً؛ لأن حقيقة الشكر إشاعة النعمة والكشف عنها، كما أن كفرانها إخفاؤها وسترها، والاعتقاد أمر خفي في نفسه، وعمل الجوارح وإن كان ظاهرا إلا أنه يحتمل خلاف ما قصد به، فإنك إذا قمت تعظيما لأحد احتمل القيام أمرا آخر إذا لم يعتبر للتعظيم (2).

وأما النطق فهو الذي يفصح عن كل خفي، فلا خفاء فيه، ويجلي كل مشتبه، فلا احتمال له، بل هو ظاهر في نفسه، وتفسير لما أريد به وضعا، فكما أن الرأس أظهر الأعضاء وأعلاها، وهو أصل لها وعمدة لبقائها كذلك الحمد، أظهر أنواع الشكر وأشهرها وأشملها على حقيقة الشكر والإبانة عن النعمة، حتى إذا فقد كان ما عداه بمنزلة العدم (3).

قوله: (والذم نقيض الحمد).

قال الطيبي: أي مقابله، لاختصاصه باللسان أيضاً (4).

قوله: (والكفران نقيض الشكر).

قال الطيبي: لحصوله بالقلب واللسان والجوارح (5).

قال الراغب: الكفران في جحود النعمة أكثر استعمالا، والكفر في الدين

ص: 161

أكثر، والكُفُور فيهما جميعا، قال الله تعالى (فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (1)) [سورة الإسراء 99]

* * *

تتمة (2): زاد الطيبي: والهجو يقابل المدح؛ لما فيه من الثلب الذي هو نقيض التحسين (3).

قوله: (ورفعه بالابتداء).

قال الشيخ سعد الدين: تعرّض لذلك مع ظهوره ليفرع عليه قوله: " وأصله النصب (4) ".

وقال الشريف: ربما يتوهم أن المجرور معمول للمصدر، واللام لتقويته، كما في قولك: أعجبني الحمد لله، فذكر ارتفاعه بالابتداء مع ظهوره، ليبين أن الظرف هاهنا مستقر، وقع خبرا له، وليربط به بيان أصله، أعني النصب (5).

قوله: (وأصله النصب وقرئ به).

قال الشريف: المصادر أحداث متعلقة بمحالها، فكأنها تقتضي أن تدل على نسبتها إليها، والأصل في بيان النسب والتعلقات هو الأفعال، فهذه مناسبة تستدعي أن يلاحظ مع المصادر أفعالها الناصبة لها، وقد تأيدت هذه المناسبة في مصادر مخصوصة بكثرة استعمالها منصوبة بافعال مضمرة، فلذلك حكم بأن أصله النصب، وأيده بأنه قراءة بعضهم (6).

قال الطيبي: وهذه القراءة ما ذكرها ابن جني في " المحتسب (7) " - يعني مع أن موضوعه ذكر القراءات الشاذة وتوجيهها -.

قوله: (وإنما عدل به إلى الرفع ليدل على عموم الحمد وثباته له، دون تجدده وحدوثه).

قال في " الإنصاف ": يدل على ذلك أن سيبويه اختار في قول القائل: " فإذا له

ص: 162

علم علم الفقهاء " الرفع، وفي قوله: " فإذا له صوت صوت حمار (1) " النصب؛ لإشعار النصب بالتجدد (2) المناسب للأصوات (3)، وإشعار الرفع بالثبوت الذي هو في العلم أمدح (4).

وقال شيخنا العلامة محيي الدين الكافيجي: فإن قلت: ما معنى كون حمد العباد لله مع أن حمدهم حادث، ولا يجوز قيام الحادث بالله تعالى.

قلت: المراد منه تعلق الحمد به، ولا يلزم من التعلق القيام به، كتعلق العلم بالمعلومات، فلا يتوجه الإشكال أصلا.

قال: وقد أجاب عنه بعض الفضلاء بأن الحمد مصدر بناء المجهول، فيكون الثابت له هو المحمودية.

وقيل: إن اللام هنا للتعليل، بمعنى أن الحمد ثابت لأجل الله (5). انتهى.

قوله: (وهو من المصادر التي تنصب بأفعال مضمرة).

زاد في " الكشاف ": " والمعنى نحمد الله حمدا (6) ".

وقال أبو البقاء: تقديره هنا أحمد الحمد (7).

وقال أبو حيان: تقديره أحمد الله، أو حمدت الله، فحذف الفعل وأقيم المصدر مقامه.

قال: وقدر بعضهم العامل للنصب فعلا غير مشتق من الحمد، أي اقرءوا الحمد لله، أو الزموا الحمد لله، كما حذفوه من نحو اللهم ضبعا وذئبا.

قال: والأوّل هو الصحيح، لدلالة اللفظ عليه.

قال: وفي قراءة النصب اللام للتبيين، كأنه قال: أعني لله، فلا تكون مقوية للتعدية، فيكون لله في موضع نصب بالمصدر؛ لامتناع عمله فيه، قالوا: سقيا لزيد، ولم يقولوا: سقيا زيدا، فيعملونه فيه، فدل على أنه ليس من معمول

ص: 163

المصدر، بل صار على عامل آخر (1).

قوله: (والتعريف فيه للجنس، ومعناه الإشارة إلى ما يعرف (2) كل أحد أن الحمد ما هو، وقيل: للاستغراق؛ إذ الحمد في الحقيقة كله له، إذ ما من خير إلا وهو موليه بوسط، أو بغير وسط)

حاصله أنه ردد بين كون اللام للجنس والاستغراق، منكرا بالمعنى على الزمخشري، حيث قصرها على الأول، وَوَهَّمَ من ذهب إلى الثاني.

وقد قيل: إن ذلك منه نزعة اعتزالية (3)، بناء على أن العبد موجد لأفعاله بالاستقلال، فيستحق بذلك بعض الحمد، فلا يكون كل الحمد لله.

وقد أشار المصنف إلى رده بأن كل خير فهو تعالى موليه بواسطة أو بغيرها، فالحمد في الحقيقة كله له، ثم إن المحققين ذهبوا إلى الاستغراق، فكان ينبغي للمصنف تقديمه.

قال الإمام فصيح الدين (4) في " الفرائد ": كَأَنَّ الزمخشري أراد بما قاله أن بعض الحمد لله، بناء على مذهبه، وليس كذلك؛ فإنه لا حمد إلا لله تعالى.

نعم تعريف الجنس ليس مما يقتضي الاستغراق، ولكنه يحتمله، فإن لم يمنع مانع وافتضاه المقام كان مرادا منه، والحمد لما كان هو الوصف بالجميل على

ص: 164

جهة (1) التعظيم، والله تعالى خالق كل جمال وكمال، وخالق كل من له الجمال والكمال، وخالق كل ما يستحق به الحمد من الأفعال فله الحمد في الحقيقة وإن أضيف في الظاهر إلى غيره.

وقال صاحب (2)" اللباب " في تفسير الفاتحة (3): توجيه ما قاله الزمخشري أن اللام لا تفيد شيئا سوى التعريف، والاسم لا يدل إلا على نفس الماهية المعبر عنها بالجنسية، فإذن لا يكون ثم استغراق.

قال الطيبي: وهذا ذهول عن قول صاحب " المفتاح ": إن الحقيقة من حيث هي هي صالحة للتوحد والتكثر؛ لاجتماعها مع كل واحد منهما، فإذا اجتمعت مع المفرد والجمع في المقام الخطابي حملت على الاستغراق (4).

قال الطيبي: والحق أن الحمل على الجنس أو على الاستغراق إنما يظهر بحسب المقام.

وبيانه هنا أن في تعقيب هذه الصفات للحمد إشعارا بأن الحمد إنما استحقه لما أنه متصف بها، كما صرّح به في قوله:" وهذه الأوصاف دليل على أن من كانت هذه صفاته لم يكن أحد أحق منه بالحمد والثناء (5) ".

وقد تقرر في الأصول أن في اقتران الوصف المناسب بالحكم إشعارا بالعلية، وهاهنا الصفات بأسرها تضمنت العموم، فينبغي أن يكون العموم في الحمد ثابتاً.

وبيانه أن الشكر يقتضي المنعم والمنعم عليه والنعمة، والمنعم هو الله، وخص اسمه المقدس لكونه جامعا لمعاني الأسماء الحسنى، ما عُلم وما لم يُعلم، والمنعم عليهم العالمون، وقد اشتمل على كل جنس مما سمي به، وموجب النعم الرحمن الرحيم، وهو قد استوعب (6) جميع النعم، فإذن ما الذي يستدعي تخصيص الحمد بالبعض سوى التحكم والتوهّم (7).

ص: 165

وفي " اللطائف القشيرية ": واللام في الحمد للجنس، ومقتضاها الاستغراق لجميع المحامد لله تعالى إما وصفا، وإما خلقا، فله الحمد لظهور سلطانه، وله الشكر لوفور إحسانه (1).

الإمام: لو قال: أحمد الله كان قد ذكر حمد نفسه فقط، وإذا قال: الحمد لله فقد دخل فيه حمده، وحمد غيره جميعا من لدن خلق العالم إلى انتهاء دخول أهل الجنة الجنة (وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين (2)) [سورة يونس 11].

" الإنصاف ": تعريف النكرة باللام إما للعهد، وإما للجنس، والذي للعهد إما أن ينصرف العهد فيه إلى فرد معيّن من أفراد الجنس نحو (فعصى فرعون الرسول)[سورة المزمل 11] وإما أن ينصرف إلى الماهية باعتبار تميزها عن غيرها، كقولك: أكلت الخبز.

والجنس هو الذي ينضم إليه شمول الآحاد، كقولك: الرجل خير من المرأة.

وكلا نوعي العهد لا يوجب استغراقاً، إنما يوجبه الجنس، والزمخشري جعل تعريف الحمد من النوع الثاني من نوعي العهد، وعبر عنه بتعريف الجنس، لعدم اعتنائه باصطلاح أصول الفقه، وغير الزمخشري جعله للاستغراق، وليس ببعيد (3).

الطيبي: ليس المراد من تعريف الجنس في الحمد الماهية من حيث هي هي، نحو الرجل خير من المرأة، بل المراد منه فرد غير معيّن بحسب الخارج، نحو دخلت السوق في بلد كذا (4).

الشيخ أكمل الدين: تعريف الجنس هو الذي يقال فيه: العهد الذهني عند المحققين، فإنهم قالوا: لام التعريف هو الدال على الحاضر في ذهن السامع، وهو إما أن يكون كليا أو جزئيا، والأول يسمى عهدا ذهنيا، ويعبر عنه أيضا بتعريف الجنس، والثاني يسمى عهدا خارجياً، والتعرض للأفراد المعني بقولهم: الاستغراق ليس للام دلالة عليه، وإنما هو بحسب المقام، فإذا كان خطابيا مثل

ص: 166

" المؤمن غر كريم (1) " حمل المعرف باللام مفردا كان أو جمعا على الاستغراق بعلة إيهام أن القصد إلى فرد، دون فرد آخر مع تحقق الحقيقة فيهما يعود إلى ترجيح أحد المتساويين بلا مرجح.

قال: وفسر المصنف تعريف الجنس بقوله: ". ومعناه الإشارة إلى ما يعرفه كل أحد أن الحمد ما هو (2) " أي إلى حقيقة من الحقائق، والمراد بها الإشارة العقلية؛ لأن الكليات لا تدرك إلا بالعقل.

قال: ونسب من ذهب إلى أنها للاستغراق إلى الوهم، فاختلف الناس في بيان ذلك.

فمنهم من قال: إنما فعل ذلك بناء على مذهبه، وليس في كلامه ما يشعر بذلك، على أن هذا لا يصح إلا إذا كان نفيه الاستغراق في هذه المادة خاصة، وأما إذا كان مراده أن الاستغراق لا يستفاد من اللام أينما كانت فليس بصحيح، لعدم وجوده في غير هذه المادة.

ومنهم من قال: إنما نسبه إلى الوهم؛ لأنه قدم أن أصل الكلام نحمد الله حمدا، فيكون الحمد منزلا منزلة حمدا، ومفهومه ماهية الحمد؛ لأنه مفعول مطلق للتأكيد، فيكون المراد بالحمد ماهيته.

وفيه نظر؛ لأنه يفيد الاختصاص بالمادة، وتشبيهه ب " أرسلها العراك " ينافيه، ولأنه منزل منزلة حمدا في تقدير الناصب، لا في كونه نكرة.

ومنهم من قال: إنما فعل ذلك بناء على ما ذكرنا أن اللام للعهد، والاستغراق ناشئ عن المقام، وهذا المقام آبٍ عن الاستغراق؛ لأن اختصاص حقيقة الحمد به

ص: 167

تعالى أبلغ من اختصاص أفراده جمعا وفرادى، وفيه إشعار بأن حمد كل حامد، لكل محمود، حمد لله تعالى على الحقيقة؛ لأن الحمد إنما يكون على الفعل الاختياري بالجميل، وكل ما يصدر من الفعل من كل محمود فإنه فعل خلقه الله تعالى، فيكون الحمد المقابل الله خالقه.

وردّ بأن إباء المقام عن الاستغراق ممنوع؛ لأنه مقام خطابي يستدعي الحمل على الاستغراق، وبأن كون اختصاص حقيقة الحمد أبلغ ممنوع، فظهر من ذلك كله أن جعل اللام للحقيقة ليس أولى من الاستغراق إلا إذا كان مراده بكلامه ذلك أن جعل اللام موضوعة للاستغراق وهم، فإنها موضوعة للعهد (1). انتهى.

وقال الشريف: قوله: " ومعناه الإشارة " إلى آخره تصريح بأن معنى تعريف الجنس الإشارة إلى حضور الماهية في الذهن، وتميزها هناك من سائر الماهيات، فإن المُنَكَّرَ وإن دلّ على ماهية معقولة متميزة في الذهن حاضرة عنده إلا أنه لا إشارة فيه إلى تعينها وحضورها، فإذا عرف بلام الجنس فقد أشير إلى ذلك، والفرق بين حضورها وتعينها في الذهن، وبين الإشارة إلى حضورها وتعينها هناك مما لا خفاء فيه.

وتوهّم كثير من الناس أن معنى تعريف الجنس هو الاستغراق، ويبطله أن الاستغراق قد يتحقق في النفي والإثبات كما في لا رجل في الدار، وتمرة خير من جرادة، وليس معه تعريف أصلاً.

فإن قيل: قد حمل صاحب " الكشاف " المعرّف بلام الجنس في مواضع على الشمول والإحاطة، وهو معنى الاستغراق بعينه، فكيف جعله هنا وهما؟.

قلنا: الوهم كون الاستغراق معنى تعريف الجنس، لا كونه مستفادا من المعرّف باللام بمعونة المقام، وما نُقِلَ عنه من أن اللام لا تفيد سوى التعريف والإشارة، والاسم لا يدلّ إلا على مسماه، فإذن لا يكون ثَمَّة استغراق، أراد به أن ليس ثَمُّ استغراق هو مدلول الاسم، أو اللام، لا أنه لا يستفاد من القرائن الخارجية.

وتحقيق الكلام أن معنى التعريف مطلقا هو الإشارة إلى أن مدلول اللفظ معهود، أي معلوم متعين حاضر في ذهن السامع، يرشدك إلى ذلك ما فسر به

ص: 168

المصنف تعريف الجنس هاهنا، وما صرّح به ابن الحاجب في " إيضاح المفصل " من أن زيدا موضوع لمعهود بين المتكلم والمخاطب، ومن أن غلام زيد لمعهود معين بينهما بحسب تلك النسبة المخصوصة (1).

وما ذكره بعض الأدباء من أن المعرفة ما يعرفه مخاطبك، والنكرة ما لا يعرفه، وما أجمعوا عليه من أن الصلة يجب أن تكون معلومة الانتساب للسامع.

وإذا استقريت كلامهم وتحققت محصوله استوثقت بما ذكرنا.

وقد صرّح به بعض الأفاضل فقال: التعريف يقصد به معهود معين عند السامع من حيث هو معين، كأنه أشار إليه بذلك الاعتبار.

وأما النكرة فيقصد بها التفات النفس إلى المعين من حيث ذاته، ولا يلاحظ فيها تعينه وإن كان معينا في نفسه.

وحينئذ نقول: اللام إذا دخلت على اسم فإما أن يشار بها إلى حقيقة معينة من مسماه فردا كانت أو أفراداً، مذكورة تحقيقا أو تقديراً، وتسمى لام العهد، ونظيره العلم الشخصي، وإما أن يشار بها إلى مسماه، وتسمى لام الجنس، فإن قُصد المسمى من حيث هو كما في التعريفات، ونحو قولنا: الرجل خير من المرأة تسمى اللام حينئذ لام الحقيقة والطبيعة، ونظيره العلم الجنسي، وإن قصد المسمى من حيث هو في ضمن الأفراد بقرينة الأحكام الجارية عليه الثابتة له في ضمنها، فإما أن يقصد إليه من حيث هو في ضمن جميع أفرادها، كما في المقام الخِطابي بعلة إيهام أن القصد إلى بعضها دون بعض ترجيح بلا مرجح، وتسمى لامَ الاستغراق، ونظيره كلمة كل مضافة إلى النكرة، أو في ضمن بعضها كما في المقام الاستدلالي، وتسمى لام العهد الذهني كقولك: ادخل السوق، حيث لا عهد، ومؤداه مؤدى النكرة، ولذلك تجري عليه أحكامها، فظهر أن اللام إما لتعريف العهد، أو لتعريف الجنس، كما ذكر في " المفصل (2) " وأن الاستغراق والعهد الذهني راجعان إلى التعريف الجنسي، ومستفادان من الأمور الخارجة عن مدلول اللام والمعرّف بها، وهو مراد الزمخشري.

وقد قيل: اختياره الجنس على الاستغراق مبني على مسألة خلق الأفعال،

ص: 169

فإن أفعال العباد لما كانت مخلوقة لهم عند المعتزلة كانت المحامد عليها راجعة إليهم، فلا يصح تخصيص المحامد كلها لله تعالى.

وفساده ظاهر؛ لأن اختصاص الجنس به تعالى يستلزم اختصاص جميع أفراده أيضاً؛ إذ لو وجد فرد منه لغيره ثبت الجنس له في ضمنه.

وقيل: مبني على أن هذه المصادر نائبة مناب أفعالها، سادة مسادها، والأفعال لا تعدو دلالتها على الحقيقة إلى الاستغراق.

وَرُدَّ بأن ذلك لا ينافي قصد الاستغراق بمعونة قرائن الأحوال.

وقيل: إنما اختاره بناء على أن الجنس هو المتبادر إلى الفهم الشائع في الاستعمال، لا سيما في المصادر، وعند خفاء قرائن الاستغراق.

وهو أيضاً مردود بأن المحلى بلام الجنس في المقامات الخِطابية يتبادر منه الاستغراق، وهو الشائع في الاستعمال هناك مصدرا كان أو غيره، وأيّ مقام أولى بملاحظة الشمول والاستغراق من مقام تخصيص الحمد بالله تعالى تعظيما له، فقرينة الاستغراق فيما نحن فيه كنارٍ على علم.

والحق أن سبب الاختيار هو أن اختصاص الجنس مستفاد من جوهر الكلام، ومستلزم لاختصاص جميع الأفراد، فلا حاجة في تأدية المقصود - الذي هو ثبوت الحمد له تعالى، وانتفاؤه عن غيره - إلى أن يلاحظ الشمول والإحاطة، ويستعان فيه بالأمور الخارجة، بل نقول - على ما اختاره -: يكون اختصاص جميع الأفراد ثابتا بطريق برهاني، فيكون أقوى من إثباته ابتداء (1).

وقال الشيخ بهاء الدين السبكي (2) في " عروس الأفراح ": العهد قد يكون شخصيا كقوله (فعصى فرعون الرسول) وقد يكون جنسياً، بمعنى إرادة جنس، هو نوع لما فوقه، كقولك: الرجل، تريد به فردا من أفراد الرجال الحجازيين دون غيرهم، وهذا يقع كثيرا في الكلام.

ولعل منه قوله تعالى (أولئك الذين آتيناهم الكتاب)[سورة الأنعام 89] فإن

ص: 170

المراد جنس كتب الله تعالى، ليكون صالحا للتوراة والإنجيل والزبور التي أوتيها من تقدّم ذكره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، فاللام فيه عهدية جنسية.

وكذلك قوله تعالى (وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ)[سورة البقرة 177].

قال الزمخشري: " أي جنس كتب الله (1) " المنزلة، وتصير هذه الألف واللام عهدية جنسية استغراقية

قال: " واللام على أقسام:

أحدها: جنسية فقط، كقولك: الرجل خير من المرأة، أي حقيقة الرجولية خير من حقيقة الأنوثة (2).

الثان ي: عهدية عهدا خارجيا كالرجل لمعين.

الثالث: عهدية ذهنا.

ونعني بالخارجي ما كان السامع يعرفه، وبالذهني ما انفرد المتكلم بمعرفته، وإلا فالعهد لا يكون إلا في الذهن.

الرابع: عهدية جنسية، كقولك: أكرم الرجل، تريد جنس الحجازي في جواب من قال: حضر حجازي.

الخامس: كذلك وهو معهود ذهني، لا خارجي كالمثال المذكور، حيث لم يكن في جواب.

السادس: استغراقية جنسية مثل الرجل الجاهل خير من المرأة.

السابع: استغراقية جنسية عهدية كالمثال المذكور مريدا به الحجازي.

الثامن: كذلك، والمعهود ذهني.

التاسع: جنسية، ولكن يريد جملة ذلك الجنس، لا باعتبار العموم، ليفيد علم الأفراد والمجموع معاً، فإن المجموع في الإثبات يستلزم الأفراد، بل يكون المدلول الحقيقة كلها، وهو بمعنى العموم المجموعي.

وينبغي أن يجعل منه قوله تعالى: (عالم الغيب والشهادة (3)) [سورة الرعد 9].

ص: 171

فوائد:

الأولى: قال الشريف: إنما قال: " والتعريف فيه للجنس " ولم يقل: واللام تنبيها على أن اللام للتعريف اتفاقا وإن وقع اشتباه في معنى التعريف (1).

الثانية: حكى الكرماني في غرائبه، ثم السمين في إعرابه قولا ثالثا: أنها للعهد (2). وعندي أنه عين القول " بأنها للجنس، كما تقدم تقريره في كلام صاحب " الانتصاف " وغيره.

ثم رأيت أبا حيان قال في كتابه إعراب القرآن الذي لخصه من بحره: الحمد مصدر معرّف ب " أل " إما للعهد، أي الحمد المعروف بينكم لله، أوْ لتعريف الماهية كالدينار خير من الدرهم، أي أَيُّ دينار كان فهو خير من أي درهم كان، فيستلزم إذ ذاك الأَحْمُدَ كلها، أو لتعريف الجنس فتدلّ على استغراق الأحمد كلها بالمطابقة (3).

ثم رأيت في " شرح الرسالة " للفاكهي (4): قال: سمعت شيخنا أبا العباس المرسي (5) يقول: قلت لابن النحاس النحوي (6) - يعني الشيخ بهاء الدين شيخ أبي حيان -: ما تقول في الألف واللام في الحمد لله، أجنسية هي أم عهدية؟ فقال: يا سيدي قالوا: إنها جنسية، فقلت له: الذي أقول: إنها عهدية، وذلك أن

ص: 172

الله لما علم عجز خلقه عن كنه حمده حمد نفسه بنفسه في أزله، نيابة عن خلقه قبل أن يحمدوه، فقال: أشهدك أنها للعهد.

الثالثة: حكى الكرماني قولا آخر أنها للتفخيم والتعظيم (1)، فإن أراد الاستغراق فعبارة غريبة فيه، وإلا فلا يعرف ذلك في أقسام اللام.

الرابعة: ألَّف الشيخ علاء الدين البخاري (2) من شيوخ شيوخنا رسالة في تقرير أن الحمد لله جملة خبرية، لا إنشائية قال فيها: أجمعت الأمة على إمكان كون اللام فيه للاستغراق لأن أهل السنة حملوها على الاستغراق، والحكم بثبوت الشيء فرع إمكانه، وغيرهم من المعتزلة ومن يجري مجراهم افتقروا في حملها على الجنس إلى ما يرجحه على الاستغراق، وذلك دليل على الاعتراف (3) بإمكانه؛ إذ ترك الممتنع والأخذ بالممكن لا يفتقر إلى المرجح، فثبت (4) بالإجماع المركب إمكان استغراقه.

الخامسة قال بعض أرباب الحواشي: اختلف الناس في الحمد لله، فاختار الزمخشري أنه خبر عدل به عن الأمر، واختار آخرون أنه خبر على حقيقته، وأن المراد به الإخبار بأن الله تعالى مستحق الحمد، كما قال تعالى (له الحمد في الأولى والآخرة)[سورة القصص 70].

وبنى الزمخشري على مذهبه أن الألف واللام في الحمد لتعريف الحقيقة، فإنه يستحيل الاستغراق، فإنه لا يؤمر العبد بأن يحمد كل حمد في العالم، وأصحاب القول الثاني جعلوها للاستغراق؛ لأنه إخبار بما يستحقه الله تعالى من جميع المحامد.

قوله: (وقرئ الحمدِ للهِ باتباع الدال اللام، وبالعكس تنزيلاً لهما من حيث إنهما يستعملان معا منزلة كلمة واحدة).

قال ابن جني في كتابه " المحتسب في توجيه شواذ القراءات ": قراءة أهل

ص: 173

الباديةِ الحمدُ لُلَّه مضمومة الدال واللام، ورواها لي بعض أصحابنا قراءة إبراهيم ابن أبي عبلة الحمد لله مكسورتان، ورواها أيضاً لي قراءة لزيد بن علي، وللحسن البصري.

وكلاهما شاذ في القياس والاستعمال، إلا أن من وراء ذلك ما أذكره لك، وهو أن هذا اللفظ كثر في كلامهم، وشاع استعماله، وهم لما كثر في استعمالهم أشد تغييرا، كما جاء عنهم لذلك لم يَكُ، وَلا أَدْرِ، وَلَمْ أبَلِ، وأيشٍ تقول، وجا يجِي، وسا يَسُوْ، بحذف همزتيهما.

فلما اطرد هذا ونحوه لكثرة استعماله أتبعوا أحد الصوتين الآخر، وشبهوهما بالجزء الواحد وإن كانا جملة من مبتدإ وخبر، فصارت الحمدُ لُله، كَعُنُق وَطُنُبٍ، والحمدِ لِلّهِ كَإِبِل وِإطِل إلا أن الحمد لله بضم الحرفين أسهل من الحمد لله بكسرهما من موضعين:

أحدهما: أنه إذاكان إتباعا فاقيس الإتباع أن يكون الثاني تابعا للأول، وذلك أنه جار مجرى السبب والمسبب، وينبغي أن يكون السبب أسبق رتبة من المسبب، فتكون ضمة اللام تابعة لضمة الدال كما تقول: مُدُّ وشُدُّ، فتتبع الثاني الأول، فهذا أقيس من إتباعك الأول الثاني في نحو اُقْتُلْ واُدْخُلْ، فكذلك الحَمْدُ لُله أسهل مأخذا من الحمدِ لِلَّه.

والآخر: أن ضمة الدال في الحمد إعراب، وكسرة اللام في لله بناء، وحرمة الإعراب أقوى من حرمة البناء، فإذا قلت: الحمد لله فقريب أن تغلب الأقوى الأضعف، وإذا قلت: الحمد لله غلبت البناء الأضعف على الإعراب الأقوى، مضافا ذلك إلى حكم تغيير الآخر للأول، وإلى كثرة باب عنق وطنب في قلة باب إبل وإطل، ومثلُ هذا في إتباع الإعرابِ البناء قوله:

وقال: اضْرِبِ السَاقَينِ إِمِّكَ هابِلُ.

كسر الميم لكسرة الهمزة.

ثم من بعد ذلك إنك تفيد من هذا الموضع ما تنتفع به في موضع آخر، وهو أن قولك:" الحمد لله " جملة، وقد شبه جزءاها معا بالجزء الواحد، وهو مُدٌّ، أو عُنُقٌ فيمن أسكن ثم أتبع، أو السُّلُطَان دلَّ ذلك على شدة اتصال المبتدإ بخبره؛ لأنه لو لم يكن الأمر عندهم كذلك لما أجروا هذين الجزئين مجرى الجزء الواحد.

وقد نحوا هذا الموضع في قولهم في تأبط شرا: تأبطي، وفي رجل اسم زيد أخوك: زيدي، فحذفوا الجزء الثاني، كما يحذفونه من المركب في قولهم في

ص: 174

حضرموت: حضرمي، وفي رامهرمز: رامي، وكما يقولون في طلحة: طلحي، فدل ذلك على شدة اتصال المبتدإ بخبره.

ومثله في الدلالة على هذا المعنى قراءة ابن كثير (فإذا هِيَ تُّلَقَّفُ)[سورة الأعراف 118] بتسكين حرف المضارعة من (تلقف) فلولا شدة اتصاله بما قبله للزم منه تصور الابتداء بالساكن، بل صار في اللفظ (هِيَ تَّ) كالجزء الواحد الذي هو خِدَبٌّ، وهِجَفٌّ، وهذا أقوى دلالة على قوة اتصال المبتدإ بخبره مما تقدم؛ لما فيه من وجوب تصور الابتداء بالساكن.

ومن ورائه أيضاً ما هو ألطف مأخذا، وهو أن (تلقف) جملة، ومشفوعة أيضاً بالمفعول الموصول الذي هو (ما يأفكون).

وأصل تصور الجمل في هذا المعنى أن تكون منفصلة قائمة برؤوسها، وقد ترى هاهنا كيف تصورت شديدة الحاجة إلى المبتدإ قبلها، فإذا جاز هذا الخلطُ له وَوِكَادَةُ الصلة بينه وبين ما قبله فما ظنك بخبر المبتدإ إذا كان مفردا، لا يشك أنه به أشد اتصالا، وإليه أقوى تساندا وانحيازا، فاضمم ذلك إلى ما قبله.

ونحو منه حكاية الفراء عن بعضهم - وجرى ذكر رجل، فقيل: هاهو ذا، فقال مجيباً: نِعْمَ الهَا هُوَ ذَا هُوَ، فإلحاقه لام المعرفة بالجملة المركبة من المبتدإ والخبر من أقوى دليل على تنزلها عندهم منزلة الجزء الواحد.

نعم، وفي صدر هذه الجملة حرف التنبيه، وهو يكاد يفصلها عن لام التعريف بعض الانفصال، وهما مع ذلك كالمتلاقيين (1) المتعاقبين مع حجزه بينهما، واعتراضه على كل واحد منهما (2). انتهى كلام ابن جنى.

قوله: (الرب في الأصل بمعنى التربية) إلى آخره.

لم يصرح بما هو المراد به هنا، إلا أن كلامه في حكاية القول الأول يشعر باختيار أن المراد به هنا المربي، وفي حكاية الثاني يشعر بأن المراد به المالك، وهو لغة يطلق عليهما، وعلى الخالق، والسيد، والثابت، والمعبود، والمصلح، وكل ذلك تحتمله الآية.

قال الماوردي وغيره: فإن فسر بمعنى المالك، أو السيد، أو الثابت فمن

ص: 175

صفات الذات أو بالباقي فمن صفات الفعل (1).

وقال الشيخ بهاء الدين ابن عقيل في تفسيره: إن فسر بالمعبود على معنى مستحق العبادة فصفة ذات، أو على معنى الذي يعبده الخلق فصفة فعل.

وقال الشيخ عز الدين ابن عبد السلام: الأولى أن يحمل هنا على المصلح لعمومه (2).

وساق الطيبي كلام القاضي فاهما منه أنه فسره بالمربي، ثم قال: وهذا التفسير أولى؛ لأنه أعم وأنسب للحمد، فإن من شأن المالك إصلاح ما تحت سياسته، وإتمام أمر معاشه.

ثم ذكر قول الجوهري: رب كل شيء مالكه، وربيت القوم: سستهم، ورب الضيعةَ: أي أصلحها وأتمها، وَرَبَّ فلانٌ وَلَدَهُ يَرُثهُ رَبًّا.

وقال: فالواجب حمل الرب على كلا مفهوميه، بأن يفسر الرب بالقدر المشترك المتصرف التام، وسبيل إعمال المشترك في كلا مفهوميه إذا اتفقا في أمرٍ سبيلُ الكناية في أنها لا تنافي إرادة التصريح مع إرادة ما عبر عنه، وإذا اختلفا سبيلُ الحقيقةِ والمجاز (3).

وقال الأصبهاني (4): يصح أن يراد به هنا جميع معانيه، ولهذا أتى به هنا دون المالك ونحوه.

قوله: (وقيل: هو نعت من ربه يربه، فهو رب، كقولك: نم ينم فهو نم).

قال الشريف: قوله " فهو رب " يدل على أنه صفة مشبهة من فعل متعد، لكن بعد جعله لازما بالنقل إلى فعل بالضم، كما سلف تحقيقه.

ولما كان مجيء الصفة على فعل من باب فعل بالفتح، يفعل بالضم عزيزا استشهد له بمثال، يقال: نم الحديث ينمه وينمه بالضم والكسر فهو نم، ولابد فيه

ص: 176

من النقل أيضاً، وكان في ترك المفعول نوع إشارة إليه (1).

وقال أبو حيان: " رب " على هذا القول اسم فاعل حذفت ألفه، فأصله راب، كما قالوا: رجل بار وبر (2).

قوله: (ولا يطلق على غيره تعالى).

قال الشريف وغيره: يعنى به " غالباً، وإلا فقد جاء في شعر الحارث بن حلزة (3) يمدح ملكا:

وَهُوَ الرَّبُّ وَالشَّهِيدُ عَلَيَّ يو. . . مِ الحِيَارَيْنِ وَالبَلاْءُ بَلاءُ (4).

قلت: الظاهر أن مراد المصنف نفي إطلاقه شرعا، والحارث من شعراء الجاهلية.

وقال الشيخ سعد الدين: المراد أن لفظ الرب بدون الإضافة لا يذكر إلا في حق الله تعالى، بخلاف الجمع كـ " الأرباب " كما يقال: رب الأرباب، وفي التنزيل (أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ)[سورة يوسف 39].

قوله: (إلا مقيدا كقوله (ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ)[سورة يوسف 50].

قال الطيبي: هذا يرده ما رواه الشيخان عن أبي هريرة مرفوعاً " لا يقل أحدكم أطعم ربك، ولا وضئ ربك، ولا اسق ربك، ولا يقل أحدكم: ربي، وليقل: سيدي ".

قال: وأما قول يوسف عليه السلام (ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ) و (إِنَّهُ رَبِّي) * ونحوه فهو ملحق بقوله تعالى (وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا)[سورة يوسف 100] في الاختصاص بزمانه.

قلت: جوابه أن النهي في الحديث للتنزيه.

قوله: (والعالم اسم لما يعلم به كالخاتم).

قال الشريف: يريد كما أن الخاتم - مع كونه مشتقا من الختم - اسم لما يختم

* الراجح عند المحققين أن الضمير في قول يوسف عليه السلام (إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ) يعود على الله تبارك وتعالى وليس على العزيز. والله أعلم.

ص: 177

به كذلك العالم - مع اشتقاقه من العلم - اسم لكل ما علم به الخالق.

قوله: (غلب فيما يعلم به الصانع).

قلت: اشتهر عند المتكلمين إطلاق الصانع عليه تعالى، وقد اعترض بأنه لم يرد، وأسماؤه تعالى توقيفية.

وأجاب الشيخ تقي الدين السبكي بأنه قرئ شاذا (صَنَعه الله) بلفظ الماضي، فمن اكتفى في الإطلاق بورود الفعل اكتفى بذلك.

وأجاب غيره بأنه مأخوذ من قوله (صُنْعَ اللَّهِ) وهو أيضاً جار على طريقة من يكتفي في لإطلاق بورود المصدر.

أقول: وقد ظفرت بحديث صحيح ورد فيه إطلاقه عليه تعالى، وهو ما أخرجه الحاكم في " المستدرك " وصححه، والبيهقي في كتاب " الأسماء والصفات " من حديث حذيفة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله صانع كل صانع وصنعته "(1)

ص: 178

ثم ظفرت بحديث ثان صحيح، وهو ما أخرجه الطبراني في " الكبير " والحاكم في " المستدرك " عن خباب قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مضطجع تحت شجرة، واضع يده تحت رأسه، فقلت: يا رسول الله ألا تدعو الله على هؤلاء القوم الذين قد خشينا أن يصرفونا عن ديننا، فصرف وجهه عني، ثلاث مرات، في كل ذلك أقول له، فيصرف وجهه عني، فجلس في الثالثة، ثم قال:" أيها الناس اتقوا الله، فوالله إن كان " الرجل من المؤمنين قبلكم ليوضع المنشار على رأسه فيشق باثنين، وما يرتد عن دينه، اتقوا الله فإن الله فاتح لكم وصانع " (1).

قوله: (وإنما جمع ليشمل ما تحته من الأجناس المختلفة).

قال في " الانتصاف ": تعليله الجمع بإفادة الاستغراوا فيه نظر، فإن العالم - كما ذكر - اسم جنس، وعرف بلام الجنس، فصار مفردا أدل على الاستغراق منه جمعا.

قال إمام الحرمين: التمر أحرى باستغراق الجنس من التمور؛ فإن اسم التمر يسترسل على الجنس لا بصيغة لفظية، والتمور ترده (2) إلى تخيل الوحدان، ثم الاستغراق بعده بصيغة الجمع، وفي صيغة الجمع مضطرب.

قال صاحب " الانتصاف ": والتحقيق فيه وفي كل ما يجمع من أسماء الأجناس (3)، ثم يعرف تعريف الجنس أنه يفيد أمرين:

ص: 179

أحدهما: أن ذلك الجنس تحته أنواع مختلفة.

والآخر: أنه مستغرق لجميع ما تحته منها، فالمفيد لاختلاف الأنواع الجمع، والمفيد للاستغراق التعريف؛ إذ لو جمع مجردا (1) عن تعريف أفاد اختلاف الأنواع، ولو عرف مجردا عن الجمع أفاد الاستغراق، فظهر ضعف قوله:(جمع ليشمل) إذ الشمول من التعريف، لا من الجمع، وضعف قول الإمام: إن الجمع يوهي الإشعار بالاستغراق، فإن اختلاف الأنواع الذي قصد به الجمع لا ينافيه.

وقال صاحب " الانتصاف ": بنى كلامه على أن المفرد المعرف باللام يفيد الاستغراق، وهو مذهب المبرد، والمختار أنه لا يفيده، وأن الجمع المعرف يفيده.

وقال الطيبي: فإن قلت: أليس هذا مخالفا لقولهم: الاستغراق في المفرد أشمل.

قلت: لا، لأنهم يريدون أن الجمع قد يحتمل غير الشمول في بعض المقامات، والمفرد وإن دل على الشمول والاستغراق لكن الغرض استغراق الأجناس المختلفة، فلو أفرد وقيل: رب العالم لاحتمل الاستغراق شمول أفراد كل ما يصح عليه إطلاق اسم العالم، فلا تعلم نصوصية تعدد الأجناس وكثرتها كالجن والإنس والملائكة وغيرها كما تعلم من الجمعية، فجمع ليشمل ذلك المعنى.

قال: وأما ما ذكره صاحب " الانتصاف " فمندفع؛ لأن السؤال وارد على الجمع المحلى باللام، وتقريره ما سبق (2).

وقال الشيخ أكمل الدين: ليس المراد بالجنس في قوله: (ليشمل كل جنس) ما هو المصطلح؛ لأنه إن أراد الأجناس العالية التي حصرها المقولات العشرة لا يكون العالمين شاملا للأجناس المتوسطة، وهي الأنواع الإضافية، ولا للأنواع السافلة؛ لعدم دلالة الأعم على الأخص، وإن أراد الأجناس المتوسطة لم يشمل الأنواع السافلة، والأصناف، والأفراد، فلا بد من شيء يصح به الكلام، فقال بعضهم: لما فسر العالم بمجموع الموجودات العالمة، أو بمجموع الموجودات

ص: 180

المعلومة، وذلك لا يتعدد توجه أن يقال: فلم جمع؟ فقال: ليشمل كل جنس من أجناس الموجودات المسماة بالعالم، نحو عالم الأجسام، عالم الأعراض، عالم الحيوان، إلى غير ذلك، وهذا غير مفيد ما هو المراد من الجنس على ما ذكرنا على أن العالم إن كان أحد المجموعين لم يحتمل الجمع؛ إذ ليس ما وراء المجموع شيء، على أنه اعترض عليه بأمور:

منها أن الجمع يقتضي اتفاق الأفراد في الحقيقة، وهاهنا ليس كذلك.

ومنها: أنه لا حاجة إلى الجمع؛ لأن استغراق المفرد أشمل.

ومنها: أن الشمول مقتضى اللام، لا الجمعية، فإن اسم الجنس إذا جمع دل على إرادة الأنواع كزيوت، أو الأفراد كرجال، لا على الشمول.

وقال بعضهم: أراد بقوله: (كل ما علم به الصانع) أن العالم يطلق على كل واحد واحد من أنواع ما يعلم به الخالق، وعلى للمجموع؛ إذ لو كان المجموع فقط لاستحال جمعه، وإذا صح إطلاقه على كل واحد واحد من الأنواع، فلو أفرد لأوهم أن المراد استغراق أفراد نوع مما يطلق عليه، لا الأنواع كلها مع أفرادها.

وأما إذا جمع واستغرق الأنواع بالتعريف فقد ارتفع ذلك الوهم.

هذا حاصل كلامه، وهو ليس شرحا لكلام المصنف، أما

أولاً: فلأنه فسر الجنس بالنوع، ولا دلالة للأعم على الأخص، وأما

ثانيا: فلأنه جعل اللام مفيدة لاستغراق الأنواع، والجمع لاستغراق الأفراد، واللام لا تفيد الاستغراق عند الزمخشري، والجمع لا يفيد استغراق الأفراد بالاتفاق.

ولعل الصواب أن يقال: المراد بالجنس الحقيقة، ومعناه رب هذه الحقيقةِ، أي حقيقة ما يعلم به الخالق، ولما كانت ذات أفراد جمع ليشمل كل واحد واحد بالمطابقة.

ووما قيل: لو قيل: إن العالم والعالمين كعرفة وعرفات لم يبعد، ليس بشيء؛ لأنه قياس فيما يعرف بالسماع (1). انتهى كلام الشيخ أكمل الدين.

وقال الشيخ سعد الدين: معنى الكلام أن العالم اسم لكل جنس يعلم به الخالق، يقال: عالم الملك، وعالم الإنس، وعالم الجن، وعالم الأفلاك، وعالم

ص: 181

النبات، وعالم الحيوان، وليس اسما لمجموع ما سوى الله تعالى بحيث لا يكون له أفراد، بل أجزاء فيمتنع جمعه (1).

وقال أبو حيان: جمع العالم شاذ، وجمعه بالواو والنون أشذ للإخلال ببعض الشروط التي لهذا الجمع (2).

قوله: (وغلب العقلاء منهم فجمع بالياء والنون).

أحسن من قول " الكشاف ": " وجمع بالواو والنون إشعارا بالصفة؛ لما قيل من أن الجماد يعلم به أيضاً (3) ".

قال صاحب " الفرائد ": لا يلزم من الوصفية جواز الجمع بالواو والنون؛ لما عرف من اختصاصه بصفات أولي العلم، فالوجه التغليب بعد اعتبار الوصفية؛ لأن كل عالم يعلم من حيث إنه دل على الخالق تعالى وتقدس.

وقال الطيبي: إنما جمع بالواو والنون جمع قلة، والظاهر مستدع للإتيان بجمع الكثرة تنبيها على أنهم وإن كثروا قليلون في جنب عظمته وكبريائه (4).

قوله: (كسائر أوصافهم).

تقرير لكونه وصفا بعد جعله اسما، وذلك بتأويل كونه دالا على صانعه.

قوله: (وقيل: اسم وضع لذوي العلم).

هو على هذا مشتق من العِلْمِ، وعلى الأول من العلامة.

قوله: (والثقلين) أي الجن والإنس، سميا بذلك لأنهما ثقلا الأرض.

قال الطيبي: فيستدل به على أن الجن أجسام (5).

قوله: (وقيل: عني به الناس هاهنا، فإن كل واحد منهم عالم من حيث إنه يشتمل على نظائر ما في العالم الكبير من الجواهر والأعراض) إلى آخره.

قال الغزالي في كتابه " الانتصار لما في الإحياء من الأسرار ": اعلم أن آدم مخلوق على مضاهاة صورة العالم الأكبر، لكنه مختصر صغير، فإن العالم إذا فصلت أجزاؤه وفصلت أجزاء آدم بمثله وجدت أجزاء آدم مشابهة للعالم الأكبر.

ص: 182

فمن ذلك أن العالم ينقسم قسمين:

أحدهما: ظاهر محسوس كعالم الملك.

والثاني: باطن معقول كعالم الملكوت، والإنسان كذلك انقسم إلى ظاهر محسوس كاللحم والعظم والدم وسائر أنواع الجواهر المحسوسة، وإلى باطن كالروح والعقل والعلم والإرادة والقدرة، وأشباه ذلك.

وقسمة أخرى: وذلك أن العالم قد انقسم بالعوالم إلى عالم الملك، وهو الظاهر للحواس، وإلى عالم الملكوت، وهو الباطن في العقول، وإلى عالم الجبروت، وهو المتوسط الذي أخذ بطرف من كل عالم منها، والإنسان كذلك انقسم إلى ما يشابه هذه القسمة، فالمشابه لعالم الملك الأجزاء المحسوسة، وقد علمتها، والمشابه لعالم الملكوت مثل الروح والعقل والقدرة والإرادة وأشباه ذلك، والمشابه لعالم الجبروت كالإدراكات الموجودة بالحواس، والقوى الموجودة بأجزاء البدن (1).

وقسمة أخرى: وذلك أن العالم إن حلل إلى ما علم به من أجزائه بالاستقراء فرأس الإنسان يشبه سماء العالم من حيث إن كل ما علاك فهو سماؤك، وحواسه تشبه الكواكب والنجوم من حيث إن الكواكب أجسام مشعة تستمد من نور الشمس، فتضيء بها، والحواس أجسام لطيفة مشفهّ تستمد من الروح فتضيء بذلك المدركات وروح الإنسان مشابهة للشمس، فضياء العالم، ونمو نباته، وحركة حيوانه وحياته فيما يظهر بتلك الشمس، وكذلك روح الإنسان به حصل في الظاهر نمو أجزاء بدنه ونبات شعره، وخلق حيوانه، وجعلت الشمس وسط العالم، وهي تطلع بالنهار، وتغرب بالليل، وجعلت الروح وسط جسم الإنسان، وهي تغرب بالنوم، وتطلع باليقظة، ونفس الإنسان تشابه القمر من حيث إن القمر يستمد من الشمس، ونفسه تستمد من الروح، والقمر خالف الشمس، والروح خالف النفس، والقمر آية ممحوة، والنفس مثلها، ومحو القمر في أن لا يكون ضياؤه منه، ومحو النفس في أن ليس عقلها منها، ويعتري الشمس والقمر وسائر الكواكب كسوف، ويعتري النفس والروح وسائر الحواس غيب وذهول.

وفي العالم نبات ومياه ورياح وجبال وحيوان ما وفي الإنسان نبات، وهو

ص: 183

الشعر، ومياه، وهو العرق والدموع والريق والدم، وفيه جبال وهي العظام، وحيوان، وهي هوام الجسم فحصلت المشابهة على كل حال.

ولما كانت أجزاء العالم كثيرة، ومنها ما هي لنا غير معروفة، ولا معلومة كان في استقصاء مقابلة جميعها تطويل، وفيما ذكرناه يحصل به لذوي العقول تشبيه وتمثيل.

ثم قال: ولا يناقض ما ذكرناه هنا من التفرقة بين الروح والنفس قولنا في " الإحياء (1) ": إنهما شيء واحد؛ لأن لها معنى يسمى بالروح تارة، وبالنفس أخرى، وبغير ذلك (2). انتهى.

وقال بعضهم: سمي الإنسان بالعالم الصغير؛ لأن الله تعالى أوجد المخلوقات خمسة ضروب: الجماد، والنبات، والحيوان، والشيطان، والملك، وكلها مجموعة في الإنسان، فهو جماد حيث يكون نطفة لا حركة فيه ولاحس، وهو نبات حيث ينمي ويغتذي، وهو حيوان حيث يلذ ويتألم، وهو شيطان حيث يغوي ويضل،

ص: 184

وهو ملك حيث يعرف الله تعالى ويعبده.

ومنها أنه يصور كل شيء بيده، ويحكي كل صوت بفيه، وينهش اللحم كما تنهشه السباع، ويأكل البقول كما تأكله البهائم، ويقضم الحبّ كما يقضمه الطير (1)، ولهذا قالوا: لا متفرق لو جمع كان منه إنسان إلا العالم، ولا مجتمع لو فرق كان منه العالم إلا الإنسان، فهو إنسان بالفعل، عالم أكبر بالقوة، والعالم الأكبر عالم أكبر بالفعل، إنسان بالقوة.

ومنها أن الله خلق المخلوقات في عالم الأجسام على أربعة أصناف: قائم كالأشجار، وراكع كالبهائم، وساجد كالحيات والحيتان، وقاعد كالجبال، والإنسان له الصفات الأربع.

ويقال: إنما لقب بالعالم الصغير؛ لأنهم مثلوا رأسه بالفلك، وروحه بالشمس - إذ لا قوام للعالم إلا بها كما لا قوام للجسد إلا بالروح - وعقله بالقمر؛ لأنه يزيد وينقص ويذهب ويعود، وحواسه ببقية الكواكب السيارة، وآراءه بالنجوم الثابتة (2)، ودمعه بالمطر، وصوته بالرعد، وضحكه بالبرق، وظهوه بالبر، وبطنه بالبحر ولحمه بالأرض، وعظامه بالجبال، وشعره بالنبات، وأعضاءه بالأقاليم، وعروقه بالأنهار، وصغار عروقه بالعيون (3).

ص: 185

قوله: (وقرئ رب العالمين بالنصب على المدح).

قال أبو حيان: وهي فصيحة لولا خفض الصفات بعدها، فضعفت إذ ذاك، على أن الأهوازي (1) حكى في قراءة زيد بن علي (2)(رب العالمين الرحمن الرحيم) بنصب الثلاث، فلا ضعف، وإنما الضعف في قراءة نصب رب، وخفض الصفات بعدها؛ لأنهم تصّوا على أنه لا اتباع بعد القطع في النعوت، لكن تخريجها على أن يكون الرحمن بدلا، ولا سيما على مذهب الأعلم (3)؛ إذ لا يجيز في الرحمن أن يكون صفة، وحَسَّنَ ذلك (4) - على مذهب غيره - كونه وصفا خاصا، وكون البدل على نية تكرار العامل، فكأنَّه مستأنف من جملة أخرى، فحسن النصب (5).

قوله: (أو النداء).

قال أبو حيان: هذا ضعيف للفصل بقوله (الرحمن الرحيم (6)).

ص: 186