الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السنة الخامسة
غزوة دومة الجندل
«1»
وفي ربيع الأول من هذا العام بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أن جمعا من الأعراب بدومة الجندل يظلمون من مرّ بهم، وأنهم يريدون الدنوّ من المدينة، فتجهز لغزوتهم، وخرج في ألف من أصحابه بعد أن ولّى على المدينة سباع بن عرفطة الغفاري «2» ، ولم يزل يسير الليل ويكمن النهار حتى قرب منهم، فلمّا بلغهم الخبر تفرّقوا، فهجم المسلمون على ما شيتهم ورعائهم، فأصيب من أصيب، وهرب من هرب، ثم نزل بساحتهم فلم يلق أحدا، وبث السرايا فلم تجد منهم أحدا، فرجع عليه الصلاة والسلام غانما، وصالح وهو عائد عيينة بن حصن الفزاري، وهو الذي كان يسميه عليه الصلاة والسلام الأحمق المطاع «3» لأنه يتّبعه ألف قناة، وأقطعه عليه الصلاة والسلام أرضا يرعى فيها بهمه «4» على بعد ستة وثلاثين ميلا من المدينة لأن أرضه كانت قد أجدبت.
غزوة بني المصطلق
«5»
في شعبان بلغه عليه الصلاة والسلام أن الحارث بن ضرار سيّد بني المصطلق
(1) مدينة بينها وبين دمشق خمس ليال وبينها وبين طيبة خمس عشرة ليلة (المؤلف) . (دومة بضم الدال عند أهل اللغة، وأصحاب الحديث يفتحونها. هكذا في الصحاح. قال البكري: سميت بدومي بن اسماعيل، وكان نزلها، وأنها على عشر مراحل من المدينة وعشر من الكوفة وثمان من دمشق واثنتي عشر من مصر.
(2)
ويقال له الكناني وقد استخلفه النبي صلى الله عليه وسلم على المدينة وهو بخيبر.
(3)
أسلم ثم أرتد، وامن بطليحة حيث تنبّأ وأخذ أسيرا، فأتي به أبو بكر أسيرا فمنّ عليه، ولم يزل مظهرا للإسلام على جفوته وعنجهيته ولوثة أعرابيته حتى مات.
(4)
صغار غنمه.
(5)
قال البخاري: وهي غزوة المريسيع قال محمد بن اسحاق: وذلك في سنة ست وقال موسى بن عقبة سنة أربع. وقد اختلف في زمن هذه الغزوة والراجح أنها في شعبان تشهد لها الأحاديث الصحيحة.
الذين ساعدوا قريشا على حرب المسلمين في أحد يجمع الجموع لحربه، فخرج له عليه الصلاة والسلام في جمع كثير، وولّى على المدينة زيد بن حارثة، وخرج معه من نسائه عائشة وأم سلمة، وخرج معه ناس من المنافقين لم يخرجوا قط في غزوة قبلها يرجون أن يصيبوا من عرض الدنيا، وفي أثناء مسيره عليه الصلاة والسلام التقى بعين بني المصطلق، فسأله عن أحوال العدو فلم يجب فأمر بقتله.
ولما بلغ الحارث رئيس الجيش مجيء المسلمين لحربه، وأنهم قتلوا جاسوسه خاف هو وجيشه خوفا شديدا حتى تفرّق عنه بعضهم، ولما وصل المسلمون إلى المريسيع «1» تصافّ الفريقان للقتال، بعد أن عرض عليهم الإسلام فلم يقبلوا، فتراموا بالنبل ساعة، ثم حمل المسلمون عليهم حملة رجل واحد، فلم يتركوا لرجل من عدوهم مجالا للهرب، بل قتلوا عشرة منهم وأسروا باقيهم مع النساء والذّرية واستاقوا الإبل والشياه، وكانت الإبل ألفي بعير، والشياه خمسة الاف استعمل الرسول على ضبطها مولاه شقران «2» ، وعلى الأسرى بريدة «3» . وكان في نساء المشركين برّة بنت الحارث «4» سيد القوم، وقد أخذ من قومها مئتا بنت أسرى وزّعت على المسلمين، وهنا يظهر حسن السياسة، ومنتهى الكرم، فإن بني المصطلق من أعزّ العرب دارا، فأسر نسائهم بهذه الحال صعب جدا، فأراد عليه الصلاة والسلام أن يجعل المسلمين يمنّون على النساء بالحرية من تلقاء أنفسهم، فتزوّج برة بنت الحارث التي سمّاها جويرية، فقال المسلمون: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينبغي أسرهم في أيدينا، فمنّوا عليهم بالعتق، فكانت جويرية أيمن امرأة على قومها «5» كما قالت عائشة رضى الله عنها، وتسبّب عن هذا الكرم العظيم،
(1) ماء لخزاعة على يوم من الفرع (المؤلف) .
(2)
كان شقران عبدا حبشيا لعبد الرحمن بن عوف، فوهبه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان فيمن حضر غسل رسول الله صلى الله عليه وسلم عند موته، وشهد بدرا وهو عبد فلم يسهم له، وقد نزل في قبر الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان شقران قد أخذ قطيفة كان النبي صلى الله عليه وسلم يلبسها فدفنها في قبره. ويقال كانت له دار بالبصرة.
(3)
يكنى أبا عبد الله: أسلم قبل بدر ولم يشهدها، وشهد الحديبية، فكان ممن بايع الرضوان، وقد تعلم شيئا من القران، ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أحد فشهد معه مشاهده، وكان من ساكني المدينة ثم تحول إلى البصرة، ثم خرج منها إلى خراسان غازيا فمات بمرو في إمرة يزيد بن معاوية.
(4)
زوج النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت قبله تحت مسامع بن صفوان المصطلقي، كان اسمها برة فغير رسول الله صلى الله عليه وسلم اسمها وسماها جويرية، حفظت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وروت عنه، وتوفيت في ربيع الأول سنة ست وخمسين من الهجرة.
(5)
أقبل أبوها الحارث بن أبي ضرار بفداء ابنته، فلما بلغ العقيق نظر إلى الإبل فرغب في بعيرين منها،
وهذه المعاملة الجليلة أن أسلم بنو المصطلق عن بكرة أبيهم، وكانوا للمسلمين بعد أن كانوا عليهم. وقد حصل في هذه الغزوة نادرتان، لولا أن صاحبتهما حكمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لعادتا بالتفريق على المسلمين.
فأولاهما أنّ أجيرا «1» لعمر بن الخطاب اختصم مع حليف للخزرج «2» ، فضرب الأجير الحليف حتى سال دمه، فاستصرخ بقومه الخزرج، واستصرخ الأجير بالمهاجرين، فأقبل الذعر من الفريقين، وكادوا يقتتلون لولا أن خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال دعوى الجاهلية؟ - وهي ما يقال في الاستغاثة يا لفلان- فأخبر الخبر، فقال: دعوا هذه الكلمة فإنها منتنة، ثم كلّم المضروب حتى أسقط حقّه، وبذلك سكنت الفتنة، فلمّا بلغ عبد الله بن أبي هذا الخصام غضب، وكان عنده رهط من الخزرج فقال: ما رأيت كاليوم مذلة أوقد فعلوها؟
نافرونا «3» في ديارنا، والله ما نحن والمهاجرون إلا كما قال الأول: سمّن كلبك يأكلك، أما والله لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ «4» ثم التفت إلى من معه، وقال: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحوّلوا إلى غير داركم، ثم لم ترضوا بما فعلتم حتى جعلتم أنفسكم غرضا للمنايا دون محمّد صلى الله عليه وسلم، فأيتمتم أولادكم وقللتم وكثروا، فلا تنفقوا عليهم حتى ينفضّوا من عنده، وكان في مجلسه شاب حديث السن قوي الإسلام اسمه زيد بن أرقم «5» ، فأخبر رسول الله الخبر، فتغير وجهه. قال: يا غلام لعلك غضبت عليه فقلت ما قلت، فقال: والله يا رسول الله لقد سمعته. قال لعلّه أخطأ سمعك، فاستأذن عمر الرسول في قتل ابن
فاخفاهما في شعب من شعاب العقيق، ثم أتى إلى النبي وقال: يا محمد أصبتم ابنتي، وهذا فداؤها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين البعيران اللذان غيبتهما بالعقيق؟ فقال الحارث: أشهد ألاإله إلا الله وأنك رسول الله، والله ما اطلع على ذلك إلا الله فأسلم وأسلم معه ابنان له، وناس من قومه، وأرسل إليه البعيرين. وحديث جويرية بنت الحارث في غزوة بني المصطلق رواه الشيخان وأبو داود.
(1)
من بني غفار يقال له جهجاه بن مسعود.
(2)
سنان بن وبر حليف بني عوف بن الخزرج.
(3)
أي غلبونا وكاثرونا في بلادنا، أي وأنكروا ملّتنا.
(4)
سورة المنافقين اية 8.
(5)
استصغر يوم أحد وأول مشاهده الخندق، وغزا مع النبي صلى الله عليه وسلم سبع عشرة غزوة، وله أحاديث كثيرة وشهد صفين مع علي ومات بالكوفة سنة 66 هـ.