الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
لا أشكر إلّا الله الذي برّأني «1» . وبعد ذلك أمر عليه الصلاة والسلام بأن يجلد من صرّح بالإفك ثمانين جلدة وهي حد القاذف، وكانوا ثلاثة: حمنة بنت جحش «2» ومسطح بن أثاثة، وحسان بن ثابت. وكان أبو بكر ينفق على مسطح بن أثاثة «3» لقرابته منه، فلمّا تكلّم بالإفك قطع عنه النفقة، فأنزل الله وَلا يَأْتَلِ «4» أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ «5» فقال أبو بكر: بل نحب ذلك يا رسول الله، وأعاد النفقة على مسطح. فهذه مضار المنافقين الذين يدخلون بين الأمم مظهرين لهم المحبة وقلوبهم مملوءة حقدا يتربصون الفتن، فمتى رأوا بابا لها ولجوه فنعوذ بالله منهم.
غزوة الخندق
«6»
لم يقرّ لعظماء بني النضير قرار بعد جلائهم عن ديارهم وإرث المسلمين لها، بل كان في نفوسهم دائما أن يأخذوا ثأرهم، ويستردّوا بلادهم، فذهب جمع منهم إلى مكّة، وقابلوا رؤساء قريش، وحرّضوهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنّوهم المساعدة، فوجدوا منهم قبولا لما طلبوه، ثم جاؤوا إلى قبيلة غطفان وحرّضوا
(1) وفي المسند من حديث عائشة أنه لما أنزل الله براءتها قام إليها أبو بكر، فقبل رأسها، فقالت له: هلّا كنت عذرتني، فقال: أي سماء تظلني وأني أرض تقلني، إن قلت بما لا أعلم.
(2)
كانت زوج مصعب بن عمير فقتل عنها يوم أحد فتزوجها طلحة بن عبد الله، فولدت له محمّدا وعمرا. وقال أبو عمر: كانت من المبايعات وشهدت أحدا فكانت تسقي العطشى وتحمل الجرحى وتداويهم، وهي والدة محمد بن طلحة المعروف بالسجاد.
(3)
كان اسمه عوفا وأما مسطح فهو لقبه وأمه بنت خالة أبي بكر أسلمت وأسلم أبوها قديما، فحديث الإفك ثبت في الصحيحين في حديث عائشة الطويل في الإفك، وفي الخبر الذي أخرجه أبو داود من وجه اخر عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم جلد الذين قذفوا عائشة وعده منهم، ومات مسطح سنة 34 في خلافة عثمان.
(4)
ولا يحلف.
(5)
سورة النور اية 22 وقد روى هذه القصة الشيخان بالسند عن عائشة.
(6)
كانت غزوة الخندق في شوال سنة خمس من الهجرة نص على ذلك ابن اسحاق وعروة بن الزبير وقتادة والبيهقي وغير واحد من العلماء سلفا وخلفا وقد روى موسى بن عقبة عن الزهري أنه قال: ثم كانت وقعة الأحزاب في شوال سنة أربع، وكذلك قال الإمام مالك بن أنس، فيما رواه أحمد بن حنبل عن موسى بن داود عنه. قال البيهقي: ولا اختلاف بينهم في الحقيقة، لأن مرادهم أن ذلك بعد مضي أربع سنين وقبل استكمال خمس، والصحيح قول الجمهور: إن أحدا في شوال سنة ثلاث وأن الخندق في شوال سنة خمس من الهجرة والله أعلم.
رجالها كذلك، وأخبروهم بمبايعة قريش لهم على الحرب، فوجدوا منهم ارتياحا، فتجهزت قريش وأتباعها يرأسهم أبو سفيان، ويحمل لواءهم عثمان بن طلحة بن أبي طلحة العبدري، وعددهم أربعة الاف معهم ثلاثمائة فرس وألف بعير.
وتجهزت غطفان يرأسهم عيينة بن حصن الذي جازى إحسان رسول الله كفرا، فإنه كما قدّمنا أقطعه أرضا يرعى فيها سوائمه، حتى إذا سمن خفّه وحافره، قام يقود الجيوش لحرب من أنعم عليه، وكان معه ألف فارس. وتجهّزت بنو مرّة يرأسهم الحارث بن عوف المري وهم أربعمائة، وتجهّزت بنو أشجع يرأسهم أبو مسعود ابن رخيلة «1» ، وتجهّزت بنو سليم يرأسهم سفيان بن عبد شمس، وهم سبعمائة، وتجهّزت بنو أسد يرأسهم طليحة بن خويلد الأسدي، وعدة الجميع عشرة الاف محارب قائدهم العام أبو سفيان. ولمّا بلغه عليه الصلاة والسلام أخبار هاته التجهيزات، استشار أصحابه فيما يصنع أيمكث بالمدينة أم يخرج للقاء هذا الجيش الجرّار؟ فأشار عليه سلمان الفارسي بعمل الخندق وهو عمل لم تكن العرب تعرفه، فأمر عليه الصلاة والسلام المسلمين بعمله، وشرعوا في حفره شمالي المدينة من الحرة الشرقية إلى الحرة الغربية، وهذه هي الجهة التي كانت عورة تؤتى المدينة من قبلها. أما بقية حدودها فمشتبكة بالبيوت والنخيل، لا يتمكّن العدو من الحرب جهتها، وقد قاسى المسلمون صعوبات جسيمة في حفر الخندق، لأنهم لم يكونوا في سعة من العيش حتى يتيسر لهم العمل، وعمل معهم عليه الصلاة والسلام، فكان ينقل التراب متمثّلا بشعر ابن رواحة:
اللهمّ لولا أنت ما اهتدينا
…
ولا تصدقنا ولا صلّينا
فأنزلن سكينة علينا
…
وثبّت الأقدام إن لاقينا
والمشركون قد بغوا علينا
…
وإن أرادوا فتنة أبينا «2»
وأقام الجيش في الجهة الشرقية مسندا ظهره إلى سلع وهو جبل مطل على المدينة وعدّتهم ثلاثة الاف، وكان لواء المهاجرين مع زيد بن حارثة، ولواء الأنصار مع سعد بن عبادة. أما قريش فنزلت بمجمع الأسيال «3» ، وأما غطفان
(1) في الأصل أبو مسعود وهو خطأ وفي الإصابة وأسد الغاية مسعود بن رخيلة الأشجعي ثم أسلم فحسن اسلامه
(2)
في البخاري وفي رواية أخرى عن البراء فسمعته يرتجز بكلمات ابن رواحة ثم ذكر الرجز السابق.
(3)
الموضع الذي تجتمع فيه السيول.
فنزلت جهة أحد، وكان المشركون معجبين بمكيدة الخندق التي لم تكن العرب تعرفها، فصاروا يترامون مع المسلمين بالنبل. ولما طال المطال عليه أكره جماعة منهم على اقتحام الخندق، منهم: عكرمة بن أبي جهل، وعمرو بن ود واخرون، وقد برز عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه لعمرو بن ود فقتله وهرب إخوانه، وهوى في الخندق نوفل بن عبد الله فاندقت عنقه ورمي «1» سعد بن معاذ رضي الله عنه بسهم قطع أكحله وهو شريان الذراع واستمرّت المناوشة والمراماة بالنبل يوما كاملا حتى فاتت المسلمين صلاة ذاك اليوم وقضوها بعد، وجعل عليه الصلاة والسلام على الخندق حرّاسا حتى لا يقتحمه المشركون بالليل، وكان يحرس بنفسه ثلمة «2» فيه مع شدّة البرد، وكان عليه الصلاة والسلام يبشّر أصحابه بالنصر والظفر ويعدهم الخير. أما المنافقون فقد أظهروا في هذه الشدّة ما تكنّه ضمائرهم حتى قالوا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً «3» وانسحبوا قائلين: إنّ بيوتنا عورة نخاف أن يغير عليها العدو وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً «4» ، واشتدّت الحال بالمسلمين، فإنّ هذا الحصار صاحبه ضيق على فقراء المدينة، والذي زاد الشدّة عليهم ما بلغهم من أنّ يهود بني قريظة الذين يساكنونهم في المدينة قد انتهزوا هذه الفرصة لنقض العهود، وسبب ذلك أنّ حييّ بن أخطب سيد بني النضير المجليّين توجّه إلى كعب بن أسد القرظي سيد بني قريظة، وكان له كالشيطان إذ قال للإنسان: اكفر، فحسّن له نقض العهد، ولم يزل به حتى أجابه لقتال المسلمين، ولمّا بلغت هذه الأخبار رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل مسلمة بن أسلم «5» في مائتين، وزيد ابن حارثة في ثلاثمائة لحراسة المدينة خوفا على النساء والذراري، وأرسل الزبير ابن العوّام يستجلي له الخبر، فلمّا وصلهم وجدهم حانقين يظهر على وجوههم الشرّ، ونالوا من رسول الله والمسلمين أمامه، فرجع وأخبر الرسول بذلك.
وهنالك اشتدّ وجل المسلمين وزلزلوا زلزالا شديدا، لأنّ العدو جاءهم من فوقهم ومن أسفل منهم وزاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وظنّوا بالله الظنون،
(1) رماه رجل من قريش يقال له حيان بن العرفة.
(2)
فرجة المكسور والمهدوم.
(3)
سورة الأحزاب اية 12.
(4)
سورة الأحزاب اية 13.
(5)
قتل يوم جسر أبي عبيد.