الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كيف وقد أظهر الله على يده تصديقا لدعوته من المعجزات ما لا يفي به العدّ فهو أكثر الأنبياء اية، وأظهرهم برهانا، وسنذكر لك في هذا الفصل من الايات ما تقرّبه عينك، ويزداد به يقينك مما رواه الجمّ الغفير من الصحابة رضوان الله عليهم، وأثبته المحدّثون في صحاحهم، ونبدأ منها بأظهرها شأنا، وأوضحها بيانا، وهو القران الشريف وإعجازه.
[إعجاز القرآن الكريم]
اعلم أن كتاب الله العزيز منطو على وجوه من الإعجاز كثيرة وتحصيلها من جهة ضبط أنواعها في أربعة:
أولها: حسن تأليفه، والتئام كلمه، وفصاحته
، ووجوه إيجازه، وبلاغته الخارقة عادة العرب، وذلك أنهم كانوا أرباب هذا الشأن، وفرسان الكلام، قد خصّوا من البلاغة والحكم بما لم يخصّ به غيرهم من الأمم، وأوتوا من ذرابة «1» اللسان ما لم يؤت إنسان، ومن فصل الخطاب ما يقيّد الألباب، جعل الله لهم ذلك طبعا وخلقة، وفيهم غريزة وقوة، يأتون منه على البديهة بالعجب، ويدلون به إلى كل سبب، يخطبون بديها في المقامات، وشديد الخطب، ويرتجزون «2» به بين الطعن والضرب، ويمدحون ويقدحون، ويتوسّلون، ويتوصّلون، ويرفعون ويضعون، فيأتون من ذلك بالسحر الحلال «3» ، ويطوّقون من أوصافهم أجمل من سمط اللال «4» ، فيخدعون الألباب، ويذلّلون الصعاب، ويذهبون الإحن «5» ، ويهيجون الدّمن «6» ويجرّئون الجبان، ويبسطون يد الجعد البنان «7» ويصيرون الناقص كاملا، ويتركون النبيه خاملا. منهم البدوي ذو اللفظ الجزل «8» ، والقول الفصل، والكلام الفخم، والطّبع الجوهري، والمنزع القوي «9» ، ومنهم الحضري، ذو البلاغة البارعة، والألفاظ الناصعة، والكلمات الجامعة، والطّبع السّهل،
(1) فصاحته.
(2)
أي ينشدون شعرا من بحر الرجز.
(3)
وهو أن يأتوا الكلام البليغ الذي تأزر به النفوس واللال: اللالئ: جمع لؤلؤة وهي الدرة.
(4)
أي الخيط الذي عليه تنظم حبات العقد وتنجذب به القلوب.
(5)
الاحقاد والضغائن.
(6)
أي يهيجون الأحقاد الكامنة في قلوبهم.
(7)
المراد به: البخيل.
(8)
القوي الفصيح الجامع.
(9)
أي الجذب والأخذ.
والتصرّف في القول القليل الكلفة، الكثير الرّونق، الرقيق الحاشية. وكلاهما له في الحجة البلاغة البالغة، والقوة الدامغة، والقدح الفالج «1» ، والمهيع الناهج «2» ، لا يشكّون أنّ الكلام طوع مرادهم، والبلاغة ملك قيادهم، قد حووا فنونها، واستنبطوا عيونها، ودخلوا من كل باب من أبوابها، وعلوا صرحا لبلوغ أسبابها، فقالوا في الخطير والمهين، وتفنّنوا في الغث والسمين، وتقاولوا في القّل والكثر، وتساجلوا في النظم والنثر، فما راعهم إلّا رسول كريم بكتاب عزيز، لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ «3» أحكمت آياته، وفصّلت كلماته، وبهرت بلاغته العقول، وظهرت فصاحته على كل مقول، وتضافر إيجازه وإعجازه، وتظاهرت حقيقته ومجازه، وتبارت في الحسن مطالعه ومقاطعه، وحوت كلّ البيان جوامعه وبدائعه، واعتدل مع إيجازه حسن نظمه، وانطبق على كثرة فوائده مختار لفظه، وهم أفسح ما كانوا في هذا الباب مجالا، وأشهر في الخطابة رجالا، وأكثر في السّجع والشعر ارتجالا «4» ، وأوسع في الغريب واللغة مقالا؛ بلغتهم التي بها يتحاورون، ومنازعهم التي عنها يتناضلون، صارخا بها في كل حين، ومقرعا لهم بضعا وعشرين عاما على رؤوس الملأ أجمعين أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ»
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا «6» قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً «7» ، قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ «8» ، فلم يزل يقرّعهم أشدّ التقريع. ويوبّخهم غاية التوبيخ، ويسفّه أحلامهم، ويحط أعلامهم، ويشتّت نظامهم. ويذمّ الهتم واباءهم، ويستبيح أرضهم وديارهم وأموالهم، وهم في كل هذا ناكصون «9» عن معارضته.
(1) السهم الفائز.
(2)
أي الطريق الواضح.
(3)
سورة فصلت اية 42.
(4)
أي تكلّما به من غير فكر ورويّة.
(5)
سورة يونس اية 38.
(6)
سورة البقرة اية 23- 24.
(7)
سورة الإسراء اية 88.
(8)
سورة هود اية 13.
(9)
أي محجمون.
محجمون عن مماثلته. يخادعون أنفسهم بالتشغيب بالتكذيب، والاعتراء بالافتراء، وقولهم فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ «1» وسِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ «2» إِفْكٌ افْتَراهُ «3» أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ «4» والمباهتة، والرضا بالدنية. كقولهم قُلُوبُنا غُلْفٌ «5» وفِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ «6» ولا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ «7» والادعاء مع العجز كقولهم لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا «8» وقد قال لهم وَلَنْ تَفْعَلُوا «9» فما فعلوا ولا قدروا. ومن تعاطى ذلك من سخفائهم كمسيلمة، كشف عواره لجميعهم، وسلبهم الله ما ألفوه من فصيح كلامهم، وإلّا فلم يخف على أهل الميز «10» منهم أنه ليس من نمط فصاحتهم، ولا جنس بلاغتهم؛ بل ولّوا عنه مدبرين، وأتوا إليه مذعنين من بيد مهتد وبين مفتون.
وأنت إذا تأملت قوله تعالى وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ «11» وقوله وَلَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ «12» وقوله ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ «13» وقوله وَقِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَيا سَماءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْماءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ «14» وقوله فَكُلًّا أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ «15» وأشباهها من الاي، بل أكثر ايات القران حقّقت ما بيّنته
(1) سورة المدثر الاية 24.
(2)
سورة القمر الاية 2.
(3)
سورة الفرقان الاية 4.
(4)
سورة الفرقان الاية 5.
(5)
سورة البقرة 88.
(6)
سورة فصلت اية 5.
(7)
سورة فصلت اية 26.
(8)
سورة الأنفال اية 31.
(9)
سورة البقرة 24.
(10)
أي أهل التمييز والعقل.
(11)
سورة البقرة 179.
(12)
سورة سبأ اية 51.
(13)
سورة فصلت اية 34.
(14)
سورة هود اية 44.
(15)
سورة العنكبوت اية 40.