الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الأخير من الحزب الأول
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
في حصة هذا اليوم، نتناول الآيات الكريمة التي يشملها الربع الأخير من الحزب الأول في المصحف الكريم، لبداية هذا الربع قوله تعالى:{وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا} ونهايته قوله تعالى: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}
ــ
في هذا الربع الأخير من الحزب الأول استمرار في الحديث عن قصة موسى الكليم وقومه من بني إسرائيل، ووصف لما ناله عليه السلام من إعنات وإرهاق في سبيل هدايتهم، وما قابلوا به رسالته من استكبار ودلال وعناد.
وفيه بالخصوص وصف موجز لمعجزة موسى عندما قام يستسقي لقومه، فضرب بعصاه الحجر، فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا. ثم فيه وصف مستفيض لمعجزة موسى بعد ذبح البقرة، عندما استحالت عليه معرفة قاتل ارتكب جريمة القتل خفية، فأمر بني إسرائيل بذبح بقرة، وإلقاء عضو منها على القتيل، فأحياه الله
بعد قتله، ونطق باسم القاتل، وكان ذلك معجزة جديدة لموسى الكليم.
وفي معرض الحديث عن هاتين المعجزتين، تناولت الآيات بالوصف الدقيق ما كان عليه بنو إسرائيل من شك وتردد وعناد، وإغراق في الجدل الفارغ، وتضييع للوقت في المناقشات الجزئية والجانبية بالمرة.
فها هم أولاء يعربون عن سخطهم وعدم رضاهم بما رزقهم الله، ويلحون على موسى أن يدعو ربه، لتنبت لهم الأرض نباتات أخرى ترضي شهوتهم، وتكفي نهمهم {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ} .
وها هم أولاء يجادلون موسى في شأن البقرة التي أمرهم الله بذبحها جدالا عنيفا، فيلقون عليه وابلا من الأسئلة التي لا داعي إليها، مما يعبر عن شكهم، ويعرب عن ارتيابهم، في أمر بسيط لا يستحق كل هذا التردد، ولا كل هذه الحيرة {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا}. - {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ}. - {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا}. ثم كرروا مرة أخرى:{قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} . -وأخيرا قالوا: {قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ} .
ويلاحظ فيما جرت حكايته على لسان بني إسرائيل أنهم بدلا من أن يقولوا ادع لنا "ربنا" يفضلون أن يقولوا "ادع لنا ربك"،
ويكررونها عدة مرات بهذه الصيغة، كأنهم لا يزالون في شك من أمره، ولا يعتبرونه ربا لهم، بقدر ما يعتبرونه ربا لموسى وحده، وفي ذلك جحود منهم ظاهر لربوبية الله رب العالمين، وجرأة على مقامه الأقدس، وليس هذا بغريب عليهم، فقد قالوا من قبل لموسى كما سبق في الربع الماضي {يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} .
ثم ها هو الحق سبحانه وتعالى ينعتهم بوصف خطير ومثير، ذلك هو وصفهم بالقسوة التي هي أشد من قسوة الحجارة، وهل يرجى التأثير في قلب أقسى من الحجر الصلد؟ {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} . وهذا الوصف الذي وصف الله به بني إسرائيل هو السر في عنادهم وإصرارهم على ما هم عليه، والحافز لهم على الوقوف في وجه الدعوة الإسلامية موقف المعارضة والإنكار، والتبجح والاستكبار، كما كان موقفهم من المسيحية قبل الإسلام، وهو السر في موقفهم الانعزالي المتحفظ دائما من بقية الأمم والملل عبر التاريخ.
ويتجه الخطاب من جديد إلى المؤمنين، منبها إياهم إلى أن يقطعوا كل أمل في انتقال بني إسرائيل انتقالا جماعيا من يهوديتهم إلى الإسلام، مذكرا بأن أولئك الذين سمعوا كلام الله بواسطة موسى الكليم، والذين عقلوا ما فيه، -وبالرغم عن ذلك كله تجرأوا على تحريفه عمدا وقصدا لحاجة في أنفسهم- قد تجاوز عنادهم كل
الحدود بحيث أصبحت الموعظة لا تؤثر فيهم، والذكرى لا تنفعهم {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} .؟
ومن جهة أخرى، نجد الآيات الكريمة في هذا الربع تسجل غضب الله على بني إسرائيل، جزاء عصيانهم وعنادهم لأمره في مختلف المواقف، وكفاء تجاهلهم التام لإحسانه إليهم في مختلف المناسبات، إذ تقول الآيات:{وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} .
ولا حاجة إلى التأكيد بأن عدل الله سبحانه يقتضي عقاب كل من عصاه وتعدى حدوده، في أي جيل، ومن أية ملة، إن لم يكن بنفس العقاب الذي ناله بنو إسرائيل، فبما يقرب منه ويدانيه، فضرب المثل بقصة موسى وقومه أولا، والقصد إلى الاعتبار بمضمونها وفحواها ثانيا، كل منهما غرض شريف من أغراض القرآن الكريم، ولذلك جاء في نفس السياق بعد قوله تعالى:{فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} - {فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} .