الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الأخير من الحزب الثامن
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
تتناول حصة هذا اليوم الربع الأخير من الحزب الثامن في المصحف الكريم، وبداية قوله تعالى:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} ونهايته قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} .
ــ
من الجاري على الألسنة قولهم " لكل اسم من مسماه نصيب " ونحن الآن في (سورة النساء) فلا بد أن يكون الحديث عن النساء في هذه السورة أطول من الحديث عنهن في أية سورة أخرى، وقد نبهت الآيات الكريمة في هذه السورة إلى نشأة الأسرة والحكمة المقصودة من وجودها {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً} .
واهتمت آياتها بوجوب معاملة النساء على أساس العدل التام، والابتعاد عن كل ما فيه مساس بحقوقهن الأخلاقية والمادية، سواء كان أساس الأسرة قائما على الوحدة أو على التعدد {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} {فَإِنْ
خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} {ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} .
وأوجبت آياتها تقديم الصداق، عطاء خالصا للزوجة لا يشاركها فيه ولي ولا زوج إلا إذا طابت نفسها بشيء منه تعطيه للأول، أو تتنازل عنه للثاني {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} .
وحددت آياتها نظام الإرث بين الأزواج وبين الأقارب، مما يحقق تكافل الأسرة، ويضمن استمرارها وانتفاعها بما يؤول إليها من أفرادها، فأقرت مبدأ الإرث، وبينت أنصبة الوارثين والوارثات {لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا} {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ} {فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا * وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ
بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ}.
وأتمت سورة النساء الحديث الذي خصصته لنظام الإرث في الأسرة المسلمة وتحديد أنصبته في آخر آية منها، وهي قوله تعالى:{يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} .
وهكذا نلمس إلى أي حد بلغت عناية الحق سبحانه وتعالى بالأسرة المسلمة، فهو يصدر أوامره ووصاياه من فوق سبع سماوات لتنظيم شؤونها في الحياة وبعد الممات، مما يعطي الدليل القاطع والبرهان الساطع على أن هذا المجال الحيوي قد تفرد فيه الحق سبحانه وتعالى وحده بالاختصاص دون غيره، بحيث لا يمكن أن يتدخل فيه الغير، فضلا عن أن يدخل عليه أي تبديل أو تغيير.
وهذا المعنى هو ما ترمي إليه الآيات الكريمة الواردة في هذا الربع {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} .
على أن هذه الآيات إنما هي تأكيد وتثبيت للمعاني المستوحاة
سابقا من قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} وقوله تعالى: {وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} وقوله تعالى في آخر هذه السورة - سورة النساء - بعد اختتام الحديث في موضوع الإرث {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} فالوصية في هذا الموضوع الخطير آتية من الله مباشرة، وهذه الوصية إنما هي بيان من الله حتى لا يضل المسلمون، والتعقيب بقوله تعالى في هذا السياق {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ} وبقوله تعالى:{وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} كأنما هو رد على أولئك المتحذلقين الذين يتحدثون في هذا الموضوع حديثا كله هراء وادعاء للعلم بما لم يعلمه الله، وتطاول على حكمته، ومحاولة لنقض حكمه، وذلك حتى لا يتعالموا على الله، ولا يستمروا في ادعائهم الكاذب وجهلهم الفاضح.
وقوله تعالى: {آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا} الوارد على وجه الاعتراض بين الآيات المحددة لأنصبة الوارثين والوارثات معناه كما نص عليه (ابن العربي) المعافري " أنه تفاديا لحيف أحدهم وظلمه، بتفضيله ابنا على بنت، أو أبا على أم، أو ولدا على ولد، أو أحدا من هؤلاء أو غيرهم على أحد آخر، تولى الله سبحانه قسم التركة بعلمه، وأنفذ فيها حكمته بحكمه، وكشف لكل ذي حق حقه، وعبر لكم ربكم عن ولاية ما جهلتم، وتولى لكم بيان ما فيه نفعكم ومصلحتكم ".
ومما يستلفت النظر في هذا الموضوع قوله تعالى خلال آيات الميراث {وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} بمعنى " الارضاخ " للقرابة
الذين يحضرون القسمة ولا يرثون، وإعطائهم نصيبا من التركة، إذا كان مال التركة وافرا، والاعتذار إليهم إذا كان مال التركة قليلا.
قال أبو بكر (ابن العربي) المعافري في كتابه " أحكام القرآن ": (والصحيح أنها - أي هذه الآية - مبينة استحباب المشاركة لمن لا نصيب لهم من الإرث، بأن يسهم الورثة لهم من التركة، ويذكروا لهم من القول ما يؤنسهم، وتطيب به نفوسهم. وهذا محمول على الندب من وجهين:
أحدهما: أنه لو كان فرضا لكان ذلك استحقاقا في التركة، ومشاركة في الميراث، لأحد الجهتين معلوم، وللآخر مجهول، وذلك مناقض للحكمة وإفساد لوجه التكليف.
الثاني: أن المقصود من ذلك هو الصلة، ولو كان فرضا يستحقونه لتنازعوا منازعة القطيعة). انتهى كلام ابن العربي.
ومما تناولته آيات هذا الربع حسن المعاشرة وحسن العهد بين الزوج والزوجة، ووجوب ترفع الأزواج عن استغلال زوجاتهم أو الضغط عليهن بحبسهن إلى الموت، للتمتع بإرثهن، وعن الإضرار بهن، لاسترجاع ما قدموا إليهن من الصداق عند الزواج، وضرورة تحمل الزوج لبعض المتاعب من زوجته حفظا للأسرة من الانهيار، وتفاديا للفراق بينهما والطلاق، وذلك قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا * وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ
إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} فها هنا سمى الله عقد الزواج (ميثاقا غليظا) ليبرز ما يجب أن يكون له من الحرمة الخاصة والتقدير البالغ.
وينهى الله الرجال عن أن يحبسوا نسائهم كرها إذا ساءت علاقتهم معهن، وانتهت عشرتهم الجميلة لهن، وأصبح بقاء النساء في عصمتهم إنما هو لغرض نفعي مادي هو الحصول على أرثهن بعد الموت {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا} .
كما ينهى الله الرجال أيضا أن يعضلوا نساءهم عن طريق الإضرار بهن في العشرة ومنعهن من الطلاق حتى لا يستطعن الزواج من غيرهم، واستعمالهم معهن وسائل الضغط والإكراه، حتى يسترجعوا منهن المهر الذي أعطوه إليهن، ليتزوجوا به مرة أخرى من بعد الفراق {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا * وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} .
ثم يأمر الله الرجال أن يعاشروا نسائهم عشرة طيبة بالمعروف، فإن ذلك على حد قول (ابن العربي)" أهدأ للنفس، وأهنأ للعيش، وأقر للعين "{وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} .
ويوصي الحق سبحانه وتعالى الرجال في نفس هذا السياق، بالصبر والاحتمال وعدم المبادرة إلى الفراق، إذا وجدوا في زوجاتهم
كراهية، ومنهم نفرة، من غير فاحشة ولا نشوز، فربما آل ذلك إلى عشرة أفضل ومحبة أدوم {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا}. قال القاضي أبو بكر (ابن العربي):" قال علماؤنا في هذا دليل على كراهية الطلاق، ويناسب هذا المعنى ما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (أبغض الحلال عند الله الطلاق) وقوله صلى الله عليه وسلم (خيركم خيركم لأهله، وأنا خيركم لأهلي) وجاء رجل إلى عمر بن الخطاب يريد أن يطلق زوجته بدعوى (أنه لا يحبها) فما كان من عمر إلا أن قال له: " ويحك ألم تبن البيوت إلا على الحب؟ فأين الرعاية وأين التذمم ". وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في حياته البيتية جميل العشرة، دائم البشر، يداعب أهله ويتلطف بهم، ويوسع النفقة عليهم، وكان إذا صلى العشاء ودخل منزله يسمر مع أهله قليلا قبل أن ينام، يؤانسهم بحديثه وسمره عليه السلام.