الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الأول من الحزب الرابع
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
في حصة هذا اليوم، نشرع في الحزب الرابع من المصحف الكريم، وفاتحة الربع الأول منه قوله تعالى:{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} وخاتمته قووله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
ــ
تشير أول آية في هذا الربع إلى ما شرعه الله للمسلمين من التكبير جهرا عند انقضاء كل صلاة خلال أيام التشريق، ويبتدئ هذا التكبير على ما قاله ابن عمر وابن عباس ومالك والشافعي من صلاة الظهر يوم النحر إلى ما بعد صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، وهذا التكبير كما يطالب به المسلم الحاج الذي توجه إليه الخطاب في الأصل، يطالب به أيضا بقية المسلمين الذين لم يحضروا موسم الحج، وذلك تذكيرا لهم جميعا بشعائر الحج الخالدة، وبأنهم-حاضرين وغائبين- أمة واحدة. على ذلك أجمع فقهاء الأمصار والمشاهير من الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم، وذلك معنى قوله تعالى هنا:{وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ} .
قال مالك في الموطأ: " الأمر عندنا أن التكبير في أيام التشريق
دبر الصلوات، وأول ذلك تكبير الإمام والناس معه دبر صلاة الظهر من يوم النحر، وآخر ذلك تكبير الإمام والناس معه دبر صلاة الصبح من آخر أيام التشريق، ثم يقطع التكبير ".
قال مالك: " والتكبير في أيام التشريق على الرجال والنساء، من كان في جماعة أو وحده، بمنى أو بالآفاق كلها، واجب، وقال: " الأيام المعدودات أيام التشريق ".
ثم تولى القرآن الكريم مرة أخرى في هذا الربع، ومن زاوية جديدة، بيان الوصف الواضح الكاشف، وتقديم التعريف الجامع المانع الذي يعرف المؤمنين بطائفة المنافقين، وذلك زيادة على ما سبق في وصفهم أول سورة البقرة، فبين أن طائفة المنافقين تحاول دائما سلب العقول وبلبلة الأفكار عن طريق السفسطة والتضليل، وتواجه البسطاء بما يعجبهم ويغريهم، حتى يقعوا في شبكتها من أيسر طريق، ولا تتورع أن تحلف الأيمان المغلظة، تأكيدا لصدقها المزعوم، وإثباتا لحسن نيتها المزيفة، إذ أنها تحس من أعماقها بما هي عليه من تزييف يهددها بالفضيحة في كل حين، حتى إذا ما واتاها الحظ وأدركت القصد، انكشفت عورتها، وظهرت حقيقتها، وتبين للناس أنها عامل من عوامل الإفساد، لا من عوامل الإصلاح، وأنها سبب من أسباب الهلاك والخسران، لا من أسباب الفلاح والعمران، وذلك قوله تعالى في شأنها:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ * وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ} .
وقوله تعالى: {فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} . بعد قوله تعالى: {مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ} . فيه تلميح إلى أن طائفة المنافقين تختار دائما أن تضرب على الوتر الحساس، الذي يهم أكبر عدد من الناس، وهو وتر المصالح المادية القريبة، والمنافع الشخصية العاجلة، فعن ذلك الطريق السهل تحاول الوصول إلى أهدافها الملتوية، وأغراضها المنحرفة.
وقوله تعالى: {وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ} . فيه وصف دقيق لكل فرد من أفراد هذه الطائفة، وهو صورة ناطقة بما عليه المنافقون جميعا من قدرة خاصة على الجدل الفارغ، واستعداد خاص للمناقشات البيزنطية العقيمة، وطول نفس في الأخذ والرد، فهم ثرثارون متفيهقون دائما، وعليهم وعلى أمثالهم يصدق قوله تعالى في سورة الأنعام:{وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} . وقوله تعالى في نفس السورة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} .
ثم تزيد الآية الكريمة توضيحا لحقيقة المنافقين وكشفا عن مواقفهم المتناقضة، فتنبه إلى أن المنافق بعد أن يستولي على العقول البسيطة، ويتمكن من الأمر والنهي في أصحابها طبقا لشهواتهم، يبلغ به الكبر، والإعجاب بالنفس، والاستبداد بالرأي، إلى درجة أن يعتقد أنه غني عن كل نصيحة، وغير محتاج إلى أي إرشاد، فمن اتجه إليه مرشدا إياه ولو باسم الله، وإلى تقوى الله، اعتبره مسيئا إليه، أو متمردا عليه، وذلك ما يفهم من قوله تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ} . أي أنه يصبح ناسيا ما كان
يتظاهر به قبل ذلك، حيث كان أمام الناس {يُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} . فتبين أخيرا أن قوله مجرد زور وبهتان، لا عن عقيدة وإيمان، ثم عقبت الآية على ذلك بما ينتظر المنافقين من عذاب شديد، إذ قالت {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ} .
وعلى عكس طائفة المنافقين التي وصفتها هذه الآيات أدق وصف، تحذيرا من ألاعيبها وتنبيها إلى مناوراتها، وتعريفا بمظاهرها البراقة الخلابة حتى لا يقع المسلمون في أشراكها، تولت آيات أخرى وصف المؤمنين الصادقين أحسن وصف وأصدقه تعريفا بهم، وتنبيها إليهم، حتى يلتف المسلمون حولهم كل الالتفاف، فقال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} . وهذا يقضي أن هناك طائفة من الناس تكرس حياتها، وتخصص جهودها، وتبيع نفسها في سبيل الله، ابتغاء مرضاة الله، لا ابتغاء مرضاة الناس، فهي لا تبخل بوقت ولا بجهد في سبيل الصالح العام والخير المشترك، والتعاون على البر والتقوى، وفي سبيل ذلك تتنازل عن شهواتها، وتتخلى عن أهوائها، وتتجرد من أنانيتها، حتى تتقمص فيها روح الجماعة وخيرها، ولا تتحرك إلا بها ولها، امتثالا لأمر الله، وابتغاء مرضاة الله، ولا شك أن وجود هذه الطائفة من الناس في المجتمعات والأمم نعمة كبرى من أكبر النعم التي ينعم الله بها عليها، إذ بواسطتها يتحقق كثير من الإصلاح، وعلى يدها يزول كثير من الفساد، وبفضل توجيهها والمثل الصالح الذي تضربه لبقية الناس يتم كثير من التقدم والازدهار، وتنتشر بينهم ظاهرة التضحية والإيثار، فهي رحمة من
الله عميقة الأثر في الأفراد والجماعات، وقوله تعالى في هذا السياق:{وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} . إشارة إلى أنه سبحانه وتعالى يهيئ لعباده من بينهم من يأخذ بيدهم، ويمهد لهم سبل الصلاح والفلاح، على غرار قوله تعالى:{لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} .
ومن المعاني السامية التي يحمل عليها قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ} . الرجل القوي من المسلمين الذي يجاهد في سبيل الله، إذا أراد أن يحمل أثناء جهاده على جيش كبير من العدو، وكان ذلك منه بنية خالصة، طلبا للشهادة، فهذا العمل جائز عند المدققين من علماء الشريعة، وتنطبق عليه هذه الآية تمام الانطباق.
قال أبو بكر (ابن العربي) المعافري: " والصحيح عندي جوازه، لأن فيه أربعة أوجه، الأول طلب الشهادة، الثاني وجود النكاية، أي النكاية في العدو، الثالث تجرئة المسلمين عليهم، الرابع إضعاف نفوس الأعداء، ليروا أن هذا صنع واحد، فما ظنك بالجميع (أي إلقاء الرعب في قلوبهم).
وبهذه الآية استشهد أبو هريرة عندما حمل هشام بن عامر على الصف حتى شقه، فقال أبو هريرة:" ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ".
وإليها استند عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما أرسل جيشا فحاصروا حصنا، فتقدم رجل عليه فقاتل فقتل، فقال
الناس: (ألقى بيده للتهلكة)، فبلغ ذلك عمر رضي الله عنه فقال " كذبوا " أو ليس الله تعالى يقول:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ} .
وتعريفا بالمنزلة الرفيعة عند الله التي ينالها المؤمنون المجاهدون في سبيله، قال تعالى في ختام هذا الربع {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .