الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الأخير من الحزب السابع
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
موضوع حديثنا اليوم هو الربع الأخير عن الحزب السابع، ويبتدئ، من قوله تعالى:{إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} وينتهي بقوله تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}
ــ
لا يزال كتاب الله يواصل الحديث عن يوم أحد، وما برز فيه من مواقف مختلفة، بل متناقضة أحيانا، تنبئ عن دخائل القوم، وتكشف الستار عما هم عليه من إيمان أو نفاق، ومن إيمان ضعيف أو إيمان قوي.
فهذه فئة تفر من قلب المعركة، دون أن تهتم بمن وراءها، وتلجأ إلى الجبل متحصنة به فوق الصخرة، ولا تستجيب لقائدها الأعلى، إذ لا تلبي نداء الرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام، بل
تتركه معرضا لأذى المشركين وعدوانهم، وبدلا من أن تتخذه أسوة لها في الصبر والثبات، فتلتف حوله، وتثبت معه إلى النهاية، يدخلها الرعب، ويداخلها الشك في نفس الرسول، هل عصمه الله من المشركين ولا يزال على قيد الحياة، أم تمكن منه الأعداء، وذلك قوله تعالى تأنيبا لهذه الطائفة {إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} فقد أخذ يدعوهم قائلا:(إلي عباد الله إلي عباد الله) لكنهم لم يسمعوا ولم يجيبوا.
ثم عقبت الآية على ذلك بقوله تعالى تأديبا لهذه الفئة {فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ} أي فكان جزاء الله لكم أن ضاعف غمومكم، فزادكم غما على غم، والغم الأول غم الهزيمة التي أصابتهم، والغم الثاني غم معاودة المشركين الكرة، للهجوم عليهم في نفس الجبل، بعدما فروا إليه وتحصنوا به، والغم الثالث غم الدعاية الكاذبة التي روجها المشركون بين المسلمين، وفحواها أن الرسول قد قتل في المعركة، مما يدخل في حرب الأعصاب.
ثم نبهت الآية الكريمة إلى أن المؤمن الحق لا ينبغي له أن يحزن على ما فاته من نصر، ولا على ما أصابه من هزيمة، ولذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعوهم، تثبيتا لأنفسهم، وتطييبا لقلوبهم {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ} - {لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ} .
وجاء بعد ذلك التعقيب بقوله تعالى مخاطبا لهم {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي أنه سبحانه مطلع على أعمالكم، عليم بنواياكم، لا يغيب عنه منها شئ.
وتناولت الآية بالوصف والتحليل حال طائفة من المؤمنين، وأخرى من المنافقين كانت قد اندست في المعركة يوم أحد بينهم وإلى جانبهم، فالطائفة الأولى من بعد انجلاء الغم الطارئ عليها عادت إليها الثقة والطمأنينة، حتى أصابها النعاس وهي مشتملة بسلاحها، مما يدل على مدى السكينة التي أنزلها الله في قلوبها، وذلك قوله تعالى في وصفها ممتنا عليها:{ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ} على غرار قوله تعالى في سورة الأنفال في قصة بدر {إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ} .
والطائفة الثانية التي ملأ النفاق قلوبها واندست بين المؤمنين في هذه المعركة لم يراود أعينها النعاس بالمرة، وكيف يراودها النعاس وهي تعيش لحظات كلها قلق وجزع وخوف، وتهيمن عليها الخيالات والأوهام، وظن السوء بالله وبالإسلام، {وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} فهي ترى رأي العين أن المشركين قد هزموا المسلمين فعلا في هذه المعركة، وتستوحي نفاقها فلا يوحي إليها إلا أن الساعة الفاصلة والحاسمة بين الشرك والإسلام قد دقت ولات حين مفر، وبأن الإسلام وأهله قد باد وبادوا إلى الأبد، ولم يعد يهم أفراد هذه الطائفة شيء سوى أنفسهم، وذلك قوله تعالى في وصف نفاقها وجبنها وأنانيتها وسوء ظنها بالله وبرسوله {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} فيرد الله عليهم بقوله: {قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ
الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ}.
وفي هذا السياق يجدد كتاب الله مرة أخرى بيان الحكمة الإلهية في مثل هذه الهزات، فيقول:{وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} ويقول: {وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ * وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} على غرار ما سبق في الربع الماضي في قوله تعالى: {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ - وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا} إلى آخر الآية.
وتتحدث آيات هذا الربع عن سبب إضافي من أسباب الهزيمة التي جرت يوم أحد، ألا وهو ما قد يكتسبه بعض المؤمنين من ذنوب قبل دخولهم في المعركة، فإن الذنب يظلم قلب المذنب، فلا يرى أي بصيص من النور، ويثقل كاهله حتى كأن على جسمه كابوسا يشل حركاته ويحول بينه وبين أي عمل مفيد، وذك قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا} وقوله تعالى: {أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ} نظير قوله تعالى: {بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} .
ثم يأتي التعقيب على ذلك بما يحيي فيهم الأمل والرجاء، ويدفع عنهم معرة المخالفة فيقول تعالى:{وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} .
وتهتم الآيات الكريمة اهتماما خاصا بفريق من المنافقين أدخلوا الفشل على المؤمنين من أول لحظة في يوم أحد، وهذا
الفريق كان يتزعمه المنافق المدعو عبد الله بن أبي ابن سلول، فقد فارق ركب رسول الله الذي كان يتألف من ألف رجل وهو لا يزال في أثناء الطريق بين المدينة وأحد، وتابعه ورجع معه ثلث الركب ممن ينطوون على النفاق، وكانوا حوالي ثلاثمائة نفر ونيف، فانفصلوا عن ركب رسول الله، وكان فريق من المؤمنين لا يزالون يظنون خيرا بزعيم المنافقين ومن معه من المتخلفين، إذ لم يكن قد انكشف نفاقهم بعد، فتبعوهم من ورائهم يحرضونهم على العودة للقتال بجانبهم، أو على الأقل لمساعدتهم فيما قد يحتاجون إليه، ولتكثير سوادهم أمام العدو.
فما كان من المنافقين وزعيمهم إلا أن تعللوا بأنهم لا يتوقعون من المشركين في هذا اليوم أي قتال، إذن فلا موجب لمواصلة السير في ركاب رسول الله.
وتحدث زعيم النفاق ابن أبي ابن سلول حديثا كشف به عن ذات نفسه، وعن موقفه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ قال عنه معرضا به:" أطاعهم فخرج وعصاني، ووالله ما ندري علام نقتل أنفسنا ههنا أيها الناس ".
وتحدث إليه عبد الله بن عمرو بن حرام، الذي تابعه لتحريضه ومن معه على العودة قائلا:" يا قوم أذكركم الله أن لا تخذلوا نبيكم وقومكم " فأجابه حفيد ابن سلول ومن معه قائلين " لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم، ولكن نرى أنه لا يكون قتال " فلما استعصوا على عبد الله بن عمرو وأبوا إلا الانصراف قال لهم: " أبعدكم الله، أعداء الله، فسيغني الله نبيه عنكم ".
فهذا الموقف المفاجئ والمربك الذي وقفه المنافقون يوم أحد من أول لحظة، بعدما بيتوه فيما بينهم لبث البلبلة في صفوف المسلمين، وإضعاف روحهم المعنوية أمام المشركين، هو الذي يشير إليه قوله تعالى:{وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ * الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} .
وفي هذا الجو المكهرب والمثقل بالغيوم يتوجه الخطاب الإلهي إلى الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم في صيغة ملؤها الرضى والتنويه: الرضى عن موقفه المدهش من المعركة العسكرية التي شنها المشركون " وهم العدو الخارجي " ومن المعركة النفسية التي شنها معهم المنافقون " وهم العدو الداخلي " والتنويه بما أتاه الله من لين العريكة وعفة اللسان، ومن رقة القلب وثبات الجنان، وتبيين ما لهذه الشمائل المحمدية التي أكرمه الله بها من تأثير عميق في تأليف قلوب المسلمين وتوحيد صفوفهم في السلم والحرب، وذلك قوله تعالى:{فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} .
ثم توجه الحق سبحانه وتعالى إلى نبيه يأمره بالعفو عمن أساء، وبالاستغفار لمن أذنب، {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ} .
وأخيرا أراد الله أن يسن للأمة الإسلامية من بعد رسولها سنة قائمة، هي مفتاح نجاحها، وعنوان فلاحها أمد الدهر، ألا وهي
شورى المسلمين في أمورهم، وجعل أمرهم شورى بينهم، وذلك قوله تعالى:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} . هذا ورسول الله معصوم عن الخطأ، ومعصوم من الناس، ولكن الله أمره بالشورى لتكون سنة المسلمين من بعده، حتى يعالجوا شؤونهم في جو من الوفاق والوئام، لا اختلاف بعده ولا اصطدام، ولا فرقة من ورائه ولا انقسام.
ثم قال تعالى في ختام هذا الأمر الجليل: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} . روى ابن مردويه في هذا السياق عن علي ابن طالب قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن (العزم) فقال عليه الصلاة والسلام: " العزم مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم ".
ومعنى الآية أنه بعد تبادل الآراء في (الأمر) من الأمور مع أهل الاختصاص فيه، والخبرة به، والانتهاء فيه إلى رأي ناضج سليم لا يبقى إلا الخروج من مرحلة الاستشارة إلى مرحلة التنفيذ.
وفي هذه المرحلة يتولى الرسول عليه الصلاة وللسلام وخلفاؤه من بعده تنفيذ الرأي المقبول، مع الاعتماد على الله في بلوغ النتائج المتوخاة حسب الزمان والمكان، حيث إن التحكم فيها والتوفيق إلى إبراز آثارها أمران خارجان عن إرادة الإنسان، وذلك معنى التوكل على الله في هذا المقام، فهو بالنسبة للاستشارة والشروع في التنفيذ مسك الختام {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} .