الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الأول من الحزب السابع
في القرآن الكريم (ت)
عباد الله
حصتنا اليوم تستغرق الربع الأول من الحزب السابع في المصحف الكريم، وأول آية في هذا الربع قوله تعالى:{لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وآخر آية فيه قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} .
ــ
في هذا الربع من سورة آل عمران تتناول الآيات الكريمة موضوع الإنفاق والبر {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وموضوع الحلال والحرام من الأطعمة بالنسبة لبني إسرائيل {كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ} وموضوع ملة إبراهيم ومقام إبراهيم {قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} - {مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا} وموقف أهل الكتاب من الإسلام وأتباعه، رغما عن كونه هو نفس الحنيفية السمحة التي جاء بها إبراهيم، ثم تتناول آيات هذا الربع وجوب الاعتصام بالإسلام {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا} - {وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} . كما تتناول وصف
الأمة التي تدعو إلى الخير، والتي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . وتتناول أيضا ذم التفرق والاختلاف {وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} - {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} ، كما تنبه الآيات الكريمة إلى ما ينال المسلمين من أذى أهل الكتاب {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى} وإلى ما يناله المسلمون من نصر عليهم وغلبة لهم في النهاية {وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ} .
ولنأخذ الآن في إلقاء نظرة فاحصة على جملة من الآيات البينات في هذا الربع:
يقول الله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} فهاهنا تنطق الآية الكريمة بما يضعه خصوم الإسلام في طريق انتشاره من العراقيل، وما يبثون ضده من الدعايات الباطلة، إذ يضربون من حوله سورا حديديا لا يستطيع أن يتخطاه المعجبون به والراغبون فيه، بل إن هذه الآية لتنطق بما هو أنكى وأشد، ألا وهو محاولة خصوم الإسلام أن يصدوا عنه ويخرجوا من حظيرته نفس المؤمنين الذين سبق لهم الإيمان به، فهم لا يحولون بين الإسلام وبين من لم يسلم بالمرة، بل إنهم يطمعون في إخراج المسلمين أنفسهم من دائرة الإسلام، ويحاولون ذلك عمليا، لا تمنيا، هذا وهم يعرفون أن الإسلام دين الحق والصدق، ولكنهم
قوم بهت جبلوا على التضليل والتزييف والتعصب، وهم لا يفترون عن محاولاتهم المسمومة في الأوساط الإسلامية منذ اليوم الأول، ولعل ذلك هو السر في التعقيب بقوله تعالى مخاطبا لخصوم الإسلام:{وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} .
على أن هذا التعقيب فيه إيماء وإشارة إلى ما يلزم المسلمين من اليقظة والحذر، وعدم الغفلة عن دسائس خصوم الإسلام ومؤامراتهم ومحاولاتهم المضللة، وأساليبهم الملتوية، التي يرمون من ورائها إلى قتل الروح الإسلامية في نفوس المسلمين، وإلى تجريد حياتهم من كل المعاني والقيم الإسلامية، وإلى جعل المسلمين أشباحا بدون أرواح، وإلى إفراغ الإسلام من محتواه الإعتقادي، ومحتواه الشرعي، ومحتواه الأخلاقي، ومحتواه الاجتماعي، حتى يصبح دين الإسلام مجرد شبح من الأشباح ووهم من الأوهام.
ثم يقول الله تعالى مخاطبا ومحذرا للمؤمنين، حكاما ومحكومين رؤساء ومرؤوسين، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} فهذه الآية قول صدق وحق نطق به الحق سبحانه وتعالى، بحيث لا يحتمل معناها عند المؤمن بربه أدنى شك ولا ريب، وهي تعلن صراحة وبدون حجاب أن فريقا من أهل الكتاب يحاولون أن يجروا المسلمين إلى ما هم عليه من الآراء والأوضاع، وأنهم يستدرجون المسلمين إلى الثقة بهم، وإلى متابعتهم والسير في ركابهم، وإغرائهم بالدخول في طاعتهم، التي هي أكبر معصية يعصى بها الله، وليس
ضروريا أن تكون الطاعة هنا طاعة المحكوم للحاكم والمغلوب للغالب، فهناك طاعة أخطر منها وأشد وقعا، هي طاعة القلب المظلم، الذي يمتلئ بحب الكفر والإعجاب بأهله، وطاعة الضمير الميت، الذي يتنكر للإسلام، ولا يتحرك للغيرة عليه أو الدفاع عنه.
فهذه الطاعة المعنوية التي تستولي على المشاعر، وتسخر الفكر والإرادة والضمير تسخيرا أعمى لصالح الكفر وأهله، هي التي تجعل من المؤمن كافرا بعد إيمانه، وهي التي تنقله من بيئة الإسلام إلى بيئة الكفر نقلة نهائية لا رجعة بعدها، حيث لا يتنفس الصعداء، ولا يحس بالانسجام والوئام إلا مع إخوانه الكافرين، وإن كان يحمل زورا وبهتانا " اسم محمد وأحمد " في مجتمع المسلمين.
وبعدما سجل القرآن الكريم هذه الظاهرة الغريبة، وحذر المؤمنين من هذا الخطر البالغ فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} عاد مرة أخرى إلى أولئك المرتدين عن الإيمان، أو الذين هم في طريق الارتداد، يوجه إليهم خطابه، ويحذرهم عذابه، في لهجة من الاستنكار والتعجب والاستغراب، يتأثر لها أولو الألباب، فقال تعالى:{وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ} أي ما هو الشيء الذي يبرر كفركم وآيات الله تتلى عليكم شهادة ناطقة، تفصل بين الحق والباطل، والخير والشر، والهدى والضلال، وفيكم رسول الله يبين لكم العقائد الصحيحة من
العقائد الباطلة، والشعائر السافلة من الشعائر الفاضلة، والشرائع العادلة من الشرائع الظالمة. على أنه إذا غاب عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشخصه، فإن كتاب الله الذي أنزل عليه حاضر أبدا لا يغيب، وناطق دائما لا يصمت، وشاهد في كل وقت لا يكذب.
ثم عقبت الآية على ذلك كله بقوله تعالى: {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي أن من التزم دين الله واهتدى بكتابه وتمسك بعهده كل التمسك، كان مضمون الهداية مضمون التوفيق، إذ إن نور الله يسعى بين يديه يسدده في خطواته، ويوجه حركاته وسكناته، وهذا المعنى يقتضي بحكم المفهوم أن من لم يعتصم بالله لا بد أن يفقد الهداية والنور، وأن تحيط به الظلمات من كل جانب، ظلمات بعضها فوق بعض، {وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ} وذلك هو ما أشار إليه الأثر الوارد في فضائل القرآن (من ابتغى الهدى في غيره أضله الله).
ويقول الله تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} ويقول سبحانه {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} .
هذه الآيات من سورة آل عمران تعالج موضوعا حيويا وجوهريا في الإسلام، قد عالجه القرآن الكريم وجدد القول في شأنه في عدة آيات وفي عدة سور، إذ به فضل الله المسلمين على غيرهم من الأمم، ألا وهو موضوع القيام بالدعوة الإسلامية والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، فقد قام الإسلام من أول نشأته على الدعوة إلى الله، والدعوة إلى الخير بكافة وجوهه وبجميع أصنافه، وهذه الدعوة مترتبة في ذمم المسلمين وفي أعناقهم، عليهم واجب القيام بها في كل عصر نحو أنفسهم ونحو الناس أجمعين، ولا يعفيهم منها ولا يسمح لهم بالتقصير فيها أي شئ.
أما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهو واجب جماعي على كافة المسلمين، بحيث يقوم به كل من استطاع منهم في دائرة المحيط الداخل تحت إشرافه، والذي له عليه سلطة ونفوذ، فعلى الأب أن يأمر أبناءه بالمعروف وينهاهم عن المنكر، وعلى الزوج أن يأمر أهله وخدم بيته بالمعروف وينهاهم عن المنكر، وعلى المعلم أن يأمر تلامذته، والأستاذ أن يأمر طلابه، والشيخ أن يأمر مريديه، والعالم أن يأمر مستمعيه بالمعروف وينهاهم عن المنكر، وعلى التاجر والصانع والعامل وصاحب العمل أن يأمر كل منهم بالمعروف وينهى عن المنكر، وهكذا كل في دائرة اختصاصه ومنطقة نفوذه، من أبسط شخص في الأمة إلى أقوى واحد فيها.
غير أن من وضع الله في أيديهم مقاليد الحكم، ومكنهم من زمام السلطة التنفيذية الفعلية، وبسط سلطانهم على الرقاب والأموال والأملاك بالحق من أمراء المؤمنين وولاة المسلمين، يقع عليهم أكبر عبء وأعظم مسؤولية في الزجر عن المناكر، إذ هم أقدر المسلمين جميعا على إحياء المعروف وإماتة المنكر، وهم الذين قيل في مثلهم ما جاء في الأثر:" إن الله ليزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن "، ومعنى هذا أن هناك أفرادا متمردين على الله لا تؤثر فيهم
الموعظة الحسنة بالقرآن، وإنما يؤثر فيهم العقاب الرادع على يد السلطان.
وسوط العقاب على المنكر والوقوف في وجهه إنما يضعه قانون الإسلام، بصفته منبعا للاستقرار والنظام، في يد أمير المؤمنين وحده، ثم في أيدي أعوانه وخدامه من الولاة المتقين، لا سيما ولاة الحسبة المختصين، لكن بإذنه وأمره، ودون افتيات عليه، فهو وحده الذي يملك من بين المسلمين حق إيقاف المنكر بالقوة، ومتابعة أهله بالعقاب، حماية للملة، وصيانة للأمة.
قال القاضي أبو بكر (ابن العربي) في تفسير هذه الآيات ما نصه: " ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان).
وفي هذا الحديث من غريب الفقه أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ في البيان بالخير في الفعل، وهو تغيير المنكر باليد، وإنما يبدأ باللسان والبيان، فإن لم يكن فباليد، يعني أن يحول بين المنكر وبين متعاطيه، بنزعه عنه، وبجذبه منه، فإن لم يقدر إلا بمقاتلة وسلاح فليتركه، وذلك إنما هو الفتنة، وآئلا إلى فساد أكثر من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويعني بقوله (وذلك أضعف الإيمان) أنه ليس وراءه في التغيير درجة. انتهى المقصود منه والمراد، وعلى الله الاعتماد.