الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الثالث من الحزب الأول
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
في حصة هذا اليوم، نتناول الربع الثالث من الحزب الأول في المصحف الكريم، وبداية هذا الربع قوله تعالى:{وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ونهاية قوله تعالى: {فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ} .
ــ
والحديث في هذا الربع متجه إلى بني إسرائيل المقيمين بالمدينة وما حولها، فقد كانت جالية كبيرة منهم تعايش الرسول وأصحابه المهاجرين والأنصار خلال الفترة التي تلت الهجرة النبوية، وكان لها نشاط هدام يتطلب من الإسلام يقظة وحذرا بالغين، وعن طريق هؤلاء يتجه الحديث في الحقيقة إلى جميع بني إسرائيل في العالم، وإلى الكتابيين جميعا.
فبعدما استغربت الآيات الكريمة موقفهم من الإسلام والقرآن، وأشارت إلى أن اعتراف الدعوة الإسلامية برسالة موسى الكليم كان يقتضي مبادرتهم إلى تصديق هذه الدعوة والدخول تحت لوائها، وأن المعقول والمنتظر منهم هو أن يكونوا أسبق الكتابيين إلى الإيمان بالقرآن، لا أول الكافرين به كما ارتضوا ذلك لأنفسهم،
فتحملوا وزرهم وأوزار جميع الكافرين الذين أتوا من بعدهم وقلدوهم، كما قال تعالى:{وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} . توالت الآيات البينات في كشف القناع، وإلقاء الأضواء، على المساوئ التي اتصف بها بنو إسرائيل ومن سلك طريقهم، فمن كتمان لحق وطمس لمعالمه، إلى تزييف للحق وتلبيس له بالباطل، إلى تبديل لكلمات الله وتحريف لمعانيها، إلى نفاق في السلوك وازدواج في الشخصية، ينشأ عنه تناقض صارخ بين الظاهر والباطن، واختلاف كبير بين الأقوال والأعمال، {وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ} ، {فَبَدَّلَ الذِينَ ظَلَمُوا قَولاً غَيرَ الذِي قِيلَ لَهُم} .
ثم أخذت الآيات الكريمة في تذكير بني إسرائيل بالأطوار الغامضة المضطربة التي مروا بها، وفي تعريف غيرهم بتلك الأطوار حتى يحسبوا لها ألف حساب في الموعظة والاعتبار.
فمن إشارة إلى المعاملة القاسية والمحنة الكبرى التي لاقوها على يد فرعون وقومه، وما نالهم بعدها على يد موسى الكليم من نجاة وحرية.
ومن إشارة إلى ما أكرم الله به موسى من تكليم ووحي، وما أتى قومه من نعم وارفة الظلال، حيث ظلل عليهم الغمام، وأنزل عليهم المن والسلوى، وأباح لهم أكل الطيبات من الرزق، وقبل منهم التوبة بعد ارتكاب أكبر الذنوب والموبقات.
ومن تعريض بما ارتكبوه من انحراف عن الحق وانتكاس عن الهدى، حيث عبدوا العجل عندما غاب عنهم موسى، ثم طالبوه برؤية الله عيانا متحدين له عندما عاد إليهم {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ} ، {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً} .
وواضح أن ما تذمه هذه الآيات وتنعاه على بني إسرائيل، من كتمان للحق، وتلبيس له بالباطل، ونفاق في السلوك، وجرأة على الله، وعناد لرسله، وتجاهل لنعم الله المتوالية وكفران بها-رغما عن أهميتها الكبرى-وإن كان الخطاب به متجها في الأصل إلى بني إسرائيل-ليس قاصرا عليهم وحدهم دون بقية الناس، بل إن ما فيه من الذم والنعي كما ينطبق عليهم بالأصالة، ينطبق بالتبع على جميع من سلك مسلكهم واقتدى بهم في خصالهم المستقبحة وسلوكهم المنحرف، وبذلك تعتبر هذه الآيات تنبيها دائما للمسلمين، وتحذيرا لهم، وإنذارا صريحا للمنحرفين منهم عن سواء السبيل، بسوء العاقبة وقبح المصير.
ومما يناسب الوقوف عنده وقفة خاصة من هذه الآيات قوله تعالى: {وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَاّ عَلَى الْخَاشِعِينَ} ، وقوله تعالى:{كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ، وقوله تعالى:{وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} ، وقوله تعالى:{فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ} .
ذلك أن الخطاب الإلهي في هذه الآيات يعتبر توجيها عاما لا خاصا، فقوله تعالى:{وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} . فيه لفت نظر
المؤمن العاقل إلى ما بين الصبر والصلاة من تلازم في الغاية، وإلى ما بين الصبر والصلاة من تكامل في الطبيعة، بحيث يعتبر مجموعهما وكل منهما عونا إلهيا على مجابهة متاعب الحياة، ومددا ربانيا للتغلب على مشاكلها اليومية.
فبالصلاة يقوى الرجاء في الله، ويرتكز الإيمان بالقدر خيره وشره على أقوى أساس، وعن طريق الصلاة يستمد المؤمن الهداية والإعانة من ربه دون انقطاع.
وبالصبر يواجه المؤمن مسؤولياته الملقاة على عاتقه، بحكم أمانة الاستخلاف عن الله، مطمئن القلب، منشرح الصدر، معتصما بالله، معتمدا عليه، وقد تكرر هذا المعنى في نفس سورة البقرة بخطاب إلهي موجه إلى المؤمنين بالذات، إذ قال تعالى:{فَاذكُرُوني أَذكُركُمْ واشْكُرُوا لِي ولَا تَكفُرُونِ} - {يَأَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا استَعِينُوا بالصَّبرِ وَالصَّلاةِ، إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرينَ} .
وقوله تعالى: {كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} . دعوة من الله إلى عباده المؤمنين للإقبال على مائدته، والتناول من بساط رزقه الممدود غير المحدود، لكن مع الاقتصار على (الطيبات) التي أحلها، والاكتفاء بها دون (الخبائث) التي حرمها {وَيُحلُّ لَهُمُ الطَّيَباتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيهِمُ الخَبَائِثَ} .
وقوله تعالى: {وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ} ، وعد إلهي للمحسنين من عباده بالزيادة في رزقهم، وإغداق النعم عليهم، وكما يقتضي منطوق هذا النص وعدا للمحسنين بالمزيد من فضل الله وكرمه،
فإن مفهومه يتضمن وعيدا للمسيئين بالنقص والحرمان، على حد قوله تعالى:{لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ} .
وقوله تعالى: {فَأنزَلنَا عَلَى الذِينَ ظَلَمُوا رِجزاُ مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفسُقُونَ} فيه تحذير من ظلم عباده والعدوان على حقوقهم، إذ الخلق كلهم عيال الله، وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله، طبقا لما جاء في الأثر، كما أن فيه إنذارا للظالمين بالعقاب الرادع والعذاب الشديد، ينزل عليهم من حيث لا ينتظرون {رِجزاً مِّنَ السَّماءِ} ، وقوله:{بِمَا كَانُوا يَفسُقُونَ} إدراج لمعنى الظلم في إطار الفسق نفسه، وتأكيد لما سبق من الآيات في وصف (الفاسقين) من خيانة للعهود، وقطع للأرحام، وإفساد في الأرض، فالظلم في حد ذاته أكبر مظهر للفساد في الأرض، وبذلك يندرج تحت الفسق ويلازم الفاسقين.
أما قوله تعالى: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ} فإنه يشير إلى الفترة القصيرة التي استقاموا فيها على طريقة موسى الكليم، ففي تلك الفترة التي لم تطل كان المؤمنون من بني إسرائيل أفضل من غيرهم، ممن حولهم من الكفار والمشركين، حتى إذا ما بدلوا وظلموا عاقبهم الله بالخزي في الدنيا والعذاب في الآخرة {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} .
ولعل أعظم تأنيب يوجه إلى الشخص بعد تجريده من شرفه
وإنزاله عن مكانته عقابا له وتأديبا، هو تذكيره بما كان له من شرف سابق عند مولاه، ومكانة مرموقة عند الناس، حتى يقارن بنفسه بين يومه وأمسه، وسعده ونحسه، {كَذَلِكَ يُريهِمُ اللهُ أعمَالَهُم حَسَراتٍ عَلَيْهِم} .