الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الأول من الحزب الثالث
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
في حصة هذا اليوم، نتناول الربع الأول من الحزب الثالث في المصحف الكريم، وأول آية فيه قوله تعالى:{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} وآخر آية فيه: {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} .
ــ
في هذا الربع من سورة البقرة يتركز الاهتمام، ويدور الحديث حول محور واحد هو موضوع القبلة التي اختارها الله للمسلمين، توحيدا لوجهتهم بعد توحيد عقيدتهم، فجعلها في البيت العتيق، أول بيت لعبادة الله وضع للناس.
وها هنا ينبغي أن نعود إلى الوراء قليلا لنجد في الربع الثالث من الحزب الثاني آية كريمة تقول: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} . والإشارة في هذه الآية إلى الموقف المخزي الذي وقفه المشركون بمكة، من المؤمنين الراغبين في ارتياد المسجد الحرام لعبادة
الواحد الأحد، والحيلولة بينهم وبين الصلاة فيه والحج إليه، على غرار ما جاء في آية كريمة أخرى تقول:{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} .
فهاهو القرآن الكريم يرفع عقيرته ضد احتكار المشركين للبيت الحرام، وتدنيسهم له بوضع التماثيل والأصنام، وتحويلهم إياه عن الهدف السامي الذي أقيم لأجله منذ أقدم الأيام.
ومادام الأمر هكذا، وقد هاجر المسلمون إلى المدينة وفارق كثير منهم مكة التي أصبحت (دار حرب) بالنسبة للمسلمين وهم على أبواب تكوين مجتمع جديد، من طراز فريد، فلم لا يتوجهون بصلاتهم-ولو مؤقتا- إلى صخرة بيت المقدس، التي لها نوع شبيه ولو بعيد بالبيت الحرام، وبذلك يوجهون طعنة كبرى في الصميم إلى استغلال الشرك والوثنية، ويعلنون احتجاجهم الصارخ على احتكار مشركي قريش لبيت الله، وتحويلهم له عن هدفه الأول، الذي من أجله أقامه إبراهيم، وساعده فيه إسماعيل، ألا وهو عبادة الله وحده لا شريك له، لا عبادة الأوثان والأصنام.
على أن توجه المسلمين في المدينة إلى بيت المقدس موقتا بدلا من البيت الحرام الذي كان لا يزال الشرك مسيطرا عليه، ومحتكرا له إذ ذاك، يقوم في نفس الوقت مقام اختبار نفسي وديني لنفس المهاجرين والأنصار، فهو اختبار لقوة إيمانهم، وامتحان لدرجة امتثالهم، وجس لنبض من قد يكون مدسوسا بينهم من المنافقين
والمترددين ولمثل هذا تشير الآية الكريمة: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} .
وهكذا تم التوجه إلى بيت المقدس في بدء الهجرة بأمر نبوي كريم، صادر عن اجتهاده عليه السلام، كما حكاه القرطبي في تفسيره عن عكرمة وأبي العالية والحسن البصري رضوان الله عليهم، واستمر المسلمون على ذلك خلال سبعة عشر شهرا أو ستة عشر شهرا.
غير أن الجالية الإسرائيلية بالمدينة وما حولها التي ناصبت الإسلام العداء من أول وهلة، وتصدت له بالمقاومة الدعائية سرا وعلنا، والتي واجهها الإسلام بحججه الباهرة، وبراهينه القاهرة، فكشف الستار عن ماضيها وحاضرها، وألقى عليها من الأضواء ما لم يسبق له نظير، أخذت تستغل، في سبيل الدفاع عن نفسها وعن موقفها، مسألة اتجاه المسلمين أنفسهم إلى بيت المقدس، واتخذت من ذلك ذريعة إلى القول بأنها هي وحدها التي على الحق، وأن ملتها هي الملة المثلى التي تقتدي بها بقية الملل، وكانت تظن أن هذا الاختيار النبوي المؤقت إنما هو اختيار نهائي بالنسبة للقبلة الإسلامية، وأنها يمكن أن تستغله لبلبلة الأفكار زمنا طويلا.
إلا أن قوة الإسلام التي مضت تنمو مع الأيام في المدينة وما حولها، ودعوة الحنيفية السمحة التي أخذت توتي أكلها بين قادة الشرك في مكة، حيث عرفتهم وجه الحق في نشأة البيت الحرام، الوظيفة الأساسية التي أقامه من أجلها إبراهيم وإسماعيل،
والأولوية التي يتمتع بها هذا البيت بين كافة بيوت الله في الأرض، كل ذلك مهد الجو لإعادة الحق إلى نصابه، وانتصار العقيدة الإسلامية الإبراهيمية في طبيعة المسجد الحرام ورسالته الخالدة.
ولم يلبث الرسول عليه السلام أن تلقى الوحي من ربه على هذا النحو الرقيق الرفيق {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} . وتأتي الآية ثانية في نفس المقام: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} . وتأتي آية ثالثة تركز نفس الاتجاه، وتوضح في نفس الوقت وجه الحكمة الإلهية فيه:{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} . فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلمهم بما نزل من القرآن في شأن استقبال المسجد الحرام، وكانت أول صلاة صلاها إليه بهذه المناسبة التاريخية هي صلاة العصر كما ورد في الصحيحين من رواية البراء.
ولعل أحد السائلين يتساءل ما هو السر في ترادف هذه الآيات كلها على موضوع واحد هو الأمر باستقبال المسجد الحرام؟.
إن السر في ذلك على ما قاله ابن عباس ترجمان القرآن هو مجرد التأكيد، نظرا لأن الأمر يتعلق بأول نسخ وقع في الإسلام.
وأما السر في ذلك على ما وجهه فخر الدين الرازي فهو اختلاف الأحوال بالنسبة للمصلين عند الاستقبال.
فالأمر الأول: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} موجه لمن يشاهد الكعبة.
والأمر الثاني: {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} . موجه لمن هو في مكة، لكنه غائب عن الكعبة بحيث لا يشاهدها.
والأمر الثالث: {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} . موجه لمن هو في بقية البلدان والأقطار.
وقال القرطبي: الأمر الأول لمن هو بمكة، والثاني لمن هو في بقية الأمصار، والثالث لمن خرج في الأسفار.
أما صلاة من صلى إلى بيت المقدس وقضى نحبه، أو من صلى إلى القبلتين معا، فقد تعهد الحق سبحانه وتعالى بثوابها فقال:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} .
وأما رد الفعل الذي نشأ في صفوف اليهود والمنافقين عند إعلان الاختيار الإلهي والنهائي لاستقبال المسجد الحرام، فقد توقعته هذه الآية الكريمة قبل وقوعه إذ قالت:{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} .
ولقن الحق سبحانه وتعالى لرسوله الرد المفحم على سفههم قال: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} ، {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ} .
وتأكيدا لمعرفة بني إسرائيل بأولية المسجد الحرام وأولويته على بيت المقدس، وتأييدا لكون استقبال المسجد الحرام الذي هو بناء إبراهيم، ومقام إبراهيم، وقبلة إبراهيم، هو الموقف الطبيعي والمنطقي من طرف الرسول الذي بعثه الله لإحياء ملة إبراهيم، ومن طرف أمته التي تعتز بأبوة إبراهيم {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ}: تأكيدا وتأييدا لكل هذه المعاني جاءت الآيات الكريمة التالية: {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} - {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} .
وهكذا كان استقبال المسجد الحرام نعمة كبرى من نعم الله على المسلمين أبرزت شخصيتهم، ووحدت قلوبهم، كما قال تعالى في نفس السياق:{وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} .