الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الأخير من الحزب الثاني
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
حصة هذا اليوم تمس جوانب متعددة بالغة الأهمية، عميقة الأثر، في حياة الإسلام والمسلمين، مما أثارته الآيات البينات في هذا الربع، وهو الربع الأخير من الحزب الثاني في المصحف الكريم، وبدايته قوله تعالى:{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} ونهايته قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} .
ــ
ففي هذا الربع من سورة البقرة، يتولى القرآن الكريم الحديث عن أكبر وأضخم شخصية عرفها التاريخ في عالم النبوة قبل البعثة المحمدية، ألا وهي شخصية "أب الأنبياء وخليل الرحمن" كما أطلقت عليه الأجيال اللاحقة من مختلف الأديان.
ولا يقتصر الحديث هنا على شخصيته الفذة، ومكانته الفريدة، كأول رسول بعد نوح عليه السلام، ضرب الرقم القياسي في مكافحة الوثنية والوثنيين، حتى ألقى به قومه في أتون النار، فقال لها الله {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} ، بل يتناول ملة
إبراهيم فيشرح حقيقتها، ويعيد الحق في شأنها إلى نصابه، كما يتناول بالذكر مقام إبراهيم، والبيت الحرام الذي أسسه باسم الله، ولأجل عبادته وحده لا شريك له، فكان أول بيت وضع للناس.
وفي هذا السياق المنسجم المتناسق يكشف القرآن الكريم عن حقائق أساسية، دينية وتاريخية، هو أول من كشف عنها الستار، ولفت إليها الأنظار.
- الحقيقة الأولى: إن ملة إبراهيم، القائمة على توحيد الله، وإفراده بالألوهية والربوبية دون سواه، كانت ولا تزال وستظل دائما هي الملة الوحيدة التي بعث الله بها كافة الأنبياء والرسل، والعقيدة الجوهرية التي أوحى الله بها إلى الناس، وطالبهم بالإيمان بها في كتبه المنزلة، تعريفا للخلق بخالقهم بديع السموات والأرض {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} - {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ}
- الحقيقة الثانية: إن ملة إبراهيم هي وحدها الدين الخالد الذي توارثه الأنبياء والرسل، وتواصوا به خلفا عن سلف، وأبا عن جد، وعاشوا في سبيله دون تبديل ولا تغيير {وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} وفي مثل هذا المعنى نزل قوله تعالى في سورة الشورى: {شَرَعَ لَكُمْ
مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ}.
- الحقيقة الثالثة: إن إبراهيم الخليل الذي دعا الله أن يبعث في ذريته رسولا منهم فقال وهو يناجي ربه {رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} قد تقبل الله دعاءه، واستجاب له، فبعث ذلك الرسول، المرتقب منذ عهد طويل، وهو محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، وأنزل ذلك الكتاب، المنتظر منذ أمد بعيد وهو القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
- الحقيقة الرابعة: إن ملة إبراهيم في صفائها ونقائها وبعدها عن كل شائبة من شوائب الشك والانحراف، هي بنفسها ملة الإسلام التي جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} فهو الذي أرسله الله لإحيائها وتجديد معالمها بعد الاندثار، وهو الذي بعثه لبعثها بين الناس من جديد، تحقيقا لدعوة إبراهيم الخليل وابنه إسماعيل {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} .
- الحقيقة الخامسة: إن أول بيت أقيم على وجه الأرض باسم الله ولعبادته وحده، عبادة خالصة من كل شرك، طاهرة من كل دنس، هو مقام إبراهيم الذي أمر الله باتخاذه مصلى، فهو بيت الله
الحرام، وهو البيت العتيق، وهو البيت المقدس قبل بيت المقدس {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} - {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} وفي مثل هذا المقام نزل قوله تعالى في سورة آل عمران:{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا} .
- الحقيقة السادسة: إن اليهودية والنصرانية التي تنتمي كل واحدة منهما زورا وبهتانا إلى إبراهيم الخليل وملته الحنيفية، قد انقطعت علاقتهما مع ملة إبراهيم انقطاعا تاما منذ دخلهما التحريف والتأويل، والتغيير والتبديل، وإن وثنية الجاهلية التي يدين بها المشركون العرب هي نقيض الحنيفية السمحة، بحيث لا يمكن أن يلتقيا في أي خط من الخطوط، ومهما ادعت اليهودية أو النصرانية أو الوثنية من قرابة مع ملة إبراهيم، ومن اقتباس من عقائدها أو شعائرها، فإنما تدعي زورا وتقول بهتانا.
وعلى فرض أنها لم تزل تتناقل بعض العقائد أو بعض الشعائر عن ملة إبراهيم، فإن ذلك لا ينفي أنها قد غيرت حقيقة الملة الحنيفية، وشوهت معالمها، وأدخلت عليها من العناصر الغريبة والدخيلة ما جعلها مناقضة للأصل كل المناقضة، جوهرا ومظهرا {وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا
وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} - {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} . - {فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} .
هذه ست حقائق أساسية لفهم طبيعة الإسلام ومكانه بين الأديان، من جهة، ولإبراز أصالته وعراقته واتصال سنده وصحته، من جهة ثانية، ولتوجيه الأنظار إلى وجه الحكمة فيما سيؤول إليه الأمر عما قريب، من وقوع الاختيار الإلهي على البيت الحرام، وجعله دون سواه قبلة خالصة للمسلمين دون غيرهم من جهة ثالثة.
والآن نقف وقفة قصيرة أمام بعض الآيات البينات الواردة في هذا المقام.
فهذه آية تشير من قريب إلى أن الحق سبحانه وتعالى لا يرشح من بين عباده للمقامات العليا إلا من برهنوا على أهليتهم لها، بأداء التكاليف التي كلفهم بها على وجهها، وجوازهم لامتحان الابتلاء الإلهي بنجاح تام، وذلك قوله تعالى:{وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا} . أي قدوة يقتدي به الأنبياء فمن دونهم، ويناسبه قوله تعالى في مكان آخر:{إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً} ، {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} ، {وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} .
وهذه آية أخرى تشير إلى أن مجرد الانتساب إلى سلف صالح دون قيام المنتسب لهم بالعمل الصالح لا ينفع صاحبه في قليل ولا
كثير، إذ العبرة بالعمل قبل النسب، وذلك قوله تعالى حكاية عن إبراهيم الخليل {قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي}. فأجابه الحق سبحانه وتعالى:{قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ} . وفي هذا المعنى قوله تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} . {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ} . وقوله صلى الله عليه وسلم: (من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه).
وهذه آية ثالثة تسجل دعاء إبراهيم للبيت الحرام وما حوله بالأمن الدائم والرزق المستمر، فتمضي القرون تلو القرون منذ وقت دعائه إلى الآن، وإلى ما شاء الله من الأزمان، ودعوة إبراهيم التي استجابها الله بفضله وكرمه قائمة لا تتخلف، ومفعولها سار لا ينقطع، فظلال الأمن فيه وارفة، وثمرات الرزق وافرة، والطائفون والعاكفون والركع السجود لا يخلو منهم بيت الله لحظة من اللحظات، فقد جعله الله بفضله مثابة للناس وأمنا:
(مثابة) تشد إليه الرحال، ويأتيه الناس من كل فج عميق، ومن سعد بالحج إليه مرة حاول أن يعود إليه مرارا، لما يلازمه من شوق وحنين، وهوى في القلب دفين.
و (أمنا) يتناسى فيه الموتورون أحقادهم، والمغرضون أهواءهم، فلا يذكرون فيه إلا شيئا واحدا هو عبادة الله الواحد الأحد، ولا يهتمون فيه إلا بشيء واحد هو تعظيم حرمات الله، والوقوف فيها عندما حد الله، وذلك قوله تعالى:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} .
ومما يتصل بهذا الموضوع اتصالا وثيقا قوله تعالى حكاية عن إبراهيم الخليل في سورة إبراهيم، وهو مسك الختام لهذا الحديث:{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ} . - {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ} .