الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الثاني من الحزب الأول
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
حصة التلاوة في هذا اليوم تشمل الربع الثاني من أول حزب في المصحف الكريم، وبدايته قوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} ونهاية هذا الربع قوله تعالى: {وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ} .
ــ
الإشارة في مطلع هذه الآيات إلى الأمثال التي يضربها الله للناس في كتابه الحكيم، مثل قوله تعالى في وصف المنافقين في الربع الأول لهذا الحزب:{مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً} . وذلك زيادة في كشف المعنى، وتوضيح المراد، وإقامة الحجة {وَتِلكَ الأَمثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} .
وقد كانت الأمثال ولا تزال في جميع اللغات وعند جميع الأمم لها من التأثير في الإقناع ما جعل استعمالها شائعا ذائعا، ولاسيما عند العرب، فنزل القرآن بلسان عربي مبين، وجرى على مألوف استعمالهم في ضرب الأمثال، غير أن الأمثال القرآنية تختلف عن الأمثال الأخرى التي عرفها العرب والعجم، بروعتها وإعجازها، وكونها على غير نمط
سابق، ومن هنا كان وقعها مختلفا باختلاف من يسمعها، فالمؤمن الذي خالطت قلبه بشاشة الإيمان يدرك مغزاها، ويزداد بواسطتها بصيرة ونورا، والكافر الذي أطبقت عليه ظلمة الكفر يقابلها بالتجاهل والتساؤل، والتساؤل الذي لا يقصد من ورائه الرغبة في المعرفة، وإنما تساؤل المنكر الممعن في الإنكار والاستهزاء، {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} .
ورغما عن أن " البعوضة " في الظاهر عند الناس تعتبر كائنا حقيرا تافها قد يستغرب ضرب المثل بمثله، فإن الآية أشارت إلى أن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا به، مادام الغرض من ضرب الأمثال هو مزيد الكشف والإيضاح للسامعين، ولذلك ضرب الله المثل بالنمل والعنكبوت في آيات أخرى.
على أن العصور التالية منذ نزول القرآن حتى الآن، قد أثبتت ما لهذا الكائن الحقير الصغير (البعوضة) من خطورة وقوة وتأثير في الفتك والتخريب والتدمير، فقد أثبتت الدراسات الطبية أن فعل هذا الكائن بالإنسان، يفوق فعل الطاعون والطوفان، ولذلك جندت الدول لحربه ومقاومته كل ما في الإمكان، واتضح الآن لذوي الفكر المستنير حكمة ذكره في القرآن.
ثم لابد أن نقف وقفة ولو قصيرة عند قوله: {يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ} .
ذلك أن كثيرا من الناس عندما تسبق إلى نفوسهم فكرة من الأفكار يتعصبون لها، ويجمدون عليها، ويعتقدونها اعتقادا أعمى، فإذا
ألقي إليهم بفكرة جديدة قالوا (قلوبنا غلف). كما أن كثيرا من الناس عندما يتورطون في نوع مرذول من أنواع السلوك، ويألفون جوه العفن، يصبحون أكثر الناس حذرا ومخافة من كل فكرة صالحة تلقي الأضواء على ما هم عليه من انحراف وشذوذ، باعتبار أن الفكرة الجديدة قد تكشف معايبهم، وتفضح أسرارهم، وتخرجهم عن مألوفاتهم التي أصبحوا أسراء لها، وتجعلهم حقراء مرذولين أمام أنفسهم أولا، وأمام الناس أخيرا، وهكذا يكتفي الفاسقون بإقفال أسماعهم عن سماع أية فكرة صالحة، بل يتصدون لها بالمقاومة والمحاربة سرا وعلنا، وبذلك يزدادون فسقا على فسق، وانحرافا فوق انحراف، وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة {ومَا يُضِلُّ بهِ إلا الفَاسِقينَ} فقد أثبتت لهم هذه الآية صفة الفسوق أولا وسابقا، وبتأثير هذه الصفة الملازمة لهم والمسيطرة عليهم زادوا عتوا وضلالا، إذ الجريمة تدفع إلى أختها، والسيئة تعين على مثلها، على حد قوله تعالى:{فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} وذلك بعكس (المتقين) الذين لازمتهم صفة التقوى، فانفعالهم من تلقاء أنفسهم يكون مزيدا من الهداية، ومزيدا من الرشد.
ومن هنا انتقلت الآيات الكريمة إلى تحليل أوصاف (الفاسقين) بعدما حللت آيات أخرى سابقة في مطلع هذه السورة أوصاف المتقين {فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} .
وتتلخص أوصاف (الفاسقين) كما حددتها الآيات في ثلاثة أشياء: (1) الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه، (2) ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل، (3) ويفسدون في الأرض.
أما نقض الفاسقين لعهد الله فيتجلى في جحودهم له بعدما اعترفوا بألوهيته وربوبيته وشهدوا بذلك على أنفسهم وهم في أصلاب آبائهم وأرحام أمهاتهم كما قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا} .
ويتجلى نقضهم لعهد الله في عصيانهم لرسله بعدما التزموا بطاعتهم، وفي كفرهم بكتبه وهجرهم لها بعد ما تعهدوا بإتباعها {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} . ومن كان له من الجرأة ما ينقض به عهد الله ويتحدى إرادته كان حريا بأن لا يكون له عهد، بل أن ينقض عهوده مع الناس جميعا.
وأما قطع الفاسقين لما أمر الله به أن يوصل فيتجلى في قطعهم صلة الأرحام المشتركة، وفي قطعهم صلة العقائد المشتركة، وفي قطعهم صلة الروابط المشتركة، فهم أنانيون مغرقون في الأنانية لا يعرفون الرحمة ولا الإحسان، ولا يهمهم من العيش إلا أنفسهم، وشعارهم المميز:" أنا وبعدي الطوفان " ومن بلغت به الأنانية إلى هذا الحد لا يرجى منه خير، ولا ينتظر منه نفع، لا للقريب ولا للبعيد.
وأما فساد الفاسقين وإفسادهم في الأرض، فيتجلى في سعيهم إلى تحطيم جميع المقدسات، وفي استهانتهم الظاهرة والباطنة بجميع القيم، وفي اعتدائهم المتوالي على حقوق الأفراد والجماعات، وفي إجبارهم للغير على الرضى بالفساد والعيش في ظله، ويتجلى بالأخص في محاربتهم لأوامر الله وانتهاكهم لحرماتهن والعمل بالخصوص على إقصاء تعاليمه وطردها من جميع مجالات العيش ومواكب الحياة.
وهذه الصفات الثلاث التي وصف الله بها "الفاسقين" من خيانة للعهد، وقسوة القلب، وإفساد في الأرض، كانت ولا تزال هي شعار "الفاسقين" لا تتخلف واحدة منها عن الأخرى في أي عصر ولا في أي جيل.
وفي الآيات التالية من هذه الحصة عرض رائع لقصة آدم وترشيحه للخلافة عن الله في هذه الأرض {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} . - {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا} .
وفي هذه القصة إشارة أولى إلى بيان فضل آدم على الملائكة، وأن هذا الفضل يتجلى في امتنان الله عليه بعلم ما لا يعلمونه، ومعرفة ما لا يعرفونه، {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} - {قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} .
وفيها إشارة ثانية إلى الفرق الجوهري القائم بين الملك والإنسان، فالملائكة {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} والإنسان خلقه الله حرا مختارا بحيث يطيع ويعصي، ويتمثل ويتمرد {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} - {فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} ولكن رحمة الله تنتظره في كل وقت بالتوبة المقبولة، والمغفرة المهداة، لقاء تحقيقه لمراد الله، وتنفيذه لأمره على سطح هذه الأرض، والقيام بعمارتها وإصلاحها وعبادة الله فيها {فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} .
وفي هذه القصة إشارة ثالثة إلى أن عصيان الإنسان لربه ليس نابعا من ذاته، وإنما هو بتأثير عامل خارجي عنه، قد يستبد به ويهيمن عليه، ألا وهو (الشيطان) الذي يوحي إليه بالعصيان
{فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا} ولو لم يكن هناك شيطان، ولا إيحاء منه بالعصيان، لاختار الإنسان طريق الخير الذي هو مجبول عليه ومندفع إليه دائما.
وفيها إشارة رابعة إلى أن عداوة الشيطان للإنسان عداوة دائمة {وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} . وفي هذه الإشارة تنبيه قوي للإنسان، حتى يكون دائما على حذر من الشيطان، فلا يثق بتغريره وإغرائه، ولا يمكنه من الأخذ بتلابيبه.
وأخيرا فيها إشارة خامسة إلى العهد الإلهي المتبادل بين الإنسان وربه، ألا وهو عهد إرسال الرسل وإنزال الكتب لهداية الإنسان، رحمة به وأخذا بيده، وعهد إتباع الرسل وإنزال الرسل وتطبيق الشرائع في حياة الإنسان طاعة وامتثالا {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} .
فإتباع الهدى الإلهي هو الحصن الحصين للإنسان، من الوقوع في شبكة الشيطان، وهو الطريق الوحيد للحصول على السعادة والفلاح، بدلا من الشقاء والخسران {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ} .