الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الثاني من الحزب الثاني
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
حصة هذا اليوم، تحوي على الربع الثاني من الحزب الثاني في المصحف الكريم، وبدايته قوله تعالى:{وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} ونهايته قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} .
ــ
في هذا الربع من القرآن الكريم، تشير الآيات الكريمة من جديد إشارة موجزة إلى أكبر كبيرة ارتكبها بنو إسرائيل، ورسولهم موسى الكليم لا يزال على قيد الحياة، ألا وهي اختيارهم عن قصد وهوى في النفس لعبادة العجل، وإقبالهم على هذا النوع من العبادة الوثنية البدائية التي ما أنزل الله بها من سلطان، بمجرد غيبة رسولهم موسى عليه السلام عنهم فترة قصيرة من الزمان.
وفيها كذلك لفت الأنظار مرة أخرى إلى الميثاق الذي أخذه الله عليهم عند جبل الطور، وهو أحد المواثيق الإلهية العديدة التي أخذها عليهم فنقضوها جميعا، ولم يوفوا ولو بواحد منها {قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ} .
ثم تنتقل الآيات الكريمة إلى استعراض الشبه والمزاعم التي أصبحوا يلوكونها بألسنتهم، ويرددونها بين المسلمين حتى يشككوهم في دينهم، وبين المشركين حتى لا يدخلوا في هذا الدين.
وتتلخص هذه الشبه والمزاعم التي تتولى الآيات الكريمة في هذا الربع تفنيدها وإبطالها في أن الدار الآخرة-ويقصدون الجنة-ستكون خالصة لبني إسرائيل من دون الناس جميعا، وإذن فلن يكون فيها نصيب للمسلمين الذين أسلموا ولا للمشركين إذا أسلموا، وفي أن جبريل الملك الذي ينزل بالوحي على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هو عدو لبني إسرائيل، إذ هو في زعمهم لا يتنزل إلا بالشر والقحط والجدب، ولهذا السبب فهم يرفضون الوحي الذي ينزل بواسطته على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الوحي لو نزل بواسطة ميكائيل، ملك الرخاء والمطر والخصب، وصديق بني إسرائيل في زعمهم، لقبلوه وصدقوا به.
وهكذا تصدع آيات القرآن بالرد عليهم وإفحامهم بالحجة البالغة {قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا} - {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ} - {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} .
ثم تقرر الآيات الكريمة أن من عادى أحد الملائكة-وهو جبريل في هذا السياق-فقد عادى الملائكة جميعا ومن بينهم نفس ميكائيل، لأن الإيمان بالملائكة كل لا يتجزأ، كما أن من عادى أحد
الرسل-وهو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في هذا السياق-فقد عادى الرسل جميعا، وفي طليعتهم نفس موسى عليه السلام، لأن الإيمان بالرسل وحدة لا تنفصم {كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} .
وهكذا يؤكد القرآن الكريم بصورة قاطعة أن جبريل وميكائيل ينتميان إلى فصيلة واحدة لا فرق في خصائصها ولا في مزاياها، ولذلك يعتبر عدو أحدهما عدوا للثاني، أي عدوا لهما معا َ {مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ} .
وتعيد الآيات الكريمة إلى الأذهان معنى جوهريا وأساسيا سابقا، ألا وهو أن (فسق الفاسق) هو الذي يحجب قلبه عن الإيمان، وعقله عن الهداية، ويحدث فيه مضاعفات الشر والكفر ما لا سبيل له إلى قلوب المتقين {وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ} .
وفي نفس هذا السياق تلقي الآيات البينات بعض الأضواء الخاصة على خصلة من خصال بني إسرائيل ومن سار في طريقهم، ألا وهي خصلة الالتواء والتذبذب، والروح الانتهازية الصرفة، وهكذا إذا أعطت جماعتهم للمسلمين عهدا لم تلتزمه كلها وفي مجموعها التزاما تاما، بل إن فريقا منها ينبذه في الحين وينتمي في السر إلى الجانب المعارض، بينما يحافظ الفريق الآخر على العهد ظاهرا، فيبقى مع الجانب الذي عاهده، وذلك ليضمنوا مصالحهم
مع كلا الجانبين، الجانب المتغلب اليوم، والجانب الذي يمكن أن يتغلب غدا، وهذا ما تشير إلى فحواه الآية الكريمة {أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ} .
وينتقل الحديث بعد ذلك إلى وصف ما اشتهر به بنو إسرائيل بين الأمم من إقبال على السحر وتهالك عليه، واستغلال لبسطاء العقول بواسطته، ولا سيما بين مشركي العرب الأميين.
ويشير القرآن الكريم إلى أن بني إسرائيل كانوا يذيعون بين الناس أن السحر إنما هو تراث أخذوه عن سليمان عليه السلام، كما كانوا ينسبونه إلى الملكين هاروت وماروت، وقصدهم من ذلك أن يجعلوا للسحر سندا صحيحا مرفوعا إلى الأنبياء ومقام الملائكة جميعا.
وهكذا ينفي القرآن الكريم تهمة السحر عن سليمان، كما ينفيها عن الملكين هاروت وماروت، وبذلك يهدم الأساس المزور الذي يبني عليه بنو إسرائيل سحرهم، ويثبت القرآن الكريم في نفس الوقت أن السحر إنما هو في الحقيقة من صنع الشياطين ووحيهم، وأن سند بني إسرائيل من السحر إنما مرده إلى الشياطين وحدهم أولا وأخيرا {وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ} . أي ما تكذب به الشياطين عليه، وتنسبه إليه {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} .
وواضح أن كلمة (الشياطين) كما تطلق على شياطين الجن
تطلق على شياطين الإنس، على حد قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} . وفي آية أخرى يقول الحق سبحانه وتعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ * تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ} .
ومن هذه الآيات الكريمة تتضح للمسلمين أمور ثلاثة:
1 -
الأمر الأول: أن تعلم السحر لاستعماله يضر ولا ينفع {وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ} .
2 -
الأمر الثاني: أن عمل السحر واستعماله كفر أو يؤدي إلى الكفر {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا} - {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " من أتى عرافا أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمد ".
3 -
الأمر الثالث: أن الضرر الذي يراد إلحاقه بالمسحور عن طريق السحر لا يتحقق إلا إذا كان أمره قدرا مقدورا {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} .
وفي ختام هذا الربع توضح الآية الكريمة النية السيئة التي يبيتها الكافرون من أهل الكتاب والمشركين للمسلمين، وتشير إلى أنهم يريدون صرفهم عن الدعوة الإسلامية بجميع الوسائل، وشغلهم عنها بالخرافات والأوهام والأماني، وبتعلم السحر وما شابهه مما لا خير فيه ولا نفع من ورائه، حتى لا يستنيروا بكتاب الله الذي فيه الهدى والنور، والعلم والحكمة، فيفتحوا أعينهم على آفاق
الكون الواسعة ورحابه الشاسعة، ويقيموا في الأرض دولة العلم والعدل والتقوى {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ} . وسيأتي في الربع القادم آية أخرى لها صلة وثيقة بهذا المعنى، وهي قوله تعالى:{وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} لكن الله خيب سعيهم، وصدق المؤمنين الصادقين وعده، فقال تعالى:{وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} .