الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الأول من الحزب العاشر
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
تتناول حصة هذا اليوم الربع الأول من الحزب العاشر في المصحف الكريم، وبدايته قوله تعالى:{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا} ونهايته قوله تعالى: {فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا}
ــ
يتوالى الحديث في هذا الربع عن الجهاد في سبيل الله، وعن بيان الظروف التي يسوغ فيها أولا يسوغ.
فمن ذلك أن طائفة كانت قد أظهرت الإسلام بمكة قبل الهجرة، فلما جاء وقت الهجرة وهاجر الرسول ومن معه بقيت هذه الطائفة مستقرة بمكة مع المشركين، دون أن تلحق بالنبي المهاجر، وذات يوم خرجت تطلب حاجة لها خارج مكة على أن تعود إليها ولا تهاجر، مطمئنة إلى أن أصحاب محمد إن لقوها فليس عليها منهم بأس، على حد تعبيرها الخاص، فبلغ خبر خروجها إلى المؤمنين من المهاجرين والأنصار، وانقسم الرأي العام بالمدينة في شأن هذه الطائفة، فمن قائل: يجب التعرض لهؤلاء الجبناء وقتلهم،
بحجة أنهم يظاهرون العدو، ومن قائل: أتقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به، وتستحلون دماءهم وأموالهم من أجل أنهم لم يهاجروا ولم يتركوا ديارهم؟ وافترق المسلمون في الرأي إلى فئتين، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينهى أي فريق من الفريقين عن رأيه، حتى نزلت آيات كريمة لفض هذا الخلاف في الرأي، وأكدت هذه الآيات رأي الفريق الذي نادى بقتالهم، إن لم يفارقوا مكة نهائيا، ويلحقوا برسول الله مهاجرين معه، وبينت أن " الفرقان " بين نفاق هذه الطائفة وإيمانها هو الإقدام على الهجرة في سبيل الله دون تردد، والتضحية من أجلها بالنفس والنفيس، وإلا حقت على هذه الطائفة كلمة العذاب، واعتبرها المسلمون ملحقة بالمشركين، يعمها ما يعمهم من الأسر والسبي والقتال، وذلك قوله تعالى في شأن هذه الطائفة، وموقف المؤمنين منها ووجه الحق في مصيرها مخاطبا للمؤمنين {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا * وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} ، أي ما لكم تفرقتم فرقتين في شأن قوم نافقوا نفاقا ظاهرا ولم تبتوا القول بكفرهم.
ومن ذلك أن طائفة أخرى بمكة كان لها نوع ارتباط وتحالف بمن لهم مع المسلمين حلف وميثاق، فهذه الطائفة ألزم كتاب الله بعدم المساس بها، رعاية واحتراما للميثاق الذي بين المسلمين وبين الطرف المعاهد الذي لها به علاقة وارتباط، وهذا معنى قوله تعالى:
{إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} . أي فاجعلوا حكمهم كحكمهم.
ومن ذلك أن طائفة ثالثة التزمت الحياد بالنسبة للمسلمين وبالنسبة للمشركين، فلا هي تقاتل المسلمين إلى جانب أهل الشرك، ولا هي تشارك المسلمين في قتالهم للمشركين، فهذه الطائفة إن حافظت على حيادها وبقيت ملتزمة للسلم تجاه المسلمين لم ينالوها بسوء، وهذا هو معنى قوله تعالى:{أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ} . أي لم تسمح له ضمائرهم {أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ} . أي لم يتعرضوا لكم {فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} .
ومن ذلك أن طائفة رابعة تتظاهر بالحياد إزاء المؤمنين وإزاء الكافرين، لكن لا بوازع قلبي سليم وإنما بدافع مصلحتها الخاصة، حيث إنها ترى من فائدتها أن تلعب على حبلين، حتى تضمن مصالحها لدى كل من الطرفين، فهي في الباطن من الفتنة وإليها، وهي في جانب الشرك وأهله، وإن كانت في الظاهر تقف موقف الحياد، وتتظاهر بالإسلام أمام أهله، وهذه الطائفة أباح الله للمسلمين دماءها وأموالها إذا تعرضت للمسلمين ولم تعتزلهم وتسالمهم ظاهرا وباطنا، وجعل الله للمسلمين عليها حق القتال بكافة توابعه ونتائجه، وهذا معنى قوله تعالى مخاطبا المؤمنين: {سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ
أُرْكِسُوا فِيهَا}. أي انهمكوا في تدبيرها {فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ} . بل تعرضوا لكم {فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} . أي حيث تمكنتم منهم {وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا} .
ثم وجه كتاب الله خطابه إلى المؤمنين يدعوهم إلى مزيد التثبت ومنتهى التحري قبل الحكم على أي شخص أو أية طائفة بالكفر، وقبل معاملتهم لأي واحد منهما على ذلك الأساس، ونبههم إلى أنهم إذا كانوا يجوبون الأرض في سبيل الله وعثروا على من يعلن أنه مسالم لا محارب، ويدعي أنه مؤمن، لا كافر ولا منافق، فإنهم لا يسوغ لهم أن يبادروا إلى قتله لمجرد سوء الظن به وعدم معرفته، بل يجب عليهم التثبت من أمره، والاطلاع على حقيقته، والحكم بعد ذلك له أو عليه، وأكد كتاب الله أكثر من مرة في نفس السياق ضرورة التحري من جانبهم في شأنه، حتى لا يحمل عملهم على مجرد الطمع في الاستيلاء على ماله بعد قتله.
وذكرت الآية الكريمة المؤمنين الذين هاجروا مع الرسول صلى الله عليه وسلم أن منهم من كان مؤمنا وكان يخفي إيمانه، حتى من الله عليهم وأذن لهم بإعلان إيمانهم أمام الملأ، وأنه يبعد أن يكون هذا الذي سقط بين أيديهم الآن وأعلن إيمانه هو أيضا في نفس الوضع الذي كانوا عليه من قبل، وهذا معنى قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ
كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}.
وأخيرا استعرض كتاب الله حال طائفة أخرى آثرت البقاء بمكة تحت سلطان الشرك والوثنية، لا لأن أفرادها من المستضعفين الذين أقعدهم العجز والضعف عن الهجرة إلى المدينة، ولكن لأن هواهم من هوى المشركين، ومصالحهم تقضي عليهم بمجاملة الشرك وأهله، والرضى بالبقاء تحت أمره ونهيه، والوقوف بجانبه عند الحاجة، ويعتبر كتاب الله أفراد الطائفة (ظالمي أنفسهم) لا مظلومين ولا مستضعفين.
ويصف القرآن الكريم حوارا يدور بينهم بعد موتهم وبين الملائكة، يتبين من خلاله ما تعودوا عليه من كذب ونفاق وميل إلى التضليل، وينتهي هذا الحوار بكشف الستار عنهم، وبسقوط ادعائهم الباطل، وبعقابهم من الله عقابا شديدا.
ثم يستثني كتاب الله من هذه الطائفة الظالمة المؤمنين المظلومين والمستضعفين حقا، وهم أولئك الذين لم يجدوا حيلة للخروج من مكة، ولا قدرة على الهجرة إلى المدينة، من الرجال العاجزين، والنساء الضعيفات، والولدان الصغار، ويفتح كتاب الله في وجه هؤلاء المستضعفين باب الأمل والرجاء في عفوه ومغفرته، جزاء ثقتهم بالله، وتعلقهم به، وهجرتهم بقلوبهم إلى الله ورسوله. ونقل عن ابن عباس أنه قال:(كنت أنا وأمي ممن عذر الله عز وجل، من المستضعفين، من النساء والولدان).