الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الأول من الحزب التاسع
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
حصة هذا اليوم تستغرق الربع الأول من الحزب التاسع في المصحف الكريم، ويبتدىء هذا الربع بقوله تعالى:{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} وينتهي بقوله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا} .
ــ
أول ما نلاحظه عند النظر في هذا الربع أن بدايته مرتبطة كل الارتباط بما قبله بواسطة واو العطف، فهي تتمة لموضوع تناولته الآيات الأخيرة في الربع الماضي، ابتداء من قوله تعالى:{وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا * حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} إلى آخر الآية.
والحديث هنا عما حرمه الله على الرجال، ومنع زواجهم به من النساء، وهذا التحريم إما بسبب النسب، وإما بسبب المصاهرة، وإما بسبب الرضاع الذي يترتب عليه ما يترتب على النسب.
وبناء على حكم الله في هذه المسألة يحرم على الرجل أن يتزوج بأمه، وبأم زوجته، وبزوجة أبيه، وابنته، وبأخته، وبعمته، وبخالته، وببنت أخيه، وببنت أخته، وبزوجة ابنه.
وتحرم عليه المرأة المتزوجة بغيره، ويحرم عليه الجمع بين الأختين ومثله الجمع بين المرأة وعمتها، والجمع بين المرأة وخالتها.
كما يحرم عليه من الرضاع مثل ما حرم عليه من النسب، حيث إن المرضعة تنزل منزلة الأم، فتحرم على من أرضعته هي وكل من يحرم على الابن من قبل أم النسب، وإنما اكتفت الآية بالإشارة إلى صورتين من هذا الصنف، وهما الأم من الرضاعة، والأخت من الرضاعة، لأن ذكر الأم التي هي أصل، والأخت التي هي فرع تنبيه على الباقي، ويشمل ذلك البنت من الرضاع، والعمة من الرضاع، والخالة من الرضاع، وأم الزوجة من الرضاع، وبنت الزوجة من الرضاع، والجمع بين المرأة وأختها من الرضاع، أو عمتها وخالتها من الرضاع، وذلك معنى قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا * حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ
أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا}.
وقال صلى الله عليه وسلم: (يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب)، وقال عليه الصلاة والسلام:(لا يجمع بين المرأة وعمتها ولا بين المرأة وخالتها) وكلاهما من أحاديث الصحاح. ولتوضيح ما يدور عليه الحكم في الرضاع قال القاضي أبو بكر (ابن العربي): " إن كل شخصين التقما ثديا واحدا في زمان واحد أو في زمانين فهما أخوان، والأصول منهما والفروع بمنزلة أصول الأنساب وفروعها في التحريم ".
ولا شك أن لله حكما كبرى في تحريم زواج الرجال من النساء اللاتي تتناولهن هذه الآيات الكريمة، من ذلك أن الزواج بين الأقارب يضعف ذريتهم كلما امتد الزمن، بينما تلقيح العائلة بدم جديد يجدد حيويتها، ويقوي استعداداتها، وهذا المعنى وارد في الحديث النبوي الشريف.
ومن ذلك أن الزواج بمن يجب توقيرهن واحترامهن كالأم والعمة والخالة، أو من تجب رعايتهن والعطف عليهن، كالبنت والأخت، وبنات الأخ والأخت، قد يؤدي إلى معاملتهن معاملة غير مرضية، عندما تطرأ بعض الهزات والخلافات على الحياة الزوجية، وينشأ عن ذلك شقاق في العائلة لا يمحى طول العمر. وقس على ذلك الشعور الغريب الذي يشعر به الأب إذا عرف أن ابنه قد يخلفه في زوجته، أو الابن إذا عرف أن أباه قد سبقه إليها.
ولنتصور كيف يكون شعور الأم إذا زاحمتها بنتها في زوجها، وشعور البنت إذا زاحمتها أمها، وشعور الأخت إذا زاحمتها أختها، فأية أمومة وأية أخوة تبقى وقتئذ بينهن وهن يتصارعن على امتلاك قلب واحد، ويتزاحمن على الاستقلال بفراش واحد.
يضاف إلى ذلك ما نبه إليه شيخ الكتاب المعاصرين الأستاذ عباس محمود العقاد في كتابه (حقائق الإسلام وأباطيل خصومه) أثناء كلامه على الأسرة الإسلامية إذ قال: " والمقاصد من هذا التحريم منوعة لا نحصيها في هذا المقام، أجلها وأجداها توسعة الأسرة ووقايتها من شواجر الخصومة والبغضاء، وأن يتحقق بالزواج من أسباب المودة والنسب ما لم بتحقق بالقرابة " ثم نبه إلى الأهمية الخاصة التي جعلها الله للنسب والمصاهرة، حيث اعتبرهما القرآن الكريم من آيات خلق الإنسان، كما جاء في سورة الفرقان:{وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا} .
والآن نعود إلى بعض الفقرات في هذه الآيات الكريمة لمزيد البيان والتوضيح.
فقوله تعالى بعد تحريم التزوج بزوجات الآباء {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} هو خبر عن عفو الله سبحانه وتعالى، وعدم مؤاخذته بما مضى في الجاهلية من هذا العمل القبيح، إذ كان بعض الأعراب تغلب عليه الحمية لأبيه، فيكره أن يحل أجنبي محل والده، ويخلفه ولده في فراشه.
وقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} الربائب واحدتها ربيبة، وهي بنت امرأة الرجل من غيره، من قولك ربها يربها إذا تولى أمرها، وهي محرمة على الرجل سواء كانت في حجره كما تشير إليه الآية، أو كانت في حجر حاضنتها غير أمها، لأن كونها في حجر الرجل ليس شرطا في الحكم بتحريمها، وإنما خرج هذا الخطاب مخرج الغالب فلا مفهوم له.
ونقل عن علي بن أبي طالب القول بإباحة تزوج الرجل بربيبته إذا لم تكن في حجره، اعتمادا على ظاهر الآية، وإليه ذهب داود الظاهري وابن حزم، وذكر الحافظ الذهبي أنه عرض ما روي عن علي بن أبي طالب في هذا الموضوع على الشيخ تقي الدين ابن تيمية فاستشكله وتوقف في أمره، كما حكى ذلك ابن كثير في تفسيره.
وقوله تعالى: {وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} الحلائل واحدتها حليلة، بمعنى محللة، والأبناء ثلاثة أنواع: ابن النسب، وابن الرضاع، وابن التبني، فأما ابن النسب وابن الرضاع فحكمهما معلوم، وأما ابن التبني فكان أمره معروفا في الجاهلية وصدر الإسلام، وكان ينسب إلى الرجل الذي تبناه لا إلى أبيه الحقيقي، فلما نزل قوله تعالى:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} انتهى العمل بذلك، وتفاديا من دخول ابن التبني تحت كلمة (أَبْنَائِكُمُ) في هذا المقام جاء بعد هذه الكلمة قوله تعالى:{الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ} وذلك ليسقط ولد التبني فلا تندرج زوجته تحت حكم التحريم في هذه الآية، ويكون الزواج بزوجته بعد فراقه لها
مباحا، وهذا النوع الأخير من الأبناء عن طريق التبني هو الذي يطلق عليه لفظ (أدعياء) كما في قوله تعالى:{لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} .
وقوله تعالى بعد تحريم الجمع بين الأختين {إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} معناه أن الجمع بين الأختين الذي كان شرعا لمن قبلنا لم يقره الإسلام بل أبطله وألغاه.
وقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} معناه النساء إذا كن في عصمة الأزواج، وقوله تعالى:{إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي هن محرمات إلا ما ملكت اليمين بالسبي في دار الحرب أثناء الجهاد فإنه يحل الزواج بهن بعد الاستبراء.
وقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} معناه أن ما عدا الأصناف المحدودة التي نص كتاب الله على تحريمها في هذا السياق، أو في غيره كتحريم المرأة المشركة، يكون حلالا للزواج، اللهم إلا إذا اعترض عارض، أو حدث مانع استوجب الحرمة في نظر الشرع، مثل المرأة الخامسة الزائدة على أربع، ومثل المطلقة ثلاثا، ومثل المرأة الحامل والمرأة المعتدة، قبل وضع الحمل وإتمام العدة، وكذلك اليتيمة الصغيرة في مذهب الإمام مالك والإمام الشافعي.
وقوله تعالى: {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} معناه أن هذا التحريم القاطع في شأن الأصناف المحرمة من النساء التي نص عليها القرآن الكريم أمر صادر من الحق سبحانه وتعالى لا يسوغ تبديله ولا تغييره، بل يجب التزام العمل به دائما، فما حرم الزواج به فهو
حرام، وما أحل الزواج به فهو حلال بين المسلمين إلى يوم الدين.
وفي هذا الربع آيات كريمة أخرى من المناسب أن نقف عندها وقفة خاصة، إذ لها علاقة وثيقة بما حدده الله من الحلال والحرام في موضوع الزواج الذي هو أساس تكوين الأسرة وكل ما يتفرع عنها، وما هو حرام في هذا الموضوع الخطير، إرشادا للمؤمنين من عباده وهداية لهم إلى أحسن الطرق وأفضل النظم، حتى يقفوا عند حدودها ولا يتجاوزوها.
كما أنه مهد طريق التوبة وفتح باب العفو في وجه أولئك الذين عرفوا انحراف الجاهلية وفوضاها الاجتماعية والخلقية، فلم يؤاخذهم على ما سلف قبل نزول القرآن الكريم.
وفيها علاوة على ذلك تنبيه إلى أن عبيد الشهوات وأسراء اللذات سوف لا يرتاحون لهذا النظام الإلهي الأخلاقي وأحكامه الطاهرة، لأنه يقف في وجوههم، ويسد أمامهم طريق الفوضى والتلاعب بالأعراض، بل إنهم سيحاولون إغواء بقية المسلمين وإغراءهم على تعدي الحدود التي رسمها الحق سبحانه وتعالى، وسيدعونهم إلى نبذ أحكامه وتعاليمه ظهريا.
وأخيرا في هذه الآيات امتنان من الله على عباده بأنه يريد أن يخفف عنهم، ولذلك أحل لهم ما فيه الخير والنفع، مما يفتح في وجوههم أبواب الفضائل، وحرم عليهم ما فيه الشر والأذى، ليقفل من خلفهم أبواب الرذائل.
ثم سجل كتاب الله في نهاية هذا الموضوع حقيقة لا ينازع فيها إنسان، ألا وهي أن الإنسان مخلوق ضعيف أمام نداء الشهوة وإغراء الشيطان.
وإذن فلا بد لتوجيهه وإنقاذه وحمايته من الأخذ بيده وحضه على الإيمان بالله، وأمره بالتزام شريعته.
وهذه المعاني هي التي يشير إليها في إيجاز وإعجاز قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} .
ومسك الختام في هذا الربع هو التنبيه بالأخص على قوله تعالى ضمن هذه الآيات {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} فهذا الوصف - وصف العلم والحكمة - الذي جاء به التعقيب الإلهي هو مفتاح الفهم الصحيح، والإيمان الصادق، والطاعة الكاملة للتعاليم الإلهية في شأن الأسرة المسلمة، إذ لا علم أصح ولا أكمل من علم الله الشامل، ولا حكمة أوثق ولا أوفق من حكمته الكاملة، ولله الحجة البالغة.