الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الثالث من الحزب الرابع
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
حصة هذا اليوم، تتناول الربع الثالث من الحزب الرابع في المصحف الكريم، وهذا الربع يبتدىء من قوله تعالى:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} وينتهي بقوله تعالى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ * كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} .
ــ
وقد تناولت الآيات الكريمة في هذا الربع بجانب أحكام الرضاعة، عدة الوفاة، والتعريض بخطبة النساء أثناءها، فقال تعالى:{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} . إلى آخر ما نزل في هذا الموضوع، وتناولت الطلاق قبل التمكن من الدخول، والصداق المحدود حين العقد والمحدود بعده، فقال تعالى:{لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} . إلى آخر ما نزل في نفس الموضوع، وتناولت وجوب المحافظة على الصلوات في حالتي الأمن والخوف، فقال تعالى:{حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ} . إلى آخر الآيات، وتناولت كذلك المتعة التي
يقدمها الزوج لزوجته عند الفراق، فقال تعالى:{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} .
والآن فلنستعرض الآيات الأولى من هذا الربع المتعلقة بموضوع إرضاع الوالدات لأولادهن، ثم لنلق نظرة خاصة على كل واحدة منها، تحليلا وتوضيحا لهذا الموضوع، الذي حكم الله فيه من فوق سبع سموات، لأهميته وخطورته، قال تعالى:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} .
ومن هذه الآيات التي اشتمل عليها الدستور القرآني الكريم يتجلى مبلغ عناية الإسلام بتكوين نسل إسلامي صحيح سليم، ويتضح ما للطفل الوليد على ضعفه وضآلته من مكانة مرموقة وحرمة خاصة عند خالقه ورازقه، فهو سبحانه لم يترك أمره موكولا إلى شهوة الأب والأم، يفعل به كل منهما ما يشاء، بل تدخل الحق سبحانه وتعالى لتقرير حقوق الطفل على والديه، وطالبهما بصيانة هذه الحقوق وضمانها على الوجه الأكمل، منذ اللحظة الأولى التي يفارق فيها بطن أمه ويرى النور.
وطبقا لمقتضى هذه الآيات تتكفل الأم نفسها بإرضاع
وليدها، أداء لرسالة الأمومة على وجهها الكامل، دون كبر ولا بخل ولا أنانية، مادامت صحيحة سليمة، وتمتد مدة الرضاعة من ثدييها عامين كاملين، وذلك تمكينا للوليد من تغذيته تغذية طبيعية نظيفة، وحماية له من الجراثيم والعناصر الغريبة من جهة، ومن المواد الغذائية التي لا يقوى جهازه الضعيف على هضمها، من جهة أخرى، حتى يمر الوليد بمرحلة نموه الأولى-وهي أخطر المراحل- في سلامة وأمان، وراحة واطمئنان، فهذه هي الرضاعة التامة التي ينصح بها كتاب الله، إذ يقول:{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} . قال الإمام مالك: كل أم يلزمها رضاع ولدها بما أخبر الله تعالى من حكم الشريعة فيها.
لكن إذا كانت للزوجين-الأب والأم-أو لأحدهما مصلحة مشروعة تستلزم التخفيض من مدة الرضاع المقدرة بسنتين، وتقتضي فطام وليدهما بعد مرور ما يقارب السنتين، ولم يكن ينتج عن هذا التخفيض والفطام المبكر أي ضرر على الوليد، فإن الشارع لا يقف في طريق التخفيض ولا يؤخذ عليه، بشرط أن يتم كل ذلك بعد اتفاق الأب والأم عليه، وتشاورهما وتراضيهما في شأنه، وهذا ما يشير إليه قوله تعالى:{فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا} . أي فطاما لوليدهما {عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} .
ولم يغفل كتاب الله الإشارة إلى الحكم المشروع في الأحوال التي قد يضطر فيها إلى الاستغناء عن إرضاع الأم لوليدها، وتأجير ظئر لإرضاعه بدلا منها إذا كان يقبل الرضاع من غير أمه، مثال ذلك أن تكون الأم غير قادرة على القيام بإرضاع وليدها بحيث
يخشى عليه من الضياع والتقصير إذا بقي في حضنها، أو أن يكون الأب في حالة فيزيولوجية لا تسمح له بالاستغناء عن زوجته مدة الرضاعة، بحيث يتضرر بانشغالها عنه، ويطالبها بالتفرغ له، أو لأن يكون الأب والأم يخافان على وليدهما من آثار الغيل وعواقبه السيئة، ففي مثل هذه الأحوال يتخير الأب لوليده مرضعة بأجر تنوب عن أمه، إما حفظا لمصلحة الوليد، وإما حفظا لمصلحة الوالدين، وذلك قوله تعالى:{وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ} .
ولا حاجة إلى التنبيه على أن قيام غير الأم بإرضاع الوليد خلال المدة المعتادة للرضاع ينزل مرضعته منه منزلة الأم، فتحرم عليه هي وكل من يحرم على الابن من قبل أم النسب، ومن صور هذا الحكم قوله تعالى:{وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} . عطفا على قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ} . الآية. وثبت في صحيحي البخاري ومسلم عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب).
ونظرا إلى أن نفقة الولد تجب على والده بحكم الشرع، ونظرا إلى أن تغذية ولده الرضيع إنما تتم عن طريق الرضاعة التي تقوم بها والدته، أو من ينوب عنها في إرضاعه، فقد أوجب الله على والد الرضيع أن ينفق على والدته أو مرضعته من غير تقتير ولا إسراف، في حدود استطاعته وعلى قدر حاله من سعة أو ضيق، ويشمل الإنفاق كل ما يلزم لمعيشتها وكسوتها، ويظهر وجه الحاجة
إلى لزوم هذه النفقة بالنسبة للأم التي طلقها الأب قبل ولادة الطفل، أو طلقها عقب ولادته وإبان الرضاعة ولم يقبل الطفل إلا ثديها، وذلك قوله تعالى في هذا الربع من سورة البقرة:{وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا} . وقوله تعالى في سورة الطلاق: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} .
وكما حكم الله بالنفقة من أجل الرضاعة فقد حكم بها للمرأة الحامل، فأوجب الإنفاق عليها لصالح حملها إلى حين الوضع بقوله تعالى:{وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} .
وهذه الأحكام الشرعية التي نص عليها كتاب الله تؤكد صحة أصل شهير من أصول التشريع الإسلامي ألا وهو " أن مالا يتم الواجب إلا به فهو واجب مثله "، وقد حكى ابن جرير وابن كثير عند تفسير قوله تعالى في هذا السياق:{وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ} . أن على الوارث مثل ما على والد الطفل من الإنفاق على والدة الطفل، والقيام بحقوقها، وعدم الإضرار بها، وهو قول الجمهور فيما حكاه ابن كثير.
وفي هذا المجال العاطفي المعرض للضغط والاستغلال-وهو مجال رضاعة الطفل وتربيته الأولى- نبه القرآن الكريم كلا من الأب والأم إلى وجوب الابتعاد عن كل ما من شأنه إلحاق الضرر من أحدهما بالآخر، وذلك قوله تعالى:{لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} .
وبناء على هذا الحكم الإلهي القاطع لا يحل للأم أن تمتنع عن إرضاع وليدها وتدفعه عنها، رغبة في الإضرار بأبيه، كما لا يحل للأب أن ينتزع الوليد من أمه ويمنعها من إرضاعه، بغية الإضرار بها.
ولعل من أوضح الواضحات أن الوالدات المسلمات إذا نفذن وصية القرآن الكريم على وجهها الكامل، وخصصن لإرضاع أولادهن عامين كاملين دون حمل ولا غيل، فإنهن يسدين بذلك أكبر خدمة لأولادهن من جهة، وإلى أنفسهن من جهة أخرى، فالأولاد يتمتعون بغذائهم الطاهر المفضل الذي يتلقونه من أثداء الوالدات مدة كافية، دون حدوث أي ارتباك في أمعائهم، والوالدات يأخذن وقتا كافيا للراحة والاستجمام من عناء الوضع والحمل، وفي نفس الوقت يجدن من الفراغ ما يساعدهن على العناية بتنشئة وليدهن الرضيع تنشئة مثالية، دون إرهاق ولا اضطراب.
ومما يناسب التنبيه إليه في موضوعنا أن اشتراط كتاب الله لشرط التراضي والتشاور بين الأب والأم في شأن رضاع وليدهما وفطامه معناه أن الوليد-وإن كان ثمرة غرسهما-فإنما ينظر كل منهما إلى مصلحته وسلامته، ويزنهما بالوزن الدقيق، وأنه لا يجوز لأحد منهما أن يستبد دون الآخر بتقرير مصير الطفل، كما قاله سفيان الثوري وغيره، بحيث لا يتصرفان في شأنه ولو في هذا السن المبكر، إلا بما يضمن مصلحته ضمانة محققة من جميع الوجوه.
ويقوي هذا المعنى ويزيده تركيزا وتثبيتا صيغة التعقيب الذي
جاء بعد الانتهاء من موضوع رضاعة الأطفال بقوله تعالى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} . مما فيه حض بالغ على وجوب التحري في هذا الأمر، ومراقبة الله فيه مراقبة دقيقة.
وإذا كان لأمر رضاعة الطفل وفطامه من الأهمية البالغة ما جعلهما موضوع عناية القرآن الكريم حتى خصص لهما عدة آيات بينات، فما بالك بتربية الطفل الأخلاقية، وتنشئته على الروح الإسلامية ليكون عضوا نافعا للمجتمع، متمسكا بالدين معتزا بالوطن.
وإذا كانت رضاعة الطفل وفطامه مما تجب فيه المشاورة والتراضي بين الوالدين كما قال تعالى في هذا الربع من سورة البقرة: {عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ} . وكما قال تعالى في سورة الطلاق {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} بعد ذكر المطلقات اللاتي يقمن بإرضاع أولادهن، وقوله {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} . فما بالك ببقية شؤون الأسرة الأخرى، فالمشاورة فيها تعتبر من باب أولى وأحرى، وذلك توجيه من الله تعالى لعباده المؤمنين، أن يجعلوا من أسرهم أسرا قائمة على التعاون، ومن بيوتهم بيوتا مؤسسة على التضامن، يتكامل فيها رأي الزوج برأي الزوجة، وتدبير الأب بتدبير الأم.
ثم إذا كانت مملكة البيت الصغرى يجب أن تقوم في نظر الإسلام ووحي القرآن على أساس الائتمار بالمعروف والتراضي والتشاور، تحصينا لها من الدمار، وضمانا لما يلزمها من الاستقرار، فإن مملكة الإسلام الكبرى لا تزدهر ولا تستقر إلا إذا كانت
الشورى بالحق دستورها، والتعاون على البر شعارها، والائتمار بالمعروف رائدها، وإلى ذلك يشير قوله تعالى:{وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} ، وقوله تعالى:{وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} .
وبهذا يتجلى لمن ألقى السمع وهو شهيد، من القريب والبعيد، أن كتاب الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأن الإسلام منطقي مع نفسه، بحيث تتناسق جزئياته مع كلياته، وتتوافق تطبيقاته مع نظرياته، {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا - وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} .