الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الأخير من الحزب التاسع
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
في حديث هذا اليوم سنلقي نظرة على الربع الأخير من الحزب التاسع في المصحف الكريم، وهو يبتدىء من قوله تعالى:{فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} وينتهي بقوله تعالى: {وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا}
ــ
عندما نتأمل الآية الأولى في هذا الربع، وهي قوله تعالى:{فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ} الآية، نجدها مرتبطة كل الارتباط بالآيتين الأخيرتين من الربع الماضي ومبنية عليهما.
ففي الآيتين الأخيرتين من الربع الماضي وصف كاشف لشعور المنافقين الدفين، وموقفهم الحقيقي من الجهاد والمجاهدين، إذ يبين كتاب الله ما عليه المنافقون من التخلف والتباطؤ عن تلبية نداء الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، وما يقومون به علاوة على تخلفهم عن ركب المجاهدين من تثبيط لعزائم المسلمين، حتى لا يجاهدوا المشركين.
ورغما عن موقف التلكؤ والتخاذل والتثبيط الذي يقفونه كلما خرج المسلمون للجهاد في سبيل الله، فإنهم بحكم روح النفاق والطمع، والانتهازية التي هم عليها، يأسفون بالغ الأسف عندما ينتصر المسلمون، ويرجعون من جهادهم سالمين غانمين، ويتمنون لو أنهم حضروا معهم وكانوا من بين الفائزين كما أنهم بحكم روح النفاق والجبن والأنانية التي عليها يفرحون كامل الفرح بتخلفهم وعدم حضورهم، عندما يرجع المجاهدون وقد خلفوا من ورائهم في ساحة الجهاد عددا من الشهداء في سبيل الله.
ويشير كتاب الله في نفس هاتين الآيتين إلى أن نفس التعبير الغامض الذي يستعمله المنافقون في الحديث عن المؤمنين ينبئ عن دخيلتهم، إذ لا يذكرونهم بوصفهم المميز، وإنما يستعملون في الحديث عنهم " ضمير الغائب المبهم " مما يدل على أنهم لا يجمعهم بهم أدنى رابطة، وعلى أن كل ما يتظاهرون به من المودة لهم محض زور وبهتان، وذلك ما يتضمنه قوله تعالى في ختام الربع الماضي {وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا * وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا} .
وعلى هذا المعنى الذي تتضمنه هاتان الآيتان وقع التعقيب بالآية الأولى في هذا الربع، وهي دعوة صادرة من الله تعالى إلى أولئك الذين استرخصوا أرواحهم في سبيله، لأن يقوموا بواجب الجهاد المقدس، غير ملتفتين إلى تخلف المنافقين وتثبيط المثبطين، كما
أنها وعد صادق من الحق سبحانه وتعالى لهم بالأجر العظيم والثواب الجسيم، سواء منهم من غلب وعاد، ومن وقع شهيدا في ساحة الجهاد. وذلك قوله تعالى:{فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} .
وفي هذا الربع يتحدث كتاب الله عن طائفة أخرى لا تملك من الشجاعة والاستعداد للتضحية القدر الكافي لمواجهة أعباء الجهاد، ويتضمن الحديث عنها معنى الاستغراب والتعجب، حيث إن هذه الطائفة بالذات، في الوقت الذي كانت أوامر الله وتعليماته تصدر إلى المسلمين بالانتظار والصبر وتحمل الأذى إلى حين، كانت تتحرق شوقا إلى الجهاد، وتطلب من الرسول الإذن لها بالقتال، فلما حل موعد الجهاد وكتب عليها القتال أخذت تتراجع إلى الوراء، وتتمنى لو أن هذه الفريضة لم تفرض، وأجلت إلى موعد آخر، بل إنها أخذت تتساءل في دهشة واستغراب عن السر الذي من أجله فرض الله الجهاد على المسلمين وذلك كله حرصا منها على الحياة، وتشبثا بمصالحها المادية الخاصة، وخوفا على الأموال والنساء والأولاد من عواقب الجهاد.
وبعدما وصف كتاب الله هذا الصنف الرعديد من الناس، وما هو عليه من ضعف في النفس، وتمسك بالعيش الهنيء، جاء التعقيب على ذلك بمقارنة بين الدنيا ومتاعها والآخرة وثوابها، وأن الله يجازي من جاهد في سبيله بكامل العدل ومنتهى الكرم، كما يجازي القاعدين والمتخلفين بما هم أهله، وأن الموت الذي يخشونه
سيدركهم لا محالة حيثما كانوا قاعدين أو مجاهدين.
وبعدما وصف كتاب الله ما عليه المذبذبون والمنافقون من غريب الأطوار والأحوال، وما يبيتونه في نفوسهم ويجري على ألسنتهم من سخيف الأقوال، وما يغلب عليهم من ميل إلى التمرد والخلاف، بدلا من التزام الطاعة والتمسك بالائتلاف، اتجه الخطاب الإلهي رأسا إلى الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم، داعيا إياه في نفس السياق إلى القيام بواجب الجهاد الذي كلفه الله به، وألقاه على عاتقه قبل كل الناس، ليبادر إلى أدائه، دون أن ينظر إلى أي اعتبار آخر، وآمرا له في نفس الوقت بأن يحض المؤمنين على الجهاد في سبيل الله، بغض النظر عن تخاذل المتخاذلين، وتثبيط المثبطين، وتراجع ضعفاء النفوس العاجزين، مبينا لرسوله والمؤمنين أن هدف الجهاد في سبيل الله إنما هو كف أذى الكافرين عن المؤمنين، وخضد شوكة المشركين وذلك قوله تعالى:{فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا} .
ونظرا لأن الهدف الأساسي من القتال في سبيل الله هو تحرير
الفرد المسلم حتى لا يفتن في دينه، وتحرير الجماعة المسلمة حتى لا تفتن في دينها اختار كتاب الله أن يبرز هذا الهدف بشكل قوي، حتى تلتفت إليه جميع النظار، فجعله في مطلع هذا الربع منذ البداية، لأنه هو المقصد والغاية، وما يتبعه ويليه إنما هو وسيلة إليه، وذلك قوله تعالى:{وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ} .
فاستثار كتاب الله حمية المسلمين، لإنقاذ إخوانهم المستضعفين الذين لم يستطيعوا الهجرة من مكة إلى المدينة بجانب بقية المهاجرين، ممن أصبحوا مغلوبين فيها على أمرهم، معرضين لسائر صنوف الأذى من طرف المشركين.
ووصف كتاب الله بمنتهى الدقة، وبصيغة بالغة التأثير تثير المشاعر، الحالة النفسية القلقة لأولئك المستضعفين من الرجال والنساء والولدان المعذبين من أجل عقيدة الإيمان، وما هم عليه من تبرم بنوع الحياة الجهنمية التي يتحملونها بمكة، وما يتوجهون به إلى الله صباح مساء من دعاء خاشع وابتهال صادق، ليعينهم على الخلاص من ربقة الشرك، والخروج من القرية الظالم أهلها إلى المدينة التي آمن أهلها، أملا في اللحاق بالرسول وصحبه من المهاجرين والأنصار، وذلك قوله تعالى:{وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا} .
وفي هذا السياق بين كتاب الله الفرق الجوهري والأساسي بين جهاد المؤمنين وقتال الكافرين، فالجهاد الذي فرضه الإسلام
ليس من أجل السيطرة والاستغلال، ولا من أجل الاستعباد والإذلال، وإنما هو من أجل نصرة الحق وبسط العدل، وبث الخير والمعروف بين الناس، وهو في النهاية لإقامة دين الله، وإعلاء كلمته في الأرض على من سواه.
وعلى العكس من ذلك القتال الذي يقوم به الكافرون، فهو من أجل تدعيم العدوان، ومساندة الطغيان واستعباد الإنسان لأخيه الإنسان، وهو في النهاية للدفاع عن عبادة الأصنام والأوثان، وسدنتها من السحرة والكهان، وذلك ما تشير إليه في إيجاز وإعجاز هذه الآية الكريمة:{الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ} .
ثم حرض كتاب الله المؤمنين على قتال الكافرين لوضع حد لعدوانهم، وفرض احترام الإسلام عليهم، وتمكين هيبته في نفوسهم، ونشر دعوتهم بكل حرية في أوساطهم، حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.
ونبه كتاب الله إلى الحلف الشيطاني المعقود بين الشيطان وأوليائه الكافرين إذ إنهم عن إيحائه يصدرون، وبإغرائه يمكرون، مؤكدا أن كيد الشيطان مطبوع بطابع الضعف والهزال، محكوم عليه بالفشل والزوال، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:{فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} .