الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الثاني من الحزب الثامن
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
في حديث هذا اليوم نتناول الربع الثاني من الحزب الثامن في المصحف الكريم، وفيه نختتم سورة آل عمران ونفتتح سورة النساء، مستعينين بالله معتمدين على هدايته وتوفيقه، فأول آية منه تقع في سورة آل عمران، وهي قوله تعالى:{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} وآخر آية فيه تقع في سورة النساء، وهي قوله تعالى:{وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا} .
ــ
يتناول القسم الأخير من سورة آل عمران في هذا الربع وصف الامتحان الإلهي الذي يتعرض له المؤمنون الصادقون. وعاقبة صبرهم عليه {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} الآية.
ويتناول وصف المدعين المتبجحين وجزاء ادعاءاتهم الكاذبة {وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا} الآية.
ويتناول وصف الذين يذكرون الله ويتفكرون في خلقه،
ويسجل انطباعاتهم عن الكون والمكون، ويعرض نماذج من مناجاتهم فيما بينهم وبين أنفسهم، وفيما بينهم وبين ربهم {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ} - {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ} - {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ} إلى آخر الآيات.
ويتناول وصف فريق من أهل الكتاب آمنوا بالله وبالرسول {خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} .
ويتناول حض المسلمين على الصبر والصلاة والمصابرة والرباط والتقوى حتى يكونوا من المفلحين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
أما القسم الأول من سورة النساء الذي يندرج في هذا الربع فيتناول وصفا لوحدة النوع الإنساني {الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} وحديثا عن الأرحام والأيتام، وآخر عن تكوين الأسرة الموحدة، وعن مبدأ تعدد الزوجات، {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} ثم حديثا عن موقف الإسلام من أموال السفهاء {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} .
ونظرا لكثرة الموضوعات في هذه الحصة سنعالج منها ما يتسع له الوقت، مؤجلين بقيتها إلى أول مناسبة قادمة إن شاء الله.
وإذن فلننظر في أول آية من هذا الربع، وهي قوله تعالى
في خطاب المؤمنين {لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} .
كلنا يعلم أن الفضل كل الفضل في انتشار الدعوة الإسلامية وانتصارها والإقبال على اعتناقها في أطراف العالم إنما يرجع إلى ما بذله سلفنا الصالح بكل سخاء وبدون حساب، من جهود عظيمة وتضحيات جسيمة، خالصة لوجه الله، بالأرواح والأموال، وكل من له مسكة من العقل والعلم والدين يدرك بالبداهة أن كل شبر من دار الإسلام-على سعتها وترامي أطرافها-إنما هو تراب زكي معطر بدماء المجاهدين في سبيل الله، الذين أخذوا على عاتقهم هداية البشرية إلى دين الله، ثم استودعوه بين أيدينا، وتركوا أمر المحافظة عليه أمانة في أعناقنا، وهكذا أثبت تاريخ الإسلام والتاريخ العام أن القرآن الكريم قد ربى المسلمين أحسن تربية، وأعدهم أكمل إعداد، لتحمل أعباء الدعوة الإسلامية، والتضحية في سبيلها بالنفس والنفيس، وأن الخطاب الإلهي المذكور الذي وجهه الحق سبحانه وتعالى إليهم قد استجابوا له وتقبلوه أحسن قبول، وذلك مصداق قوله تعالى:{لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ} .
وكلنا يعلم ما تعرض له الإسلام منذ نشأته الأولى، وما يتعرض له إلى الآن وحتى الآن، من الأذى البالغ والمكر السيئ الذي يوجهه إليه في شتى الأشكال مخالفوه من أهل الكتاب أولا، ومن غيرهم ثانيا، فمن تحريف لكتاب الله وتزييف لمعانيه، ومن تشويه لتاريخ الإسلام وعقائده، ومن تهجم على شعائره وشرائعه بالنقد السخيف والنقص الباطل، ومن محاولات متوالية لبلبلة أفكار
المسلمين، وبث الحيرة والشك في نفوسهم، ونشر الإباحية والفوضى في أوساطهم، فضلا عما تعرض له الإسلام في بعض الأزمات والأوقات من إبادة الآثار الإسلامية، وقضاء على بدائع التراث الإسلامي، وضغط على العناصر الإسلامية لتندمج في غيرها مكرهة، أو تفنى وتبيد بالمرة.
وهكذا أثبت تاريخ الإسلام والتاريخ العام أن القرآن الكريم كان صادقا كل الصدق عندما قرر للمسلمين من أول يوم أنهم سيكونون عرضة للأذى من طرف أهل الكتاب وغيرهم، وأن هذا الأذى لن يكون قليلا وإنما سيكون أذى كثيرا، وذلك مصداق قوله تعالى وهو يخاطب المؤمنين خطابا مؤكدا {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} .
وبعد هذا الخبر الغيبي الصادق، والخطاب الإلهي المؤكد، المتضمن لما سيتعرض له المسلمون من ابتلاء وإيذاء، جاء التعقيب عليه بآية أخرى تنبه المسلمين إلى أن عدتهم الأولى للتغلب على ضعف أنفسهم وعلى أذى أعدائهم إنما هي الصبر والتقوى، وكلاهما من الأمور الشاقة التي لا يقوى عليها إلا أهل العزائم من أولي العزم {وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} .
ولولا ما تحلى به سلفنا الصالح من صبر على القيام بالواجبات، وصبر على تحمل المكاره، وما التزموه من تقوى الله، التي جعلتهم يقظين حذرين من ذات أنفسهم، فضلا عن الحذر من
أعدائهم، لما حققوا معجزة الفتح الروحي لعقيدة الإسلام، التي اكتسحت العقائد المخالفة في هذا العالم الإسلامي الفسيح، حيث يعيش المسلمون اليوم.
على أن كتاب الله طمأن في نفس الوقت رسوله والمؤمنين، على مصير الإسلام والمسلمين، ووعدهم بظهور دينه على الكافرين، فقال تعالى:{لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ} .
وقوله تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} . فاتحة الآيات العشر، المعروفة في الإسلام بخواتيم سورة آل عمران، وهي الآيات التي كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يقرأ بها إذا قام من الليل للتهجد قبل صلاة الصبح، وفي شأنها جاء الأثر (ويل لمن قرأها ثم لم يتفكر فيها).
وهذه الآية الأولى من العشر الخواتيم دعوة صريحة موجهة من الحق سبحانه وتعالى إلى المسلمين، ليستعملوا ما وهبهم الله من العقول في النظر إلى ملك الله، والتفكر في ملكوته، بغية التعرف عليهما، واكتشاف سننهما، وعن طريقهما يتعرفون إلى عظيم قدرته، ويلمون بدقيق حكمته.
وفي ذلك إيماء إلى أن الله تعالى لم يخلق الألباب والعقول
لتبقى معطلة مشلولة دون أن تؤدي وظيفتها، وإنما خلقها وميز بها الإنسان عن غيره، ليصل بها إلى أعلى درجات العلم واليقين، في الحدود التي تسمح بها طبيعة التكوين البشري، ماديا وعقليا.
وقد كانت هذه الآية وما ماثلها هي نقطة الانطلاق بالنسبة للفكر الإسلامي في جميع البيئات والعصور، فانطلقت العقول من عقالها، وعالجت بالبحث والاكتشاف أكثر جنبات الكون وزواياه، وكان من ذلك التراث الإسلامي الذي لم يسبق له نظير في تاريخ الفكر، لا من جهة التنوع، ولا من جهة التعمق، ولا من جهة الأصالة والابتكار.
وقوله تعالى: {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ} ، حكاية عن الذين يذكرون الله ويتفكرون في خلقه، هو تصوير كاشف للنهاية المنطقية والحتمية التي يصل إليها المفكر المؤمن عن طريق تأمله في الملك والملكوت، إذ تلوح له حكمة بديع السماوات والأرض وقدرته وعلمه على وجهها الكامل، وذلك منسجم مع قوله تعالى في سورة النساء:{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ} ، وقوله تعالى في سورة الدخان- {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ} .
وبعدما حكى كتاب الله هذا القول عن أولي الألباب الذين يذكرون الله ويتفكرون في خلقه، إعجابا منهم بقدرته وحكمته، حكى قولهم أيضا في مناجاته {رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} إعرابا عن خوفهم من عقابه،
وتجنبهم لأسباب خزيه وعذابه، ثم حكى قولهم في مناجاته {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ} شهادة على أنفسهم بالإيمان بالله ورسوله، وأملا في الالتحاق بركب (الأبرار) الأبرار الذين ضربوا الرقم القياسي في " البر " حتى عرفوا بوصفه بين الناس، إذ بروا بملتهم وأمتهم وأسرتهم برورا يشمل الآباء والأبناء والأرحام، وجميع أهل الإسلام.
وأخيرا حكى الحق سبحانه وتعالى قوله في مناجاته: {رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ} ثقة منهم بوعد الله الذي جاء على ألسنة رسله، ذلك الوعد الذي ينتظره الأبرار الصالحون في موعده بكل ثقة واطمئنان.
وبعدما حكى كتاب الله نماذج من مناجاة المؤمنين الذين يذكرون الله ويتفكرون في خلقه، وكشف النقاب عن دخائل نفوسهم، ومكنونات ضمائرهم، ليعرفهم على حقيقتهم إلى بقية الناس، عاد فأثبت أن الحق سبحانه وتعالى لم يخيب رجاءهم، بل حقق أملهم واستجاب دعاءهم، ووعد على لسان الحق سبحانه وتعالى أن لا يضيع عمل عامل منهم، ذكرا كان أو أنثى، مشيرا بذلك إلى أن باب الذكر والفكر مفتوح في وجه المؤمنين والمؤمنات على السواء، وأنه لا فرق بينهم في مجال التقرب إلى الله، والتسابق للحصول على رضاه، وذلك قوله تعالى:{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ} {وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ} .
وقوله تعالى في وصف الذين يذكرون الله ويتفكرون في خلقه: {يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} معناه بالأصالة أن هذا الصنف من المؤمنين قد بلغوا من الحساسية واليقظة والوعي ما جعلهم لا يغفلون أبدا، بل يستغرقون في الذكر والفكر في كل الأحوال، لا فرق عندهم بين قيام وقعود، ولا بين وقوف ومشي، ولا بين اضطجاع على الجنب واستلقاء على الظهر، إذ الفكر الذي يدفع إلى الذكر إنما هو جوهر روحاني، ومصباح نوراني، يستطيع أن يقوم بوظيفته في كل الأحوال، ولا يتعطل عنها بحال، كما يصدق بالتبع على ذكر الله في الصلاة، فقد قال صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين (صل قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنبك) وهذا هو من باب التيسير والتخفيف، بالنسبة لبعض الأعذار الطارئة على التكليف.