الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الربع الأول من الحزب الثامن
في المصحف الكريم (ت)
عباد الله
في حصة هذا اليوم نشرع في الحزب الثامن من المصحف الكريم، وبداية الربع الأول من هذا الحزب قوله تعالى:{يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ} ونهايته قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ}
ــ
بعدما تولى كتاب الله في آخر آية من الربع الماضي الحديث عن شهداء المسلمين الذين قتلوا يوم أحد في سبيل الله، وأخبر بأنهم أحياء عند ربهم يرزقون، وأنهم فرحون بما آتاهم الله من فضله، مبتهجون بمن سيلحق بركبهم، ويقتدي بهم في متابعة الجهاد والفوز بالشهادة، وذلك في قوله تعالى:{وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} .
مضى كتاب الله في نفس السياق، وتولى في أول آية من هذا الربع الحديث عن أولئك المؤمنين الذين ينتظرهم إخوانهم الشهداء، عسى أن يلحقوا بهم من خلفهم، ويشاركوهم فيما آتاهم الله من نعمة، ومنحهم من فضل، جزاء إيمانهم بالله ورسوله، وجهادهم في سبيله، وتأسيهم بهم في بذل المهج رخيصة من أجله، وذلك قوله تعالى:{يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} .
ثم تصدت الآيات الكريمة لوصف هذا الصف الخاص من المؤمنين الذين استبشر بهم من سبقوهم من الشهداء، وذلك ابتداء من قوله تعالى:{الْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ} . إلى قوله تعالى: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ} .
ولإدراك مغزى هذه الآيات وفهم معناها لابد من إلقاء بعض الأضواء على الحادثة التي ارتبطت بها.
ذلك أن مشركي قريش بعدما أصابوا ما أصابوا من المسلمين يوم أحد، وكروا راجعين إلى ديارهم، تحركت في نفوسهم الأحقاد، واشتغلت في قلوبهم نيران الحسرة والندم، وطغت عليهم روح الغرور والحمية، فأخذوا يرددون فيما بينهم مقالات خبيثة تكشف عن خطة جديدة ولئيمة، أخذت ترتسم في أذهانهم، بغية استئصال شأفة المسلمين، مثل قولهم:" لا محمدا قتلتم، ولا الكواعب أردفتم، بئس ما صنعتم، ارجعوا " ومثل قولهم: " أصبنا محمدا وأصحابه ثم نرجع قبل أن نستأصلهم، لنكرن على بقيتهم
ثم لنفرغن منهم ". فبلغ ذلك إلى علم رسول الله صلى الله عليه وسلم فندب المسلمين إلى ملاحقة المشركين من ورائهم، غير أنه عليه الصلاة والسلام لم يأذن باللحاق به والسير في ركابه لهذا الغرض إلا لمن حضر موقعة أحد وثبت معه فيها، وعندما أذن مؤذن رسول الله في الناس كان يقول: " لا يخرجن معنا أحد إلا من حضر يومنا بالأمس ".
ورغما عن الحالة الأليمة التي كان عليها أولئك المسلمون، إذ هم مثخنون بالجراح، ولا يزال شريط يوم أحد بأهواله يمر أمام أعينهم، فإنهم استجابوا لنداء رسول الله، لم يتخلف منهم أحد، طاعة لله، وفداء لرسوله، وكان الرسول يرمي من وراء ذلك إلى إفساد خطة المشركين الجديدة التي تناقلتها الأخبار، وإلى إلقاء الرعب في قلوبهم، بإبراز ما عليه المسلمون من جلد وقوة إيمان، وإظهار أن ما أصابهم لم يوهنهم عن عدوهم، ولم يفت في عضدهم، وقد كان أبو بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي والزبير في طليعة المسلمين الذين تعقبوا المشركين، فلما وصلوا إلى مكان يقال له " حمراء الأسد " على ثمانية أميال من المدينة رآهم المشركون فهالهم الأمر، وقذف الله الرعب في قلب زعيمهم وقائدهم أبي سفيان، فانقلب وانقلبوا معه إلى مكة قافلين، بينما رجع رسول الله ومن معه إلى المدينة سالمين.
وفي هذه المناسبة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن أبا سفيان قد أصاب منكم طرفا، وقد قذف الله في قلبه الرعب ورجع ".
والآن، وبعد الإتيان بهذا البيان الموجز نستطيع أن نتفهم الآيات
الكريمة التي سجلت هذا الحادث الخطير، ووصفته ووصفت أبطاله بأوجز وصف وأروعه، وذلك قوله تعالى:{وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ * الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ - الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} . {إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} . {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} .
وفي هذا السياق يجدد كتاب الله مرة أخرى بيان الحكمة الإلهية في ابتلاء المؤمنين وتمحيصهم بالنكبات والتضحيات، فيقول سبحانه وتعالى:{مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} . إذ في مثل هذه الوقائع والمواقع ترفع الحجب وتهتك الأستار. قال مجاهد: ميز بينهم يوم أحد، وقال قتادة: ميز بينهم بالهجرة والجهاد.
ومن الحديث عن المؤمنين الذين اتبعوا الشهداء بإحسان اتجه الخطاب الإلهي مباشرة إلى نبيه الأعظم يواسيه ويترفق به، في صيغة تدعو إلى السلوى والعزاء وترك الحزن جانبا، ذلك أن رسول الله -شفقة منه على الناس، وحرصا على خيرهم ونجاتهم- كان يحزن أشد الحزن لاستمرار المنحرفين في انحرافهم، وإصرار الكافرين على كفرهم {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} .
ومضى الخطاب الإلهي يهدئ روع نبيه، ويجدد له الوعد بما ينتظره وأمته من الفتح المبين والنصر المكين.
فلنستمع إلى الحق سبحانه وتعالى كيف يخاطب رسوله في هذا المقام: {وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} .
ومما يلاحظ هنا أن جملة {لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا} تكررت مرتين متتابعتين، في سياق هاتين الآيتين، إشارة إلى أن حزن رسول الله إنما كان من أجل الله لا من أجل نفسه، كما أنها تؤكد أن جميع المحاولات التي يحاولها الكافرون بالله وبدينه لن تقف عقبة كأداء في وجه انتشار الإسلام، ولن تحول دون انتصاره في مستقبل الأيام، فسينتشر دين الله في جميع أرجاء الأرض، وسيفرض وجوده على العالم، ولن تقف العقائد المضادة في وجه انتشاره زمنا طويلا {وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا} .
وفي هذا الربع آية كريمة تنعى على البخلاء بخلهم مرة أخرى، وتدعو المسلمين إلى البذل والإنفاق في سبيل الله، ترفيها عن أمتهم، وتدعيما لدولتهم، وتعرفهم بأن ما يكسبونه من ثروة إنما هو وديعة من الله بين أيديهم استخلفهم فيها، فلا ينبغي لهم أن يبخلوا بالعطاء من مال الله في سبيل الله، وذلك قوله تعالى:{وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} .
وقوله تعالى: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} . ليس
معناه كما قد يتبادر إلى بعض الأذهان أن الإسلام يحض على إهمال المصالح المادية المشروعة، أو أنه يدعو إلى الزهد في معالجة الشؤون الدنيوية الضرورية لحياة الإنسان الفردية والاجتماعية، بل إن كل ما يقوم به أود الفرد والجماعة من الضروريات والحاجيات، بل حتى التحسينيات والكماليات، يدعو الإسلام إلى اقتنائه، ويحض على تناوله، في عشرات الآيات ومختلف السور، كقوله تعالى في سورة البقرة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ} . الآية، وقوله تعالى في سورة الأعراف:{قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} .
وإنما المراد من قوله تعالى هنا: {وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} . وما شابهه أن يحافظ المسلم في حياته على التوازن بين المادة والروح، وأن ينظر إلى الحياة الدنيا نظرة واقعية، فيقدرها بقدرها، ويتناول ما هو لازم منها، ولا ينسى متطلبات الرحلة المنتظرة بعدها، والمرحلة الطويلة التي تعقبها، بل يتأهب لها، ويستعد لمواجهتها بالزاد الكافي، عن وعي تام، وبغاية الاهتمام، فبعد مفارقة دار التكليف والعمل، يكون زاد التقوى وحده هو معقد الرجاء والأمل.