الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الخامس عشر: الخبرات والتجارب
التجربة لها الأثر العظيم في اكتساب المهارات والخبرات، وهي من أعظم طرق اكتساب الحكمة، والتجربة لا تخرج الحكمة عن كونها فضل اللَّه يؤتيه من يشاء؛ فإنه المعطي الوهّاب {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} (1)؛ ولكنه سبحانه جعل لكل شيء سبباً يوصل إليه.
والتجربة في العلم: اختبار مُنظِّم لظاهرة أو ظواهر يراد ملاحظتها ملاحظة دقيقة منهجية؛ للكشف عن نتيجةٍ ما، أو تحقيق غرضٍ معين، وما يعمل أولاً لتلافي النقص في شيءٍ وإصلاحه (2)، ويُقال: جَرَّبَهُ تَجرِبَةً: اختبره، ورجل مجرب، كمعظم: بُلِيَ ما كان عنده، ومجرِّب: عرف الأمور (3)، تقول، جربت الشيء تجريباً: اختبرته مرة بعد أخرى، والاسم التجربة، والجمع التجارب (4).
وعن معاوية رضي الله عنه قال: ((لا حكيم إلا ذو تجربة)) (5).
ومن المعلوم أن الحكيم لابد له من تجارب قد أحكمته، ولهذا قيل:((لا حليم إلا ذو عثرة، ولا حكيم إلا ذو تجربة)) (6).
والمعنى: لا حليم إلا صاحب زلة قدم، أو لغزة قلم في تقريره أو تحريره.
(1) سورة النحل، الآية:53.
(2)
المعجم الوسيط، مادة: جرب، 1/ 114.
(3)
القاموس المحيط، باب الباء، فصل الجيم، ص85.
(4)
المصباح المنير، مادة جرب، ص95.
(5)
البخاري، كتاب الأدب، باب لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، موقوفاً على معاوية مجزوماً به، بعد الرقم 6132.
(6)
الترمذي، كتاب البر والصلة، باب ما جاء في التجارب، برقم 2033،وأحمد في المسند، 3/ 8.
وقيل: لا حليم كاملاً إلا من وقع في زلة وحصل منه الخطأ والتخجل فعفي عنه فعرف به رتبة العفو فيحلم عند عثرة غيره؛ لأنه عند ذلك يصير ثابت القدم، ولا حكيم كاملاً إلا من جرب الأمور، وعلم المصالح والمفاسد؛ فإنه لا يفعل فعلاً إلا عن حكمة، إذ الحكمة إحكام الشيء وإصلاحه عن الخلل (1).
والحكيم هو المتيقظ المتنبه، أو المتقن للحكمة الحافظ لها (2).
والحكمة من أثمن نتائج التمييز والتفكير، وهي زبدة العلم والاختبار، فالعلم يخطط الأسس النظرية، ثم يكتمل ويصقل بالخبرة العملية المبنيَّة على المران والتجارب؛ ولهذا كان العلماء الأحداث بسبب قلة تجاربهم أنقص حكمة، وأقل رسوخاً في العلم من كبار العلماء الراسخين في العلم (3).
وبهذا يعلم أن الداعية إلى اللَّه إذا خالط الناس، وعرف عاداتهم وتقاليدهم، وأخلاقهم الاجتماعية، ومواطن الضعف والقوة، سيركز على ما ينفع الناس، ويضع الأشياء في مواضعها؛ لأنه قد جرّبهم، فالتجارب تنمّي المواهب والقدرات، وتزيد البصير بصراً، والحليم حلماً، وتجعل العاقل حكيماً، وقد تشجِّع الجبان، وتسخِّي البخيل، وقد تُليِّن قلب القاسي، وتقوِّي قلب الضعيف، ومن زادته التجارب عمىً إلى عماه فهو من الحمقى الذين لا يفقهون (4).
وأعظم الناس تجربة، وأكملهم حكمةً: الأنبياء، عليهم الصلاة
(1) انظر: فتح الباري، 10/ 530، وتحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي، 6/ 182.
(2)
انظر: فيض القدير شرح الجامع الصغير، 6/ 424.
(3)
انظر: الدعائم الخلقية للقوانين الشرعية، للدكتور/ صبحي محمصاني، ص140.
(4)
انظر: هكذا علمتني الحياة، القسم الأول: للدكتور مصطفى السباعي، ص47.
والسلام؛ لأنهم صفوة البشر اصطفاهم اللَّه وربّاهم، ثم أرسلهم لإخراج الناس من الظلمات إلى النور، ومع هذا ما بعث اللَّه من نبي إلا رعى الغنم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:((ما بعث اللَّه نبيّاً إلاّ رعى الغنم))، فقال أصحابه: وأنت؟ فقال: ((نعم، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة)) (1).
وفي رواية: قالوا: أكنت ترعى الغنم؟ قال: ((وهل من نبيٍّ إلاّ وقد رعاها)) (2).
والحكمة من ذلك - واللَّه أعلم - أن اللَّه عز وجل يلهم الأنبياء قبل النبوة رعي الغنم؛ ليحصل لهم التمرين والتجربة برعيها على ما يُكلَّفُونه من القيام بأمر أمتهم؛ ولأن في مخالطتها ما يُحصِّل لهم الحلم والشفقة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:((أتاكم أهل اليمن هم أرقُّ أفئدةً وألين قلوباً. الإيمانُ يَمانٍ، والحكمة يمانية، والفخر والخيلاء في أصحاب الإبل، والسكينة والوقار في أهل الغنم)) (3)؛ ولأنهم إذا صبروا على رعيها وجمعها بعد تفرقها في المرعى، ونقلها من مسرح إلى مسرح، ودفع عدوِّها من سبعٍ وغيره كالسارق، وعلموا اختلاف طبائعها، وشدّة تفرّقها مع ضعفها، واحتياجها إلى المعاهدة ألفوا من ذلك الصبر على الأمة، وعرفوا اختلاف طبائعهم وتفاوت عقولهم، فجبروا كسرها، ورفقوا بضعيفها، وأحسنوا التعاهد لها،
(1) البخاري، كتاب الإجارة، باب رعي الغنم على قراريط، برقم 2262.
(2)
البخاري، كتاب الأنبياء، باب يعكفون على أصنام لهم، برقم 3225، وكتاب الأطعمة، باب الكباث، برقم 3225، ومسلم في كتاب الأشربة، باب فضيلة الأسود من الكباث، برقم 2050، وهو النضيج من ثمر الأراك، انظر: شرح النووي، 14/ 6.
(3)
البخاري، كتاب المغازي، باب قدوم الأشعريين وأهل اليمن، برقم 4127، ومسلم في الإيمان، باب تفاضل أهل الإيمان، برقم 52.
فيكون تحملهم لمشقة ذلك أسهل مما لو كُلِّفوا القيام بذلك من أوّل وهلة، لما يحصل لهم من التدريج على ذلك برعي الغنم، وخُصّت الغنم بذلك؛ لكونها أضعف من غيرها؛ ولأن تفرّقها أكثر من تفرق الإبل والبقر، لإمكان ضبط الإبل والبقر بالربط دونها في العادة المألوفة، ومع أكثرية تفرّقها فهي أسرع انقياداً من غيرها (1).
ثم بعد رعيهم الغنم جرّبوا الناس، وعرفوا طبائعهم، فازدادوا تجارب إلى تجاربهم؛ ولهذا قال موسى صلى الله عليه وسلم لمحمد صلى الله عليه وسلم عندما فرضت عليه الصلاة خمسين صلاة في كل يومٍ ليلة الإسراء والمعراج: ((إنّ أمّتك لا تستطيع خمسين صلاة كلّ يومٍ، وإني واللَّه قد جرّبت الناس قبلك، وعالجت بني إسرائيل أشدَّ المعالجة، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك
…
)) فما زال النبي صلى الله عليه وسلم يراجع ربه ويضع عنه حتى أُمِرَ بخمسٍ صلواتٍ كل يوم (2).
فموسى قد جرب الناس، وعلم أن أمة محمد صلى الله عليه وسلم أضعف من بني إسرائيل أجساداً، وأقلّ منهم قوةً، والعادة أن ما عجز عنه القوي فالضعيف من باب أولى (3).
فالداعية بتجاربه بالسفر، ومعاشرته الجماهير، وتعرفه على عوائد الناس وعقائدهم، وأوضاعهم، ومشكلاتهم، واختلاف طبائعهم وقدراتهم، سيكون له الأثر الكبير في نجاح دعوته وابتعاده عن الوقوع في الخطأ؛ لأنه إذا وقع في خطأ في منهجه في الدعوة إلى اللَّه، أو أموره الأخرى لا يقع فيه مرة أخرى، وإذا خُدع مرة لم يخدع مرة
(1) انظر: فتح الباري، 4/ 441، وشرح النووي على مسلم، 14/ 6.
(2)
البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب المعراج، برقم 3674.
(3)
انظر: حاشية السندي على سنن النسائي، 1/ 220، وفتح الباري، 1/ 463.
أخرى، بل يستفيد من تجاربه وخبراته؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:((لا يُلدغ المؤمن من جحرٍ واحدٍ مرتين)) (1)، وقال:((كلّكم خطّاء، وخير الخطّائين التوابون)) (2).
وإذا أراد الداعية أن يكتسب الحكمة من التجارب، فلابد له - لإصلاح المتديِّنين وتوجيههم - أن يعيش معهم في مساجدهم، ومجتمعاتهم، ومجالسهم، وإذا أراد إصلاح الفلاحين والعمال عاش معهم في قراهم ومصانعهم، وإذا أراد أن يصلح المعاملات التجارية بين الناس، فعليه أن يختلط بهم في أسواقهم، ومتاجرهم، وأنديتهم، ومجالسهم، وإذا أراد أن يصلح الأوضاع السياسية، فعليه أن يختلط بالسِّياسيين، ويتعرَّف إلى تنظيماتهم، ويستمع لخطبهم، ويقرأ لهم برامجهم، ثم يتعرف إلى البيئة التي يعيشون فيها، والثقافة التي حصلوا عليها، والاتجاه الذي يندفعون نحوه؛ ليعرف كيف يخاطبهم بما لا تنفر منه نفوسهم، وكيف يسلك في إصلاحهم بما لا يدعوهم إلى محاربته عن كُرْهِ نفسٍ واندفاع عاطفي، فيحرم نفسه من الدعوة إلى اللَّه، ويحرم الناس من علمه (3)، وهذا يؤهِّله إلى أن يُحدِّثَ الناس بما يعرفون، ولا يحدِّثهم حديثاً لا تبلغه عقولهم، قال علي رضي الله عنه: ((حدِّثوا الناس بما يعرفون، أتحبون أن يُكذَّبَ اللَّه
(1) البخاري، كتاب الأدب، باب لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، برقم 5782، ومسلم، كتاب الزهد والرقائق، باب لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين، برقم 2998.
(2)
الترمذي، كتاب صفة القيامة، باب حدثنا هناد، برقم 2499،وابن ماجه في الزهد، باب ذكر التوبة، برقم 4251، والدارمي في الرقائق، باب التوبة، 2/ 213، وحسنه الألباني في صحيح الترمذي،2/ 305.
(3)
انظر: السيرة النبوية دروس وعبر، للدكتور مصطفى السباعي، ص41، والرياض الناضرة والحدائق النيرة الزاهرة، لعبد الرحمن السعدي، ص88.
ورسوله)) (1).
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ((ما أنت بِمُحدِّثٍ قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلا كان لبعضهم فتنة)) (2).
وهكذا ينبغي أن يكوِّن الداعية من تجاربه في الحياة، ومعرفته بشؤون الناس ما يُمكِّنه من اكتساب الحكمة، وتحقيق قوله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ (3).
(1) البخاري، كتاب العلم، باب من خص بالعلم قوماً دون قوم كراهية أن لا يفهموا، برقم 127.
(2)
مسلم، في المقدمة، باب النهي عن الحديث بكل ما سمع، برقم 14.
(3)
سورة النحل، الآية:125.