الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المصلحتين بترك أيسرهما (1).
وهذا من أعظم الحكم العالية، فقد راعى النبي صلى الله عليه وسلم هذه المصالح، وما يقابلها من المفاسد، ورسم صلى الله عليه وسلم لأمته والدعاة من بعده كيفية الرفق بالجاهل، وتعليمه ما يلزمه من غير تعنيف، ولا سبٍّ ولا إيذاء ولا تشديد، إذا لم يكن ذلك منه عناداً ولا استخفافاً، وقد كان لهذا الاستئلاف والرحمة والرفق الأثر الكبير في حياة هذا الأعرابي وغيره، فقد قال بعد أن فقه - كما تقدّم - وفي رواية الإمام أحمد: فقام النبي صلى الله عليه وسلم إليّ بأبي وأمي، فلم يسبّ، ولم يؤنّب، ولم يضرب (2).
فقد أثّر هذا الخلق العظيم في حياة الرجل (3).
المثال الرابع: مع معاوية بن الحكم:
عن معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه قال: بينا أنا أصلي مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذ عطس رجل من القوم، فقلت: يرحمك اللَّه! فرماني القوم بأبصارهم، فقلت: واثكل أمّياه، ما شأنكم تنظرون إليَّ؟ فجعلوا يضربون بأيديهم على أفخاذهم، فلما رأيتهم يُصمتونني، لكنّي سكتُّ، فلما صلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فبأبي هو وأمي ما رأيت معلِّماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه، فواللَّه ما كهرني (4) ولا ضربني ولا شتمني، قال:((إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس، إنما هو التسبيح والتكبير وقراءة القرآن))، أو كما قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.
(1) انظر: فتح الباري، شرح صحيح البخاري، 1/ 325، وشرح النووي على مسلم، 3/ 191.
(2)
أخرجه ابن ماجه، برقم 529، وأحمد، تقدم تخريجه.
(3)
انظر: فتح الباري، 1/ 325، وشرح النووي، 3/ 191، وعون المعبود شرح سنن أبي داود، 2/ 39، وتحفة الأحوذي، شرح سنن الترمذي، 1/ 457.
(4)
ما كهرني: أي ما قهرني ولا نهرني. انظر: شرح النووي، 5/ 20.
قلت: يا رسول اللَّه! إني حديث عهد بجاهلية، وقد جاء اللَّه بالإسلام، وإنا منا رجالاً يأتون الكهان، قال:((فلا تأتهم)).
قال: ومنا رجال يتطيرون، قال:((ذاك شيء يجدونه في صدورهم فلا يصدّنّهم)) (1)، (قال ابن الصلاح: فلا يصدّنكم)، قال: قلت: ومنا رجال يخطّون، قال:((كان نبي من الأنبياء يخطّ، فمن وافق خطّه فذاك)) (2).
قال: وكانت لي جارية ترعى غنماً لي قِبَلَ أُحُد والجوَّانية (3)، فاطلعت ذات يوم فإذا الذئب قد ذهب بشاة من غنمها، وأنا رجل من بني آدم، آسف كما يأسفون، لكني صككتها صكة، فأتيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فعظَّم ذلك عليَّ، قلت: يا رسول اللَّه! أفلا أعتقها، قال:((ائتني بها))، فأتيته بها، فقال لها:((أين اللَّه؟)) قالت: في السماء، قال:((من أنا؟)) قالت: أنت رسول اللَّه. قال: ((أعتقها فإنها مؤمنة)) (4).
وهذا الموقف من أعظم الحكم البارزة السامية التي أوتيها النبي صلى الله عليه وسلم، وقد ظهر أثر ذلك في حياة ونفس معاوية رضي الله عنه؛ لأن النفوس مجبولة على حبّ من أحسن إليها، ولهذا قال معاوية رضي الله عنه: ما رأيت معلِّماً قبله ولا بعده أحسن تعليماً منه.
(1) قال العلماء: معناه أن الطيرة شيء تجدونه في نفوسكم ضرورة، ولا عتب عليكم في ذلك، ولكن لا تمتنعوا بسببه من التصرف في أموركم. انظر: المرجع السابق، 5/ 22.
(2)
اختلف العلماء في معناه، والصحيح أن معناه: من وافق خطه فهو مباح له؛ ولكن لا طريق لنا إلى العلم اليقيني بالموافقة فلا يُباح، والمقصود أنه حرام؛ لأنه لا يُباح إلا بيقين الموافقة، وليس لنا يقين بها، وقيل: إنه نُسخ في شرعنا. فحصل من مجموع كلام العلماء فيه الاتفاق على النهي عنه الآن فهو محرم. انظر: شرح النووي على صحيح مسلم، 5/ 23.
(3)
الجوانية: موضع في شمال المدينة بقرب جبل أحد. انظر: المرجع السابق، 5/ 23.
(4)
أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب تحريم الكلام في الصلاة ونسخ ما كان من إباحته، برقم 537، وانظر شرحه في شرح مسلم للنووي، 5/ 20.