الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد وصف اللَّه نفسه بصفة الحلم في عدة مواضع من القرآن الكريم، كقوله تعالى:{وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ} (1).
ونلاحظ أن الآيات التي وصفت اللَّه بصفة الحلم قد قرنت صفة الحلم - في أغلب هذه الآيات - بصفة المغفرة أو العفو، ويأتي هذا الاقتران في الغالب بعد إشارة سابقة إلى خطأ واقع، أو تفريط في أمر محمود، وهذا أمر يتفق مع الحلم؛ لأنه تأخير عقوبة، قال سبحانه:{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى} (2).
ونجد أيضاً أن عدداً من الآيات التي وصفت اللَّه بالحلم قد قرن فيها ذكر الحلم بالعلم، كقوله تعالى:{وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} (3)، وهذا يفيد - واللَّه أعلم بمراده - أن كمال الحلم يكون مع كمال العلم، وهذا من أعظم مقومات الداعية الناجح، ومن أعظم أركان الحكمة (4).
ثانياً: أهمية الحِلْم:
الحلم من أعظم أخلاق المسلم، وهو أيضاً من دعائم
الحكمة، فلا يكون الداعية ناجحاً حتى يكون: حكيماً، فالحكمة تقوم على ثلاثة أركان: العلم، والحلم، والأناة، وكل خلل في
(1) سورة آل عمران، الآية:155.
(2)
سورة فاطر، الآية:45.
(3)
سورة الحج، الآية:59.
(4)
انظر: أخلاق القرآن للشرباصي، 1/ 185.
الداعية إلى اللَّه فسببه الإخلال بالحكمة وأركانها، فأكمل الناس أوفرهم منها نصيباً، وأنقصهم وأبعدهم عن الكمال أقلّهم منها ميراثاً، ومعاول هدم الحكمة: الجهل، والطيش، والعجلة، فلا حكمة لجاهل، وطائش، ولا عجول (1).
ومما يُؤكِّد أن الحلم من أعظم مقومات الداعية ومن أركان الحكمة التي ينبغي للداعية أن يدعو بها إلى اللَّه - تعالى - مدح النبي صلى الله عليه وسلم للحلم، وتعظيمه لأمره، وأنه من الخصال التي يحبها اللَّه عز وجل، قال النبي صلى الله عليه وسلم للأشجِّ (2):((إن فيك خصلتين يحبِّهما اللَّه: الحلم والأناة)) (3).
وفي رواية قال الأشجّ: يا رسول اللَّه، أنا تخلَّقت بهما أم اللَّه جبلني عليهما؟ قال:((بل اللَّه جبلك عليهما))، قال: الحمد للَّه الذي جبلني على خُلُقيْن يحبهما اللَّه ورسوله (4).
وسبب قول النبي صلى الله عليه وسلم ذلك للأشجّ ما جاء في حديث الوفد أنهم لما وصلوا المدينة بادروا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأقام الأشجّ عند رحالهم، فجمعها، وعقل ناقته، ولبس أحسن ثيابه، ثم أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقرّبه النبي صلى الله عليه وسلم وأجلسه إلى جانبه، ثم قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم:((تبايعونِ على أنفسكم وقومكم)) فقال القوم: نعم، فقال الأشجّ: يا رسول اللَّه،
(1) انظر: مدارج السالكين، 2/ 480.
(2)
المنذر بن عائذ بن المنذر العصري، أشج عبد القيس، كان سيد قومه، رجع بعد إسلامه إلى البحرين مع قومه، ثم نزل البصرة بعد ذلك ومات بها رضي الله عنه. انظر: تهذيب التهذيب،
10/ 267.
(3)
مسلم، في كتاب الإيمان، باب الأمر بالإيمان بالله - تعالى - ورسوله، برقم 25.
(4)
أبو داود، في الأدب، باب في قبلة الجسد، برقم 5227، وأحمد، 4/ 206، 3/ 23.
إنك لم تزاول الرجل على شيء أشدّ عليه من دينه، نبايعك على أنفسنا، ونرسل من يدعوهم، فمن اتبَّعَنا كان منا، ومن أبى قاتلناه، قال: ((صدقت، إن فيك خصلتين
…
)) الحديث.
فالأناة: تربُّصُه حتى نظر في مصالحه، ولم يعجل، والحلم: هذا القول الذي قاله، الدال على صحّة عقله، وجودة نظره للعواقب (1).
ومما يُؤكِّد أن الحلم من أعظم أركان الحكمة ودعائمها العظام أنه خُلُق عظيم من أخلاق النبوة والرسالة، فالأنبياء عليهم الصلاة والسلام هم عظماء البشر، وقدوة أتباعهم من الدعاة إلى اللَّه والصالحين في الأخلاق المحمودة كافة.
وقد واجه كل واحد منهم من قومه ما يثير الغضب، ويغضب منه عظماء الرجال، ولكن حلموا عليهم، ورفقوا بهم، ولانوا لهم حتى جاءهم نصر اللَّه المؤزَّر، وعلى رأسهم إمامهم، وسيدهم، وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم ولم يكن غريباً أن يوجهه اللَّه تعالى إلى قمة هذه السيادة حين يقول له:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ * وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (2).
وقال عز وجل: {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} (3).
وقال عز وجل: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ
(1) شرح النووي على مسلم، 1/ 189، وتحفة الأحوذي شرح سنن الترمذي، 6/ 152.
(2)
سورة الأعراف، الآيتان: 199 - 200.
(3)
سورة فصلت، الآية:34.