الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
*
الاتهامات الموجهة إليه:
ومع ما تقدم من الثناء العاطر، والمدح الزاهر له، من أئمة الإسلام وأهله، فقد اتُّهم وتكلم فيه؛ في عقيدته، ومنهجه في الكلام على الرواة والأحاديث، وهذا شأن كل من يسير على منهج الحق، فإنه لا يسلم من كلام النَّاس، لأنّه لم يسلم من كلام أحد كما قال الإمام الذهبي - رحمه الله تعالى-: فمن يسلم من الكلام بعد أحمد (1)، ولكن يا ترى هل لذلك أثر في حط منزلته الّتي بلَّغه الله إياها؟!
قال الإمام الذهبي في "الميزان"(2): ليس كلّ كلام وقع في حافظ كبير بمؤثر فيه بوجه. اهـ.
وإني في مثل هذه العجالة سأذكر بعض هذه المآخذ والاتهامات مع الجواب عليها، وأشير إلى البعض الآخر بمشيئة الله عز وجل، فأقول مستمدًّا العون من الله عز وجل من هذه الاتهامات الّتي اتُّهم بها هذا الإمام الهمام.
(1)
التَّشَيُّع:
قال الخطيب: سمعت حمزة بن محمّد بن طاهر الدَّقَّاق يقول: كان أبو الحسن الدارقطني يحفظ ديوان السَّيِّد الحميري في جملة ما يحفظ من الشعر؛ فنسب إلى التشيع لذلك (3).
وقد أجيب عن هذا الاتهام المتهافت بعدَّة أجوبة:
أحدها: ما جاء في "سؤالات السلمي (4) " قال: قال الشّيخ -يعني الدارقطني-: اختلف قوم ببغداد من أهل العلم، فقال قوم: عثمان أفضل، وقال قوم: علي أفضل، فتحاكموا إليَّ فيه، فسألوني عنه فأمسكت، وقلت: الإمساك عنه خير، ثمّ لم أرد
(1) من تكلم فيه وهو موثق (33).
(2)
(4/ 410)
(3)
تاريخ بغداد (12/ 35).
(4)
برقم (238).
السكوت، وقلت: دعهم يقولون فيَّ ما أحبُّوا، فدعوت الّذي جائني مستفتيًا، وقلت: ارجع إليهم وقيل: أبو الحسن يقول: عثمان بن عفان رضي الله عنه أفضل من علي بن أبي طالب، باتِّفاق جماعة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا قول أهل السُّنَّة، وهو أول عقد يحل في الرفض.
قلت: فهل يعقل أنّ يقول هذا الكلام شيعي؟! فإنّه اعتبر تقديم علي على عثمان فضلًا عن عمر فضلًا عن أبي بكر من الرفض، وهذا قد يعُدُّ نوع مبالغة من الدارقطني لذا علّق الحافظ الذهبي على قول الدارقطني هذا بقوله: قلت: ليس تفضيل على برفض ولا ببدعة، بل قد ذهب إليه خلق من الصّحابة والتابعين، فكل من عثمان وعلي ذو فضل وسابقة واجتهاد، وهما متقاربان في العلم والجلالة، ولعلَّهما في الآخرة متساويان في الدَّرجة، وهما من سادة الشهداء رضي الله عنهم، ولكن جمهور الأُمَّة على ترجيح عثمان على الإمام علي، وإليه نذهب، والخطب في ذلك يسير، والأفضل منهما بلا شك أبو بكر وعمر، من خالف في ذلك فهو شيعي جلد، ومن أبغض الشيخين واعتقد صحة إمامتهما فهو رافضي مقيت، ومن سبَّهما واعتقد أنّهما ليسا بإمامي هدى فهو من غلاة الرافضة أبعدهم الله (1).
ثانيًا: إنَّ الناظر في أقواله في الجرح والتعديل يعلم أنّه يذكر كثيرًا. من التراجم ببدعة التشيع على وجه الذم، فمن ذلك ما جاء في "سؤالات السُّلَمي (2) " ترجمة محمّد بن المظفر، وفي "الضعفاء والمتروكين (3) " ترجمة الحارث بن حصيرة، وعمارة بن جوين، وغيرهم.
ثالثًا: أنَّ الإمام الدارقطني - رحمه الله تعالى- قد ألَّف كتابًا في "فضائل الصّحابة ومناقبهم وقول بعضهم في بعض" ولم يخصّ أحدًا فهل يُعْقل أنّ شيعيًّا رافضيًّا يقوم
(1) النبلاء (16/ 458).
(2)
برقم (360).
(3)
ص (179، 299).
بتأليف مثل هذا الكتاب الفذ؟!! انظر "اللسان"(3/ 386) ترجمة خيثمة بن سليمان الطرابلسي.
رابعًا: متى كان حفظ قول من الأقوال، أو شعر من الأشعار دليلًا على اعتقاد حافظه صحته؟!
خامسًا: أنّ الإمام الدارقطني قد جرح الحميري بسبه الصّحابة وتشيعه لعلي رضي الله عنه فقد قال في "المؤتلف والمختلف (1) ": "السَّيِّد الحميري الشاعر اسمه إسماعيل بن محمّد بن يزيد، كان غاليًا يسب السَّلف، يمدح أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ". ففي هذا دليل على أنّه لم يحفظ ديوانه موافقة له على بدعته، وإلا لما جرحه بذلك، وإنّما حفظه لحسن نظمه. قال الذهبي في "النبلاء (2) ": ونظمه - يعني الحميري- في الذروة، ولذلك حفظ ديوانه أبو الحسن الدارقطني.
سادسًا: ما جاء عن أهل العلم من استبعاد ذلك ورده، فمن ذلك ما قاله الحافظ الذهبي في "تذكرته (3) ": ما أبعده عن التشيع. وقال في "معرفة القراء (4) ": قلت هو بريء من التشيع. وقال السيوطيّ في "طبقاته (5) ": ما أبعده منه. وقال السمعاني في "ذيل تاريخ بغداد" ما نصه: ونقل ابن طاهر عن الدَّقَّاق أنّه سمع الخطيب يقول: في الدارقطني تشيع، وما أظن هذا يصح عن الخطيب، إِلَّا إنَّ كان أراد أهل المحلة، فأمّا أبو الحسن الدارقطني فكان سنيًّا، وهكذا نبه عليه ابن طاهر، وقد ذكر إسماعيل بن علي الأموي في "تاريخه" أنّ الدارقطني كان يحفظ عدة دواوين للشعراء، منها ديوان السَّيِّد الحميري، ولذلك نسب إلى التشيع (6).اهـ قال الحافظ ابن حجر: وهذا لا يثبت عن الدارقطني (7).
(1)(3/ 1308 - 1309).
(2)
(8/ 42).
(3)
(3/ 992).
(4)
(1/ 351) طبعة بشَّار عوَّاد.
(5)
ص (394).
(6)
اللسان (7/ 316) ط/ غنيم.
(7)
المصدر السابق.
(2)
تقربه للوزير ابن حِنْزَابَة وتزلُّفه إليه.
قال اليافعي في "مرآة الجنان (1) " في نهاية ترجمته للدارقطني: "قلت فهذا ما لخصته من أقوال العلماء في ترجمته، وكل ذلك مدح في حقِّه؛ إلى سفره إلى مصر من أجل الوزير المذكورة فإنّه وإن كان ظاهره كما قالوا لمساعدةٍ له في تخريج "المسند" المذكور، فلست أرى مثل هذا الإيقاع بأهل العلم ولا بأهل الدِّين، نعم لو كان هذا لمساعدةٍ من بعض أهل العلم والدين لا يشوبها شيءٍ من أمور الدنيا، كان حسنًا منه وفضلًا، وحرصًا على نشر العلم، والمساعدة في الخير، وبعيد أنّ تطاوع النفوس لمثل هذا إِلَّا إذا وفَّق الله، وذلك نادر أو معدوم".
وأجيب عن ذلك بأن ابن حِنْزَابة لم يكن وزيرًا وصاحب سلطان وجاه فقط، بل كان من أهل العلم والفضل، بذل نفسه للعلّم والعلّماء (2)، فرحلة الدارقطني رحلة لعالم من العلماء، مشهود له بالتقوى والصلاح، وهذا أمر لا ينبغي أن يلام عليه العالم، بل ينبغي أنّ يمدح بذلك، وخاصة من أمثال الدارقطني، وأنّه لم يقصر رحلته على هذا العالم الأمير، بل جعلها رحلة ينشر فيها العلم بين طلابه، وقد سبق أنّه لما أراد الخروج من مصر، خرج أهلها لتوديعه وهم يبكون، فرحم الله هذا الإمام، ولله دره من همام، وقد علَّق الذهبي على قصة إملاء الدارقطني على الغريب وقبوله الهدية منه بقوله:
قلت: هذه حكايته صحيحة رواها الخطيب عن العتيقي، وهي دالة على سعة حفظ هذا الإمام وعلى أنّه لوَّح بطلب شيءٍ، وهذا مذهب لبعض العلماء، ولعلّ الدارقطني كان إذ ذاك يحتاجه، وكان يقبل جوائز دعلج السجزي وطائفة، وكذا وَصَلَه الوزير ابن حنزابة بجملة من الذهب لما خرَّج له المسند (3).
(1)(2/ 426).
(2)
النبلاء (16/ 485).
(3)
النبلاء (16/ 456).