المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثانيعصمة الأنبياء - السيرة النبوية بين الآثار المروية والآيات القرآنية

[محمد بن مصطفى الدبيسي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأولسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم

- ‌الفصل الأولثناء الله تعالى عليه صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الأول{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}

- ‌المبحث الثاني{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}

- ‌المبحث الثالث{وَالضُّحَى

- ‌الفصل الثانيحقوقه صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الأول{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}

- ‌المبحث الثاني{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}

- ‌الفصل الثالثعصمته صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الأولمعنى العصمة

- ‌المبحث الثانيعصمة الأنبياء

- ‌الباب الثانيالرسول صلى الله عليه وسلم في مكة

- ‌الفصل الأولمن المولد إلى البعثة

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأولنسبه صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الثانيمولده صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الثالثرضاعته صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الرابعمنهج «وات» وغيره في تعامله مع السيرة

- ‌المبحث الخامسحادثه شق الصدر

- ‌المبحث السادسألم نشرح لك صدرك .. التعليق على «وات»

- ‌المبحث السابعحفظ الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم قبل البعثة

- ‌المبحث الثامنزواجه صلى الله عليه وسلم من خديجة رضى الله عنها .. التعليق على «وات»

- ‌المبحث التاسعمشاركته في بناء الكعبة ووضع الحجر الأسود

- ‌الفصل الثانيالبشارات بالنبي صلى الله عليه وسلم إرهاصًا بنبوته

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأولبشارات الأنبياء بالرسول صلى الله عليه وسلم والمصادر

- ‌المبحث الثانيإرهاصات النبوة الواردة في السنة المشرفة

- ‌الفصل الثالثبدء الوحى

- ‌المبحث الأولإرهاصات (البعثة - النبوة)

- ‌المبحث الثانيالبعثة والنبوة

- ‌المبحث الثالثمراتب الوحى

- ‌المبحث الرابعمراتب الدعوة

- ‌المبحث الخامسبواعث الدعوة

- ‌المبحث السادسعالمية الدعوة

- ‌المبحث السابعالجهر بالدعوة

- ‌المبحث الثامنمعنى الاضطهاد

- ‌الباب الثالثالعهد المدنى

- ‌الفصل الأولأسس بناء المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية في المدينة

- ‌المبحث الأولبناء المسجد

- ‌المبحث الثانيالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار

- ‌المبحث الثالثالوثيقة (الصحيفة)

- ‌الفصل الثانيغزوة بدر

- ‌المبحث الأولالنشاط السياسى والعسكرى إلى غزوة بدر

- ‌المبحث الثانيغزوة بدر في السيرة المشرفة

- ‌المبحث الثالثغزوة بدر في القرآن الكريم

- ‌الخاتمة

- ‌المصادر والمراجع

- ‌ملخص البحث

- ‌[ملخص البحث باللغة الإنجليزية]

الفصل: ‌المبحث الثانيعصمة الأنبياء

‌المبحث الثاني

عصمة الأنبياء

(قصة سيدنا يوسف عليه السلام

وقد اختار الباحث قصة يوسف عليه السلام بعينها لكونها مما ثار حوله الأخذ والرد، والقبول والرفض، وأثيرت حوله الشبهات بين معارض للعصمة، وبين مدافع عنها، وبين مفصل فيها، ما يقبل وما يرد. والقصة مع ذلك غنية بالمواقف والمشاهد والمعاني، التي تصلح لدراسة النصوص ومقارنتها، وهذه هي الآيات التي تصور القصة نسوقها ونحللها مع بقية الآيات الكريمات التي لم نسقها.

يقول الله عز وجل: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30)} [يوسف: 22 - 30] إلى آخر الآيات التي سنتعرض لها بمشيئة الله.

ص: 97

أطلت في نقل تلك الآيات وإن اقتصرت عليها لتكون بداية دراسة حديث العصمة للأنبياء خاصة رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهي من منهجنا الجديد في البحث، وهو ذكر الأنبياء وما حدث لهم مع المقارنة بالنبي صلى الله عليه وسلم. ونبدأ بقوله تعالى:{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ} أي لما بلغ يوسف عليه السلام منتهى اشتداد جسمه وقوته - أي ما بين الثلاثين والأربعين - آتيناه حكمًا وعلمًا وتنكيرهما للتفخيم من شأنهما أي حكمًا وعلمًا فخمًا لا يقادر قدرهما إلا الله، والحكم هو العليم المؤيد بالعمل، أو حكمًا بين الناس أو النبوة، وكل ذلك متحقق فيه عليه السلام، وكذلك العلم هو التفقه العالي في الدين (1)، ويحسن هنا أن نشير إلى قول آخر للإمام الفخر الرازي في المسألة الثالثة - في تفسير الحكم والعلم أقوال:

القول الأول:

أن الحكم والحكمة أصلها حبس النفس عن هواها، ومنعها مما يشينها، فالمراد من الحكم الحكمة العملية، والمراد من العلم الحكمة النظرية، وإنما قدم الحكمة العملية هنا على النظرية، لأن أصحاب الرياضات يشتغلون بالحكمة العملية، ثم يترقون على الحكمة النظرية

وهي طريقة يوسف عليه السلام، لأنه صبر على البلاء والمحنة ففتح الله عليه أبواب المكاشفات، فلهذا السبب قال:{آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} . (2)

وكذلك هذا القول يبين مدى ما وصل إليه يوسف عليه السلام من الحكمة والعلم الحافظين له عما يشين النفس، أو يعرضها للتهمة، أو يجعلها غرضًا لسهام النقد أو التنقص،

(1) أبا السعود "إرشاد العقل السليم"(92/ 3).

(2)

انظر الفخر الرازي "التفسير الكبير"(20/ 9). الناشر دار الغد العربي ط الأولى 1492 هـ - 1992 م، ويقول العلامة الطاهر بن عاشور:"والحكم والحكمة مترادفان، وهو: علم حقائق الأشياء والعمل بالصالح، واجتناب ضده" التحري والتنوير (248/ 12).

ص: 98

ويدل لهذا القول وما سبقه قوله تعالى: "وكذلك نجزي المحسنين" وفيها معانٍ:

الأول: وصف يوسف عليه السلام بالإحسان، وإذ هو نبي فلابد أن يكون في الدرجة العالية من الإحسان، لأن تعليق الجزاء المذكور بالمحسنين إشعار بعلية الإحسان له، وتنبيه على أنه سبحانه إنما آتاه ما آتاه لكونه محسنًا في أعماله، متقيًا في عنفوان أمره.

الثاني: أن ذلك الإحسان جزاء على ما كان من يوسف في تحمل الشدائد والأحزان، والثبات على طاعة الله ومرضاته، واجتناب مساخطه وما يغضبه سبحانه وتعالى:{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)} [الرحمن: 60]، وقد رأينا ذلك سجنه وشدته من نظرة السجناء معه عند طلبهم منه أن يؤول لهم الرؤيا بقولهم:{إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)} ، وهي شهادة من الكفرة له، بدون سابق معرفة إلا مطالعة محياه الطاهر عليه السلام.

الثالث: {كَذَلِكَ} الكاف للتشبيه، أي ومثل ذلك الجزاء العجيب نجزي كل من يحسن في عمله، حيث اسم الإشارة للبعيد دليل على بعد منزلة هذا الجزاء وعظمها. (1)

وذلك كله يوضح في ضمن ما سيذكر أن سيدنا يوسف عليه السلام كان في المنزلة الرفيعة من حفظ النفس ومرضاة الرب، وأن جزاء الله له محيط به يحفظه بحفظه، ويكلؤه بكلاءته. وذلك كله قبل ذكر مراودة امرأة العزيز له.

ولقد ذكرت سورة يوسف في الآيات المبكرة منها أن يوسف عليه السلام في محل اجتباء الله له واصطفائه إياه، من حيث قص رؤياه وهو غلام صغير على أبيه يعقوب عليهما السلام، وذلك في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى

(1) انظر الزمخشرى "الكشاف"(157/ 3)، البيضاوى "أنوار التنزيل"(140/ 3)، أبا السعود "إرشاد العقل السليم"(92/ 3).

ص: 99

آَلِيَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)} [يوسف: 6].

وهذه الآية الكريمة تشتمل على محاسن من المعاني التي تشترك مع غيرها فيما بعد لتكون الصورة المشرقة عن عصمة النبي صلى الله عليه وسلم، وعصمة الأنبياء عليهم السلام.

وأول ذلك: العناية الربانية بهؤلاء المصطفين الأخيار من صغرهم، وذلك في قوله تعالى .... وكذلك فالواو عاطفة لهذا الكلام على قوله:{لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ} إعلامًا ليوسف عليه السلام بعلو قدره ومستقبل كماله، كي يزداد تمليًا من سمو الأخلاق، فيتسع صدره لاحتمال إخوته، صفحًا عن غيرتهم وحسدهم، وليكون كلام الأب نصحًا خالصًا تنفي عنه البغضاء ونحوها، وهي حكمة نبوية عظيمة، وطب روحاني ناجح، وقد آتى ذلك ثمرة كما هو يتضح من نهاية القصة في تعامل يوسف عليه السلام مع إخوته.

والكاف للتشبيه، وهو ما يلفت النظر ويثير الانتباه، أي مثل هذا الاصطفاء الذي دلت عليه الرؤيا من العناية الربانية به يجتبيك ربك في المستقبل، والتشبيه هنا تشبيه تعليل لأنه تشبيه أحد المعلولين بالآخر لاتحاد العلة. وموقع الجار المجرور موقع المفعول المطلق لـ "يجتبيك" المبين لنوع الاجتباء ووجهه.

والاجتباء: هو الاختيار والاصطفاء، ومعنى ذلك أن الله قد اجتباه واختاره واصطفاه في صغره، وهو حال الأنبياء قبل البعثة؛ ليرشدنا ذلك إلى تحليل أحوالهم على هذا المنوال بعد البعثة.

ثانى ذلك: أن هذا الاجتباء والاصطفاء قبل البعثة، وتلك العناية الربانية دليل رفعة شأن في المستقبل وذلك يؤذن بنبوته، وإنما علم يعقوب عليه السلام أن رفعة يوسف عليه السلام في مستقبله رفعة إلهية لأنه علم أن نعم الله تعالى متناسبة فلما كان ما ابتدأه به من النعم اجتباء وكمالاً نفسيًا تعين أن يكون ما يلحق بها من نوعها.

ص: 100

ثالثه: أن هذا الاجتباء يتبعه لا شك ارتقاء نفسي من الواردات الإلهية إلى أن يصل إلى النبوة لأنه ذكر بعد ذلك: {وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ} فهو في تدرج في هذه النعم إلى تمامها، وتمامها هو إعطاؤه أفضل النعم، وهي نعمة النبوة، مما يدل عند الكلام على مراودة امرأة العزيز أن يوسف عليه السلام في الترقي إلى الكمال، قد وصل منتهاه، هذا تحليل وسياق الآيات والواقع ليكون الباحث على ذكر من ذلك حال بحثه في آيات العصمة، ليرد مخالفها بهذا التحليل القاطع.

ويمكن أن يكون إتمام النعمة كذلك بضميمة الملك إلى النبوة والرسالة، فيكون المراد إتمام نعمة الاجتباء الأخروي بنعمة المجد الدنيوي. ولذلك كان المعنى في قوله تعالى:{كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ} إن كان المراد من إتمام النعمة النبوة فالتشبيه تام، وإن كان المراد من إتمام النعمة الملك فهو إتمام النعمة على الإطلاق فقد تمت كل النعم عليه عليه السلام فأنى يقع بعد ذلك فيما يتنزه عنه غيره ممن لم يصل إلى شيء من تلك النعم، وهو يمكن أن يعيش وأن يموت ولا يقع في شيء من تلك الرذائل.

رابع ذلك: وهو جملة: {إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} ، ولها تعلق كبير بما نحن بصدده إذ هي تذييل بتمجيد هذا النعم، وأنها كائنة على وفق علمه وحكمته، فعلمه هو علمه بهذه النفوس التي تصلح لهذه الفضائل، لأنه خلقها لقبول ذلك، وحكمته وضع النعم في مواضعها المناسبة، وذلك تعريض بالثناء على يوسف عليه السلام لعلم الله تعالى بكونه من هذه النفوس الصالحة التي يصلح لهذه النعم الكاملة وحكمته التي اقتضت وضع هذه النعم موضعها المناسب.

نعود إلى بداية الآيات التي بدأنا بها لنستكمل تحليلها، وهي من قوله تعالى:{وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آَتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} .

لما بلغ يوسف عليه السلام أشدة آتاه ربه سبحانه وتعالى العلم والحكمة، ووصل إلى أعلى

ص: 101

درجات الرقى الدينى والأخلاقى؛ بتمام تلك النعم عليه، وبدأ فصل جديد هو مراودة امرأة العزيز له عن نفسه.

ويبدأ هذا المقطع بمراودة امرأة العزيز ليوسف عليه السلام، وقد أُوتي العلم والحكمة، وبلغ عنفوان الشباب والقوة، وهو في بيتها، وغلقت الأبواب، وننظر في هذه الآيات نظرة تحليلية دقيقة فاحصة لنرى ما يأتي:

أولاً: إن قوله تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا} رجوع إلى شرح ما جرى عليه في منزل العزيز بعدما أمر امرأته بإكرام مثواه، فكان قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ} استطراد اعتراض بين الأمر بإكرام مثواه وبين المراودة جيء به أنموذجًا للقصة ليعلم السامع من أول الأمر أن ما لقيه عليه السلام من الفتن التي ستحكى بتفاصيلها له غاية جميلة، وعاقبة حميدة، وأنه عليه السلام محسن في جميع أعماله، لم يصدر عنه في حالتي السراء والضراء، ما يخل بنزاهته (1)، إذ كيف يكون ذلك وملخص القصة في بدايتها التمكين والإنجاء، وبل التمكين البالغ المستفاد من قوله تعالى:{وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا} لأننا لو أجرينا اسم الإشارة على قياس كثير من أمثاله في القرآن الكريم، كقوله تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [سورة البقرة: 143]، كان التمكين المستفاد منه {مَكَّنَّا لِيُوسُفَ} تنويهًا بأن ذلك التمكين بلغ غاية ما يطلب من نوعه، بحيث لو أريد تشبيهه بتمكين أتم منه لما كان إلا يشبه بنفسه بنحو قول النابغة:

والسفاهة كاسمها

فيكون الكاف في محل نصب على المفعول المطلق. والتقدير: مكنا ليوسف تمكينًا كذلك التمكين، وإن أجرينا اسم الإشارة على ما يحتمله اللفظ كان الحاصل هو المذكور

(1) انظر أبا السعود "إرشاد العقل السليم"(92/ 3).

ص: 102

آنفًا، وهو ما يفيده من الإنجاء العجيب له قبل ذلك من كيد إخوته، ومن إخراجه من الجب، أي مكنَّا ليوسف تمكينًا من صنعنا مثل ذلك الإنجاء الذي نجيناه، فتكون الكاف في موضع الحال من مصدر مأخوذ من {مَكَّنَّا} ، والتمكين هنا مراد به ابتداؤه وتقدير أول أجزائه؛ لأنه بحلوله عليه السلام محل العناية من عزيز مصر قد خُطَّ له مستقبل تمكينه في الأرض على الوجه الأتم الذي أشير له بقوله تعالى بعد ذلك:{وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ} .

وعطف على {وَكَذَلِكَ} قوله تعالى: {وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ} وهي علة كذلك لهذا التمكين؛ لأن الله تعالى لما قدر في سابق علمه أن يجعل يوسف عليه السلام عالمًا بتأويل الرؤيا، وأن يجعله نبيًا أنجاه من الهلاك، ومكن له في الأرض تهيئة لأسباب مراد الله تعالى (1)، ثم بعد هذه العناية، وتحقيق ذلك التمكين، وذلك العلم وتلك الحكمة، يأتي هذا المجتبى بأمور الخيانة ومخالفة الرب، والوقوع فيما تنزه عن الوقوع فيه من ليسوا بهذه العناية من البشر العاديين وهذا ما يأباه السياق وينعى على عقول أصحابه، ويدفع أفكارهم.

ثانيًا: قوله تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ} ونلاحظ تقديم المراودة على تغليق الأبواب، والتهيؤ له، وطلب المبادرة منه؛ لأن المراودة هي المقصودة من إحكام إغلاق الأبواب والتهيؤ، والمراودة: مفاعلة مستعملة في تكرير المحاولة معه عليه السلام من راد يرود، إذا جاء وذهب فشبه حال المحاول أحدًا على فعل شيء مكررًا ذلك بحال من يذهب ويجيء في المعاودة إلى الشيء المذهوب عنه، وكأنها أخذت تراوده، وتحاول معه.

(1) انظر العلامة الطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير"(246/ 12).

ص: 103

يقول العلامة ان عاشور: و {عَنْ} للمجاوزة، أي راودته مباعدة له عن نفسه، أي بأن يجعل نفسه لها. والظاهر أن هذا التركيب من مبتكرات القرآن، فالنفس هنا كناية عن غرض المواقعة، قاله ابن عطية، أي فالنفس أريد بها عفافها وتمكينها منه لما تريد والتعبير عن امرأة العزيز بطريق الموصولية في قوله تعالى:{الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا} لقصد ما تؤذن به الصلة من تقرير عصمة يوسف عليه السلام لأن كونه في بيتها من شأنه أن يطوَّعه لمرادها.

{هَيْتَ لَكَ} : اسم فعل أمر بمعنى بَادرْ، واللام في {لَكَ} لزيادة البيان بالمقصود بالخطاب أي بادر أنت، وهِئْتُ لك أنت، كما في قولهم سقيا لك.

أشارت هذه العبارات إلى عصمة يوسف عليه السلام كما سبق من معنى السياق، وكذلك لم يكن منه بعد ذلك كله إلا أن قال {مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)} وذلك ما نحلله في ثالثًا.

ثالثًا: قال معاذ الله: أي أعوذ عوذًا بالله، وهو مصدر أضيف إلى اسم الجلالة إضافة المصدر إلى معموله، أي أعتصم بالله مما تحاولين، مما تدعينني إليه، وهذا اجتناب منه على أتم الوجوه، وإشارة إلى التعليل بأنه منكر هائل يجب أن يعاذ بالله للخلاص منه (1)، لأنه شيء في حد ذاته في غاية القبح والسوء، وأنه ممتنع عنه أشد الامتناع، وعلل ذلك الامتناع والاستعصام بتعليلين:

الأول: بقوله: {إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ} ، وهذا من الكلام الموجه توجيهًا بليغًا حكي به كلام يوسف عليه السلام إما لأن يوسف عليه السلام أتى بمثل هذا التركيب في لغة القِبط، وإما لأنه أتى بتركيبين لعُذرين لامتناعه فحكاهما القرآن بطريقة الإيجاز والتوجيه، وأيا ما كان فالكلام

(1) انظر العلامة أبا السعود "إرشاد العقل السليم"(93، 94/ 3).

ص: 104

تعليل لامتناعه، وتعريض بها في خيانة عهدها (1)، وفيه عبرة عظيمة من العفاف والتقوى وعصمة الأنبياء، إذ يذكر هذه الموعظة في هذا الموقف الصعب، والمزلة الدحضة، مع الاعتصام بالله واللجوء إليه.

وكان هذا التعليل ببعض الأسباب الخارجية - بعد أن ذكرها بقبح الزنا وسوئه في ذاته - مما عسى أن يكون مؤثرًا عندها وداعيًا لها إلى اعتباره، والضمير للشأن كأنه قال إن الشأن الخطير هذا وهو ربي. على احتمال إنه خالقه، أو أنه العزيز، فإن كان العزيز هو المراد فالمعنى إن الشأن الخطير هذا وهو ربي العزيز أحسن مثواي حيث أمركِ بإكرامي فكيف يمكن أن أسيء إليه بالخيانة في حرمه، وإن قيل إن الضمير راجع إلى الله عز وجل فالمعنى أن الحال هكذا فكيف أعصيه بارتكاب تلك الفاحشة الكبيرة، وفيه تحذير لها من عقاب الله تعالى.

وعلى التقديرين ففي الاقتصار على ذكر هذه الحالة إيذان بأن هذه المرتبة من البيان كافية في الدلالة على استحالته، وكونه لا يدخل تحت الوقوع أصلاً (2)، هذا تركيب وسياق ومعنى الكلام في اللغة فكيف يمكن أن يقع منه شيء بعد ذلك سبحانك هذا بهتان مبين.

الثاني: {إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} وهو التعليل الثاني لإبائه وامتناعه واعتصامه، وضمير {إِنَّ} ضمير الشأن وهو يفيد أهمية الجملة المجعولة خبرًا عنه؛ لأنها موعظة جامعة، وأشار إلى أن إجابتها لما راودته ظلم، لأن فيها ظلم كليهما نفسه بارتكاب معصية مما اتفقت الأديان على أنها كبيرة، وظلم سيده الذي آمنه على بيته، وآمنها على نفسها إذ اتخذها زوجة وأحصنها.

(1) انظر العلامة ابن عاشور "التحرير والتنوير"(251، 252/ 12).

(2)

انظر المرجع السابق.

ص: 105

وصلنا إلى نهاية هذا المشهد الذي جسد إباء يوسف عليه السلام واعتصامه بالله ووعظ المرأة بكون ذلك سوءًا وقبيحًا وظلمًا وخيانة لله ولزوجها، وأنه لا يفلح أصحابه في الدنيا والآخرة، مما كان بيانًا واضحًا منه عليه السلام باستحالة وقوع ذلك منه، هذا موقفه عليه السلام فما موقف المرأة؟ كأنها لم تسمع من ذلك شيئًا مما يدل على سيطرة الشهوة عليها، وتغييب العقل والمنطق والأخلاق، والذي بدا فيما أقدمت عليه حيث قال:{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} عزمت على الفعل عزمًا محققًا، أكده القرآن الكريم بـ {وَلَقَدْ} ولام القسم، وجملة {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} مستأنفة استئنافًا ابتدائيًا، والمقصود من ذكر همها به تبيين ثبات يوسف عليه السلام على موقفه، وتمهيد إلى ذكر انتفاء همه لبيان الفارق بين الحالين بين حالة من سيطرت عليها الشهوة، ومن حكم عقله ودينه وخلقه وخوفه من ربه، واستبشاعه للخيانة والجرم، مع تعوذه والتجائه إلى الله من الوقوع في شيء من ذلك.

وجملة: {وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} معطوفة على جملة {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} كلها، وليست معطوفة على جملة {هَمَّتْ} والتي هي جواب القسم المدلول عليه باللام؛ لأنه لما أُردفت جملة {وَهَمَّ بِهَا} بجملة شرط {لَوْلَا} المتمحض لكون من أحوال يوسف عليه السلام وحده لا من أحوال امرأة العزيز تعين أنه لا علاقة بين الجملتين، فتعين أن الثانية مستقلة لاختصاص شرطها بحال المسند إليه فيها، والتقدير ولولا أن رأى برهان ربه لهم بها فلم يقع من يوسف هم أصلاً بهذا المعنى اللغوي الصحيح (1).

ومع ذلك فإن الهم الذي لم يقع أصلاً سواء قدمنا جواب {لَوْلَا} على شرطه، أم لم نقدمه فإن السياق واللغة وبقية الأدلة التي ذكرها القرآن تبين لنا أن هم يوسف عليه السلام ليس

(1) الطاهر بن عاشور (252، 253/ 12)، انظر رده على الطبري، وكذا رد الزمخشري وأبي السعود وغيرهم على من قال بأقوال لا تتلاءم مع السياق واللغة والعصمة للأنبياء.

ص: 106

كهم امرأة العزيز وذلك لما يأتي:

أولاً: السياق السابق ذكرنا فيه كيف أن الله تعالى مكن ليوسف عليه السلام واتاه العلم والحكمة وبين فضله ومرتبته وظهر ذلك جليًا في رده على مراودة المرأة والذي ملخصه أنه مستعصم بالله، وأنه يستحيل أن يقع منه ذلك أصلاً، وحذر المرأة ووعظها، وذكرها بمغبة ذلك وسوئه، هل يعقل بعد ذلك أن تهمَّ به فيهم وهو المجتبى الذي يُذكرها بذلك، أن يقع في الخيانة وأن يهمَّ بالسوء، بعد أن يقول هذا حرام لا يجوز اتقى الله، هذه خيانة وظلم ولا يفلح أهله إنني أخاف الله ثم إذا به يقول هيا إليَّ أيتها المرأة، أين العقل إذًا أو الفهم أو الواقع، هل تقول له بادر فيقول لها لبيك! عجيب.

ثانيًا: إن الهم في اللغة له معانٍ أُخر جاء بعضها في القرآن الكريم من مثل قوله تعالى:

{وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} [غافر: 5]، وقوله تعالى:{وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ} [التوبة: 13]، وجاء في الحديث: «أن رجلاً من الكفار شتم عمر بن الخطاب، فهمَّ به عمر رضي الله عنه

». (1)

وعليه فلا شك أن هذا الهم الذي لم يقع أصلاً لابد يكون مخالفًا لهمَّ المرأة التي أغلقت عقلها وأقفلت قلبها على الشهوة فلم تر ولم تحس إلا من خلالها، والذي يقبله السياق أنه هم بها ليدفعها عن نفسه لما بدأت في مقدمات السوء، أو هم بها زجرًا وهو مقبول مع السياق، فالسياق دل على الموعظة بالرفق، والتبيين للخطأ والخيانة بالوجوه اللطيفة فإذا استمر الطاغي في طغيانه، والمعتدي في اعتدائه لابد أن ينتقل المنكر إلى درجة أعلى من الوعظ والتذكير ليدفع عن نفسه السوء كالزجر أو الدفع أو الضرب، خاصة وأن الباغي بدأ يأخذ في خطوات سوء أشد، وهذه وظيفة الأنبياء من الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر

(1) زاد الميسر (2/ 169)، ابن الجوزى (2/ 169).

ص: 107

إذن ما فائدة البرهان الذي رآه يوسف عليه السلام، فلم يقع به هم أصلاً؟ هذا البرهان هو ما وقع في علم الله السابق من شهادة الشاهد بقطع القميص، فلعله لو دفعها لانقطع ثوبه من أمام فكان هو المتهم والمدان في هذه القضية، لذلك رأيناه يترك هذا الدفع، ويجري هاربًا، وهو متسق تمام الاتساق مع الواقع، وقرائن الأحوال، وبيان ذلك أيضًا لأنه لم يهم بها كما ذكرنا، وهو يتلاءم مع الهرب لا مع غيره مما ذكر الجهال، إذ قالوا قعد منها مقعده الذي ذكروا، فليس هذا همَّاً، بل انتقل من الهمَّ إلى الفعل، وهو لا تناسب منه مع الهرب الذي أكده السياق مع ترك الهم، فخالفوا بذلك السياق نفسه.

ثالثًا: لا يعقل أن يكون هم من أوتي العلم والحكمة والاصطفاء، كهم امرأة تريد أن تقضي شهوتها بأي سبيل بالترغيب والترهيب، والسجن والتعذيب، إن ذلك إهدار للعقل، ومساواة للشهوة بالحكمة، وللجهل بالعلم، وللخيانة والغدر بالوفاء والأمانة، ولم يعد هناك ميزان يتبين به الصلاح والفساد، ولا الهدى والضلال، واختلت الأمور، واختلفت الأحوال. ومن معاني ذلك أنه لو قيل إن الأستاذ المحترم الذي لم يؤثر عليه خيانة ولا سوء خلق يراود تلميذته عن نفسها، أو إن الطبيب الفلاني الماجد المؤدب صاحب التاريخ الناصع يراود مريضته، لن يكون الرد، لا، لا يمكن ذلك، ولا يحدث، ويصعب تصديقه، وسيكون الرد هذا عادياً.

تكملة الآية مما يؤكد ما نحن بصدده، نشير إليه سريعًا لأننا سنعود إليه، وهو قوله تعالى:{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)} فأشار القرآن بهذه الألفاظ إلى أنه صرف السوء والفحشاء عنه، ولو كان هو المتلبس بالسوء والفحشاء لكان التعبير كذلك لنصرفه عن السوء والفحشاء - الزنا والمقدمات - ثم ختم ذلك بالثناء عليه والمدح له {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} أي الذين لا يهمون بالسوء والفحشاء سبحانك هذا بهتان عظيم، بل هو من المخلصين الذين لا سبيل لمثل هذه الادعاءات إليه،

ص: 108

بل هم أعظم وأجل.

وهذا يرد على قول من خالف هذا، ويطعن فيه كائنًا من كان، ومن أجل ذلك قال الإمام الرازي:

القول الثاني:

إن يوسف عليه السلام كان بريئًا عن العمل الباطل والهم المحرم، وهذا قول المحققين من المفسرين والمتكلمين، وبه نقول وعنه نذب

ثم قال بعد ذلك تعليل: إلا أن نزيد هاهنا وجوهًا نقتصر على أحدها وهو:

الوجه الأول: أن الزنا من منكرات الكبائر، والخيانة في معرض الأمانة أيضًا من منكرات الذنوب، وأيضًا مقابلة الإحسان العظيم بالإساءة الموجبة للفضيحة التامة والعار الشديد من منكرات الذنوب، .... وأيضًا الصبي إذا تربى في حجر إنسان، وبقى مكفي المؤنة مصون العرض من أول صباه إلى زمان شبابه وكمال قوته، فإقدام هذا الصبي على إيصال أقبح أنواع الإساءة إلى ذلك المنعم من منكرات الأعمال.

إذا ثبت هذا فنقول: إن هذه المعصية التي نسبوها إلى يوسف عليه السلام كانت موصوفة بهذا الجهات الأربع، ومثل هذا المعصية لو نسبت إلى أفسق خلق الله تعالى، وأبعدهم عن كل خير لاستنكف منه، فكيف يجوز إسنادها إلى الرسول عليه الصلاة والسلام المؤيد بالمعجزات القاهرة الباهرة؟! (1)

وزاد "العلامة أبو السعود" في تعليقه على الأقوال الشنيعة المنسوبة لسيدنا يوسف

(1) الفخر الرازي "التفسير الكبير"(25، 26/ 9).

ص: 109

- عليه السلام: "إن كل ذلك إلا خرافات وأباطيل تمجها الآذان، وتردها العقول والأذهان، ويل لمن لاكها ولفقها أو سمعها وصدقها"(1).

ونثنى عنان الكلام إلى وجهة أخرى، لنحرر بها بقية الكلام الموصل إلى تلك النتيجة من عصمة يوسف لنردفها بما يتعلق بعصمة النبي صلى الله عليه وسلم، ونبين بها بقية الأدلة على ذلك، بتحليل بقية الآيات ومقارنتها ببعضها، لتستنير بذلك الصورة كاملة أو تضيء كافة جوانبها بما لا يدع مجالاً للشك في عصمة الأنبياء، ومقدمهم في ذلك سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي تحمل في ظاهرها ومطاويها الردود الجازمة على المستشرقين، حيث قررت أن أضرب صفحًا عن ذكر كلامهم، لعدم موضوعيته ولعدم حيدته، مع شدة تهافته، إلا ما كان جديرًا بالنظر فنشير إليه في حينه.

نبدأ هذه الأدلة بكلام الإمام الرازي رحمه الله حيث يقول: القول الرابع: أن كل من كان له تعلق بتلك الواقعة فقد شهد ببراءة يوسف عليه السلام من المعصية.

واعلم أن الذين لهم تعلق بهذه الواقعة: يوسف عليه السلام، وتلك المرأة وزوجها، والنسوة، والشهود، ورب العالمين شهد ببراءته عن الذنب، وإبليس أقر ببراءته أيضًا عن المعصية (2).

أما بيان أن يوسف عليه السلام ادَّعى البراءة عن الذنب فهو فيما يلي:

أولاً: قوله: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي} والمراودة قبل الهم، فهو تبرئه لنفسه في هذا المقام عن المراودة، وعن الهم من باب الأولى، أي هي راودتني، أنا لم أراودها، أنا لم أفعل شيئًا، أنا نصحتها لم ترتدع، أنا جريت منها كما ترون عندما همت بي، ولو كان هناك أدنى تعلق يتعلق

(1) العلامة أبو السعود "إرشاد العقل السليم"(95، 96/ 3).

(2)

انظر الفخر الرازي "مفاتيح الغيب"(26 - 28/ 9).

ص: 110

به العزيز ليلصق التهمة بيوسف عليه السلام لتعلق به درء للتهمة عن عرضه، وللخيانة عن أهله، ولكنه قال:{يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} ، خاصة وعلامة الخيانة بادية عليها من تزينها وتهيئها بأعظم الزينة، وكيف يؤذيها وهو يجري عنها، وقد قُدَّ قميصه، ولم تسبق عليه عليه السلام أي أمارة من أمارات عبيد السوء.

ثانيًا: قوله: {رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} وهذا استئناف بياني، لأن ما حُكِيَ قبله من مقام الشدة على يوسف عليه السلام من شأنه أن يسأل سامعه عن حال تلقي يوسف عليه السلام لكلام امرأة العزيز بسجنه وصغاره إذا لم يفعل ما تأمره، وهذا الكلام مناجاة لربه الذي هو شاهدهم، ويحتمل أن جهر به في ملأهن تأييسًا لهن من أن يفعل ما تأمره به.

ولا يحتمل هذا النص من يوسف عليه السلام سواء كان مناجاة لربه، أو مواجهة لهن إلا أن يكون بريئًا من أي شين قبل هذه المناجاة، إذ كيف يناجي ربه الذي هو شاهده ومطلع عليه، وناظر إليه بما يعلم خلاقه منه. أي تجرؤ هذا، ويؤكد ذلك أنه واجه النسوة بتقديم السجن مع ما فيه من الألم والشدة وضيق النفس على ما يدعونه إليه من الاستمتاع بالمرأة الحسنة النفيسة؛ لأن ذلك مما يكرهه الله تعالى ويحرمه، فكيف يكون قد صدر منه شيء قبل ذلك يمكن أن يُعَيَّرَ به، أو أن يقال هلمَّ قد هممت من قبل أيها الناسك الشريف!؟ وهنا ملحوظة أخرى في النص، وهي إسناد فعل {يَدْعُونَنِي} إلى نون النسوة، على ضمير جمع الإناث مع أن التي دعته امرأة واحدة! وكأن ذلك لأن تلك الدعوة من رغبات صنف النساء، أو أن النسوة اللاتي جمعتهن امرأة العزيز لما سمعن كلامها تمالأن على لوم يوسف عليه السلام وتحريضه على إجابة سيدته وتحذيره من وعيدها بالسجن، وهذا مما يدل على ما كان فيه من الشدة والمقاساة عليه السلام ومدى تحفظه وصيانته وعفافه من قبل، وهذا يسلمنا إلى الثالث.

ثالثًا: من إظهار يوسف عليه السلام لبراءته، وهو قوله تعالى: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ

ص: 111

إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ}.

ومعنى أصب، أي: أمل، يعني يناجي ربه بقوله:{وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ} يعني أميل إليهن، فدل على أن الميل مع كل أسبابه لم يحدث، ويدعو ربه أن يصرف عنه هذا الكيد الشديد، وفكيف يكون قد وقع منه هم، والميل نفسه لم يحدث إلى وقت مناجاته تلك؟ وهذه الجملة من المناجاة خبر مستعمل في التخوف. والوقع التجاء إلى الله تعالى، وملازمة للأدب نحو ربه بالتبرؤ من الحول والقوة والخشية من تقلب القلب، ومن الفتنة بالميل إلى اللذة الحرام التي قدم السجن عليها، فالخبر مستعمل في الدعاء، ولذلك فرع عنه جملة {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ} (1).

وكذلك مما يدل على إبراء (تبرئه) يوسف عليه السلام لنفسه أنه لو وقع منه شيء من ذلك لبادر عليه السلام بالتوبة والاستغفار، ولأن الأنبياء إذا صدر منه شيء على خلاف مراد الله اجتهادًا منهم مثلاً - لأننا نقول بعصمتهم جميعًا بهذه الأدلة التي نسوق - استعظموا ذلك، وبادروا إلى الله تعالى بإظهار الندامة والتوبة وطلب المغفرة والتواضع حتى كأن ما حدث ذنب عظيم، كما حدث في قصة آدم عليه السلام في أكله من الشجرة لأنه لم يأكل منها مخالفة لله تعالى، وإنما اجتهاد منه ليكون من الخالدين عند الله تعالى، أو ليكون ملكًا مقربًا لديه، ومع ذلك جاء عنه وزوجه {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)} .

أما في قصة يوسف فلم يحدث من ذلك شيء أصلاً، فدل على أنه لم يقع منه هذا لا خطأ ولا اجتهادًا فضلاً عن الذنب والمعصية، بل على العكس جاءت كلماته التي حكاها القرآن الكريم عنه عليه السلام لتدل بوضوح على هذا المعنى، وذلك في قوله لإخوته بعد أن

(1) انظر الطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير"(266/ 12).

ص: 112

عرفوه: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِن اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} ، ولذا كان ردهم - وهو رد كل مخطئ خاطئ -:{قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آَثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91)} .

وما بلغ المنزلة التي هو فيها بالذنب والمراودة، ولكن بلغها وحصلها بالتقوى والصبر، وإنها لأعظم تقوى، وإنه لأعظم صبر، ولسنا في مجال الكلام على التقوى والصبر.

هناك دليل آخر على تبرئة يوسف عليه السلام فإن كان ما سبق براهين تبرئته بالنطق والسكوت، فهذا البرهان يمكن أن نسميه بالفعل لتجتمع له عليه السلام كل أدلة وبراهين البراءة وهو في قوله لما أرسل إليه الملك ليأخذه من السجن، أبى ورفض حتى يتحقق الملك بنفسه من الواقعة، مَن البريء ومَن المتهم، وذلك في قوله تعالى عن يوسف لرسول الملك:{فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50)} . فلو كان عليه السلام قد صدر منه ذنب وفحش، أو كان متهمًا لاستحال عرفًا وعادة أن يطلب من الملك أن يتفحص عن تلك الواقعة، وألا يخرج من السجن إلا بعد النظر فيها، وتبيين الخاطئ من البريء، وإلا لو كان فعل ذلك لكان قد أقدم على فضح نفسه، وتجديد عيوبه التي صارت خفية مندسة، والعاقل لا يفعل ذلك، وهب أنه قد وقع الشك لبعضهم في عصمته إلا أنه لا شك بما سمعنا أنه كان عاقلاً، والعاقل يمتنع أن يسعى في فضيحة نفسه، وفي حمل الأعداء على أن يبالغوا في إظهار عيوبه (1).

أما بيان المرأة تبرئته عليه السلام فهو:

أولاً: اعترافها للنسوة بذلك حيث قالت: {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ} فقد باحت لهن بأنها هي التي راودته فعلاً؛ لأنها رأت منهن الافتتان به فعلمت أنهن قد عذرنها،

(1) انظر الفخر الرازي، التفسير الكبير (9/ 98).

ص: 113

فقالت: {وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ} حسبما سمعتن وقلتن، فاستعصم وهي للمبالغة في عصم نفسه، أي اعتصم اعتصام معصوم، جاعلاً المراودة خطيئة عصم نفسه منها، بل دل هذا البناء كذلك، وهو استعصم وهو بناء مبالغة على الامتناع الشديد والتحفظ البليغ، كأنه في عصمة وهو يجتهد في الاستزادة منها مثل استمسك واستجمع الرأي، وفي ذلك برهان نير على أنه لم يصدر عنه عليه السلام شيء مخل باستعصامه من الهم وغيره بقوله:{مَعَاذَ اللَّهِ} ويدل على ذلك أيضًا ترتيب كلامها بأنها اعترفت لهن أولاً بما كُنَّ يسمعنه من مراودتها له، وأكدته بقولها:{وَلَقَدْ} بالقسم ولام التوكيد إظهارًا لابتهاجها بذلك، ثم زادت على ذلك أنه أعرض عنها على أبلغ ما يكون الإعراض، ولم يمل إليها قط، وزادت أيضًا أنها مستمرة على ما كانت عليه غير مرعوية عنه لا بلوم العواذل ولا بإعراض الحبيب بل قالت:{وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آَمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونَنْ مِنَ الصَّاغِرِينَ} (1).

ثانيًا: قولها: {الْآَنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} . الآن: ظرف للزمان الحاضر، وحصص: أي ثبت واستقر، والحق: هو براءة يوسف عليه السلام مما رمته به، وإنما ثبت الآن؛ لأنه كان محل قيل وقال فزال ذلك باعترافها بما وقع، وتقديم اسم الزمان للدلالة على الاختصاص، أي الآن لا قبله للدلالة على أن ما قبل ذلك الزمان زمن باطل وهو زمن تهمة يوسف عليه السلام.

والتعبير بالماضي في حصحص، مع أنه لم يثبت إلا من إقرارها الآن فهو لتقريب زمن الوقوع من الماضي، أو لأن الحق ثابت من قبل في براءة يوسف عليه السلام من المراودة (2)، وكل ذلك يدل على انتفاء أي تعلق لاتهام يوسف عليه السلام بأي أمر مشين.

(1) انظر أبا السعود" إرشاد العقل السليم"(103/ 3)، والطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير"(266/ 12).

(2)

انظر الطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير"(291/ 12).

ص: 114

وأما قولها: {وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ} فهو دليل بليغ على صدق يوسف عليه السلام وطهارته ونزاهته، فقد أكدت ذلك بـ {إِنَّ} واللام والجملة الاسمية (1) لتبرهن على صدقه في أنه لم يراودها، ولم يصدر منه من ذلك لا قليل ولا كثير لا ميل ولا هم وأنها هي التي راودته،

{أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ} هو صادق، وقد عبرت بقولها:{لَمِنَ الصَّادِقِينَ} لأنها أبلغ من لو قيل هو صادق، كذلك تختم القضية بالنسبة لها بهذه البراءة المؤكدة بكل هذه المؤكدات البليغة التي لا راد لها، ولا ناقض.

أما بيان تبرئة زوج المرأة ليوسف عليه السلام فهو قوله تعالى: {إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)} [يوسف: 28 - 29].

فقوله إنه من كيدكن من كلام العزيز بعد أن استبان له براءة يوسف عليه السلام من الاعتداء على المرأة وإلا كان الكلام مختلفًا، وكان اللوم وما فوقه متوجهًا إلى يوسف عليه السلام فيه شهادة من العزيز أكدت براءة يوسف عليه السلام بدليل قوله بعد ذلك مخاطبًا الاثنين معًا

{يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا} بأن يكف عن الخوض في هذا الموضوع لئلا ينتشر وتظهر الفضيحة، وعطف على ذلك خطابه لزوجه:{وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ} فقد أثبت لها الذنب والسوء، بما ينفيه عن يوسف عليه السلام وطلب منها الاستغفار عن ذلك، بما يدل على انتفاء أي هفوة في حق يوسف عليه السلام خاصة وهو ينتظر أن يكون يوسف هو المخطئ ليحفظ عرضه وزوجه عن قالة السوء والفضيحة بها.

وهذا الأسلوب من مخاطبة المرأة بأن ما دبرته من كيد النساء ثم توجيه الخطاب إلى يوسف عليه السلام ثم عودة الخطاب إلى المرأة يسمى بالإقبال، أو الالتفات للمعنى اللغوي عند

(1) انظر الطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير (292/ 12).

ص: 115

الالتفات البلاغي، وهو عزيز في كلام البليغ (1)، فالقرآن الكريم يبين بهذا الأسلوب البلاغي العزيز تبرئه يوسف والالتفات إلى المرأة باللوم والتقريع، وطلب الاستغفار، ونسبة المكر والكيد إليها، على أبلغ كلام وأحسنه.

أما بيان الشاهد في القضية فقد دل على براءة يوسف أيضًا.

وقد أوردناه هنا بعد بيان العزيز لكونهما في نفس الوقت، وكذلك لبناء العزيز حكمه ببراءة يوسف على كلام الشاهد، وقد جاء ذلك في قوله تعالى:{وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28)} [يوسف: 26 - 28].

هذا الشاهد بسياق القرآن رجل من أهل المرأة كان بصحبة زوجها العزيز، وسمي قوله شهادة لأنه يؤول على إظهار الحق في إثبات اعتداء يوسف عليه السلام على سيدته أو دحضه، وقوله:{وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ} إلى آخره، لما لم يكن له به سابق علم دل على أن الاستدلال بكيفية تمزيق القميص نشأ عن ذكر امرأة العزيز وقوع تمزيق القميص؛ تحاول أ، تجعله حجة على أنها أمسكته لتعاقبه، ولولا ذلك ما خطر على بال الشاهد أن تمزيقًا وقع، وإلا فمن أين علم الشاهد تمزيق القميص؟ والظاهر أن الشاهد كان يظن صدقها فأراد أن يقيم دليلاً على صدقها، فوقع عكس ذلك كرامة ليوسف عليه السلام (2).

وهذا برهان لا ريب فيه على أن صدق يوسف عليه السلام ونزاهته لم يكن من ترتيب أحد إلا الله سبحانه وتعالى فما دُعوا إلى جلسة ومحاكمة وشهادة، واستعداد لتقديم البينات والمرافعات، بل

(1) انظر العلامة ابن عاشور "التحرير والتنوير"(258، 259/ 12).

(2)

انظر العلام ابن عاشور "التحرير والتنوير"(257/ 12).

ص: 116

كان ما أراد الله بحكمته في توها ولحظتها، مع قيام كافة جوانب القضية واضحة جلية، لا تحتاج لغير الحكم بالحق، وكان من تمام توفيق يوسف عليه السلام وحفظ الله له، أن جاء القميص شاهدًا له، من حيث أريد أن يكون الشاهد عليه، لو حاول البشر أن يرتبوا محكمة وشهادة وواقعة على هذا النحو لما تمكنوا، إلا محاكاة وتمثيلاً لها.

أما بيان تبرئة النسوة ليوسف عليه السلام فكما يلي:

أولاً: وهو قول النسوة لما رأين يوسف عليه السلام وهن متكئات، وقد أمرته امرأة العزيز بأن يخرج عليهن وقطعن أيديهن:{حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا} على إعمال {مَا} بمعنى ليس في لغة أهل الحجاز، تنزيهًا لله سبحانه عن صفات النقص والعجز، وتعجبًا من قدرته على هذا الصنع البديع، ونفيًا للبشرية عنه؛ لما شاهدن فيه من الجمال العبقري الذي لم يعهد مثاله في البشر، وقصر ذلك على الملك بقولهم:{إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} بناء على ما ركز في العقول من أن لا حي أحسن من الملك، كما ركب فيها أن لا كائن أقبح من الشيطان، فوصفهن بأنه ملك لا شك يدل على مفارقة الشيطان، وهو وصف كريم يدل على جميل الصفات، وأحاسن الشيم، التي تدل على أن مثله ليس أهلاً لسوء الشيطان، ولا الأعمال اللائقة بالشيطان وهذه تبرئه واضحة لم يتمالكن أنفسهن عنها حيث خرجن عن الأفعال الاختيارية بتقطيع أيديهن عند رؤيته، وقولهن ذلك.

ثانيًا: قول النسوة عن إحضار الملك لهن وسؤاله إياهن {مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} ، و {حَاشَ لِلَّهِ} مبالغة في النفي والتنزيه، والمقصود: التبرؤ مما نسب إليهن من المراودة، وجملة {مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ} كما يقول الأصوليون نكرة في سياق النفي فتعم كل سوء أي ما علمنا عليه أي سوء، ومن للتبعيض، ومعناه كائنًا ما كان السوء ولو صغيرًا، وهو يدل على أنه لم تقع منه كذلك أي مراودة، لأن

ص: 117

الحالتين منه أو منهن من أحوال السوء، والجملة جامعة لنفي ذلك كله، وقد أشرنا إلى ذلك بنفي العلم وهو كناية عن نفي دعوتهن إياه إلى السوء، ونفي دعوته إياهن إليه؛ لأن ذلك لو وقع لكان معلومًا عندهن، وفي ذلك أبلغ الأدلة على تبرئة النسوة ليوسف عليه السلام بعدم العلم، وعدم الوقوع.

وأما شهادة الله تعالى ببراءة يوسف عليه السلام فمن أوجه:

الأول: في قوله تعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} . الكاف منصوب المحل، وذلك إشارة على التثبيت اللازم له، أي مثل ذلك التثبيت ثبتناه، لنصرف عنه السوء على الإطلاق فيدخل فيه الهم، وخيانة السيد، وكافة وأنواع السوء كافة لكون السوء هنا معرفًا فيشمل كل سوء، وكذلك الفحشاء لأنها مفرطة في القبح، وقول الله تعالى ذلك آية بينة، وحجة قاطعة على أنه عليه السلام لم يقع منه همٌّ بالمعصية ولا توجه إليها قط، وإلا لقيل لنصرفه عن السوء والفحشاء، وعما يتوجه إليه من السوء وغيره من الخارج فصرفه الله تعالى عنه بما فيه عليه السلام من موجبات العفة والعصمة، ولذلك عقب بقول:{إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} ليعلل ذلك الصرف عنه، فهو تعليل لما سبق من مضمون الجملة بطريق التحقيق.

وقد قرئ المخلصين بصيغة المفعول وصيغة الفاعل، فأما صيغة المفعول فهم الذين أخلصهم واصطفاهم الله تعالى لطاعته بأن عصمهم عما هو قادح فيها، وصيغة الفاعل وهم اللذين أخلصوا دينهم لله سبحانه وتعالى، وعلى كلا المعنيين فهو عليه السلام منتظم في سلكهم داخل في زمرتهم، والتعبير بالجملة الاسمية والتأكيد دليل على كونه كذلك من أول أمره، لا أن ذلك حدث له بعد أن لم يكن كذلك، فانحسم بذلك مادة احتمال صدور الهم بالسوء منه عليه السلام -

ص: 118

بالكلية (1).

الثاني: أن قوله سبحانه وتعالى: {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} ثناء ومدح من الله تعالى ليوسف عليه السلام سواء في اجتباء الله واصطفائه السابق له، أو في إخلاص يوسف عليه السلام لربه جل وعلا، ولا يليق بحكمة الله تعالى أن يحكي عن إنسان إقدامه على معصية عظيمة فيها كل الصفات السيئة التي أشرنا إليها من قبل، ثم يمدحه ويثني عليه بأنه من المصطفين الأخيار، أو الذين أخلصوا دينهم لله تعالى (2) فدل ذلك على أن يوسف لم يصدر منه شيء.

الثالث: في قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)} ونركز على المراد من الكلام الذي يؤيد ما نقول وهو في قوله تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ} وذلك بعد قوله: {وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ} ، {فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ} وهذا السياق يدل على أن يوسف عليه السلام كان مستعصمًا طاهرًا منزهًا، وزادت عليه الضغوط من كل الجوانب وبكافة الأساليب فلجأ إلى الله تعالى ليصرف عنه ذلك الكيد، وهو علم من سنة الله تعالى معه من قبل صرف السوء والفحشاء عنه، فاستجاب له ربه، والفاء للتعقيب، ودل على أن قوله:{وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي} دعاء بطلب ذلك، ترى استجابة الله له بهذه السرعة بعد وقوعه في الهم والمراودة، وغير ذلك، أن ذلك دليل من الله تعالى على تبرئة يوسف عليه السلام بسرعة إجابته، وصرف الكيد والمكر، وتلك الشدائد عنه، وزيادة تثبيت قلبه في مواقف الزلزلة تلك، وما يكون ذلك الصرف والإجابة إلا لطاهر يريد العصمة، لا متلوث قد وقع في الذنب، إذ الواقع في ذلك يصرف عن السوء والفحشاء، لا تصرف عنه

(1) انظر أبا السعود "إرشاد العقل السليم"(96/ 3).

(2)

انظر الفخر الرازي "التفسير الكبير"(26/ 9).

ص: 119

الفحشاء والمكيدة بإيقاعه في ذلك، والتعبير بالكيد يدل عليه إذ هو محاولة المخاتلة بيوسف لإيقاعه، لا أنه تحقق وذلك ظاهر بتأمل السياق ومقارنته وتحليله.

وثمة شيء آخر تبينه الآية الكريمة وهو تلك الصلة بين يوسف عليه السلام وربه جل وعلا، إذ تدل على قلب موصول بالله تعالى، بينه وبين ربه عمار، يدعوه ويتضرع إليه، فيسارع إلى إجابته، بل ويدعوه بما يدل على كمال ثقته في ربه، ووفور إقباله عليه ومحبته له:{وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ} من ذا الذي يقول لله تعالى: وإلا تصرف عني كذا وكذا أقع في كذا، وكذا فيستجيب له، إلا وقلبه مفعم باليقين التام في الإجابة بأن ينجيه مما وقع فيه، ترى تلك قلوب العصاة المذنبين، إن أقصى أملهم أن يغفر لهم، ويتوب عليهم، أم هي قلوب العارفين بالله الذين هم في الدرجة العالية من توحيده وطاعته، وكذلك في إضافة الرب لضمير يوسف {لَهُ رَبُّهُ} دليل عناية الرب بمربوبه، ورعايته له جل وعلا، وإظهار شأنه في انتسابه إلى الله تعالى بمعنى الربوبية.

الرابع: وهو قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)} [يوسف: 56 - 57]، والكاف هنا منصوبة بالتمكين، وذلك: إشارة إلى ما تقدم يعني ومثل ذلك الإنعام الذي أنعمنا به على يوسف في تقريبنا إياه من قلب الملك، وإنجائنا إياه من غم السجن نمكن له في الأرض، أي نقدره على ما يريد، وان ينزل منها أي منزل أحب لا يدافعه أحد ولا ينازعه منازع، والمقصد من ذلك أن الله مكن ليوسف عليه السلام في الأرض، وما كان هذا التمكين الجاري على سنة الله في كونه إلا لأنه كما أفاد السياق من المحسنين، وأن الله لا يضيع في الدنيا أجرهم، وهذا أكبر دليل على أن يوسف كان وما زال حين تبوأ هذا المركز من الله تعالى محسنًا، ولو صدق على يوسف عليه السلام بأنه وقع في شيء مما ذكره الجهال لكان ذلك تكذيبًا لله في حكمه على يوسف عليه السلام بالإحسان وهو عين الكفر بالله، ولكان ذلك

ص: 120

شهادة على الله تعالى - حاشا لله - أنه يمكن للعصاة له ويمدحهم بذلك، وأنه يكافئهم على مخالفته بالتمكين لهم في الأرض.

ويزيد على ذلك ما أعده له في الآخرة في قوله تعالى: {وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)} وهذا يدل على أمرين:

الأول: أن يوسف عليه السلام وصل إلى المنازل العالية والدرجات الرفيعة في الدنيا، إلا أن الثواب الذي أعده الله له في الآخرة خير وأفضل وأكمل.

الثاني: أن المراد من الآية كذلك شرح حال يوسف عليه السلام فوجب أن يصدق في حقه أنه من الذين آمنوا وكانوا يتقون، وليس ها هنا زمان سابق ليوسف عليه السلام يحتاج إلى بيان أنه من المتقين إلا ذلك الوقت الذي قال فيه تعالى:{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا} هذا شهادة من الله تعالى أنه كان في ذلك الوقت من المتقين، فأنى يكون ذلك الهم وغيره منه.

وتضاف هذه إلى شهادة الله له بأنه من المحسنين ومن المخلصين (1)، فثبتت براءة الله تعالى له، بهذه الشهادات الإحسان والإخلاص والتقوى، وماذا بعد؟

وهناك وجوه كثيرة أخرى في تحليل الآيات نكتفي بهذا القدر منها لتبيين المطلوب.

وأما بيان أن إبليس أقر بطهارة يوسف عليه السلام وبراءته فهو في قوله تعالى: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} [ص: 82 - 83] فأقر بأنه لا يمكنه إغواء المخلصين، ويوسف عليه السلام قد مدحه الله تعالى بقوله:{إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} فكان هذا إقرار من إبليس بأنه ما أغواه وما أضله عن طريق الهدى.

(1) انظر الفخر الرازي "التفسير الكبير"(90، 91/ 9).

ص: 121

يقول الإمام الرازي (1) عن ذلك: وعند هذا نقول للجهال الذين نسبوا إلى يوسف عليه السلام هذه القضية إن كان من أتباع دين الله تعالى فليقبلوا شهادة الله على طهارته، وإن كان من أتباع إبليس وجنوده فليقبلوا شهادة إبليس على طهارته، ولعلهم يقولون: كنا في أول الأمر تلامذة إبليس إلى أن تخرجنا عليه في السفاهة، كما قال الخوارزمي:

وكنتُ امرءًا من جُندِ إبليسَ فارْتَقَى

بيَ الدهرُ حتى صارَ إبليسُ من جُندي

فلو ماتَ قَبْلي كنتُ أُحسنُ بَعْدَهُ

طرائقَ فسقٍ ليس يُحسنها بَعْدي

وإذ قدمنا بهذه المقدمة لتكون بين يدينا في التدليل على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك لتكون الأصل الثابت، والأساس الراسخ المتين في اعتقاد عصمة الأنبياء، وعلو منزلتهم بهذه القواطع من النصوص القرآنية، التي تقوم عليها هذه الدارسة، وندخل منها إلى إثبات عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم من باب الأولى، وكذلك بدراسة وتحليل ومقارنة بقية الآيات النازلة في حقه صلى الله عليه وسلم مع رد كل ما أثير من شبهات إلى هذه النصوص الراسخة لتتضح الصورة كاملة في هذه القضية، وتظهر بها الجديد من منهج البحث، وهو المقارنة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الأنبياء السابقين.

ونبدأ ببيان عصمة النبي صلى الله عليه وسلم عن الذنوب كافةً، صغيرها وكبيرها، بعد البعثة وقبل البعثة، وكذلك عن ما يمكن أن يقع قبل البعثة فيكون مشينًا بعد البعثة، وذلك من حيث انتهى الكلام السابق وهو أن إبليس قد أقر بطهارة يوسف عليه السلام وعليه فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس للشيطان عليه سبيل البتة، فإذا كان إبليس فيما حكي القرآن الكريم عنه يقول:{قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83)} فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أعلى الأنبياء درجة، بل

(1) انظر الفخر الرازي "التفسير الكبير"(90، 91/ 9).

ص: 122

أرفعهم درجات، كما في قوله تعالى:{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآَتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ ....} [البقرة: 253] فكان هو صلى الله عليه وسلم بهذا التقسيم للآية ممن رفع الدرجات، وقصة الإسراء والمعراج في القرآن نفسه تبين أن أحدًا منهم عليهم الصلاة والسلام لم يصل إلى درجته، علاوة على أنه صلى الله عليه وسلم أفضل أولي العزم، ويوسف عليه السلام ليس من أولي العزم أصلاً، فكان ذلك دليلاً على أنه صلى الله عليه وسلم أولى من يوسف عليه السلام والأنبياء كافة ألا يكون للشيطان عليه أدنى سبيل، وأولو العزم من الرسل المذكورون في القرآن الكريم جمعتهم الآية الكريمة:{وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7)} [الأحزاب: 7] ودل سياق الآية لتقديم النبي صلى الله عليه وسلم في الذكر على تقديمه في المرتبة، بدليل الترتيب الزمني بعد ذلك لبقية النبيين عليهم جميعاً أفضل الصلاة والسلام، ونبادر فنقول إن الدراسة والأدلة التي أدت إلى تقديمه وتفضيله عليه وعليهم أفضل الصلاة والسلام - ليس تنقيصاً لأحدهم عياذاً بالله - ولكنها تقرير لذلك الواقع الذي أدى إليه البحث، وقاد إليه الدليل (1) بإعطاء كل منهم ما أعطاه الله تعالى من الفضل، مع استوائهم جميعاً في العصمة محل البحث.

وفي سياق إيراد ما يشابه ذلك الآيات نرى قوله تعالى عن إبليس: {لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)} ، وهذا تأكيد جديد بقوله لأحملنهم جميعاً على الغَواية إلا عبادك الذين أخلصتهم لعبادتك وطاعتك، وطهرتهم من الشوائب فلا يعملُ فيهم كيدي، أو هم (بفتح اللام) الذين أخلصوا نفوسهم وعبادتهم

(1) لذلك قال: "لا تخيروا بين الأنبياء

"، رواه البخاري (2235)، ومسلم (4378)، وأبوداود (4048)، كلهم عن أبى سعيد رضى الله عنه.

ص: 123

وتوحيدهم لله تعالى (1)، ورسول الله محمد صلى الله عليه وسلم هو أول المصطفين الأخيار، والمجتبين الأبرار، وهو أتقاهم لله تعالى، وأشدهم إخلاصًا لهم، ولا شك أنه أول السالمين من كيده وإغوائه (2)، وهذا ما ينقلنا إلى ما ذكر المولى سبحانه عن عباده، وعن حفظه لهم من كيد الشيطان حيث قال تعالى:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)} [الحجر: 42] أي أن عبادي ليس لك عليهم تصرف ولا تسلط، وهم المشار إليهم سابقًا بالمخلصين، وقد أكدت حقيقة الجملة (إنَّ والجملة الاسمية)، ونفي السلطان بالتنكير ليفيد أنه ليس له عليهم أي سلطان، صغيرًا كان أو كبيرًا.

وتصدير الجملة بعبادي يشمل أول ما يشمل النبي صلى الله عليه وسلم لأنه أعلى العباد مقامًا في العبودية، حيث جاء التشريف بذلك من ربه سبحانه وتعالى في كافة الأحوال التي تبين فخامة منزلته، فذكر بذلك في الإسراء فقال تعالى:{سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا} [الإسراء: 1] وفي مقام التحدي لإثبات النبوة بإعجاز القرآن الكريم فقال تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: 23] وفي مقام الدعوة إلى توحيد الرب سبحانه وتعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19)} [الجن: 19] وفي إنزال الفرقان عليه صلى الله عليه وسلم: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ} [الفرقان: 1] فرأينا هذه الآيات الكريمات علاوة على تشريفه بمقام العبودية لله تعالى، تشير إليه بأعظم الإضافات وأكملها إلى الله تعالى مثل بعبده، وعبدنا، وعبد الله، وما تعنيه تلك الإضافات وتنوعها باختصاصه بذلك وعلو درجته في عبودية الله تعالى، مما يوضح لنا أن تلك الدرجة أعلى الدرجات التي لا سبيل للشيطان على صاحبها، مما يؤكد

(1) انظر أبا السعود "إرشاد العقل السليم (228/ 3).

(2)

وقد ورد في حديث ابن مسعود رضى الله عنه الذى رواه مسلم (5034) قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (

إلا أن الله أعاننى عليه فأسلم، فلا يأمرنى إلا بخير).

ص: 124

عصمته صلى الله عليه وسلم من أي غواية من غواية الشيطان.

مع ملاحظة أخرى في الآية في قوله تعالى: {إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42)} ، وهي أن الغواية وقعت باختيارهم حيث اتبعوا الشيطان بمحض إرادتهم، وذلك لا يقع للأنبياء عليهم السلام أن يختاروا اتباع الشيطان؛ إذ ينافي ذلك عبوديتهم لله تعالى، وخلع عبودية ما سواه ويزيد في إيضاح ما سبق من آيات تبين عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من كيد الشيطان وتسلطه، قوله تعالى:{إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)} [النحل: 99] وذلك بعد قوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98)} فقوله: {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ} تعليل للأمر بالاستعاذة، لأنها تمنع من تسلط الشيطان على المستعيذ لأن الله منعه من التسلط على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون، وجملة {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99)} صفة ثانية للموصول، وقدم المجرور على الفعل للقصر، أي لا يتوكلون إلا على ربهم، وجعل فعلها مضارعًا لإفادة تجدد التوكل واستمراره، وعطف الجملة دون إعادة اسم الموصول للإشارة إلى أن الوصفين كصلة واحدة لموصول واحد، لأن المقصود اجتماع الصلتين، فنفي سلطان الشيطان مشروط إذًا بالأمرين: الإيمان والتوكل، ومن هذا تفسير لقوله تعالى في الآية الأخرى:{إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ} .

ويكون المعنى: أن الإيمان مبدأ أصيل لدفع سلطان الشيطان في نفس المؤمن، فإذا انضم إليه التوكل على الله اندفع سلطان الشيطان عن المؤمن المتوكل.

ولا حاجة بنا أن نقرر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم المؤمنين إيمانًا، بل لا يتم إيمان أحد بالله إلا بالإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم، وكل توكل في المؤمنين إنما هو من جراء تعليمه قولاً وفعلاً، وكما قال تعالى:{وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)} [الأحزاب: 48] وفي الحديث: «عبدي

ص: 125

ورسولي سميته المتوكل» (1) وآيات القرآن الكريم مليئة بالكلام على التوكل والمتوكلين، الذي يؤكد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو معلمهم التوكل كما علمهم الإيمان وغيره من أمور الدين اعتقادًا وعملاً وسلوكاً.

وإذا أشرنا إلى ما يوضح عصمة النبي صلى الله عليه وسلم والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - من كيد الشيطان وتسلطه، نأتي إلى ما يتعلق بوسوسة النفس، أو بأمرها الإنسان بالسوء، ترى ينطبق على الإنسان المؤمن الكامل فضلاً عن الرسل - عليهم الصلاة والسلام - أن توسوس له نفسه بما يخالف الشرع، ويوقع في غضب الرب سبحانه وتعالى ، أو في التقصير في حقوقه، لنرجع إلى قصة يوسف عليه السلام ننظر فيها ما يتعلق بالنفس، ومدى حملها الإنسان على المخالفة، وذلك في قوله تعالى:{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)} [يوسف: 53].

ظاهر ترتيب الكلام أنه من كلام امرأة العزيز (2)، مضت في بقية إقرارها فقالت:{وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} وذلك كالاحتراس مما يقتضيه قولها عن يوسف عليه السلام: {ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ} من أن تبرئة نفسها من هذا الذنب ادعاء بالبراءة العامة فقالت: {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} ، فالواو استئنافية، والجملة ابتدائية، وجملة:{إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ} تعليل لجملة {وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي} ، أي لا أدعي براءة نفسي من ارتكاب الذنب؛ لأن النفس كثيرة الأمر بالسوء، ثم

(1) انظر الطاهر بن عاشور (278، 279/ 14)، والحديث رواه البخاري (1981) عن عبد الله بن عمرو رضى الله عنهما.

(2)

انظر العلامة بن عاشور "التحرير والتنوير"(5/ 13)، والاحتمال الثاني في الآية - وقد ذكره جمع من المفسرين منهم ابن عاشور نفسه - أنه من كلام يوسف في قوله "ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب" وهذا لا يستقيم مع ما قدمنا من أن العزيز في وقتها قال ليوسف:"أعرض عن هذا" وقال لزوجه: "واستغفري لذنبك" فأين عدم علمه بخيانة يوسف، بل هو متأكد من خطأ زوجه أمام يوسف، وبراءة يوسف في نفس الآن، وكان يوسف عليه السلام في السجن والنسوة في حضرة الملك، فكيف يصح؟!.

ص: 126

استثنت فقالت: {إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي} وهو استثناء من عموم الأزمان، أي أزمان وقوع السوء بناءً على أن أمر النفس به يبعث على ارتكابه في كل الأوقات إلا وقت رحمة الله عبده، وهو مقصودنا من ذلك كله لنبين عصمة النبي صلى الله عليه وسلم من أمر النفس بالسوء، فإذا كان لا يعصم من اتباع وسوسة النفس في الوقوع في السوء والهم به إلا رحمة الله بعبده في بعض الأزمان، فكيف يقع من نفس الرسول صلى الله عليه وسلم هم أو وسوسة بسوء، وهو نفسه الرحمة المهداة كما قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107] فقصر إرساله على الرحمة للجن والإنس كافة، والآية دليل في غاية الوضوح والنصاعة، ليست على كونه مرحومًا في بعض الأوقات لتتحقق له بذلك العصمة فيها، بل هو الرحمة نفسها في كل الأوقات، ليس لنفسه، بل للعالمين، ليوضح القرآن الكريم بذلك درجة النبي صلى الله عليه وسلم التي لم يصل إليها أحد لتكون شاهدًا على عصمته من النفس بعد اتضاح عصمته من الشيطان، فلا الشيطان ولا النفس إذاً لهما عليه سبيل.

ومما يزيد هذا الدليل وضوحًا قوله تعالى في وصف الرسول صلى الله عليه وسلم: {وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ} [التوبة: 61]، ليجمع البحث ما قيل في كونه رحمة من جميع نواحيها، فكلها حق، ولكن يبقى المعنى الظاهر أن الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة عامة، ورحمة للمؤمنين خاصة، فأنى تكون لصاحب هذه الرحمة للمؤمنين في باطنه شيء يأمر بالسوء، وهذا السوء لا يقع في أوقات الرحمة، وكيف يرحم المؤمنين، وله أوقات لا رحمة فيها، أوقات الأمر بالسوء، والله يقول عنه:{بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128)} [التوبة: 128] وهي عامة لكل المؤمنين شاملة لكل الأوقات والأحوال، حيث لقنه ربه أن يقول:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} فحياته ومماته وعبادته وتوحيده لله وحده لا شريك له من نفس ولا شيطان ولا هوى، ولا غيره. ولنا عود لهذه الآية.

من جهة أخرى فقد ذكر القرآن الكريم أن هناك نفسين أخريين، هما النفس اللوامة،

ص: 127

والنفس المطمئنة، والمطمئنة قال الله تعالى فيها:{يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)} [الفجر: 27 - 30] ونحن نروم الاختصار فنشير في تحليل الآية ومقارنتها إلى موضع البحث فقط، فالنفس المطمئنة الراضية المرضية موجودة في المؤمنين، وأول المؤمنين هو صلى الله عليه وسلم في الأولى والآخرة، وهو أعلاهم درجة، فأعلى النفوس المطمئنة إذن وأجودها وأكرمها على الله نفس النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الآية دليل آخر: أن النفس المطمئنة يقال لها: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29)} ، وأشرف عباده وأسماهم منزلة - كما ذكرنا من قبل - هو الرسول صلى الله عليه وسلم، فالنفوس المطمئنة تدخل في زمرته صلوات الله وسلامه عليه، وتشرف بالانضواء تحت رايته، فكان هذا برهاناً - على أقل تقدير - على خروج نفس النبي صلى الله عليه وسلم عن حد النفس الأمارة والنفس اللوامة، ووصوله إلى أكمل درجات النفوس المطمئنة، وأما صفة النفس المطمئنة المذكورة في الآية فهي الساكنة الهادئة - لأنها اسم فاعل من الاطمئنان - غير مضطربة ولا منزعجة، وهذا يجوز أن يكون من سكون النفس بالتصديق لما جاء به القرآن دون تردد، ولا اضطراب بال، ويجوز أن يكون من هدوء النفس بدون خوف ولا فتنة في الآخرة والاطمئنان مجاز كذلك في طيب النفس وعدم ترددها في مصيرها بالاعتقاد الصحيح، حين أيقنوا في الدنيا بأن ما جاءت به الرسل حق فذلك اطمئنان في الدنيا، ومن أثره اطمئنانهم يوم القيامة حين يرون مخايل السعادة والرضا نحوهم، ويرون ضد ذلك نحو أهل الشقاء، وقد فسر الاطمئنان بيقين وجود الله ووحدانيته، وفسر باليقين بوعد الله، وبالإخلاص في العمل ولا جرم أن ذلك كله من مقومات الاطمئنان المقصود فمجموعه مراد وأجزاؤه مقصودة (1).

ومما سبق تتضح مرتبة النبي صلى الله عليه وسلم المنيفة السامقة.

(1) انظر العلامة الطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير"(342 - 343/ 30).

ص: 128

ومما ينبغي الوقوف عنده من الآيات التي ذكرها القرآن الكريم، والتي تؤكد عصمة النبي صلى الله عليه وسلم، من المخالفات والمعاصي كافة، وكررها القرآن في أكثر من موضع؛ لينوه بفضله وعلو مرتبته عليه الصلاة والسلام والتي تبين من تغاير السياق التي سيقت فيه تعدد جوانب العصمة، واكتمالها في النبي صلى الله عليه وسلم، وبالتالي تضيف إلى ما سبق تأكيدات مهمة بشأن عناية الله به، تصديقاً للرسالة، وتأييداً للنبوة التي جاء بها صلوات الله وسلامه عليه، وهذه الآيات ثلاث آيات:

الأولى: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)} [الأنعام: 15 - 16]

الثانية: {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَى إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)} [يونس: 15]

الثالثة: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13)} [الزمر: 13] وقبلها قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12)} [الزمر: 11 - 12] وبعدها:

{قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14)} [الزمر: 14].

والمتأمل لهذه الآيات الكريمات يلاحظ ما يلي:

- أن قوله {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} مصدر في موضعين من المواضع الثلاثة، والموضع الثالث محتمل لها، وهذا التلقين للنبي صلى الله عليه وسلم من الله تعالى يدل على عنايته بالنبي صلى الله عليه وسلم، وحفظه له، ورده عنه، وتثبيته إياه في تلك المواقف العصيبة، لم يترك له أن يرد هو، بل علمه الرد الذي لا مدفع له، في الوقت الذي يمدحه، ويثني عليه بهذا التلقين، وهو من الإيجاز والإعجاز القرآني العالي، إذ تجمع هذه الجملة العديد من المعاني التي لا تحصل بغيرها، وإن

ص: 129

حصلت من البلغاء فبأضعاف هذه الجملة، مع عدم تأدية كل المعاني التي تحتويها.

- إن كلمة {قُلْ} هنا تنفي نسبة الوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، مع رفع الاحتشام عنه عليه الصلاة والسلام في تزكية نفسه، مع تأكيد المعنى الذي سيقت لأجله، بالتكرار له إلى يوم القيامة وهو - مثلاً - كما في الآية الأولى يرفض الشرك امتثالاً لأمر الله جل جلاله وإن أتباعه المؤمنين مطالبون أيضًا بهذا القول، معلنون به، غير راجعين عنه أو مداهنين فيه.

- وقوله: {إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي} أي بمحالفة أمره ونهيه أي عصيان كان، ويدخل فيه ما ذكر في السياق دخولاً أوليًا، وهذا بيان من الله تعالى بحال نبيه المعظم، وهو كمال اجتنابه عليه الصلاة والسلام عن المعاصي على الإطلاق (1)، إذ لا معنى لخوفه العظيم هذا صلى الله عليه وسلم، مع الوقوع في أي معصية كانت؛ لأن قدر الخوف على قدر العذاب، وبمقدار ما يخاف المرء يمتنع عن الأسباب المفضية لهذا العذاب المهول، وتلك تدل على العصمة الكاملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم (2)، والآية رد واضح جلي على من يخالف هذا المعتقد، وتوضيح بليغ لما تُوهمه بعض الآيات القرآنية (3) بخلاف هذا الرأي السديد، وبالتالي تحمل هذه الآيات على ما يليق بالنبي صلى الله عليه وسلم، وما يوافق آيات العصمة؛ جمعًا بين الآيات الكريمات كلها في هذا الصدد.

- وفي العدول عن لفظ الجلالة إلى قوله {رَبِّي} في الآية إيماء إلى أن عصيانه أمر قبيح، لأنه ربه الذي يربيه، ويقوم على شؤونه فكيف يعصيه (4).

(1) انظر العلامة أبا السعود "إرشاد العقل السليم"(131/ 2).

(2)

لأن وجود الخوف حينئذ يكون مانعًا من أي معصية بغير تفريق بين صغيرة وكبيرة.

(3)

سنذكرها إن شاء الله بعد تقرير آيات العصمة.

(4)

انظر أبا السعود "إرشاد العقل السليم"، والعلامة ابن عاشور "التحرير والتنوير"(161/ 6).

ص: 130

- وتوضيحًا لعذاب العصيان، وهو ما يدل على شدة الامتناع من المخالفة أضيف العذاب إلى {يَوْمٍ عَظِيمٍ} تهويلاً له، إذ في معتاد العرب أن يطلق اليوم على يوم نصر فريق، وانهزام آخر، والهزيمة تعني التنكيل بهم، وإكثار القتل والأسر فيهم، وإسامتهم سوء العذاب، فذكر {يَوْمٍ} يثير الخيال من مخاوف مألوفة لديهم، قال تعالى:{فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189)} (1)، ولم يقل عذاب الظلة، وبهذا الاعتبار حسن جعل إضافة العذاب إلى اليوم العظيم كناية عن عظم ذلك العذاب.

- ما سبق من المعاني لتلك الكلمات القليلة المضيئة، يظهر بجلاء هذا العلو، وتلك الدرجة المُنيفة للنبي صلى الله عليه وسلم التي يقطع العقل بحصولها له.

وتمضي ألفاظ الآية الكريمة في توضيح جانب آخر يدل على عصمة النبي صلى الله عليه وسلم لتكتمل جوانب الصورة وذلك قوله: {مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)} فقوله:

{مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ} جملة من شرط وجزاء وقعت موقع الصفة لـ {عَذَابَ} ، ومعنى وصف العذاب بمضمون جملة الشرط والجزاء، أي من وفقه الله لتجنب أسباب ذلك العذاب فهو قد قدر الله له الرحمة، ويسر له أسبابها، وبالتأمل يتضح أن المقصود من هذا الكلام إثبات مقابل قوله:{قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)} كأنه قال أرجو إن أطعت أن يرحمني ربي، لأن من صرف عنه العذاب فقد ثبتت له الرحمة، فجاء في إفادة هذا المعنى بطريقة المذهب الكلامي، وهو ذكر الدليل ليعلم المدلول، وهذا ضرب من الكناية، وأسلوب بديع بحيث يدخل المحكوم له في الحكم بعنوان كونه مفردًا من أفراد العموم الذين ثبت لهم الحكم. (2)

(1) انظر الطاهر ابن عاشور "التحرير والتنوير"(161/ 6).

(2)

انظر الطاهر ابن عاشور "التحرير والتنوير"(158/ 6).

ص: 131

ولما كان رجاؤه الرحمة بطاعته دل على عصمته؛ لأنه صلى الله عليه وسلم أول المرحومين، وأعظمهم تحصيلاً لرحمة الله سواء بعنايته في الدنيا؛ بالوحي له، واختصاصه به، أم في كونه أول المسلمين، كما أمرته الآية السابقة أن يقول بذلك، وهي قوله:{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} ، أو بكونه هو الرحمة نفسها كما مر معنا في قضية يوسف عليه السلام.

وقوله: {وَذَلِكَ (1) الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)} تعقيبًا على صرف العذاب، دليل أن من صرف عن العذاب، أو صرف عنه العذاب على حسب عود الضمير فقد دخل في النعيم في ذلك اليوم، قال تعالى:{فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ} [آل عمران: 185] ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم في الدرجة العليا من النعيم في الفردوس الأعلى، ليس ممن يصرف عنه العذاب، بل هو صاحب الوسيلة (2) التي ليست لأحد من الخلق إلا هو عليه الصلاة والسلام فكان ذلك برهان كونه المنزه الأول عما يشوب هذه المنزلة من المعصية، أو يخدش تلك الدرجة من الرحمة بالمخالفة، ويؤيد ذلك أن في الآية تعريضًا بأنهم عصاة، مستحقون لعذاب يوم عظيم أولئك المخالفون للنبي صلى الله عليه وسلم، فكيف يقع منه هو أدنى مخالفة أو معصية.

ما زالت الآيات الثلاث تبوح بشيء من معانيها، تجود بها:

من ذلك شمولها للتوحيد والعبادة، والخوف من المعصية، مع التأكيد على دلائل الوحدانية التي لا يمكن معها إلا التسليم للرب عقلاً وسمعًا، وتكون المخالفة ساعتها أقبح القبائح، خاصة إذا اقترنت هذه الآيات بأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك، مبلغًا إياه عن ربه.

(1) وذلك فيه من معنى البعد ما يؤذن بعلو درجته، وبعد مكانه في الفضل.

(2)

إشارة إلى حديث الوسيلة الذى رواه مسلم (577).

ص: 132

في الآيات نرى ذلك بأوضح صورة، حيث يقول جل وعلا:{قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا} [الأنعام: 14] ثم يقول: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} فجاءت هذه الآية الثانية، لتبين بدلالة السمع - وهو الوحي - بعد الأولى التي تحوم حول الدلالة بدلالة العقل، الأمر باتباع دين الإسلام، بل وأن يعلن النبي بناء على أمر ربه أنه أول من أسلم، وهي الكناية التي خاطب العرب بها، إذ هم يعلمون أنه أول من التزم دينه الذي يدعو إليه، ومن ثم كان المعنى المكنى عنه هنا هو كونه الأقوى والأمكن في الإسلام، لأن الأول في كل شيء هو الأحرص على الشيء، والأعلق به، فالأولية تستلزم الحرص والقوة في العمل، كما حكي الله عن موسى عليه السلام قوله:{وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)} [الأعراف: 143] فإن كونه أولهم معلوماً، وإنما أراد: إني الآن بعد الصعقة أقوى الناس إيمانًا، وفي الحديث:«نحن الآخرون الأولون يوم القيامة» (1).

وعليه فالرسول صلى الله عليه وسلم هو الأول إسلامًا وإيمانًا وإحسانًا، في الدنيا والآخرة، وبأمر الله أن يقول ذلك، وفي نفس الآن فإن في الآية تأييسًا للمشركين من اتباع دينهم، أو الرجوع إلى دين آبائهم، والذي من معناه التمسك بتوحيد ربه، والالتزام بعبادته، وترك عصيانه، وهو ما يبين في الآيات الأولى المعنى الذي تدور عليه الآيات كافة من كونه في توحيده لربه، والتزامه بعبادته، والاتصاف بأعلى الصفات هو الأول في ذلك.

ونربط ما سبق من سورة الأنعام بما نزل في سورة الزمر، نظرًا لأن الزمر متأخرة النزول عن الأنعام، وهي من قوله تعالى: {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ

(1) رواه البخاري ومسلم، وهذا اللفظ لمسلم (855).

ص: 133

أَكُونَأَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13)} [الزمر: 11 - 13]. (1)

ونلاحظ في ربط الآيتين قبل الخوض في شيء من التفسير ما يلي:

أولاً: أن سورة الأنعام ذكرت قوله: {أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} ، أما في سورة الزمر فجاء قوله:{وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12)} وتعني في الأنعام عندما عبرت بالفعل أن ذلك يفيد التكرار والدوام منه صلى الله عليه وسلم، أي كلما تكرر أمر من الله له، أو نهي فإنه يكون المبادر للاستسلام وللامتثال ومن ناحية أخرى يكون هو الأقوى والأكمل في الامتثال والخضوع، أما آية الزمر، وهي المعبرة بالجملة الاسمية {وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} فدلت على كون الاستسلام والقوة فيه والحرص عليه سجية للنبي صلى الله عليه وسلم، وهيئة راسخة لا ينفك عنها ولا يتحول، وأنه عليه الصلاة والسلام يتقبل تلك الأوامر والنواهي ويسارع إليها بسماحة ويسر، بغير مشقة على النفس ولا عنت، وبغير ملل أو ضجر أو استثقال، مهما كلفته تلك الأوامر والنواهي، وقد رأينا تلك القدوة في أصحابه رضوان الله عليهم عندما تركوا أهلهم وأوطانهم وديارهم وأموالهم في سبيل الله تعالى، وما كانوا ليفعلوا ذلك إلا ولهم أسوة فيه صلى الله عليه وسلم وهذه تدل على عصمته، لأنه كلما أُمر بأمر امتثل، وكلما نهي انتهى (2).

ثانيًا: أن الآيات هنا زادت الإخلاص لله تعالى في عبادته، حيث يتناسب ذلك مع السياق، إذ في الأنعام قوله:{قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14)} ، وهو علاوة على أن أمره بأن يكون أول من أسلم فهو تأييس للمشركين من طلبهم العودة إلى دينهم، أما هنا فهو الأمر بالعبادة ولا تكون مقبولة إلا بالإخلاص لله تعالى فيها،

(1) حيث الأنعام في ترتيب السيوطي (54)، والزمر (58)، وكذا في بقية المصاحف، فإن الزمر متأخرة مع اختلاف في رقمها.

(2)

فلم يكن ثم مجال للمخالفة على الإطلاق، وذلك واضح من أمر الله له بالثناء على نفسه صلى الله عليه وسلم، بثناء الله عليه، فأنى تأتي المخالفة المؤكد عدم خطورها بباله فضلاً عن وقوعها، وذلك بقوله:"إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم".

ص: 134

فجاء الأمر على هذا النحو فزاد السياق هنا بزيادة هذه الألفاظ معان أخرى تشير إلى ما ذكرنا منها كونه صلى الله عليه وسلم مأمورًا بأن يكون أول من أسلم في كل أموره في توحيده في عبادته في إخلاصه، في أعماله الباطنة، وفي أعماله الظاهرة، وهذا ما بينته سورة الأنعام شاملاً قبل ذلك في أواخر آياتها بقوله تعالى:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 162 - 163]، وهذا واضح تمام الوضوح في البرهنة على عصمته صلى الله عليه وسلم، إذا من كان أول من أسلم، وكانت صلاته ونسكه ومحياه ومماته لله، حتى مماته فمتى يكون للشيطان وأنى يكون له عليه أدنى سبيل أو سلطان، فمتى يعصى ربه؟!

ذكر الفخر الرازي، وهو بصدد تفسير هذه الآيات معنى شبيهًا فقال:«في قوله تعالى: {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12)} التنبيه على كونه رسولاً من عند الله واجب الطاعة، لأن أول المسلمين في شرائع الله لا يمكن أن يكون إلا رسول الله، لأن أول من يعرف تلك الشرائع والتكاليف هو الرسول المبلغ.» (1)

ثالثًا: ذهب جمع من المفسرين بأن الأمر بعبادة الله تعالى مخلصًا فيها؛ إنما هو علة ليكون أول المسلمين، فمتعلق {أُمِرْتُ} محذوف لدلالة قوله:{أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11)} ، والنبي صلى الله عليه وسلم كان قد بالغ أشد المبالغة في العبادة من قبل نزول هذه الآيات عليه - كما في سورة طه - وهي متقدمة على كل هذه السور التي فيها الأمر بأن يكون أول المسلمين (2) حتى واساه ربه بقوله:{مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى (2)} [طه: 2] كما سيأتي في موضعه إن شاء الله تعالى وقد علمنا من سورة المزمل والمدثر اجتهاد النبي عبادة ودعوة من أول يوم بعثه

(1) الفخر الرازي "التفسير الكبير"(403/ 13).

(2)

ترتيبها عند السيوطي مثلاً (44) فهي متقدمة على الأنعام ويونس والزمر اللاتي معنا.

ص: 135

الله تعالى فيه.

وهذا يبين الأسوة الحسنة للمؤمنين المتقين من وجهين:

الأول: إذا كان النبي في هذا المقام العالي، وأمر بذلك فمن باب الأولى أن يكون المؤمنون سالكين سبيل الاجتهاد كذلك.

الثاني: وهو خوفه صلى الله عليه وسلم من المعصية الواحدة لهول العذاب - كما تدل عليه الآيات - فكيف الحال بباقي الخلق المؤمنين فمن دونهم من المشركين.

ولذلك رأينا تكرير قوله {وَأُمِرْتُ} تنويهًا بشأن المأمور به الثاني، وإظهارًا لأهميته، حيث عطف على {أُمِرْتُ} الأول، وليس ذلك تكريرًا محضًا لسببين:

الأول: أن أمرت الأول لبيان المأمور، وذكر الأمر الثاني لبيان المأمور لأجله بضميمة قيد التعليل.

الثاني: أن قوله في الأول: {أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ} أن العبادة لها ركنان عمل القلب، وعمل الجوارح، وعمل القلب أشرف فقدم على عمل الجوارح، وهو قوله {مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11)} ، وأما قوله {وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12)} فمن معاني الإسلام الأعمال الظاهرة كالصلاة وبقية الأركان كما في حديث جبريل عليه السلام فكان أمرت الأول بعمل القلب، والثاني بعمل الجوارح قلا تكرار إذن.

وكل ذلك يدلنا على اكتمال ما به يكون النبي صلى الله عليه وسلم في نهاية العصمة، حيث أشارت الآيات إلى أمرين عظيمين:

الأول: يشاركه فيه غيره، وهو أن يعبد الله مخلصًا له الدين.

ص: 136

الثاني: يختص به، وهو أن يعبده كذلك ليكون أولَ المسلمين.

فأمره يبلغ الغاية القصوى في عبادة الله مخلصًا له الدين، والتي لم يبق معها فكر في معصية أو مخالفة فضلاً عن الهم والوقوع، فجعل وجوده متمحضًا للإخلاص على أي حال كان كما في الآية التي أشرنا إليها:{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)} [الأنعام: 162 - 163](1) وتبقى معنا الآية الثالثة وهي: آية سورة يونس، لننظر فيها إذ هي تغطي زاوية أخرى في سياق العصمة، لتكتمل بذلك جوانب الموضوع من حفظ النبي صلى الله عليه وسلم وهو الجانب المتعلق بالقرآن الكريم، وتبليغه كما هو، وأنه ليس له أن يقدم فيه أو يؤخر، فضلاً عن أن يزيد أو ينقص، أو يبدل، أو يغير، وما كان له ذلك، وهذا الموضع هو قوله تعالى:{قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَى إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)} [يونس: 15].

ونلاحظ في الآية ما يلي:

أولاً: أن سورة يونس في ترتيب النزول قبل سورتي الأنعام والزمر (2) وذلك موافق للسياق العام لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم فبعد تقرير أن القرآن الكريم من عند الله، تأتي الأوامر بالتوحيد، والعبادة وغيرها، وساعتها يؤمر النبي بقوله:{قُلْ إِنِّي أَخَافُ} ، {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ} ، وغير ذلك من الآيات التي تنبني في محاجتها للمشركين، بل

(1) انظر لما سبق الفخر الرازي، "التفسير الكبير"(403/ 13)، وانظر أبا السعود "إرشاد العقل السليم"(461/ 2)، الألوسي "روح المعاني"(368 - 370/ 13)، والطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير"(357/ 24)، وغيرهم كأبي حيان "البحر المحيط"(454/ 4).

(2)

هي السورة رقم (50) في ترتيب السيوطي، انظر عزة دروزة (155/ 1).

ص: 137

وللعالمين على صحة رسالته، وصدق نبوته، إذ أثبت قبل ذلك بالتحدي الذي لم يرد لم يبق إلا العمل والتمسك به، والدعوة إليه.

ثانيًا: إن المشركين طلبوا تغيير هذا القرآن، أو تبديله، وكان من اليسير عليه لو كان ذلك بيديه صلى الله عليه وسلم أن يفعل ذلك بدلاً من هذا العناء والشقاء، ولكنه رد عليهم ردًا واضحًا لا لبس فيه، وواجههم مواجهة لا مواربة فيها، حاسمة قاطعة لا رجوع عنها، بل لا انثناء لها بأمور هي أركان دعوته وأساسها، وأنه لا يمكن له تحت أي سبب أو ضغط أن يحيد عنها، ولا قيد أنملة، هذه الأمور هي:

الأول: قوله: {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} ليستنبطوا ما يريد أن يؤكده لهم وهو، أن هذا القرآن ليس من عنده، إذ اقتراحهم أن يغيره أو يبدله له معنى صريح هو، الإتيان بقرآن آخر، ومعنى كنائي التزامي وهو، أنه غير منزل من عند الله عز وجل، فكان تلقين الله إياه يحمل الردين معًا، ويثبت في ذات الوقت، وكل وقت أن ذلك لم يحدث، ويتلى إلى أن تقوم الساعة أنه ليس من تلقاء محمد صلى الله عليه وسلم، ويبين هذا الكلام معنى دقيقًا أنه لم يكن له صلى الله عليه وسلم أن يبدل ولا حرف واحد من هذا القرآن، أو يغيره، أو يحذفه، أحب أو كره، تحت أي ظرف من الظروف، أو حدث من الأحداث، مما يبين على صحة القرآن جملة وتفصيلاً، وأنه منزل من عند الله كما بلغه النبي صلى الله عليه وسلم.

الثاني: من أمور رد الرسول صلى الله عليه وسلم في الآية قوله: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَى} فهو مبلغ عن الله تعالى ما يوحِي إليه به، شاءوا أم أبوا، آمنوا أو كفروا، لن يغير ذلك من موقفه شيئًا، وهو منتظر في ذلك حكم الله بينه وبين العالمين، وهو ما يدل على عصمته في تبليغ كلام الله، أوامره ونواهيه، توحيده وعبادته، سلمه وحربه، حياته ومماته، لا يستطيع، وما كان له أن يقول حرفًا واحدًا من عنده لأنه يدخل في التبديل، وذلك أبلغ ما يكون في إظهار عصمته،

ص: 138

وهي علامة باقية إلى يوم القيامة، وبعد مماته صلى الله عليه وسلم، ما استطاعت الدنيا - كما أخبر أن تغير مما قال شيئًا - ومن ادعى القول فضح به وظهر كذبه.

والكلام يشير إلى عصمته بإشارة أخرى، وهو في جملة:{إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَى} حيث هي تعليل لجملة {مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ} أي ما أتبع إلا الوحي، وليس لي تصرف بتغيير (1)، واتباع الوحي: تبليغ الحاصل به وعدم تجاوزه في الاقتفاء، أي عملاً وتبليغًا، إذ الاتباع مجاز في عدم التصرف، بجامع مشابهة ذلك للاتباع الذي هو عدم تجاوز الاقتفاء في المشي.

وإن دل ذلك دل بوضوح على أنه في التزامه أوامر الله وتبليغها لا يتزحزح فيها قيد شعرة عما يوحى إليه، وما كان، وبالتالي لن يكون، وهي العصمة الكاملة للنبي صلى الله عليه وسلم باتباعه التام والكامل والدائم للوحي المنزل عليه والذي لا حول له فيه ولا تصرف، ومن ثم قال في الآية التالية:{قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)} [يونس: 16](2).

الثالث: وهو في قوله جل وعلا: {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15)} وهي واقعة في موضع التعليل لقوله: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} وهي قاطعة لأطماع المشركين، ولكل أحد يروم محادة الإسلام، سواء بتغيير هذا القرآن أم تبديله أم العودة إلى دين المشركين كما طلبوا منه صلى الله عليه وسلم، أم بمهادنتهم بترك الاستهانة بآلهتهم، أم بعصيان الله تعالى أي

(1) انظر الطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير"(118 - 119/ 11).

(2)

وجملة "من تلقاء نفسي" ليس معناه أنه يجوز أن يبدل من تلقاء الله تعالى التبديل الذي يرومونه، ودل السياق أن الإتيان بقرآن آخر بمعنى إبطال هذا القرآن وتعويضه بغيره، وأن تبديله بمعنى تغيير معاني وحقائق ما اشتمل عليه ممتنع. انظر لذلك الطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير"(118 - 119/ 11).

ص: 139

معصية كانت لأن ذلك مؤداه إلى عذاب لا قبل لأحد به، فهو مانع أي العذاب لمن كان في مقام الرسول القدوة أن يخالف أي مخالفة أو أدنى مخالفة كانت لذلك الوحي، مما يؤكد بما لا شية فيه عدم وقوع ذلك منه، وهو الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم كما سماه المشركون أنفسهم، وتلك هي العصمة الكاملة.

ص: 140