الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث
مراتب الوحى
وتتميمًا للكلام على الوحي نذكر صوره التي كان يوحي للنبي صلى الله عليه وسلم عليها قبل عرضنا لسيرة الوحي في القرآن الكريم مع الرد على "وات".
يقول الإمام "ابن القيم" إن الله تعالى قد كمل لنبيه من مراتب الوحي مراتب عديدة:
أحدها: الرؤيا الصادقة، وهي أول ما بدئ به الوحي، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح (1).
الثانية: ما كان الملك يلقيه في روعه وقلبه من غير أن يراه كما قال صلى الله عليه وسلم: "إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي أقصى رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب .... ". (2)
الثالثة: كان يتمثل الملك للنبي صلى الله عليه وسلم رجلاً فيخاطبه فيعي ما يقول، وفي هذه المرتبة كان
(1) البخاري (6982)، ومسلم (160)، أحمد "الفتح الرباني"(47/ 18).
(2)
الحديث صححه الألباني في التعليق على فقه السيرة لمحمد الغزالي، (96)، قائلاً أخرجه الحاكم (4/ 2) عن ابن مسعود رضي الله عنه، والطبراني في الكبير وأبو نعيم في الحلية (26 - 27/ 10) عن أبي أمامة، والبزار عن حذيفة كما في مجمع الزوائد للهيثمي (71/ 4) كما في الترغيب والترهيب، ولهذا جزم ابن القيم في زاد المعاد بذلك، واتفق محققًا الزاد شعيب وعبد القادر الأرناؤوط (79/ 1) مع الألباني على تصحيحه، وزاد بعض الشواهد التي تؤكد ذلك، وانظر د. مهدي رزق الله "السيرة النبوية"(152).
يراه الصحابة أحيانًا (1).
الرابعة: أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس، وكان أشده عليه فيتلبس به الملك حتى إن جبينه ليتفصد عرقًا في اليوم الشديد البرد، وحتى إن راحلته لتبرك به إلى الأرض .... " (2).
الخامسة: أن يرى الملك في صورته التي خلق عليها، فيوحي إليه ما شاء الله أن يوحيه، وهذا وقع له مرتين كما ذكر في سورة النجم. (3)
السادسة: ما أوحاه الله تعالى من فوق سماواته ليلة المعراج من صلاة وغيرها.
السابعة: كلام الله له منه إليه بلا واسطة ملك، كما كلم الله تعالى موسى عليه السلام، وهذه المرتبة ثابتة لسيدنا موسى عليه السلام بنص القرآن الكريم في قوله تعالى:{وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164]، وثبوتها للنبي صلى الله عليه وسلم في حديث المعراج حيث عرج به إلى أن كلم الله تعالى (4).
وبالتأمل في هذا التلخيص للوحي نشير إلى أمور مهمات تعين على توضيح تلك الظاهرة الخارقة، وفي نفس الوقت نرد منها أو هي تحمل الرد على "وات" علاوة على ما سيأتي من الكلام على الوحي في القرآن الكريم:
أولاً: يتبين من الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى جبريل بعينه، وأنه ضمه ثلاث مرات، وأنه سمعه يقول اقرأ، وقرأ عليه آيات ما زالت تتلى إلى يوم القيامة، وهذا يدل على أنه ليس
(1) وقد ورد ذلك في حديث جبريل، لما قال النبي صلى الله عليه وسلم:"هذا جبريل أتاكم يعلمكم أمور دينكم" وروى النسائي بإسناد صحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما: "كان جبريل يأتي في صورة دحية الكلبي" زاد المعاد، حاشية (79/ 1).
(2)
البخاري (3215/)، ومسلم (2333).
(3)
مسلم (177).
(4)
مسلم (163).
أمرًا ذاتيًا، ولا تأملاً باطنيًا، وأنه لا تعلق له باللاوعي، أو الوعي واللبيدو الذي يدعيه "وات"، بل إن الوحي يتم من خارج الذات المحمدية المتلقية له، خاصة وأنه متضح لكل عاقل أن ظاهرة الوحي لم تأت منسجمة أو متممة لشيء مما قد يتصوره أو يخطر بباله، وإنما طرأت طروءًا على حياته وفوجئ بها، إذ ليس من شأن التدرج في التأمل والتفكير (1) بطريقة الكشف التدريجي المستمر أن يأتي له من يضمه ويكلمه، ثم يتركه ويذهب، فلم يكن إذن للرسول من أثر سوى حفظ هذا الوحي وتبليغه، أما بيانه وتفسيره فيتم بأسلوب النبي صلى الله عليه وسلم وهو أفصح العرب، ومع ذلك وجدنا أسلوبه مغايرًا تمامًا لأسلوب القرآن الكريم.
وإن محاولة "وات" تعليل اختلاف أسلوب القرآن الكريم عن أسلوب الحديث عن طريق علم النفس التحليلي، بدعوى أن القرآن الكريم صدر عن منطقة اللاشعور في حالة ضعف الوعي الخارجي ونشاط العقل الباطن، وأن الحديث صدر عن العقل الظاهر لا شك تبدو متهافتة مجافية للحقيقة مخالفة للواقع، إن ما صدر عن النبي صلى الله عليه وسلم في حالة الضعف المزعومة قرآن وكلام إلهي لم يستطع بشر أن يأتي به أو بمثله ولو مفترى لا حقيقة له، سواء في حالة الضعف ونشاط والعقل أو في خلاف ذلك، وإن تهافت هذا التفسير يظهر إذا تأملنا فيما صدر عن الحكماء والشعراء والبلغاء من آثار أدبية تتضح فيها الوحدة الأسلوبية مع مرورهم بتجارب تأملية واستنباطية، بل صار الأسلوب أساسًا لتحديد السرقات الأدبية إلى جانب سرقة المعاني. (2)
إن طمأنة السيدة خديجة رضي الله عنها للنبي صلى الله عليه وسلم بأخلاقه الحميدة، وأن مثله لا يؤذيه جنٌ ولا غيره، لدليل على مفاجأتها بما حدث، وإلا لكان ردها هذا هو المتوقع والمنتظر نعم
(1) كما يدعي كارادفو الفرنسي. انظر حاضر العالم الإسلامي (39/ 1)، وانظر د. مهدي رزق الله "السيرة النبوية من مصادرها الأصلية"(149 - 151).
(2)
انظر د. أكرم العمري "السيرة النبوية"(129 - 130/ 1).
قد وصلنا إلى النتيجة المرجوة، ولما ذهبت به إلى ورقة ليقول لهما: إن هذا هو الناموس الذي نزل على الأنبياء، وذلك منه من أكبر الأدلة على كون الوحي ليس أمرًا ذاتيًا كما ذُكر إذ هو تنزل ملاك الرب على المصطفين من عباده لا علاقة لذواتهم به، بل هو شيء خارج عن النفس هم الوسيلة في تبليغه لا غير، ولو كان الأمر ذاتيًا مع ضعف الوعي أو قوته أو غير ذلك من المفتريات لكان ورقة أولى به، وإن مثل هذا الحدث الجلل، والشأن العظيم لجدير بأن ينسبه المرء إلى نفسه ليحوز به الفخار الذي يعلمه، والشرف الذي لا يدانيه شرف.
ذكرت الروايات التي أشرنا إلى بعضها أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعد فترة الوحي وانقطاعه سمع صوتًا فرأى الملك الذي جاءه بحراء جالسًا على كرسي بين السماء والأرض فرعبت منه
…
إلى آخر الحديث، وهذا يدل على رؤية الملك جبريل عليه السلام، ووقع "وات" هنا في مأزقين
الأول: أنه اختار رواية واحدة هي رواية الزهري في قول السيدة عائشة رضي الله عنها أنه جاءه الحق وهو في غار حراء، وبنى عليها ما يأتي من كلامه.
الثاني: أنه اخترع رواية من عنده في رؤية الملك أنه رأى الحق جالسًا على العرش بين السماء والأرض.
ثم خلص إلى أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما تعلم بعد ذلك من أهل الكتاب أن الله لا يُرى ذكر أنه رأى جبريل، وبالتالي فهو غير صادق في ادعاء الوحي.
وهذا الكلام الغريب المخترع يبين ميل "وات" عن الحياد الذي يدعي، ويوضح في نفس الوقت الأسلوب الانتقائي الاستشراقي ل"وات" والذي أوقعه في تلك المآزق، يؤكد كذلك على منهج اختراع التاريخ الذي بيناه من قبل، ثم يرد على التاريخ المخترع الذي لا علاقة له بالرسول صلى الله عليه وسلم بما يكذب به الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلى شيء من تفصيل ذلك:
أولاً: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر أن الملك جاءه وضمه، ثم رأى الملك ذاته على كرسي بين السماء والأرض.
ثانيًا: أن الحق الوارد في رواية "وات" المنتقاة يكون معناه إذن الرسالة والنبوة ليس الحق هو الله كما يحلو ل"وات"، لأنه مناف للواقع وللحديث مع النبي صلى الله عليه وسلم بدليل قول الله تعالى على لسان الملك:"اقرأ باسم ربك الذي خلق" لا باسم غيره، وأن الملك مبلغ له ذلك عن الله تعالى الذي خلق.
ثالثًا: أن "وات" أَلَّفَ رواية أنه صلى الله عليه وسلم رأى الملك جالسًا على العرش هكذا بتعريف العرش، وذلك لا يكون إلا لله وجميع ما ورد في ذلك مما يعلمه "وات" هو أنه صلى الله عليه وسلم رأى الملك جالسًا على عرش أو كرسي بين السماء والأرض فماذا نقول في هذا الكلام من "وات"، هذا الملفق ثم يأتي بعد ذلك لينسبه للنبي صلى الله عليه وسلم ويكذبه به.
رابعًا: بعد هذا الكلام كله يقول "وات" إن محمدًا عندما يقرأ "اقرأ" يشعر بالدين في رقبته لورقة، خاصة وأنه لكي يستقيم له تخيله وما يدعيه يفترض نزول قرآن قبل اقرأ، لأنه كان يتردد على ورقة، وأن خديجة لا يستبعد أن تكون هي الأخرى مسيحية.
وقد ظهر بالكلام السابق أن ذلك إنما هو عقدة "وات" في عدم ذكر الحقيقة وتحليلها، فضلاً عن تقطيع أوصال الحقائق في أماكن مختلفة ليؤكد الانتقائية في بحثه، فإن لم يجد اخترع تاريخًا وأخذ يحلله لنا ويستخرج منه ما لا علاقة له ببحثه أو بما يتكلم فيه، وذلك كما أشرنا من قبل أحد معالم بحث "وات" على مدار السيرة من أولها إلى آخرها، وقد رددنا ضمنًا فيما سبق على هذا الكلام العلمي النزيه المحايد من "وات" كما يحلو لنفسه أن يلقبه به.
وفي نهاية المبحث يحسن أن نذكر كلام كاتبين نصرانيين هما "سال" و"تايلور" يدلان على أن النصرانية التي وراء ادعاء النبي صلى الله عليه وسلم للرسالة والوحي كانت في أسوأ عصور
انحطاطها، بحيث لم يجد صلى الله عليه وسلم نموذجًا أخلاقيًا، أو دينيًا ليحتذيه أو لينقله إلى الإسلام، ودليل على أن ورقة بن نوفل لا علاقة له بالنبي صلى الله عليه وسلم فضلاً عن أن يتردد إليه، وبرهان ساطع على ما وصل إليه ورقة من علم لم يكن ليزيد عن المعلوم السائد، اللهم إلا قراءته في الإنجيل ونقله منه ما شاء الله بالعبرانية، وما كان ذلك مقنعًا للناس أن يدخلوا في النصرانية خاصة وأنه لم يدع لشيء من ذلك أو تعرض لدخول أحد فيه كما ذكرنا من قبل المهم يقول سال:"إذا قرأنا التاريخ الكنسي بعناية، فسنرى أن العالم المسيحي قد تعرض منذ القرن الثالث لمسخ صورته، بسبب أطماع رجال الدين والانشقاق بينهم والخلافات على أتفه المسائل، والمشاجرات التي لا تنتهي، والتي كان الانقسام يتزايد بشأنها. وكان المسيحيون في تحفزهم لإرضاء شهواتهم، واستخدام كل أنواع الخبث والحقد والقسوة قد انتهوا تقريبًا إلى طرد المسيحية ذاتها من الوجود، بسبب جدالهم المستمر حول طريقة فهمها، وفي هذه العصور المظلمة بالذات ظهرت بل وثبتت أغلب أنواع الخرافات والفساد."(1)
أما "تايلور" فيقول: «إن ما قابله محمد وأتباعه في كل اتجاه لم يكن إلا خرافات منفرة ووثنية منحطة ومخجلة، ومذاهب كنسية مغرورة، وطقوسًا دينية منحلة وصبيانية» . (2)
فأنى إذن لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يقتدي بتلك التعاليم التي وصفها أصحابها بتلك الأوصاف ونعتوها بتلك النعوت، إذا كان العوام قد رفضوها هم والخواص، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو من هو أرجح الناس عقلاً وأعظمهم احترامًا في محيطه، ومحيط من عرفه أو خالطه، كما ذكرنا شيئًا من أوصافه التي وصفه بها أهل الجاهلية، ووسمته بها سيرته في الكتب السابقة (السماوية).
(1) د. محمد عبد الله دراز، "مدخل إلى القرآن الكريم"، (136) نقلاً عن كتاب سال "ملاحظات تاريخية ونقدية عن الإسلام"(68 - 71).
(2)
د. محمد عبد الله دراز، "مدخل إلى القرآن الكريم"(137)، نقلاً عن "المسيحية القديمة" لتايلور (266/ 1).
نسارع خطى البحث لنعود إلى ذكر الوحي في القرآن الكريم على المنهج الذي اخترناه لهذا البحث.
ونلاحظ الآية الأولى في هذا المعلم وقد قدمناها لكونها تجمع الأنبياء جميعًا الذين ورد ذكرهم في القرآن الكريم والذين لم يرد ذكرهم وهي قوله تعالى: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 163 - 164]، وقد أضفنا إليها الآية التالية لها لتعلقها بها.
ففي هذا التنزيل القرآني نرى الآتي:
أولاً: أن وحي الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم إنما هو كوحيه لجميع الأنبياء، أي إنه وحي من الله إلى موحى إليه من البشر منفصل تمام الانفصال عن الموحَى إليه، فهو ليس من ذاته بل من الله جل وعلا. (1)
ثانيًا: أن وحي النبي لا يفترق عن وحي الأنبياء من قبله، فأصول هذه الرسالات واحدة من الله تعالى، وإن اختلفت في أمور تتفق وبعثة الأنبياء وأزمانهم رعاية من الله ورحمة بالناس.
ثالثًا: أن وحي النبي صلى الله عليه وسلم ليس حالة نفسية أو حالة من حالات الوعي واللاوعي وغير ذلك، إذ لم ينسب لنبي من قبل مثل هذا البهتان فمن باب الأولى فالرسالة الخاتمة الشاملة الخالدة الأعظم لا يكون مبلغها إلا على أفضل كمالات الأنبياء من قبله.
رابعًا: أن الأنبياء الأقرب من الرسول برسالاتهم كموسى وعيسى عليهما السلام لم
(1) انظر مالك بن بني، "الظاهرة القرآنية".
يعلم أو ينقل عنهم مثل ذلك اللبيدو الذي يدعيه "وات" في القرن العشرين، وقد بينت الآية أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أوحي إليه كما أوحي إليهما أيضًا فما الفارق إذن؟
خامسًا: أن الله تعالى لم يمن على رسوله بالوحي، وأنه أرسل إليه رسولاً وأنه اصطفاه لذلك إلا لأنه أوحى له بذلك حقًا، وأنه سبحانه ما يقول هذا القول إذا كان هذا الوحي المعظم النازل إليه إنما هو من نفسه صلى الله عليه وسلم يستدعيه بالوعي واللاوعي كيف يليق ذلك بالله تعالى مع أنبيائه؟!
ونسرد فقط عددًا من الآيات تدل على المطلوب، فعلى سبيل المثال يقول المولى سبحانه:{وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى} [النجم: 3 - 4] وسنعود إلى هذه الآية بالذات في قصة الغرانيق إن شاء الله تعالى، وقوله سبحانه:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى} [يوسف: 109] وقوله: {وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} وقوله تعالى: {إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ} [الأحقاف: 9] وقوله: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ} [القيامة: 16 - 18](1) وهي آيات مكية يخاطب بها أهل مكة، وأنه لا يتبع إلا الوحي، وأنه منذر مبلغ للعالمين ليس له من أمر الوحي شيء، ولا من أمر نفسه ولا غيره شيء.
ونبدا بذكر ما نزل من الوحى في أول البعثة نبين به سيرة النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته وأهداف الدعوة من أول أيامها، والسيرة التى ينبغى أن يسلكها الرسول صلى الله عليه وسلم ليصل أو ليحقق تلك الاهداف بما ينير الطريق لاتباعهم لالتزام تلك السيرة في دينهم، وكان أول ما نزل قوله:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} .
(1) وانظر لما سبق: عبد الله النعيم، "الاستشراق في السيرة النبوية"(74 - 75).
وبالنظر في تلك الآيات وتحليلها نلاحظ:
أن هذا أول ما أوحي به من القرآن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لِما ثبت عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم مما سيأتي قريباً.
وافتتاح السورة بكلمة {اقْرَأْ} إيذان بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيكون قارئاً، أي تالياً كتاباً بعد أن لم يكن قد تلا كتاباً قال تعالى:{وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ} [العنكبوت: 48]، أي من قبل نزول القرآن، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل حين قال له اقرأ:" ما أنا بقارىء ".
وفي هذا الافتتاح براعة استهلال للقرآن.
وفي حديث «الصحيحين» عن عائشة رضي الله عنها (1) قولها فيه: «حتى جاءه الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال: اقرأ. قال: فقلت: ما أنا بقارىء فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجَهْد ثم أرْسَلَني فقال: اقرأ. فقلت: ما أنا بقارىء فأخذني فغطّني الثانيةَ حتى بلغ مني الجَهد ثم أرسلني فقال: اقرأ فقلت: ما أنا بقارىء فأخذني فغطني الثالثة حتى بلغ مني الجَهد، ثم أرسلني فقال:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1)} إلى {مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} .
وقوله {بِاسْمِ رَبِّكَ} فيه تعريض بتحميق المشركين الذين ضلوا عن توحيد الله تعالى مع أن دليل الوحدانية قائم في أنفسهم.
وفي قوله: {مِنْ عَلَقٍ (2)} إشارة إلى ما ينطوي في أصل خَلْق الإِنسان من بديع الأطوار والصفات التي جعلته سلطانَ هذا العالم الأرضي.
(1) البخاري، الصحيح، باب بدء الوحى (1/ 5).
فإذا نظرتَ إلى الآية مستقلة عما تضمنه حديث عائشة في وصف سبب نزولها كان الاستئناف ناشئاً عن سؤال يجيش في خاطر الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقول: كيف أقرأ وأنا لا أحسن القراءة والكتابة، فأجيب بأن الذي علم القراءة بواسطة القلم، أي بواسطة الكتابة يعلمك ما لم تعلم.
وإذا قرنت بين الآية وبين الحديث المذكور كان الاستئناف جواباً عن قوله لجبريل: «ما أنا بقارىء» فالمعنى: لا عجب في أن تقرأ وإن لم تكن من قبل عالماً بالقراءة إذ العلم بالقراءة يحصل بوسائل أخرى مثل الإِملاء والتلقين والإِلهام وقد علم الله آدم الأسماء ولم يكن آدم قارئاً.
ووصف {الْأَكْرَمُ} مصوغ للدلالة على قوة الاتصاف بالكرم وليس مصوغاً للمفاضلة فهو مسلوب المفاضلة.
والكرم: التفضل بعطاء ما ينفع المعطَى، ونعم الله عظيمة لا تُحصى ابتداء من نعمة الإِيجاد، وكيفية الخلق، والإِمداد وتخصيص الكرم بربك هنا للدلالة على النعم الخاصة بالنبي صلى الله عليه وسلم علاوة على ما سبق من مثل النبوة والرسالة ولبلاغ العلم مع الاصطفاء والتشريف بإضافة الرب سبحانه وتعالى إلى كاف المخاطب وهو النبي صلى الله عليه وسلم.
جمعت هذه الآيات الخمسُ من أول السورة أصول الصفات الإلهية فوَصفُ الرب يتضمن الوجود والوحدانية، ووصف {الَّذِي خَلَقَ} ووصف {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)} يقتضيان صفات الأفعال، مع ما فيه من الاستدلال القريب على ثبوت ما أشير إليه من الصفات بما تقتضيه الموصولية من الإِيماء إلى وجه بناء الخبر الذي يذكر معها. ووصف
{الْأَكْرَمُ} يتضمن صفات الكمال والتنزيه عن النقائص وفيه إفحام للمشركين من أول آية على ان آلهتهم ليست من تلك الصفات في شئ فلا يستحق التوحيد والعبادة إذن إلا الله
وحده وهو أساس الدعوة وهدفها من أول آية، مع ما في قوله باسم ربك أنت أي الواحد الموصوف بصفات الكمال المنزه عن صفات النقص لا أي رب آخر يدعوه المشركون أو غيرهم.
وجملة: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} خبر عن قوله: {وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3)} وما بينهما اعتراض.
وتعريف {الْإِنْسَانَ} يجوز أن يكون تعريف الجنس فيكون ارتقاء في الإِعلام بما قدره الله تعالى من تعليم الإِنسان بتعميم التعليم بعد تخصيص التعليم بالقلم.
وفي ذلك طمأنة لنفس النبي صلى الله عليه وسلم بأن عدم معرفته الكتابة لا يحول دون قراءته لأن الله علّم الإنسان ما لم يعلم، فالذي علّم القراءة لأصحاب المعرفة بالكتابة قادر على أن يعلمك القراءة دون سبق معرفة بالكتابة.
وأشعر قوله: {مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} أن العلم مسبوق بالجهل فكل علم يحصل فهو علم ما لم يكن يُعلَم من قبل، أي فلا يُؤْيِسَنَّك من أن تصير عالماً بالقرآن والشريعة أنك لا تعرف قراءة ما يكتب بالقلم. وفي الآية إشارة إلى الاهتمام بعلم الكتابة وبأن الله يريد أن يُكتَب للنبى صلى الله عليه وسلم ما ينزل عليه من القرآن فمن أجل ذلك اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم كتاباً للوحي من مبدأ بعثته.
وفي الاقتصار على أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالقراءة ثم إخباره بأن الله علّم الإنسان بالقلم إيماء إلى استمرار صفة الأمية للنبى صلى الله عليه وسلم لأنّها وصف مكمِّل لإعجاز القرآن قال تعالى: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48)}
[العنكبوت: 48].
وهذه آخر الخمس الآيات التي هي أول ما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء.
وبناء على ما سبق كان معنى الآيات، أن الله سينزل على نبيه مايتلوه على الدنيا، وأن الذى سيتلوه هو دعوتهم إلى ربه، وترك غيره لأنه الواحد الأحد الذى له الخلق والأمر، ومتصف بصفات الكمال منزه عن صفات النقص، وأن له الرجعى والقيامة اليه، فهو إذا الإله الذى يجب أن يفرده المرء بالعبادة والسجود له والتقرب إليه (واسجد واقترب).
ومن ثم ردت الآيات على "وات" في الدعوة وبواعثها وأركانها لا كما يدعى وردت عليه في كونها وحى من الله إذ لا يتصور ولا يمكن أن يكون اللبيدو أو الوعى الخلاق كما يزعم مصدرا للوحى فيما سيكون إذ هو عنده تخزين فقط لما كان يستدعيه بالوعى أو اللاوعى، ثم إن قوله اقرأ لم تكن من اللاوعى لأنه لم يسمع من حكاها أونقلت له من قبل إذ هي مفاجأة بما لم يحتمله واقعا.
ونعود إلى"وات" لنذكر رأية في موضوع النبوة ونبين الرد عليه.
- إن "وات" يرجع أمر النبوة إلى التخيل الخلاق (1)، بمعنى إنها إبداع من عقلية النبي صلى الله عليه وسلم، وليست اصطفاء من الله لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم لأداء رسالته، ولذلك استبعد رؤية جبريل عليه السلام من الناحية التاريخية (2).
وننقل شيئًا من كلام "وات" بنصه فيما يخص ما نحن فيه يقول: "لقد تملكت محمدًا منذ وقت مبكر أن الكلمات التي تصل إليه هي وحي من الله مهما كانت الصورة الدقيقة لتجربته الأولى في تلقي الوحي، وقد ظهر الإيمان بذلك منذ البداية في دعوته العامة"، ويقول "على المؤرخ أن يعترف بصدق محمد المطلق في اعتقاده بأن الوحي كان يأتيه من الخارج يمكن أن يكون قبل الوحي قد سمع من بعض الأشخاص قسمًا من القصص التي
(1) Creative imagination .
(2)
محمد في مكة.
يذكرها القرآن، وعندئذ يترك المؤرخ الموضوع للمتكلمين (1)، ليقوموا بنوع من التوفيق"، ويمعن في إظهار اعتقاده فيهذي قائلاً: "فالقول بأن محمدًا كان صادقًا لا يعني أن القرآن وحي حق، وأنه من صنع الله، إذ يمكن أن نعتقد بدون تناقض أن محمدًا كان مقتنعًا بالوحي ينزل عليه من الله وأن نؤمن في نفس الوقت بأنه كان مخطئًا" (2).
ويخدع قارئه الواثق فيه، أو الساذج بقوله بعد ذلك بأن:"مصدر الوحي المحمدي هو اللاوعي الجماعي، الذي هو مصدر كل وحي ديني سواء كان الإسلام أو النصرانية أو اليهودية"(3).
ولما كانت هذه الدراسة تعتمد على القرآن الكريم، والسنة النبوية المشرفة دراسة نصية مقارنة ونقدًا، فإننا نرد على "وات" وغيره من هذا المنحى غير المسبوق فيما نعلم، حيث يتبين به سوء الفهم، وسوء القصد، وضعف العلم، وتغيير الحقائق بنية مسبقة تضع الأحكام وتفصل لها الوقائع لتأتي على وفق الاعتقاد السابق الذي يلوي به رقبة البحث في الاتجاه الذي يريده له، ضاربًا عرض الحائط بكل ما له صلة بالبحث العلمي، خاصة فيما يتعلق بالإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم وهذه المسألة جعلناها مثلاً يحتذى، لذلك نزيدها توضيحًا وتدليلاً كلما مر معنا من كتابات "وات" ما يتعلق بها من جديد الإفك، وسيء القصد.
كان ينبغي أن نبدأ بها مع أول قضية، وكل قضية سطرناها من قبل، ولكن آثرنا وضعها هنا؛ لإدخال "وات" لها في إنكار النبوة، وهو يشير إلى تلك القضايا التي سودها في هذا الموضع.
ونبدأ بنقد كلام "وات" ..
(1) Theologions .
(2)
محمد في المدينة (325).
(3)
Watt. Mohammad prophet and stateman p.238.
وسوف نبري قلم النقد بمبراة التهذيب بريًا عظيمًا، مع شدة الاستفزاز التي وصلت إلى أسوأ دركاتها، بما ليس في طاقة الحليم أن يتحمله أو أن يمسك نفسه ويتمالك أعصابه حتى يرد عليه.
- نبدأ بهذا الاعتقاد المضحك، الذي يدل على الاستخفاف بالعقل وعدم احترامه، وإظهار ذلك في ثوب الحياد، في محاولة مكشوفة لكي يقبل العقل التناقض، ويسلم به، يقول "وات":"على المؤرخ أن يعترف بصدق محمد المطلق في اعتقاده بأن الوحي كان يأتيه من الخارج" ثم يهدم ذلك بأمرين.
الأول: يستكمل به هذا الكلام قائلاً: "يمكن أن يكون قبل الوحي قد سمع من بعض الأشخاص قسمًا من القصص التي يذكرها القرآن"(1).
الثاني: "أن مصدر الوحي المحمدي هو اللاوعي الجماعي، الذي هو مصدر كل وحي ديني سواء كان الإسلام أو النصرانية أو اليهودية"(2) ولا أظن أن هذا التهافت يحتاج إلى بيان من وجوه نصوصه هو وهاك الرد.
الأول: أن محمدًا صلى الله عليه وسلم صادق صدقًا مطلقًا بأن الوحي يأتيه من الخارج وفي نفس السطر ينقلب على عقله، ليقول يمكن أن يكون قد سمع من بعض الأشخاص قسمًا من القصص التي يذكرها القرآن قبل الوحي.
وهذا كاف في الرد، ولكن نفصل شيئًا في كلام "وات" فنقول: إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم صادقًا في أن الوحي يأتيه من الخارج، فممن كان يأتيه الوحي الذي يسمعه ويبلغه بعد ذلك، لم تطاوع "وات" نفسه في أن يعترف بالحق إنصافًا للعلم، بل غالط نفسه وعقله
(1) Ipid p128.
(2)
محمد في مكة (325).
وعقل القارئ والسامع فقال إن قسمًا من هذا القصص يمكن أن يكون سمعه قبل الوحي، نحن مسلمون بهذا ولكن كيف يتفق ذلك مع قولك بصدق النبي صلى الله عليه وسلم في أن الوحي يأتيه من الخارج، ترى يأتيه من الداخل قسم قد خزنه في اللاوعي، ثم عند ادعاء الوحي يأتيه من الخارج من يستدعي هذا القسم من الداخل ليحدثه به على أنه من الخارج هذا كلام "وات"، فأي عقل هذا وأي علم ذلك، هل يدخل في عقل طفل صغير هذه الأغلوطات.
الثاني: قوله إن قسمًا من هذه القصص سمعه قبل الوحي، سلمنا ولكن من الذي أوثر عنه أثرًا صحيحًا في أنه كان يحكي قصصًا سمع النبي صلى الله عليه وسلم قسمًا منه ثم استدعاه بما يسميه "وات" اللاوعي الجماعي ليدعي وهو الصادق أن ذلك وحي من الخارج، ولم يكذبه صاحب القصص.
الثالث: هذا القسم من القصص الذي سمعه صلى الله عليه وسلم ما هو تحديدًا أو تقريبًا.
الرابع: بقية الوحي "القرآن الكريم" مما لا قصص فيه من أين جاء به وهو صادق صدقًا مطلقًا في أن الوحي يأتيه من الخارج كالتوحيد والنبوات والأحكام والعبادات والأخلاق والسلوك.
الخامس: ترى من كان يقص هذا القصص ألم يكن الأعقل أن ينسبه لنفسه بدلاً من ادعاء غيره تملكه، ما دام أنه كان يمكن أن يكون وحيًا.
السادس: هذه البناء القرآني الضخم الذي نزل منجمًا على ثلاث وعشرين سنة، اختزل في قسم من القصص يحتمل سماعها قبل الوحي، في كل مرة يتنزل القرآن الكريم ليعلق على حادثة وقعت يتحرك اللبيدو ليصنع الأحداث التي وقعت، بأشخاصها ومواقعها، وتصرفاتها، ثم يخزن الأحداث ثم يأتي يستخرجها من اللاوعي إلى الوعي. هذا ليس لبيدو إذن بل هو الله تعالى، لأن موقعة بدر مثلاً قد جرت بترتيب الله تعالى، وفي مكان معين،
وبين أشخاص معلومين، وانتهت إلى نتيجة محسوسة، وعاقبة واضحة، ونزل القرآن الكريم ساعتها ليعلق التعليق الإلهي عليها، وكان اللاوعي من الرسول صلى الله عليه وسلم لا شك فارغًا عما يحدث، فضلاً عما سيكون، أين سمع صلى الله عليه وسلم قصة بدر، ثم خزنها جعلها في داخله ثم أذاعها وحيًا خارجيًا عندما جاء وقتها. هل كانت من قصص الأقدمين من اليهود والنصارى وغيرهم، وسمعها من القصاص، ثم ذكرها وحيًا ونترك لصاحب العقل التعليق!
- ويبدو أن "وات" علم أن كلامه لا يخفى على أحد تناقضه، فبادر مخالفًا كل القواعد العلمية والبحثية بقطع الطريق على مناقشة بأن كلامه متناقض وهو ما يسميه أهل العلم المصادرة على المطلوب، وكأنه يقول ستقول هذا تناقض، فيقول لا: إذ يمكن أن نعتقد بدون تناقض أن التناقض ليس بتناقض! هذا هو البحث العلمي.
أما قوله بنصه وقد أشرنا إليه من قبل: "فالقول بأن محمدًا كان صادقًا لا يعني أن القرآن وحي حق، وأنه من صنع الله، إذ يمكن أن نعتقد بدون تناقض أن محمدًا كان مقتنعًا بالوحي ينزل عليه من الله، وأن نؤمن في نفس الوقت بأنه كان مخطئًا". (1)
ولإظهار التناقض الذي لا مفر منه مهما حاول "وات" أن يرده في صدره بكلتا يديه لا بعقله لثقله الجاثم على ذهنه، فلا يدعه يسلم بالعلم والإنصاف نقول:
قلت: "على المؤرخ أن يعترف بصدق محمد المطلق في اعتقاده بأن الوحي كان يأتيه من الخارج". (2)
فهل هنا تناقض أكثر من ذلك أن نقول إنه صادق، ولا تناقض في اعتقاد أنه كان مخطئًا، سلمنا جدلاً لأننا لو عكسنا الفرض فقلنا أن محمدًا حاشا له صلى الله عليه وسلم كان كاذبًا كانت
(1) محمد في المدينة (325).
(2)
Ipid، p128.
النتيجة هي هي نفس نتيجة أنه صادق فاستوى أن يكون صادقًا أم كاذبًا في أنه كان مخطئًا في اعتقاد الوحي، فهل هناك تناقض أعظم من أن يستوي الكاذب والصادق، أو الصدق والكذب.
ولعل "وات" أدرك هذه النتيجة فسارع كاذبًا مضللاً بنفي التناقض قبل أن يكتشفه العقل الضعيف لأي طالب.
وتمويهًا على بعض قرائه من المسيحيين في الغرب، وضعفاء العقل من المسلمين بادر بإثارة الغبار على الأديان الثلاثة حتى لا يتهم بالانحياز للمسيحية أواليهودية وأن مصدرها جميعًا واحد، ولكنه ليس الوحي، فقال ما يسلي المرء ضاحكًا في هذا الهم حيث يقول:"مصدر الوحي المحمدي هو اللاوعي الجماعي (1)، الذي هو مصدر كل وحي ديني سواء كان الإسلام أو النصرانية أو اليهودية"(2)، ولا نملك إلا الضحك الباكي على هذا الكذب، حيث لم يكن ذكورًا لما كتب فيما سبق إذ ما الذي جعلك تنقد الإسلام ونبيه بكل ما لا يجوز النقد به ثم تكون مسيحيًا موحدًا، مع أن مصدر وحيهما واحد هو اللاوعي كما تزعم، أما أن اللاوعي اليهودي والمسيحي أفضل من اللاوعي الإسلامي، أما إن اللاوعي اليهودي والمسيحي - وهو لاوعي - مصدره إلهي تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا.
(1) لخص "وات" رأى يونغ: وهو أن ما ينبثق من اللاوعى إلى الوعى في رؤى الأفراد المنامية وأحلام اليقظة وكذلك في الأساطير الدينية لمجتمع كامل تأتى من "اللبيدو" أو طاقة الحياة وهو ينبوع المناشط في كل الناس. في الشخص الواحد يكون"اللبيدو" في أحد أجزائه شيئاً خاصاً وفي الجزء الآخر شيئاً مشتركاً بينه وبين أفراد جماعته وهو"اللاوعى المشترك" وتعزى له الأساطير الدينية. ولتطبيق النظرية على الوحى المحمدى يقول "وات" إن هذا يعنى أن كلمات الوحى كانت لها صلة بمحمد قبل أن يصير واعياً لها"ويمكن أن نقول أن الملك وضع الكلمات في ناحية من نواحى الوجود المحمدى يسمى اللاوعى وأنها برزت من هنا إلى وعيه" انظر شيخ ادريس: مناهج المستشرقين (1/ 234)، وكذلك Islamic Revlation، p. 109 وكذلك Muhammad Prophet and Statesman، p. 238 .
(2)
محمد النبي ورجل الدولة (238).
بل إن "وات" يزيد على ذلك محاربة للإسلام ونبيه، بدعوة المسيحيين لاتخاذ موقف ديني من محمد، ويذكر أنه يضع بين أيدي المسيحيين المادة التاريخية التي يجب اعتبارها في تحديد الحكم الديني. (1)
ترى "وات" منصفًا إذن وهو يضع بين يدي بني جلدته أسوأ مادة علمية كما يدعي عن الإسلام وأهله، بحسن قصد ليسلموا، ويعلنوا دخولهم في دين محمد صلى الله عليه وسلم أم أنه يضع بين أيديهم ما يُسَوِّؤ صورة الإسلام ورسوله أمام أعينهم، وفي فكرهم واعتقادهم، تراه يوضح لهم سبيل أن يكونوا مسلمين، أم أن يتحصنوا ضد الإسلام، ويحول بينهم وبين انضمامهم إليه، ترى هل أسلم واحد فقط بعد قراءة كتب "وات"؟ دعك من "وات" نفسه أو أن المستشرقين والمستغربين يتخذون كتب "وات" المعتمد المعتبر في نقد الإسلام ونبيه، والحجة الدامغة للاوعي الذي يُغَيِّبُ به "وات" عقولهم عن فهم الإسلام على ما كان عليه.
هل يقول "وات" ويعتقد إذن كلامًا يتفق مع المنطق والعقل، أو مع الحال والواقع، أم إنه يقول ذلك ذرًا للرماد في العيون باتفاق الديانات الثلاث بكون اللاوعي مصدر وحيها.
ونأتي لقضية من قضايا "وات" التي نفى بها نبوة النبي صلى الله عليه وسلم، وهي استبعاده تاريخيًا لرؤية جبريل، وقد ألقى بهذه القضية إلقاء من يظن به البحث المجرد الخالي من أي اعتبارات أخرى، والذي يفترض في صاحبه البساطة وحسن النية، بحيث لا يتطرق للسامع والقارئ شك في صاحبه كأنه إلقاء للقول على عواهنه ولكن للأسف الشديد هو كلام مقصود الهدف منه، بادي الترتيب، يعلم من يخاطب، وبما يخاطب، وما الذي يؤدي إليه خطابه، إنه بهذه الجملة القصيرة يهدم في اعتقاد من أمامه نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم "لا يمكن أن تكون تاريخية" وبسهولة يقول القائل: لقد قال "وات" إن رؤية جبريل التي تزعمون لا
(1) Ibid.،p .
يمكن أن تكون تاريخية، انتهت النبوة، أي بحث هذا؟ أي مكر ودهاء هذا؟ ونقلب عليه كلامه أي لاوعي هذا الذي يبثه، ينسف به من صدور المسيحيين أمثاله نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم ويزعزع على أقل تقدير إيمان المسلمين الواثقين في علمه أو بحثه.
ومنهج "وات" كما سنشير إلى عناصره في حينها، أحد أركانه هذا الركن السيئ، وهو التفسير المادي للتاريخ وليته للأسف طبقه كما قرره هو بنفسه، بل طبقه بركن آخر أشد سوءًا وهو المنهج الانتقائي خاصة فيما يتعلق بالإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم.
وسنترك قضيته توضح ذلك مثالاً له، ودليلاً عليه، اختصارًا، وبدلاً من ضرب أمثلة أخرى، وهي قوله "لا يمكن أن تثبت تاريخيًا" رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لجبريل عليه السلام (1)، والرد أن هذه قضية دينية لا يمكن أن ترد إلى التاريخ والتفسير المادي البحت فقط إذ يدخل فيها التفسير الديني لتلك الظواهر، لأن الحديث ليس عن التاريخ والنظرة المادية خاصة وأن التفسير المادي وحده ليس كافياً في توضيح ما لا علاقة له به من الأخلاق والقيم وما وراء المادة، فكيف يصلح المنهج المادي لتفسير ما وراء المادي، وما لا يتعلق بالمادة فهذا لا عقل فيه ولا واقع، إذ وجدت أمور وقف العقل والمادة عاجزين عن تفسيرها، وإن لتغير الزمان عاملاً مهمًا في تغير الموازين المادية، فما كان لا يمكن أن يكون، صار ممكنًا، ينتظر أن يتغير هو الآخر، فكيف تحاكم ظواهر تلك السنين الدينية لمتغيرات في السنين الآنية، لقد أوشك إن لم يكن قد هدم التفسير المادي من كثرة ما وجه إليه من انتقادات، فما بال هؤلاء المستشرقين متمسكين به، مستخفين وراءه، وهم يعلمون تهافته وسقوطه، إن ذلك لكيد الإسلام وهدمه.
وأما قوله لا يمكن تاريخيًا وغيره من هذه الألفاظ فتلك عادة "وات" في تضخيم
(1) انظر الاستشراق في السيرة النبوية د. عبد الله محمد النعيم Muhammad at mecca، p. 43 .
ألفاظه التي تحط من الإسلام، وتعظم الضلال في صدور أتباعه حتى يقول قائلهم لا يمكن أن يرى محمد هذا جبريل، ويتبع ذلك سيل من الشتائم للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ودينه بالكذب والهوس وكذا، وكذا .. ممالسنا في صدد تسويد الرسالة به.
والرد على التفسير التاريخي والمادي أسهل من كتابته، لأنه كما ذكرنا انتقائي، ف"وات" نفسه هو الذي جعل اللاوعي المسيحي إلهي، واللاوعي الإسلامي إنساني بدون أي دليل؛ لأن الإنسان واحد، "وات" هو نفسه ذلك الشخص الذي جعل رؤية جبريل تاريخيًا غير ممكنة، ورؤية روح القدس وهو جبريل من السيد المسيح عليه السلام ثابتة يؤمن بها ويؤيدها، مع أن التاريخ واحد ينبغي أن يرد الاثنين لأنه تاريخ أو يقبل الاثنين، فأي تناقض أعظم من هذا؟ وأي استغفال واستخفاف بالعقل يمكن أن يكون مثل هذا؟
ثم يا سيد "وات" إن رؤية جبريل يمكن أن تكون قد حدثت، ويمكن ألا تكون قد حدثت فما الذي رجح عندك عدم الوقوع، ما الدليل؟ أي دليل كان يؤيد احتمالية عدم الوقوع، فضلاً عن عدم الإمكانية التي تدعي القطع بها، قاطعًا طريق النقاش فيها كأنك حزت الحق الذي لا مرية فيه، والذي يجب أن يقبله الكون كافة؟
وعلى أية حال فإن نقد هذا الكلام ورده وتفنيده وإلقائه في المكان الذي يستحق موجود في كلام "وات" نفسه، ولكن لأنه متناقض، يدافع عن تناقضه فكأنه نسي ما كتبت يداه.
حيث يقول: "على المؤرخ أن يعترف بصدق محمد المطلق بأن الوحي كان يأتيه من الخارج
…
".
وكرر في أكثر من موضع صدق محمد وإخلاصه، وإن عاد على كلام نفسه بالنقض والتكذيب أي لنفسه.
ونقول له قد آمنا بصدق محمد كما أمرتنا، بغض النظر عن إيمانك أنت فكان صدقه إذاً المُقَرّ به مرجحًا قويًا لإثبات رؤية جبريل، لأنه لا يمكن أن نقول له أنت صادق ثم نقول له أنت كاذب، هذا ليس علمًا ولا بحثًا ولا شيئًا إنما هو للهزل وتضييع الوقت والاستخفاف والحمق أقرب، ومثل ذلك لا ينبغي للعاقل أن يخاطبه فضلاً عن أن يباحثه ويناقشه الحجة بالحجة والمنطق بالمنطق.
الرد التالي: وهو الرد التاريخي على "وات" كما نسميه نحن، وهو من وجهين:
الوجه الأول: القرآن الكريم فقد أثبت الوحي برؤية جبريل، والقرآن قاطع بالنسبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، وقد قال في الرؤية:{وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14)} [النجم: 13] وقد وقف "وات" عند سورة النجم، وقصة الغرانيق وقفة طويلة يبدي ويعيد، ووقفتنا معه إن شاء الله في حينها.
الوجه الثاني: وهو الروايات الصحيحة المتواترة في رؤية جبريل عليه السلام من يوم أن نزل عليه صلى الله عليه وسلم بالرسالة، إلى أن انتقل إلى الله تعالى، وهذا التواتر يفيد العلم اليقيني الذي لا مدفع له، ولا يمكن رده باعتراف الموافق والمخالف، ليس كعدم الإمكانية التي لا تستند إلى أي برهان عند "وات"(1)، وبعد ذلك يتضح من هذه الردود السريعة المختصرة شيء من موقف "وات" في كتابته عن الإسلام ونبيه، وتتجلى كذلك منهجيته التي تتسم بالعلم إلا فيما يتعلق بالرسول ودينه حيث يمحي تمامًا كل ما له صلة بالبحث العلمي وقواعده، وينقلب "وات" شيئًا آخر لا يمت للعقل بأدنى علاقة ليس ذلك مبالغة، إن الكاتب المنصف ليرى في كل صفحة كتبها عن الإسلام ما يحتاج إلى نقد، حيث يفغر المرء فاه متعجبًا أهذا "وات"، أهذا عقل، أهذا علم، إنه كم عجيب من الركام.
(1) تعليق "وات" على ارهاصات النبوة نذكرها في الجزء الثاني شق الصدر والغمامة والراهب بحيرا وغيرها إن شاء الله تعالى.