الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث
رضاعته صلى الله عليه وسلم
كانت عادة الحضر من العرب أن يسترضعوا أبناءهم في البدو؛ رغبة في تقوية أبدانهم وبعدًا بهم عن أمراض المدن، وتعويدًا لهم على الاعتماد على النفس منذ الصغر، وتقويماً وحفظًا لألسنتهم من مفسدات اللغة (1).
صح أن ثويبة - مولاة أبي لهب - أرضعته (2)، وثبت أن عمه حمزة بن عبد المطلب أخوه من الرضاعة (3).
خبر إرضاع حليمة السعدية له صلى الله عليه وسلم:
اشتهر عند أهل المغازي والسير أن ممن أرضعنه حليمة بنت أبي ذؤيب السعدية، وكانت أخذته عند ولادته صلى الله عليه وسلم إلى بادية قومها في ديار بني سعد فأقام معها نحو أربع سنين ثم ردته إلى أمه.
ولقد تفرد ابن إسحاق برواية خبر الإرضاع الطويل، وذكر فيه تلك الأحداث التي وقعت لحليمة، منذ أن أخذت النبي صلى الله عليه وسلم لإرضاعه، وما حدث حينها من بركات النبي صلى الله عليه وسلم
(1) انظر مهدي رزق الله، السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، (115 - 116).
(2)
صحيح البخاري، فتح الباري، (140/ 9).
(3)
صحيح البخاري، فتح الباري، (140/ 9)، وصحيح مسلم بشرح النووي، (23، 24/ 10).
التي حلت عليها في تلك السنة الشهباء، وما عاشوا فيه من بركاته إلى أن ردته إلى أمه.
وبركاته الحالة عليهم بغض النظر عن صحة هذه الرواية بالذات ليست مما ينكره الواقع والعقل والشرع، فقد ذكرنا في قصة عيسى عليه السلام الشرع الذي لم ينكره الواقع، ولم يدفعه العقل في قوله عليه الصلاة والسلام:{وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ} [مريم: 31] فتلك بركات السيد الجليل عيسى عليه السلام فما بالك ببركات النبي الخاتم الذي بشر به عيسى نفسه عليهم صلوات الله وسلامه، وعليه يمكن أن نقول بظهور تلك البركات، فخلال حياته صلى الله عليه وسلم في رعاية حليمة السعدية وقعت للنبي صلى الله عليه وسلم إرهاصات دلت على تلك البركات، وعلى عناية الله به، وحفظه إياه، حيث درَّ ثديها باللبن بمجرد حلول الرسول صلى الله عليه وسلم عليها، فارتوى هو وابنها الذي كانت تحمله بعد أن كان يبكي من الجوع لجفاف ثدي أمه، ولا ينام هو وأهله، وامتلأ ضرع راحلتها باللبن بعد أن كان يابسًا، فشبعت هي وزوجها، وسبقت راحلتها الركب بعد أن كانت عجفاء تسير في مؤخرة الركبان، وحيثما حلَّت أغنام حليمة تجد مرعى خصبًا، ولا تجد أغنام غيرها شيئًا، وكان ينمو نموًا سريعًا لا يشبه نمو الغلمان، وكل ذلك كما أشرنا شيءٌ يسير في قدرة الله، ووقوعه لأصفيائه من البشر.
نعود إلى حديث حليمة، فقد ذكر المحدثون المحققون أن الحديث ضعيف السند مع أنه خبر مستفيض في كتب السيرة، قديمها وحديثها. (1)
وأقدم من أورده من كتَّاب السيرة ابن إسحاق (ت151 هـ)(2)، وقال فيه الإمام الذهبي:"هذا حديث جيد الإسناد"(3)، وقال الحافظ بن كثير: "وهذا الحديث قد روي من
(1) أكرم العمري، "صحيح السيرة"، (102/ 1) وغيرها.
(2)
ابن هشام "السيرة"(149 - 153/ 1)، وابن حبان "موارد الظمآن"(512، 513)، وأبو نعيم "دلائل النبوة"(193 - 196/ 1) وغيرها.
(3)
السيرة النبوية (8).
طرف آخر، وهو من الأحاديث المشهورة المتداولة بين أهل السير والمغازي" (1)، وقد ذكر الإمام ابن عبد البر شهرته كذلك (2).
وهذا مما احتج به (محمد بن رزق بن طرهوني)(3)، مع ما اختطه لنفسه بالاجتهاد في تصحيح وتضعيف روايات السيرة، وبه يتأيد قول من ذهب إلى صحة إرهاصات مولده صلى الله عليه وسلم التي تُنبأ عما سيكون لهذا المولود العظيم من شأن يمت إلى أسباب السماء بأعظم صلة، ممن ردوا على المستشرقين ومن تبعهم من المسلمين، وبذا يكون لهؤلاء المؤيدين لهذه الإرهاصات سلف من الحفَّاظ والمحققين يدعم موقفهم، ويقوي استدلالهم، ومنهم من هو من المراجع والمصادر للسيرة كتابة ونقدًا.
ثم نورد هنا سؤالاً هو: ما المفسدة في إثبات هذه الوقائع التاريخية على المنهج العلمي المزعوم من المستشرقين؟ خاصة وهي ثابتة، مما يؤكد عدم التزامهم ما وضعوا من منهج بالذات فيما يتعلق بسيرة النبي صلى الله عليه وسلم والإسلام، لا من قريب ولا من بعيد من ناحية، ومن ناحية أخرى لا يوجد ما يعتمد عليه هؤلاء المستشرقون سواها، إذ ليس لهم مصادر عاشرت الأحداث، وعايشتها، ولا لهم كُتَّاب كتبوا في السيرة في إبانها حتى يحمل قولهم محمل العلم والجد، بل كل ما هنالك أن ناسًا جاءوا بعد أربعة عشر قرنًا من الزمان، وبكل وقاحة قالوا هذا حدث وهذا لم يحدث، وهذا لا يمكن أن يحدث تاريخيًا (4)، وإن صح، قالوا: وهذا إن صحت الرواية فله معنى آخر، لدوافع ونوازع اخترعوها ملفقة لا علاقة لها بالبحث العلمي، ولا تمت إلى الواقع بأدنى صلة، بل تخالفه وتصادمه، ثم قالوا هذا هو المنهج التاريخي.
(1) ابن كثير "السيرة النبوية"(228/ 1).
(2)
ابن عبد البر "الاستيعاب مع الإصابة"(261/ 12)، وانظر د. أكرم العمرى، السيرة النبوية الصحيحة (102).
(3)
محمد بن رزق بن طرهوني، صحيح السيرة النبوية المسماة بـ "السيرة الذهبية"(332/ 1)، الطبعة الأولى 1410 هـ.
(4)
وهذا ما ذكره "وات" سواء في رؤية جبريل، أو قضية الوحي أوغيرها.
وبناءً على منهجهم في فهم دوافع الكاتب ونوازعه، نقول: فما هي نوازع "وات" في ذلك؟ والمطالع لذلك يرى أظهر دافعين لذلك هما نزع صفة النبوة الإلهية عن النبي صلى الله عليه وسلم، والثاني أن ما في الإسلام من مبادئ لها قيمة فهي مقتبسة من اليهودية والنصرانية، وكل ذلك لدافع أكبر وأعظم، وهو كيفية هزيمة المسلمين فكريًا إذ لم يستطيعوا هزيمتهم عسكريًا، مع تحصين بني جلدتهم ضد الإسلام، وتشويه صورته من أوله إلى آخره في أعينهم اعتقادًا وسلوكًا، وأنه تلفيقات من اليهودية والنصرانية، مع محاربة المسلمين في عقيدتهم وعبادتهم بمحو الصورة الصحيحة للإسلام ونبيه في عقولهم وواقعهم، وما كانوا كذلك إلا لكونهم رأس حربة التبشير والاستعمار، حيث كانت كل دوائر الاستشراق تعمل بتدبير وترتيب الاستعمار والتبشير في دوائر مخابراتهم، وتراجمهم حافلة طافحة بتأكيد ذلك، وبالتالي كانت كلها تصب في تيار محاربة الإسلام وإخراج أهله منه؛ ليتم لهم احتلال أرضه ونهب ثرواته بدون مقاومة عسكرية، وما استتب لهم ذلك إلا بقيام أركانهم التي شيدوها بمن تسموا بأسماء إسلامية ليقوموا بهذا الدور خير قيام نيابة عن هؤلاء المستشرقين.
ونحن إذ نذكر ذلك هنا إنما ذلك لتأكيد المعنى الذي لا ينبغي أن يغيب أبدًا عن ذهن المسلمين في التعامل مع ما يأتي من كتابة في البحث، ومع جميع ما كتب ويكتب من كلام المستشرقين، وصنائعهم في ديار المسلمين، ومن قلدهم من حسني النية؛ يحسبون أن في اتباعهم التطور والتقدم، إن المتفحص المنصف للواقع يرى إننا ما تأخرت حضارتنا وانهارت قيمنا إلا باتباع هؤلاء المجرمين، والعاقل يقول متى أراد عدوك المتربص بك خيرًا؟! والواقع خير شاهد على هذا التدهور.
نعود إلى السؤال الذي طرحناه، وهو ما الضرر من إثبات هذه الإرهاصات على المنهج المزعوم، والإجابة إن إثباتها لا مفر من أن يثبت به نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وتنهدم قضيتهم كلها
من أولها، وحينئذ إما أن يسلم "وات" وغيره ويدعو قومه إلى الإسلام (1)، وإما أن يلتزم الصمت، ولكنه التزم الطريق الثالث، طريق كفار مكة في قوله تعالى:{فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33]، وما كان ليختار هذا الطريق ظلمًا إلا من وراء دافع أقوى، وهو محاربة الإسلام، الذي ذكرناه آنفًا.
وقد يقال إن بحثه العلمي قد أداه إلى ذلك، والرد أن يقال كما أشرنا إلى بعضه إنه ليس بحثًا ولا شيئًا، إنه قد جهز وأعد نتيجة المسمى بحثًا أعدها سلفًا، ثم سعى بكل طريق ليثبتها، إن مراده من البحث أن يقدم للمسيحيين في الغرب المادة التاريخية التي يجب أن تؤخذ في الاعتبار عند تكوين الرأي اللاهوتي إذ إن موقفه ماض به بقوله:"فإن على المسيحيين أن يتخذوا من محمد عليه الصلاة والسلام موقفًا لابد أن يكون قائمًا على أسس دينية لاهوتية"(2).
هذا هو "وات" هل تراه قدم لبني وطنه ودينه ما جعلهم يعظمون محمدًا ويؤمنون به أو ينصفونه فقط؟! إذن فهل يعتبر أحد أن ذلك الضلال الذي شربه بنو دينه بحثًا؟ وهل أسلم أحد؟ أو نظر نظرة إنصاف بعد أن قرأ كلام "وات" عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أم ازداد غلوًا وثبتت أقدامه على الضلال، وعلى النظرة السيئة لرسول الله صلى الله عليه وسلم التي لا تمت إلى الله بصلة.
(1) كبعض الأوربيين من أمثال رينيه.
(2)
"وات"، محمد في مكة، (40)، ترجمة د. عبد الرحمن الشيخ وحسين عيسى، الهيئة المصرية للكتاب.