الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث
{وَالضُّحَى
(1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2)}
ووصلنا إلى مدحه في سورة الضحى، وهو السورة الحادية عشرة في ترتيب السيوطي، أي من السور المتقدمة جداً في النزول، فننظر فيها ونحللها، ثم نقارنها بما سبق من ثناء وتكريم من الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم فنلاحظ:
أولاً: تُشْعِرُ السورة الكريمة بأنه قد حدث تأخير للوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم، لدرجة أن أرجف الكفار بذلك، وأن شيطان محمد قد ودعه وقلاه، وانتهى أمر النبوة المزعومة، وفرحوا بذلك.
ويبدو من السياق أنه كان فرحاً مشوباً بالحذر، لأن القرآن لم يشر إلى ابتهاجهم بذلك، بل أغفل ذكر قولهم وحالهم وقتئذ، لأن المتصور أيامها أن يقال إن محمداً صادق، وما جربنا عليه كذباً، ولكنها أماني النفس وتطلعاتها، ركوباً لموجة العناد والإستكبار، مع الإصرار على دين الآباء والأجداد.
ثانياً: ذكر المفسرون والمؤرخون والمحدثون كالبخاري ومسلم (1) وغيرهم، أن جبريل تأخر عن النبي صلى الله عليه وسلم ليلتين أو ثلاثاً مرض فيها - اشتكى - كما تقول الروايات، فجاءته أم
(1) رواه البخاري (4950) عن جندب، ومسلم (1797) كذلك، وانظر ابن كثير "تفسير القرآن الكريم"(511/ 4)، وابن هشام "السيرة النبوية"(156/ 1) طبعة التوفيقية.
جميل امرأة أبي لهب فقالت: يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قَرِبك منذ ليلتين أو ثلاثاً، فأنزل الله عز وجل:
{وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2)} [الضحى: 1 - 2].
إن تأخر الوحي عن النبي صلى الله عليه وسلم ليلتين أو ثلاثاً ينبغي في مثل هذه الأحوال أن يكون أمراً عاديَّاً، لا يتوقف أمامه ليكون مصدر تكذيب، إذ سرعان في عادة البشر، فضلاً عن الوحي أن يأتي تكذيب من الرسول صلى الله عليه وسلم، فيكون صاحبه في موقف سيء يدل في نهاية المطاف على عدم استخدام العقل، أو البصر بنتائج تصرفه، ومثل هذا لا يُحكِم العلم والإنصاف والحيدة والموضوعية، إنما يندفع وراء ما يعتمل في نفسه، ويكون تصرفه رد فعل لما يتمنى ويهوى أن يكون، وذلك صنيع المستشرقين في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم، وأسلافهم وقدوتهم في ذلك أم لهب على جهلها وغيها، ولعلها كانت أفضل منهم في قولها: إني لأرجو
…
وقد ذكرنا هذه القصة الصحيحة لنبين أمراً في غاية الأهمية، هو أن أحوال النبي صلى الله عليه وسلم كافة كانت معلومة لقريش، مسلمها وكافرها، رجالها ونسائها، لا يغيب عنهم من أحواله وأقواله شيء، إلى الدرجة التي حملت هذه المرأة على ما فعلت، وأنه ما كان يخفي شيئاً ويظهر آخر، أو يكتم من أمر رسالته وأخلاقه وحياته بعضاً ويبدي بعضاً، بل كان بادي الصفحة معهم، ومع كل أحد، واضحاً كل الوضوح، لا لبس في منطقه وقوله، ولا تحير في فهم كل مواقفه وأعماله، وإن التبس على بعضهم فهم شيء سارع بالبيان المبين.
ويبين هذا الموقف من جهة أخرى علامة فاصلة بين النبوة، وبين كون هذا الدين من عند محمد، وهو أن يتغيب أو يفتر عن الوحي إلى درجة أن يقال شيطانه قلاه وتركه، وما كان عليه وهو مدعي النبوة إلا أن يواصل الإرسال الكاذب، ولكنه يقف في شجاعة
ليعلنها أنه ليس له من الأمر شيء (1)، واثقاً في ربه، مطمئناً لما هو عليه، متحملاً كل التبعات المترتبة على ثباته، صامداً للتحديات كافة التي تواجهه، يعلن ضمن ما يعلن أن دينه سيعلو وسينتصر في وقت لا تواجه مثل فيه هذه التنبؤات في أقل أحوالها إلا بالسخرية والإستهزاء والإستخفاف، وإذا بالتاريخ يذكر وقوع ما تنبأ به حرفاً حرفاً.
أما تحليل الآيات - ونذكر ما يتعلق فيها بمدحه والثناء عليه صلى الله عليه وسلم كما ألمحنا آنفاً مما نزل في أوائل بعثته المشرفة - فنلاحظ:
الأولى: القسم، وقد أشرنا إلى معناه في سورة القلم، وإن دلنا هنا على أمر زائد - مطرد معنا في كل السور التي افتتحت بالقسم - هو كثرة الأقسام في السور المكية، على عكس السور المدنية، فلم تفتتح سورة واحدة منها بقسم، وكأن القسم كان مطلوباً في بداية البعثة، خاصة وأن المقسم به كان من خلق الله العظيم الذي يظهر وحدانية الله تعالى وقدرته، وأنه ليس لأحد من البشر تصريف في هذه المخلوقات إلا له وحده، فيكون ذلك باعثاً على التأمل في الآيات الكونية، داعياً إلى الإيمان بخالقها الذي يدعو محمد إلى توحيده، وقد وجدنا الكثرة الكاثرة كذلك من آيات الدعوة إلى النظر في الكون والإنسان وبقية المخلوقات آيات مكية، ليستدل بها على الإله الواحد سبحانه، ولتأكيد قضايا الإيمان، وترسيخها في أذهان وقلوب الناس آنئذ، وإن القسم في مثل هذا الأحوال لينبهنا إلى أن القرآن الكريم استخدم كل الأساليب التي تبين صدق الرسول صلى الله عليه وسلم، ومنها تأكيد أقواله
(1) وقد أكدت آيات كثيرة هذا المعنى منها {إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)} [ص: 70]، وقوله:{فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ} [الغاشية: 21 - 22]، وقوله:{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)} [الأعراف: 188]، وقوله:{إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ} [الشورى: 48]، وهي كلها سور مكية.
وتقريراته بالقسم الذي كان له أهميته عند العرب في تصديق المتكلم.
ويوضح القسم بتلك المخلوقات بجلاء أنه ليس كلام محمد صلى الله عليه وسلم، لأنه ما كان له أن يقسم بغير الله كما أمر هو نفسه، إذ هو شرك (1)، فالذي يقسم بتلك المخلوقات والظواهر هو خالقها سبحانه، لأنه لم يدع أحد أنه خلقها، أو أنه خالق مع الله لشيء منها، أو لغيرها، وهو شيء واضح تمام الوضوح أنه منفصل عن عقل محمد ونفسيته، علاوة على أنه يدعو في بيئة يشترك مع من فيها في عامة علومهم وثقافتهم.
الثانية: تؤكد لنا القصة أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له من الأمر شيء، فلا هو يعجل نزول الوحي، ولا يؤخره، ولا يد له فيما ينزل أو لا ينزل، ساءه شيء من ذلك أو سَرَّه، أسعفه في المواقف التي يظن لزوم الوحي فيه، أو بطأ عنه، وما كان موقف كهذا الذي نحن بصدده، ليحتمل تأخير الوحي ليضع الرسول في موقف مؤلم بهذه الطريقة، بل ما كان النبي صلى الله عليه وسلم لينتظر أن يقع ذلك له، ولكنه في النهاية الوحي الذي لا يخضع لرؤية محمد، إنه تنزيل من حكيم حميد له الكون وهو خالقه ومدبره بتمام الحكمة والعلم المحيط، وما محمد صلى الله عليه وسلم إلا مبلغ عن ربه يقول له:{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64)} [مريم: 64]، وإن محمداً لو كان ذلك إليه لكان من السهل عليه أن يخترع وحياً، أو أن ينسج موقفاً وقصة تناسب حل المشكلة التي وقع فيها، بل إن الواقع والعقل ليمنع ابتداء من الوقوع في ذلك، فضلاً عن أن يرويها بكل صدق وأمانة، على أعدائه، ليروجوها ليسوا مسيئين إليه فحسب، وإنما لمرسله سبحانه في المقام الأول.
(1) الحديث: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) رواه أحمد (69، 87، 125/ 2)، والترمذي (1535)، وصححه الحاكم بلفظ:(فقد كفر)
…
(18/ 1).
وهكذا - من بداية نزول الوحي - والقرآن يؤكد قضايا صحة الرسالة، يما لا يدع مجالاً لمنصف، أو لمن له أدنى عقل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما ادعى من الوحي؛ لأنهم لم يكونوا يكذبونه صلى الله عليه وسلم فيما بينهم في غير ذلك حتى جاءهم بالوحي المبارك.
وتحمل الآيات التصريح والتلميح في الرد على المستشرقين، الذين جاءوا بعد سنين طويلة ليخترعوا أموراً لم تكن (1)، ومواقف لم تحدث، ناهيك عن الأخلاق المفتراه ليلصقوها بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكان ذلك رداً موضوعياً عليهم، إن كل شيء في حياته معلوم، إنه لا علاقة له بما ينزل عليه إلا التبليغ، والله هو الحكم بعد ذلك. كان الأولى بهذه المواقف هؤلاء الكفرة أعدى أعدائه ليشيعوها وينفروا الناس بها عن دعوته، فلم لم يكن ذلك، دل على عدم الوقوع، ولكن ماذا تقول لمنصفين استبدلوا الأحذية بالعقول، وحكموها في التاريخ، واخترعوا له أحداثاً وفسروها بتلك الفعال.
الثالثة: يبدو في اختيار القَسَم بالضحى والليل إشارة إلى إشراق نور التوحيد، وانتهاء ظَلْماء الشرك، وأنه ما فتر الوحي ليقف وينتهي، بل ليعاود انبلاجه وظهوره، وليزداد سناؤه وضياؤه حتى يعم العالمين بأبهى مما كان ضوءاً، وأقوى إشراقاً، والآيات في السياق تشير إلى ذلك في قوله تعالى:{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5)} [الضحى: 5] وإن رضاءه - كما ذكرنا - في رضا الله، ورضا لله في علو دينه، وظهور بنيانه، وتمكين شرعه، هداية للناس إلى طريقه القويم.
(1) انظر «وات» ، «محمد في المدينة» (121) حيث اخترع أن آيه اقرأ تذكر النبي صلى الله عليه وسلم بفضل ورقة بن نوفل عليه وأن هناك قرأناً قبلها وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان على صله متتابعة بورقة قبل الوحى وأن الأفكار الإسلامية قد اختلطت إلى حد كبير - على حسب تعبيره - بأفكار ورقة، وهو مستشرق معاصر بريطانى الأصل، تركزت اهتماماته الأساسية في مجال السيرة النبوية، عمل عميداً لقسم الدراسات العربية في جامعة أدنبرا.
يشير إلى ذلك ابن القيم فيقول: عن قوله: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2)} [الضحى: 1 - 2] إقسام منه سبحانه وتعالى على إنعامه على رسوله صلى الله عليه وسلم، وإكرامه له، وإعطائه ما يرضيه، وذلك متضمن لتصديقه له، فهو قسم على صحة نبوته، وعلى جزائه في الآخرة، فهو قسم على النبوة والمعاد.
وأقسم بآيتين عظيمتين من آياته دالتين على ربوبيته وحكمته ورحمته، وهما الليل والنهار، فتأمل مطابقة هذا القسم وهو نور الضحى الذي يوافي بعد ظلام الليل للمقسم عليه، وهو نور الوحي؛ الذي وافاه بعد احتباسه عنه، حتى قال أعداؤه: ودع محمداً ربُّه. فأقسم بضوء النهار بعد ظلمة الليل على ضوء الوحي ونوره بعد ظلمة احتباسه واحتجابه.
وأيضاً فإن فالق ظلمة الليل عن ضوء النهار هو الذي فلق ظلمة الجهل والشرك بنور الوحي والنبوة فهذان للحس، وهذان للعقل.
ثم يشير إلى معنى مهم، وهو أن لا يليق بحكمته سبحانه أن يترك عباده في ظلمة الليل يعيشون، لا نهار له يقيمون فيه معايشهم، وتستقيم بضوئه وشمسه دنياهم، فكذلك لا يليق أن يتركهم في ظلمة الجهل والغي، بل يهديهم بنور الوحي والنبو إلى مصالح دنياهم وآخرتهم، فتأمل حسن ارتباط المقسم به بالمقسم عليه. (1)
الرابعة: قوله: {مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)} [الضحى: 3] جواب القسم، وهو إبطال لمقالتي المشركين في قول بعضهم ودعه ربه، وفي قول آخرين قلاه ربه تهكماً به صلى الله عليه وسلم، وهو يدل على بقاء مكانته عند ربه، وحظوته لديه، إذ من ودعك قد بالغ في تركك، فما الظن بالقلى وهو البغض والشنآن له؛ أي ما خلاك وأهملك وتركك ولا قطعك وأبغضك منذ اصطفاك
(1) انظر ابن القيم "بدائع التفسير"(255/ 5)، و"التبيان في أقسام القرآن"(52 - 53).
ورفعك. (1)
إذ التوديع: تحية من يريد السفر، واستعير في الآية للمفارقة بعد الاتصال تشبيهاً بفراق المسافر في انقطاع الصلة، حيث شبه انقطاع صلة الكلام بانقطاع صلة لإقامة، والقرينة إسناد ذلك إلى الله الذي لا يتصل بالناس اتصالاً معهوداً.
وهذا نفي لأن يكون اتصاله بالله قد قطع؛ بقطع الله الوحي عنه (2)؛ ولذلك وجدنا هذا البر العظيم من الله تعالى به عندما أضاف لفظ الربوبية إلى ضمير المخاطب صلى الله عليه وسلم {وَمَا قَلَى} ليبين عنايته به، وولايته له، وفيه من اللطف به ما لا يخفى، فكأنه قيل: ما تركك المتكفل بمصلحتك والمبلغ لك سبل الكمال اللائقة بك (3).
ونلاحظ في قوله: {وَمَا قَلَى} حذف المفعول، وذلك لئلا يواجه عليه الصلاة والسلام بنسبة القلى، لو قال ما قلاك، لطفاً به وشفقة عليه صلى الله عليه وسلم وفيه احتمال آخر، وهو أنه لنفي صدوره عنه عز وجل بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم ولأحد من أصحابه، ومن أحبه إلى يوم القيامة، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم:(المرء مع من أحب). (4)
ويأتي بعد نفي التوديع والقِلى قوله تعالى: {وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4)} [الضحى: 4]
(1) انظر ملا علي القاري "شرح الشفا"(82، 84/ 1).
(2)
انظر الطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير"(395، 396/ 30).
(3)
الألوسي "روح المعاني"(280، 281/ 16)، انظر كذلك القرطبي "الجامع لأحكام القرآن"(64/ 20)، برهان الدين البقاعي "نظم الدور"(453/ 8)، وغيرها.
(4)
انظر الفخر الرازي "التفسير الكبير"(468/ 16)، والألوسي "روح المعاني"(281، 282/ 16)، وأبا السعود "إرشاد العقل السليم"(878، 879/ 5)، أما الحديث فقد رواه البخاري رقم (6168) عن عبد الله بن مسعود، ورواه مسلم (2640) عن عبد الله أيضًا.
وهو من عطف الجمل كلام مبتدأ به، إذ لما نفي القلى بُشر بأن آخرته خير من أولاه، وأن عاقبته أحسن من بدأته، وأن الله خاتم له بأفضل مما قد أعطاه في الدنيا والآخرة. يقول الطاهر بن عاشور (1) ما حاصله: والتعريف في {وَلَلْآخِرَةُ} و {الْأُولَى} يؤذن بالعموم الذي يشمل استمرار الخير كله للنبي صلى الله عليه وسلم ومنه استمرار الوحي.
وتعبير الآخرة غلب في اصطلاح القرآن الكريم على الحياة الآخرة والدار الآخرة، كما غلب لفظ الدنيا على حياة الناس هذه التي قبل انخرام هذا العالم، ومقصودنا من ذكر ذلك، ما أكرم الله به نبيه، وأثنى عليه به من أن المراد من كلا اللفظين كلا معنييه وهما:
المعنى الأول: أن الحياة الآخرة خير له من هذه الحياة العاجلة؛ تبشيراً له بالخيرات الأبدية.
المعنى الثاني: الإيماء إلى أن عودة الوحي عليه هذه المرة خير مما سبق، وتكفل الله تعالى له بأن لا ينقطع عنه نزول الوحي من بعد.
ثم يشير إلى الأمرين معاً فيقول: فاللام في {وَلَلْآخِرَةُ} و {الْأُولَى} لام الجنس، أي كل آجل أمره هو خير من عاجله في هذه الدنيا وفي الأخرى.
والكلام يشير إلى معاني ثناء الله على رسوله صلى الله عليه وسلم تصريحاً واستنباطاً من الكلام الكريم إلا أن السياق يقتضينا أن نلمح إلى أن حمل الكلام على الدنيا أولى وإن كان العموم كما قال يشمل الآخرة؛ وذلك لما يأتي:
أولاً: أن المشركين مخاطبين بالقرآن، وهم لا يؤمنون بالآخرة كما هو معلوم من
(1) انظر الطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير"(397/ 30).
حجاجهم للنبي صلى الله عليه وسلم، فكان مواجهتهم بما سيرونه في الدنيا أولى من أن يقال سترون في الآخرة مصداق ذلك.
ثانياً: أن الفاء في {فَتَرْضَى} في قوله تعالى {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5] للتعقيب، مما يفيد تأييد النبي صلى الله عليه وسلم المباشر بهذه البشريات، وذلك أقرب أن يكون في الدنيا، مع التصديق بوقوع ذلك في الآخرة بلا شك.
ثالثاً: كان في قوله تعالى: {وَالضُّحَى (1)} فقد ذكرنا أن ذلك يشير إلى أن نزول الوحي عليه هذه المرة يشبه الإشراق وانبلاج النور وفشوه، ومجيء الصبح المضيء للكون، وذلك في الدنيا.
وعلى أية حال فقد جمع له ربه سبحانه الخير في العاجل والآجل، وبشره بوقوع ذلك ليراه المكذبون على أعينهم في حياتهم، ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حيَّ عن بينة.
وتستمر المعاني الجميلة تتدفق من الآية تبين رفعة مكانته صلى الله عليه وسلم وذلك ما نراه في قوله:
{لَكَ} حيث اللام هنا هي لام الاختصاص، أي خير مختص بك (1)، وهو شامل لكل ما له تعلق بنفس النبي صلى الله عليه وسلم، فهو ثناء بالغ عليه، وفي ذاته، فكل شيء متعلق بذاته المشرفة في ازدياد من الخير، وكذلك دينه، وفي أمته أيضاً، أي هو في نفس الوقت وعد لا يتخلف من الله
- جل وعلا - بأن ينشر دين الإسلام، وأن يمكن أمته من الخيرات التي يأملها النبي
(1) قال الألوسي: "والاختصاص الذي تقتضيه اللام قيل: إضافي على معنى اختصاصه عليه الصلاة والسلام بخيرية الآخرة دون من
…
آذاه وشمت بتأخير الوحي عنه صلى الله عليه وسلم ولا مانع من عمومه لجميع الفائزين، كيف وقد علم بالضرورة أن الخير المعد له عليه الصلاة والسلام خير من المعد لغيره على الإطلاق، ويكفي في ذلك اختصاص المقام لمحمود به صلى الله عليه وسلم على أن اختصاص اللام ليس قصريًا كما
…
قرر في موضعه". روح المعاني (285/ 16).
- صلوات الله وسلامه عليه - لهم، وقد تحقق ذلك، فقد ورد أنه عُرِض عليه ما سيفتح الله على أمته من بعده فَسَرَّهُ ذلك (1)، فكان عطاء الله له، وفضله عليه عظيماً، فجاءت الآية التالية لتجلي هذا العطاء، وتبرز ذلك الفضل من الله - جل وعلا - للنبي عليه الصلاة والسلام حيث تبين قيمة الفضل درجة المتفضل عليه، وذلك في قوله تعالى:{وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى} [الضحى: 5]، والواو للعطف على جملة القسم، وحرف الاستقبال لإفادة أن هذا العطاء الموعود به مستمر لا ينقطع، كما سنعود إليه في سورة الليل في قوله:{وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)} [الليل: 23].
ونلاحظ على معانى الآية ما يلي:
- حذف المفعول الثاني لـ {يُعْطِيكَ} يشعر بعموم العطاء له صلى الله عليه وسلم، أي أنه سيعطيه كل ما يرجوه من خير، فأفادت الجملة هنا تعميم العطاء، كما أفادت التي قبلها عموم الأزمنة، وهذا الخير لنفسه ولا يكمل إلا بخير أمته ودينه عليه الصلاة والسلام (2) فهو عطاء من كل شيء في كل الأزمنة، وقد جمعت الآية بين حرف التوكيد، وهو لام الابتداء المؤكدة لمضمون الجملة، والتأخير في سوف ليدل على أن العطاء كائن لا محالة (3)، وإن تراخى لحكمة فزاد هذا العطاء، علاوة على أنه مستمر لا ينقطع، كونه لا محالة في وقوعه.
وما يُعبر بهذه التعبيرات البليغة إلا لكون النبي صلى الله عليه وسلم في الدرجة العليا من الثناء والرفعة، وفي المكانة التي لم نسمع بمثلها لأحد.
(1) انظر الطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير"(197، 198/ 30).
(2)
انظر السابق.
(3)
انظر الفخر الرازي "التفسير الكبير"(473/ 16)، والبيضاوي "أنوار التنزيل"(502/ 5)، وأبا السعود "إرشاد العقل السليم"(879/ 5).
- وترتفع وتيرة الفضل، وحسن العطاء، ليجيء التعبير بفاء التعقيب في {فَتَرْضَى} لتفيد كون هذا العطاء عاجل النفع، بحيث يحصل به رضا المعطَى، فلا يترقب أن يحصل نفعه بعد تربص (1).
- رأينا قوله: {يُعْطِيكَ رَبُّكَ} بإضافة رب دون اسم "الله" العلم إلى ضميره صلى الله عليه وسلم لما يؤذن به لفظ الرب من الرأفة واللطف، وللتوسل بإضافته إلى ضمير المخاطب، وهو النبي صلى الله عليه وسلم للإشعار بعنايته برسوله، وتشريفه بإضافة "رب" إلى ضميره.
أما هذا العطاء الذي وعد الله رسوله صلى الله عليه وسلم به فقد خاض المفسرون والمؤرخون وغيرهم فيه، وما اجتمعوا إلا على أن عطاء الله هذا لنبيه صلى الله عليه وسلم قد تحقق كاملاً، ووقع مصداقاً لما أخبر به، أقر بذلك الكافرون والمسلمون.
فما هذا الذي أعطيه - صلوات الله وسلامه عليه - لقد أعطى عدة كريمة شاملة لما أعطاه الله عز وجل في الدنيا من كمال النفس، وعلوم الأولين والآخرين، وظهور أمره بالظفر والنصر على أعدائه يوم بدر ويوم فتح مكة، ودخول الناس في دين الله أفواجاً، وإعلاء الدين بالفتوح الواقعة في عصره صلى الله عليه وسلم وفي أيام خلفائه الراشدين وغيرهم من الملوك الإسلامية، وفشو الدعوة والإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، علاوة على ما ادخر له في الآخرة من الكرامات التي لا يعلمها إلا هو جل جلاله.
ونأتي في نهاية الكلام على هذه الآيات من السورة التي تختص بما نحن بصدده من الثناء على النبي صلى الله عليه وسلم إلى مقارنتها بما سبق من الآيات التي تثني على النبي صلى الله عليه وسلم وتمدحه، لتتضح بقية جوانب هذا البحث، ذلك الترتيب الزمني الذي تسلم كل سلسلة فيه إلى ما يليها في
(1) انظرالطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير"(398/ 30).
تناسق بديع، يجعل من المقارنة هنا مجالاً لاستنباط معانٍ جديدة ومهمة في إبراز جدية البحث وجدته.
فنقارن ما نزل في سورة القلم الذي سبق ذكره بما في سورة الضحى التي وقفنا عندها آنفاً، وأول ما يتبدى من المقارنة هو أن أول ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم من الثناء، ذلك الثناء العظيم في قوله:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4] في سورة القلم، فإذا ما قارنَّاه بقول في سورة الضحى بقوله:{مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)} [الضحى: 3] نرى التناسب الذى ينبنى بعضه على بعض، فلا يعقل أن يقال له إنك أعلى صاحب خلق وأعظمه، ثم يقال له: لقد ودعك ربك وأبغضك، فكانت الأولى دليلاً على بعد الثانية عقلاً وواقعاً.