المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث التاسعمشاركته في بناء الكعبة ووضع الحجر الأسود - السيرة النبوية بين الآثار المروية والآيات القرآنية

[محمد بن مصطفى الدبيسي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الباب الأولسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم

- ‌الفصل الأولثناء الله تعالى عليه صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الأول{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}

- ‌المبحث الثاني{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}

- ‌المبحث الثالث{وَالضُّحَى

- ‌الفصل الثانيحقوقه صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الأول{إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}

- ‌المبحث الثاني{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}

- ‌الفصل الثالثعصمته صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الأولمعنى العصمة

- ‌المبحث الثانيعصمة الأنبياء

- ‌الباب الثانيالرسول صلى الله عليه وسلم في مكة

- ‌الفصل الأولمن المولد إلى البعثة

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأولنسبه صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الثانيمولده صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الثالثرضاعته صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الرابعمنهج «وات» وغيره في تعامله مع السيرة

- ‌المبحث الخامسحادثه شق الصدر

- ‌المبحث السادسألم نشرح لك صدرك .. التعليق على «وات»

- ‌المبحث السابعحفظ الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم قبل البعثة

- ‌المبحث الثامنزواجه صلى الله عليه وسلم من خديجة رضى الله عنها .. التعليق على «وات»

- ‌المبحث التاسعمشاركته في بناء الكعبة ووضع الحجر الأسود

- ‌الفصل الثانيالبشارات بالنبي صلى الله عليه وسلم إرهاصًا بنبوته

- ‌تمهيد

- ‌المبحث الأولبشارات الأنبياء بالرسول صلى الله عليه وسلم والمصادر

- ‌المبحث الثانيإرهاصات النبوة الواردة في السنة المشرفة

- ‌الفصل الثالثبدء الوحى

- ‌المبحث الأولإرهاصات (البعثة - النبوة)

- ‌المبحث الثانيالبعثة والنبوة

- ‌المبحث الثالثمراتب الوحى

- ‌المبحث الرابعمراتب الدعوة

- ‌المبحث الخامسبواعث الدعوة

- ‌المبحث السادسعالمية الدعوة

- ‌المبحث السابعالجهر بالدعوة

- ‌المبحث الثامنمعنى الاضطهاد

- ‌الباب الثالثالعهد المدنى

- ‌الفصل الأولأسس بناء المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية في المدينة

- ‌المبحث الأولبناء المسجد

- ‌المبحث الثانيالمؤاخاة بين المهاجرين والأنصار

- ‌المبحث الثالثالوثيقة (الصحيفة)

- ‌الفصل الثانيغزوة بدر

- ‌المبحث الأولالنشاط السياسى والعسكرى إلى غزوة بدر

- ‌المبحث الثانيغزوة بدر في السيرة المشرفة

- ‌المبحث الثالثغزوة بدر في القرآن الكريم

- ‌الخاتمة

- ‌المصادر والمراجع

- ‌ملخص البحث

- ‌[ملخص البحث باللغة الإنجليزية]

الفصل: ‌المبحث التاسعمشاركته في بناء الكعبة ووضع الحجر الأسود

العلامات، وأخذت تبحث عنها حتى تميزتها في رسول الله صلى الله عليه وسلم (1).

ألم تطبق من قبل ومن بعد المنهج المادي على مثل هذه الأحداث التي تريد نفيها، وبها تنفى نبوة الرسول، وكمالها وجلالها وجلال رسالة الرب سبحانه وتعالى، فتأتى هنا وتثبتها وما تريد إلا أن تخفي من طرف خبيث صفاته وأخلاقه وشيمه وكمالاته التي لا توجد في مثله حتى حملت خديجة على طلب الزواج منه فتخفيها بأمور روحية أنت تنفيها من أصلها، ثم بعد ذلك تعاود الكرة لتنفى هذه أيضا مرة أخرى كما طمستها من قبل فيتم لك الأمران لا أخلاق، ولا نبوة، وإنما هو مشروع عربي إصلاحي، الدين عنصر من عناصره، وهو ديدنك في كتاباتك كافة، إن المرء ليضرب كفًا بكف لمثل هذا، وأعجب منه أن يصدقه أحد للأسف ظانًا منه أنه وأمثاله من منصفي المستشرقين، بل إن الاستشراق لم يصنع أو يولد للإنصاف بل لمحاربة الإسلام، فأنى ينصفون، ومدّعو الإنصاف والحياد والعلمية منهم أخبثهم وأمعنهم تضليلاً وأشدهم فسادًا وإفسادًا في الدين والعقل والفكر، لم تغز أراضى الإسلام إلا بهم، ولكنها لم تغز بالشتّامين الوقحين منهم لأن ذلك منهم حاجز يحجب عنهم قبول الناس لكلامهم.

‌المبحث التاسع

مشاركته في بناء الكعبة ووضع الحجر الأسود

وهذا المبحث من سيرته المشرفة صلى الله عليه وسلم نسوقه لأمرين:

الأول: هو ارتضاء قريش كلها لتحكيمه ورأيه صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وقد كانوا يسمونه الأمين مع ذكر أمانة الرسل في القرآن الكريم، ومقارنة ذلك بحال النبي صلى الله عليه وسلم وهو منهجنا في عرض السيرة ومقارنتها.

(1) جمهره الأمثال لأبى هلال العسكرى (1/ 205).

ص: 218

الثاني: توضيح مشاركة النبي صلى الله عليه وسلم لأهل مكة، وحضوره في قضاياها حضورًا بناء يؤكد إيجابيته صلى الله عليه وسلم في التعامل مع من حوله من أهل مكة كافة، حتى وصل إلى هذه الدرجة العالية في فصله في قضاياهم، والتحمل معهم لما ينزل بهم وهي نقطة الانطلاق في الرد على "وات" ومن لف لفه من المستشرقين، من تعتيمهم على هذه الفترة من حياته الشريفة صلى الله عليه وسلم محتجين بما ورد في سورة الضحى، بطمس الواقع وليِّ الحقائق.

وبداية الحديث التي اخترناها في بناء الكعبة موغلة في القدم إلى إبراهيم عليه السلام لربط الوقائع واتصال الأحداث.

وهي كما ذكر أصحاب السير والمحدثون (1) أن الله تعالى أوحى إلى إبراهيم عليه السلام ببناء الكعبة، وعرض عليه السلام الأمر على ولده إسماعيل عليه السلام الذي نشأ في هذا الموضع حيث تركه رضيعًا مع أمه في هذا المكان حتى حفر لهم جبريل زمزم بعد أن كادوا يهلكون من العطش، وشب إسماعيل في جُرهم التي نزلت بجوارهم لما رأوا الماء وتزوج منهم، وكان إبراهيم عليه السلام يطالع تركته تلك بين الحين والآخر حتى أمره الله سبحانه في هذه المرة ببناء بيته، ورفع قواعده وعرفه مكان البيت كما قال تعالى:{وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} [الحج: 26]، وساعده إسماعيل عليهما السلام في ذلك، وفي هذا يقول الله تعالى:{وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة: 127]، وكان يبني ساقًا كل يوم، حتى إذا بلغ مكان الحجر، قال لابنه: ابغني حجرًا، فالتمس حجرًا حتى أتاه به، فوجد الحجر الأسود قد ركب، فقال له ابنه: من أين لك هذا؟ قال جاء به من لم يتكل على بنائك، جاء

(1) البيهقي، "دلائل النبوة"(55/ 2)، والطبري في تفسيره (69 - 71/ 3)، والحاكم في المستدرك (9/ 273)، باب ذكر إبراهيم النبي صلى الله عليه وسلم وقال صحيح على شرط البخاري ومسلم، ولم يخرجاه ووافقه الذهبي، ورواه الأزرقي في تاريخ مكة (24 - 25/ 1).

ص: 219

به جبريل عليه السلام من السماء حتى أتمه.

وروى البيهقي أيضًا أنه عندما انهدم البيت بنته العمالقة، وعندما انهدم للمرة الثانية بنته جرهم، وعندما انهدم للمرة الثالثة بنته قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم رجل شاب

(1)، فلما أرادوا أن يرفعوا الحجر الأسود إلى مكانه اختصموا فيه، فقالوا نحكم بيننا أول رجل يخرج من هذه السكة فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أكد ذلك ما رواه الإمام أحمد وأصحاب السير أن قريشًا اختلفت في وضع الحجر الأسود في مكانه، قالوا: اجعلوا بينكم حكمًا، فقالوا أول رجل يطلع من الفج، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا أتاكم الأمين، فقالوا له، فوضعه في ثوب، ثم دعا بطونهم، فرفعوا نواحيه، فوضعه النبي صلى الله عليه وسلم في مكانه المطلوب، هذا علاوة على ما كان منه في نقل الحجارة مع العباس في بناء الكعبة إذ شاركهم بأعظم جهد ممكن وأخلصه صلى الله عليه وسلم، إلى أن جاء دور الحجر الأسود كما في القصة الآنفة الذكر ولولا حكمة الله وهداية النبي صلى الله عليه وسلم لهذا الحل، بعد اختيارهم وارتضائهم لقضائه بينهم لسفكت الدماء، فقد روي أنهم اختلفوا إلى حد أن قرَّب بنو عبد الدار جفنة مملؤة دمًا، ثم تعاهدوا هم وبنو عدي على الموت، وأدخلوا أيديهم في ذلك الدم، ومكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمسًا دون أن يردها إلى الوفاق رأي أو تدبير، حتى كان خمود نار الفتنة على يد رسول الله صلى الله عليه وسلم (2).

ونعود إلى ما دعانا إلى ذكر هذا المبحث، وهما الأمران اللذان ذكرنا في البداية:

والأول: هو ارتضاء قريش عن بكرة أبيها لتحكيمه ممثلة في رؤساء بطونها وقبائلها، والعمل بما رأى، لكونه كان الأمين عندهم.

(1) البيهقي، "دلائل النبوة"(56 - 57/ 2)، وأخرجه الحاكم في المستدرك (458/ 1) وصححه وأقره الذهبي.

(2)

انظر ابن اسحاق، ابن هشام، "السيرة النبوية"(126 - 127/ 1)، تحقيق محمد فهمي السرجاني وخيري سعيد ط المكتبة التوفيقية.

ص: 220

أما كونه صلى الله عليه وسلم محل رضا هؤلاء الكفار آنئذ فهو دليل على كونه قد ساهم في أعمال كثيرة، وقام فيها بالأداء العالي، ولم يقصر فيما أسند إليه، بل بلغ فيه الدرجة القصوى التي تدل على أعلى درجات الأمانة؛ لأن الدرجة العادية كانت - لا شك - لكثير من قريش، ولم يطلق على واحد منهم هذه التسمية، بدليل أنه لو طلع آخر غير النبي صلى الله عليه وسلم وارتضوا حكمه فرضًا، فإنهم لن يقولوا جاءكم الأمين.

أما أمانة الرسل عليهم وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام في القرآن الكريم، فقد صرح بها في غير لبس على لسان الرسل عليهم السلام أنفسهم، فقد جاء في ذكر سيدنا نوح عليه السلام قوله تعالى:{كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء: 105 - 107] وكذلك في حق هود وصالح ولوط وشعيب وموسى (1) عليهم السلام ونستدل بها على أمانة النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه نذكر اثنين لأهميتهما:

الأول: أن سياق القرآن الكريم يدل على أن الله تعالى أمر المرسلين بأن يذكروا وينبهوا أقوامهم بأنهم أمناء في قوله: {إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ} [الشعراء: 125]، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فلم يوجه إليه ذلك الأمر، بل الكفار هم المخاطبون له ابتداء بالأمانة، ومن ثم لم نجد في القرآن الكريم قوله للرسول: إني لكم رسول أمين، لأنهم هم من أطلقوه عليه فلم يكن بحاجة إلى تذكيرهم به فكان صلى الله عليه وسلم بذلك أعلى درجة بتوفيق الله ورعايته سبحانه.

والوجه الثاني: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد ولد آدم، فكان بالبرهان أعظمهم أمانة وأعلاهم خلقًا.

(1) في قصص الرسل السابقين في سورة الشعراء، أما موسى عليه السلام ففى سورة الدخان {أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18)} .

ص: 221

فدل هذان الوجهان فقط على أنه صلى الله عليه وسلم أعظم الرسل وأعلاهم على الإطلاق أمانة، وبالتالي سيد الدنيا والآخرة في ذلك وغيره.

وهذا الكلام غصة في حلق المستشرقين قبل غيرهم بالبرهان العقلي والدليل المادي الواقع الذي لا ينكره أولو الألباب من غير تعصب ولا هوى.

وأمانة الرسل يراد بها أمران:

الأول: أمانتهم بين أقوامهم قبل تبليغهم الرسالة، وهي دليل على الصدق.

الثاني: الأمانة يحتمل أن يراد بها أنه أمين من جانب الله على الأمة التي أرسل إليها، إذ لا يرسل الرب من ليس أمينًا عنده ليبلغ أمانته سبحانه إلى الناس.

ويَجمُل أن نشير إلى حاصل كلام الطاهر بن عاشور في تفسيره لتلك الآيات حيث يقول: وجملة: "إني لكم رسول أمين" تعليل للإنكار أو التحضيض وهو في قوله: {أَلَا تَتَّقُونَ} فإن {أَلَا} هنا للإنكار أو التحضيض على الإيمان، أي كيف تستمرون على الشرك، وقد نهيتكم عنه وأنا رسول لكم أمين عندكم.

وكان نوح موسومًا بالأمانة لا يتهم في قومه، كما كان محمد صلى الله عليه وسلم يلقب الأمين في قريش. قال النابغة:

فألفيت الأمانة لم تخنها ..

كذلك كان نوح لا يخون

وتأكيده بحرف التأكيد {إِنِّي} مع عدم سبق إنكارهم أمانته؛ لأنه توقع حدوث الإنكار، فاستدل عليهم بتجربة أمانته قبل تبليغ الرسالة، إذ أن الأمانة دليل على صدقه فيما بلغهم من رسالة الله، كما قال هرقل لأبي سفيان - قبل إسلامه -: فهل كنتم تتهمونه

ص: 222

بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ - يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم قال أبو سفيان: قلت: لا!

إلى أن قال هرقل: وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فذكرتَ أن لا! فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله (1).

فكانت حكاية نوح تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم مما حدث من قومه، ولكنهم مع ذلك لم يكونوا يكذبونه كما ذكر القرآن الكريم تثبيتًا للنبي صلى الله عليه وسلم وإذهابًا للحزن عنه حيث قال تعالى:{فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33]، ويحتمل أن يراد به أمين من جانب الله تعالى على الأمة التي أرسل إليها، والتأكيد أيضًا لتوقع الإنكار منهم (2)، تلك الأمانة التي تدلنا على صدق الرسول في الوحي وغيره مما أخبر به، هي رد قاطع على "وات" في هذيانه من بدايته إلى نهايته.

الأمر الثاني: الذي سقنا بسببه هذا المبحث، وهو مشاركته أهل مكة حتى وصل إلى هذه الدرجة بينهم.

أشرنا في الأمر الأول إلى أن ارتضاءهم لرأيه صلى الله عليه وسلم وتنفيذهم له لم يكن من فراغ، أو انكفاء على الذات، أو مقاطعة أو انشغال عن أحداث المجتمع، بل جاء إسهام النبي صلى الله عليه وسلم في القضايا الكبرى وغيرها التي عاشتها مكة آنذاك مغطيًا شتى مساحات العمل البشري، عاملاً في كل اتجاه، حتى قالت له خديجة رضي الله عنها «والله لا يخزيك الله أبدًا، فوالله إنك لتصل الرحم، وتَصْدُقُ الحديث، وتحمل الكلَّ، وتَكسِبُ المعدوم، وتقري الضيف وتعين على نوائب الحق» (3) فكان يبني كل هذه النشاطات عبر شخصية قادرة على التصدي

(1) رواه البخاري (6)، كتاب بدء الوحي.

(2)

انظر العلامة بن عاشور، "التحرير والتنوير"(158 - 159/ 19).

(3)

البخاري، (4572).

ص: 223

لكل مشكلة، والإسهام الايجابي الفعال الذي من شأنه أن يعيد حقًا، أو يقيم عدلاً، أو يواسي ويقف ويعين إلى آخر ما ذكرت خديجة عن إسهاماته الفذة غير المعهودة في تلك البيئة حتى لقبوه بذلك، وأودعوه أماناتهم، وهم يخالفونه في الدين، فقد ترك علي بن أبي طالب في الهجرة ليرد للكفار أماناتهم التي استودعوه إياها إذ لم يكن مثله أحد يمكن الثقة فيه مع مخالفتهم له.

وكان عمله في بناء الكعبة، وإيقاف نزيف الدم المنتظر، ووأد الفتنة أحد الأنشطة التي قام بها.

نأتي لتعليق "وات" على هذه الجزئية لنناقشه فيها:

و"وات " كما دللنا بالمواضع التي ذكرنا من قبل لم يترك شيئَا من حقائق السيرة إلا حاول بكل ما أوتي أن يلويها ويغيرها، ويذهب بها بعيدًا عن سياقها، ويدمر معانيها، وما لم يستطع أخفاها كأن لم تكن، ولم يقرأها كأن على بصره كما على قلبه غشاوة، ونبرهن على قليل من فيضه بهذه الجزئية، فهو لم ير في الفترة من زواج النبي صلى الله عليه وسلم بخديجة رضي الله عنها إلى أن أتاه الوحي إلا ثلاث آيات من سورة الضحى، وتلخيص كلام "وات"، وهو نفس كلام "بروكلمان"(1) أنه لا يصح في هذه الفترة من معلومات نستدل بها عليها، إلا ما حدث فيما بعد، مثال ذلك آيات في سورة الضحى، وهي قوله تعالى:{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8)} ويقول وستأتي إشارات أخرى عن هذه السنين المجهولة في سياق الحديث.

(1) ولد بمدينة روستوك بألمانيا، درس الآرامية والسريانية والعربية والحبشية، درس على يد نولدكه ومارتن فيلبى، ظهرت الطبعة الأولى من كتابه «تاريخ الشعوب الإسلامية» ، عام 1939 م، والطبعة الإنكليزية 1947 م، له العديد من الدراسات خاصة في مجال التحقيق.

ص: 224

فقل لي بربك بأي شيء يوصف هذا الكلام، لم ير "وات" في هذه السنين المجهولة إلا يتمه وضلاله وفقره، أكثر من خمسة عشر عامًا.

ويقال، كيف يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد تزوج ويطلق عليه يتيم، هذا هزل وتنكيت في مقام الجد والبحث، ثم نعيد ما قال في الوصف الثالث، وهو فقره كيف يكون فقيرًا بعد الزواج كما يدعي أن هذه الآيات هي التي توضح تلك الفترة من عمره الشريف، وهو القائل قبل قليل في الصفحة السابقة، إنه بزواجه قد وضع قدمه على أول درجة على الأقل من درجات النجاح الدنيوي. (1)

ثم أنّى له الضّلال، وقد ذكر أنه بزواجهِ بخديجة، بدأ الانتظام في التردد على ورقة بن نوفل وظهرت آثار التعاليم المسيحية على اتجاهه فيما بعد (2)، إلا أن يكون هذا التأثير المسيحي الذي يهلِّل له هو ذلك الضَّلال الذي ظنَّ وقوعه فيه في هذه الفترة، وكيف يشجعه ورقة، وتشد خديجة من أزرهِ ليثبت على هذا الضَّلال.

ثم ننظر من وجهة أخرى تكشف جانبًا غريبًا من تفكير "وات" ومنهجه وهي أنه بعد أربعة عشر قرنًا من الزمان يخبرنا بهذا البحث أقصد الهذيان، ولم يأخذ بقول من عاشروه ونقلوا سيرته، وتتبعوا أخباره، وهو يعتمد كتبهم وينقل منها، ألم يتكلم محمد صلى الله عليه وسلم بشيء خمس عشرة سنة، ولم يبع ولم يشتر ولم يعاشر، ولم يشارك في شيء حتى سمي بالأمين، ترى هذا الوصف يوسم به في يوم وليلة، أم أنه نتيجة احتكاكات طويلة، ومعاشرات ومعاملات ومصادقات، وإعطاء وأخذ ورد ومواقف كلامية ونفسية، وعلاقات اجتماعية واقتصادية، حتى يقال ذلكم الأمين الذي ليس مثله أحد.

(1)"وات"، "محمد في مكة"(100)، ترجمة د. عبد الرحمن الشيخ وآخر.

(2)

51 - 52 Ibid pp انظر عبد الله النعيم، "الاستشراق في السيرة"(65).

ص: 225

إن لقب الأمين علامة على مشاركته، وعلامة كذلك على المدى الذي أوصلته إليه هذه الإسهامات والأخلاق فيها، وإلى أي علو وصل سموه الخُلُقي والسلوكي، قد يقال إن المسلمين في ترجمتهم له وكَتبِهم لسيرته هم من أطلقوه، والرد إن "وات" يعلم قبل غيره أن من أطلق هذا الوصف هم الكفرة المناوئون له.

وقد أشرنا إلى أن هذا الوصف إنما هو من تربية الله للمصطَفينَ من عباده، وإلا كيف ذكر عن الأنبياء السابقين، وأشار أهل الجاهلية إليه كما ذكره النابغة في شعره عن نوح عليه السلام والقرآن الكريم كتاب هداية عقيدة وشريعة ليس كل اعتنائه منصبًّا على ذكر تفاصيل حياة النبي صلى الله عليه وسلم لحظة بلحظة لا يعقل هذا له وإنما يترجم بقدر العون على الدعوة بعد التصديق بالرسالة والإيمان بالوحي إذ هو الوسيلة لتلك الأهداف، ومن ثم يشير إلى رؤوس القضايا والملامح العامة والتي تدل على ما تحتها وما وراءها دلالة باهرة لتلك الوسيلة مع الإسهاب في الهدف والغاية.

ومن ذلك ما صادفه "وات" لا محالة في أول ما نزل من الوحي قوله تعالى للرسول صلى الله عليه وسلم {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 5] فهذا الثناء الجامع يدل على ما تحته من جزئيات الأخلاق كافة، فهو صلى الله عليه وسلم كما شرحنا في الفصل الأول حاز بهذه الآية جميع الأخلاق الفاضلة، وفي نفس الوقت حصل من كل خلق أعظمه وأعلاه، وهذا الخلق العظيم يضادّ تمامًا أن تكون هذه السنوات الطويلة مجهولة، والتي توازي أكثر من ربع عمره الشريف حتى آتاه الوحي بإرهاصاتها، ومشاركاته وإسهاماته دون أن يَرُدَّ هذا الثناء مشركو عصره، ومقاتلوه ومناوئوه، وأن يُظهروا كذبه بأدنى مخالفة، وأقل تكلفة من ثمن اللجوء لحربه والتنكيل والاستهزاء والإيذاء له ولأصحابه، إذ لو ثبت كَذِبُهُ حاشا له صلى الله عليه وسلم في خلق واحد لقضي على الرسالة في مهدها، ولعيَّره المشركون بذلك ولصُدَّ كلُ الناس عن الإيمان بدعوته بإثبات

ص: 226

اختلاق القرآن الكريم، وادعاء الوحي.

لا أظن في هذه العجالة يمكن أن يبقى لـ"وات" متنفس يهذي به مرة أخرى ولكنها الاستماتة في الدفاع عن الباطل، وإن حماية الكفرة من أمثاله أن يدخلوا في الإسلام ما زال يحمله على نفث سمومه في كل شيء من الرسالة والرسول، وبكل صفاقة يهز إيمان المسلمين مع ذلك، ولا يرعوي عن استمراره في الكتابة بما يعلم تناقضه واضطرابه ومجافاتة للحقيقة.

ص: 227