الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثاني
{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}
وتمشيًا مع سياق القواعد الموضوعة لهذا البحث، نذكر آية أخرى جمع الله فيها للنبي عليه الصلاة والسلام مكارم الأخلاق، وهي قوله تعالى:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} [الأعراف: 199] لنُحللها حتى يتضح كيف أمره الله بهذا؟ بعد أن مدحه بأنه على خُلُقٍ عظيم، ونلاحظ ما يلي:
أنَّ هذه الآية في سورة الأعراف، وهي السابعة والثلاثون في ترتيب النزول، ومعنى أنَّ الله تعالى يأمره صلى الله عليه وسلم بعد هذه المدة بذلك مع أن تلك أخلاقه، وأنه أثنى عليه بها أن يكون ذلك خطاباً لأُمَّته صلى الله عليه وسلم، وهو المناسب للسياق القرآني حيث جاء بعد ذلك قوله تعالى:{وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)} [الأعراف: 200].
وكما بَيَّنَّا في عصمته لا يمكن أن يكون ذلك في حَقَّه عليه الصلاة والسلام والاحتمال الآخر أن يكون الخطاب له في جزئه الأول، وهو خذ العفو
…
، وكذلك يكون مُوَجَّهًا للمؤمنين، ولا يمتنع أن يكون في الثاني للمؤمنين أيضاً، وحينئذ يكون المراد من هذا التوجيه القرآني الكريم لهذه الصيغة، هو التأكيد مرة أخرى على مكارم الأخلاق، وتثبيت المؤمنين فيما لا قوة من الأذى على مارَبَّاهم عليه من حسن الخلق، لأن ذلك دليل أنه لأمر ما مهم، قد ندبهم لذلك مرة أخرى، وأمرهم به.
ويوضح هذا الأمر أن المشركين قد وصلت إساءتهم إلى الحد الذي يمكن أن يخرج
المؤمنين عن حد المسامحة، والإعراض عن الجاهلين، أو العفو عمن ظلمهم، مما يدل على أن قلوبهم قد ملئت غيظاً من هؤلاء المجرمين لدرجة انتظار الانتقام منهم، بدلاً من الصفح، وتمني الهداية لهم، وهي روح الإسلام العظيم.
أخلاق جبلى وكسبي:
وإذا كان قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4] كانت في أول ما نزل من القرآن الكريم جاء هذا السؤال، وهو: هل الأخلاق جِبِلِّيِّة أو كَسبِيِّة؟ خاصة وأننا ادّعينا في أول الكلام أنه صلى الله عليه وسلم ما نزل عليه الوحي إلا وهو في عظيم الأخلاق وأعلاها، وهو ما يؤيده الواقع كما ذكرنا.
والإجابة العامة: هي أن الأخلاق منها ما يكون جِبِلِّياً قد طبع عليه المرء، ومنها ما يكون كَسبِياً يقع له بالتخلق والتكلف، حتى يصير له سجية وملكة، وله أمثلة عدة، وأقوال كثيرة وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم منها ما قاله عليه الصلاة والسلام لأشج عبد القيس رضي الله عنه:(إنَّ فيك لخُلُقين يحبهما الله: الحلم، والأناة. فقال: أخُلُقين تخلقت بهما أم جبلني الله عليهما؟ فقال: بل جبلك الله عليهما. فقال: الحمد لله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله ورسوله)(1).
وهذا يدل على أن الأخلاق منها: ما يطبع المرء عليه، وقد رأينا الواقع مليء بتلك الصور، وقد رأينا الشجاع الثابت بطبعه، والكريم، والحليم، وغيرهما، والعكس كذلك كأصحاب الأخلاق المذمومة كالبخل، والجبن، وغيرهما.
(1) أخرجه مسلم (17) في الإيمان: باب المر بالإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم وشرائع الدين، أم الجملة الأخيرة: (خلقين تخلقت
…
) فقد أخرجها أحمد (4/ 205، 206)، البخاري في الأدب المفرد (584) وسندها صحيح، انظر زاد الميعاد (3/ 605 - 609).
ومنها: ما هو مكتسب، يكتسبه الإنسان بالتكلف، ورياضة النفس ومجاهدتها، وقد ورد في هذا قوله صلى الله عليه وسلم:(إنما العلم بالتعلم، والحلم بالتَّحَلَم، ومن يتحرَّ الخير يُعطَه، ومن يتوقَّ الشر يوقه)(1).
وهذا يوضح أن من الأخلاق ما يكتسب بالتدرب عليها، وممارستها مع المجاهدة على مدافعة ضدها عند ورود أسبابها، فالحلم يحاول المرء أن يتخلق به، ويظهر مدى التزامه بهذا الخلق عند ورود سبب الضد من معاملات وأقوال وتصرفات تخرج الإنسان عما يحاول أن يكون عليه من الحلم، فيضبط حينئذ جهله، ويكظم غيظه، ويجاهد نفسه على الثبات فيما عرض له من امتحان حلمه، وهكذا بقية الأخلاق، وهذا باب طويل في رياضة النفس، ترى النبي صلى الله عليه وسلم حاول شيئاً من ذلك؟ الواقع يأبى إلا أن يقول لا، لقد كانت تلك الأخلاق سجية فيه، لقد تعرض لامتحانات الأخلاق كافة، فما سمعنا له هنة فيها عَيَّرَه بها قومه، وامتنعوا من وصفه بسببها بأنه صاحب الخلق القويم، أو تذرعوا بها لئلا يدخلوا الإسلام.
ومع ذلك من حسن تواضعه، وهضمه لنفسه، التي لا ينطق بها إلا العظماء وجدناه يدعو ربَّه سبحانه وتعالى بأن يرزقه ويهبه، ويعينه، ويوفقه لأحسن الأخلاق، وقد ذكر ذلك ليكون تعليماً للمؤمنين، وتنبيهاً لهم على الثبات على أحسن الأخلاق بدوام الدعاء لله تعالى أن يهديهم إليها، ويوفقهم لها، فيقول صلى الله عليه وسلم: (اللهم اهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها
(1) أخرجه الخطيب البغدادي في تاريخه (9/ 127) عن أبي هريرة مرفوعًا.
إلا أنت، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلا أنت) (1).
ولابد من إضافة هنا تبين مصدرية الأخلاق، وتوضح ما سبق، وهي أنَّ الأخلاق لا يمكن أن تكون نتاج عقل، حتى نقول إن الرسول أنتج هذه الأخلاق بعقله، لأن العقل يستطيع أن يختبر العلاقات بين الأشياء ويحددها، ولكنه لا يستطيع أن يصدر حكماً قِيَمِياً عندما تكون القضية قضية استحسان أو استهجان أخلاقي. إنَّ محاولة إقامة الأخلاق على أساس عقلاني لا يستطيع أن يتحرك أبعد مما يسمى بالأخلاق الاجتماعية، أو قواعد السلوك اللازمة للمحافظة على جماعة معينة، وهي في واقع الأمر نوع من النظام الاجتماعي (2).
ويؤكد هذه الفكرة الدكتور محمد الله دراز لقوله: "فإذا ما قيل لنا، إننا نحن الذين نشرع لأنفسنا، بوصفنا أعضاء في عالم عقلي، وجب علينا أن نتفق على ذلك الاستقلال الذي خص به العقل."
ماذا تعني في الواقع هذه المقولة: " العقل يمنح نفسه قانونه؟ هل هو مبدع العقل والقانون، أو أنه يتلقاه مُعدًّا على أنه جزء من كيانه كما يفرضه على الإرادة، ذلك لأنه إذا كان العقل مبدع القانون فإنه يصبح السيد المطلق، فيبقى عليه، أو يبطله تبعاً لمشيئته، فإذا لم يستطع ذلك فلأنه قانون سبق في وضعه وجود العقل، وأن صانع العقل قد طبعه فيه،
(1) جزء من حديث رواه مسلم (771) صلاة المسافرين: باب الدعاء في صلاة الليل وقيامه، وأبو داود (760) في الصلاة: باب ما يستفتح به الصلاة من الدعاء.
(2)
انظر علي عزت بيجوفيتش: "الإسلام بين الشرق والغرب"، ترجمة محمد يوسف عدس ط 1، الكويت، مجلة النور، مؤسسة بافاريا للنشر والإعلان والخدمات 1414 هـ 1994 م، ص186.
كفكرة فطرية، لا يمكن الفكاك عنها" (1).
مما سلف من القول يتضح لنا أن الأخلاق منها ما هو كسبي، ومنها ما هو جبِلِّي طبعي، وإن الكسبي إنما هو لأخلاق معلومة ظاهرة في الواقع يحاول الإنسان أن يتخلق بها بالتدرب عليها، ورياضة النفس بها، وبالتالي لا يمكن أن تكون نتاجاً للعقل، إذ العقل قد وجد، وهذه الأخلاق متقررة في الواقع وموجودة.
فإذا طبقنا هذا الكلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه لا مناص من أن نقول إن أخلاقه كلها جبلِّية، لأنه أتى قومه بدعوته، وليس هناك مغمز واحد يغمز، أو غمز عليه في أخلاقه باتفاق المخالف والموافق ساعتها، وإلى الآن، ثانيًا أتاهم يدعوهم إلى مكارم الأخلاق، وقد فاقهم في أخلاقه بما لا طاقة لهم به، بمعنى أن الفارق بين أخلاقه وأخلاقهم كان في الدرجة العليا التي يستطيع بها أن يدعوهم إليها، وأن يرشدهم إليها إذ كيف يدعوهم وهو مثلهم، بقى هذا الفارق الأخلاقي العظيم كما هو، بل زاد، فلو كانت الأخلاق من مفرزات العقل الإنساني فلم اختص بها محمد صلى الله عليه وسلم، والعقول متقاربة في البيئة العلمية والثقافية والاجتماعية الواحدة.
وقد يأتي هذا الإعتراض - كاعتراضات المستشرقين - إنه كان يتحنث في غار حراء حتى ادّعى النبوة، وهي تلك التأملات التي قادته إلى ما ادّعى!
ونقرر كما ينبغي أن يقرر العقلاء بإنصاف، هل كان يتحنث ليتعلم الأخلاق؟ لم يقلها أحد، ولا رماه بها أحد ولا يستطيع، لأنه ليس من عادة العرب أن يكون كذلك. وكيف يكون شهراً في العام لعدّة أعوام سبباً لهذا العلو الأخلاقي، والسمو العقلي؟ وكيف ولِمَ لم
(1) محمد عبد الله دراز، "دستور الأخلاق في القرآن"، ص35، وانظر "موسوعة نضرة النعيم"(1/ 65 - 66).
يَقُم مناهضو الدعوة، أو بعضهم لمثل ذلك ليجنبوا قومهم، أنفسهم تلك المواجهات الدامية؟ أو الادعاء على النبي صلى الله عليه وسلم ونبذه بذلك؛ ليظهروا كذبه فيما ادعى؟
إنَّ معاملة الرسول لقومه، وللناس كافة من أول يوم بهذا الخلق الحسن إلى آخر يومٍ في حياته لَيدل دلالة قاطعة على أنَّه ليس له من أمره شيء، وأن الموجه له لا علاقة له بنفسه، ولا من داخله، ولا لهدف آخر يسعى إليه، بل هو شيء فوق طاقته لا يستطيع له رداً ولا دفعاً، إنما هو يُنفذ أوامر هذه القوة الخارجة العليا، ليس غير، لا ينتظر من وراء ذلك إلا رضا هذا الإله عنه، لا يلوي على غير ذلك، ولا يخشى أحداً ولا ينتظر جزاءً أو شكوراً من أحد، فضلاً عن أي غرض مادي أوحسي آخر، وهو يلهج بقوله تعالى:{قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)} [يونس: 16]، وقد جاءت آيات كثيرة في هذا السبيل، وكذلك في سياق أنه لا يملك من أمر نفسه شيئاً، وإلا لما عرَّض نفسه لذلك كله بغير أية أغراض حصلها في الدنيا، كقوله تعالى:{قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50)} [الأنعام: 50]، وكقوله تعالى:{قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49)} [يونس: 49].
وإذا انتهينا من هذه النقطة، فلابد من الإشارة إلى أمر مهم من فهم أخلاقه صلى الله عليه وسلم، وهو: مع أن الله جَبَلَه على عظيم الأخلاق، وأنه ما بعث لدعوة الحق إلا وهو كذلك، فإن أخلاقه بعد البعثة كانت في ارتفاع وعلو دائم، إذ لا يوصف شيء بالثبات في الدنيا، وفي ذلك نقدم بما يقول سيد قطب: ما أن أخلاقية الإسلام لا تستمد ولا تعتمد على اعتبارات أرضية من العرف أوالمصلحة أوغيرها، إنما تستمد من السماء وتعتمد على السماء، تستمد من هتاف السماء للأرض لكي تتطلع إلى الأفق، وتستمد من صفات الله المطلقة ليحققها البشر في حدود الطاقة، كي يحققوا إنسانيتهم العليا. ومن ثم فهي غير مقيدة ولا محدودة بحدود؛ إنما
هي طليقة ترتفع إلى أقصى ما يطيقه البشر، لأنها تتطلع إلى تحقيق صفات الله الطليقة من كل حد، ومن كل قيد (1).
ويزيد ابن رجب الحنبلي في كتابه "لطائف المعارف" هذا الأمر توضيحاً وتفصيلاً فيقول من كلام طويل له: ولما كان الله عز وجل قد جَبَلَ نبيه صلى الله عليه وسلم على أكمل الأخلاق وأشرفها، كما في حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم:«إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (2) فدل هذا على أنه صلى الله عليه وسلم أجود بني آدم على الإطلاق، كما أنه أفضلهم وأعلمهم وأشجعهم وأكملهم في جميع الأوصاف الحميدة.
وكان مثالاً لهذه الأوصاف، هو جوده صلى الله عليه وسلم فكان جوده يتمثل بجميع أنواع الجود، من ذلك العلم والمال، وبذل نفسه لله تعالى في إظهار دينه وهداية عباده، وإيصال النفع إليهم بكل طريق، ومن إطعام جائعهم، ووعظ جاهلهم، وقضاء حوائجهم، وتحمل أثقالهم.
ولم يزل على هذه الخصال منذ نشأ، ولهذا قالت له خديجة رضي الله عنها في أول مبعثه:«والله لا يخزيك الله أبداً، إنك لتصل الرحم، وتقري الضيف، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتعين على نوائب الحق» (3).
ثم تزايدت هذه الخصال فيه بعد البعثه وتضاعفت أضعافاً كثيرة.
وفي الصحيحين عن أنس، قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وأشجع الناس،
(1) انظر سيد قطب، "في ظلال القرآن"(6/ 3657).
(2)
سبق تخريجه.
(3)
أخرجه البخاري في بدء الوحي (3)، ومسلم (160) في الإيمان: باب بدء الوحي برسول الله صلى الله عليه وسلم.
وأجود الناس» (1)، وفي صحيح مسلم (2) عنه، قال:«ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الإسلام شيئاً إلا أعطاه، فجاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين، فرجع إلى قومه، فقال: يا قوم، أسلموا فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة» (3).
وإننا إذ نذكر مثلاً قليلاً لهذه الأخلاق، لنبين ما كان عليه صلى الله عليه وسلم من علو الأخلاق التي بعث بها، مجبولاً عليها، حتى شهد بها أعداؤه شهادة من لم ير، ولم يسمع بمثلها فيمن ذكر بالسؤدد والشرف، فقد ذكر عن صفوان بن أمية، وهو من هو فضلاً وشرفاً وقيادة لقومه في معاداة النبي وحربه سنين طويلة، أعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وادياً مملوءاً إبلاً ونَعَماً، فقال صفوان:"أشهد ما طابت بهذا إلا نفس نبي. (4) "
ولمثل ما سبق، ويزيد عليه، يقول ابن رجب: وكان يؤثر على نفسه وأهله وأولاده، فيعطي عطاء يعجز عنه الملوك مثل كسرى وقيصر، ويعيش في نفسه عيش الفقراء، فيأتي عليه الشهر والشهران لا يوقد في بيته نار.
ترى لو كان له غرض من تلك الأغراض الاستشراقية المفتراة، فما الذي كان يحمله على ذلك، وقد عرض عليه الكفار، الملك والمال، وشهوات الدنيا ولذاتها من النساء وغيره، فلم يعبأ بها، حتى ولو كانت الشمس والقمر عن يمينه وشماله، ما تراجع قيد شعرة
(1) أخرجه البخاري مطولاً رقم (2857) في الجهاد: باب اسم الفرس والحمار، ومسلم رقم (2307) في الفضائل: باب شجاعة النبي صلى الله عليه وسلم
…
وتقدمه للحرب.
(2)
رقم (2312) في الفضائل: باب ما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا قط فقال: لا.
(3)
انظر ابن رجب، زين الدين أبي الفرج عبد الرحمن ابن أحمد "لطائف المعارف"، ت 795 هـ حققه ياسين السواس، دار ابن كثير دمشق، ط 1413 هـ 1992 م (305 - 308).
(4)
انظر السابق.
عن ذلك؛ لأنه ليس له ذلك، عدم الوقوع دليل الصدق.
جاءته ابنته فاطمة عليها السلام تشتكي ما تلقى من خدمة البيت وتسأله خادماً يعينها يكفيها ذلك، فقال لها:(لا أعطيك وأدع أهل الصفة تطوي بطونهم من الجوع.) وأمرها أن تستعين بالتسبيح والتكبير والتحميد عند نومها (1).
ويستكمل ابن رجب كلامه بقوله: وكان جوده صلى الله عليه وسلم يتضاعف في شهر رمضان على غيره من الشهور، كما أن جود ربه يتضاعف فيه أيضاً، فإن الله جبله على ما يحبه من الأخلاق الكريمة، وكان على ذلك من قبل البعثة. (2) وهو ما يؤكد الذي ذهبنا إليه.
ذكر ابن إسحاق في سيرته عن وهب ابن كَيْسَان عن عبيد بن عمير، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاور في حراء من كل سنة شهراً، يطعم من جاءه من المساكين، حتى إذا كان الشهر الذي أراد الله به ما أراد من كرامته، من السنة التي بعثه الله فيها، وذلك الشهر شهر رمضان، خرج إلى حِرَاءَ، حتى إذا كانت الليلة التي أكرمه الله تعالى برسالته، ورحم العباد بها، جاءه جبريل من الله عز وجل.
ثم كان جوده في رمضان - بعد الرسالة - أضعاف ما كان قبل ذلك؛ فإنه كان يلتقي هو وجبريل عليه السلام، وهو أفضل الملائكة وأكرمهم، ويدارسه الكتاب الذي جاء به إليه، وهو أشرف الكتب وأفضلها، وهو يحث على الإحسان ومكارم الأخلاق.
ومن ثم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الكتاب له خُلُقاً بحيث يرضى لرضاه، ويسخط لسخطه، ويسارع إلى ما حث عليه، ويمتنع عما نهى عنه؛ فلهذا كان يتضاعف جوده
(1) أخرجه البخاري (215/ 6)، وأهل الصفة فقراء الإسلام لا يأوون على بيت ولا مال.
(2)
انظر ابن رجب الحنبلي "لطائف المعارف"(308 - 309).
وإفضاله في هذا الشهر؛ لقرب عهده بمخالطة جبريل عليه السلام، وكثرة مدارسته له هذا الكتاب الكريم، الذي يحث على المكارم والجود. (1)
وهكذا كل الأخلاق التي اتصف بها النبي صلى الله عليه وسلم كانت في الغاية من السمو، وإذا بها تتضاعف إلى أعلى وأسمى من ذلك بعد بعثته المشرفة؛ لأنها تستمد من صفات الله التي لا يحدها قيد ولا حد.
وممن ذكر ذلك من المحققين، وإن لم يقصد إليه ولكنه يوضح الفكرة التي نحن بصددها العلامة الطاهر بن عاشور في تفسيره للآية الكريمة {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199)} ، ونحن نذكر ما قاله مختصراً، يقول:
أشبعت هذه السورة من أفانين قوارع المشركين من عظتهم، وإقامة الحجة عليهم، وبعثهم على التأمل في دلائل الوحدانية، وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، وما جاء به من الهدى، مع تبيين ضلال المشركين، وفضح فساد معتقدهم، وكيف سجل مكابرتهم وعنادهم، والتعجب من ركوبهم لرؤوسهم، ونأيهم بجانبهم، وكيف أصموا أسماعهم، وأغمضوا أبصارهم عما دعوا إلى سماعه، كل ذلك تكلمت به السورة، وسارت به آياتها ونظرت في نفس الوقت أحوالهم بأحوال الأمم الذين كذبوا من قبلهم، وكفروا نعمة الله فحل بهم من أصناف العذاب ما ذكرته السورة الكريمة، وأنه إنذار لهؤلاء أن يحل بهم ما حل بأولئك، وقد أعلنت السورة باليأس من ارعوائهم، وانتظار ما سيحل بهم بأيدي المؤمنين، وبتثبيت الرسول والمؤمنين، وتبشيرهم والثناء عليهم بما هم عليه من الهدى، مسلاة لهم وتنويهاً بفضلهم، كان من شأن، ذلك أن يثير في أنفس المؤمنين كراهية أهل الشرك كراهة تحفزهم
(1) المصدر السابق.
للانتقام منهم، ومجافاتهم، والإعراض عن دعائهم إلى الخير، لا جرم شرع في استئناف غرض جديد، يكون ختاماً لهذا الخوض البديع، وهو غرض أمر الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بقلة المبالاة بجفاء المشركين وصلابتهم، وأن يسعوهم من عفوهم، والدأب على محاولة هديهم والتبليغ إليهم بقوله خذ العفو
…
الآية (1).
والمتأمل لهذا الأمر بمكارم الأخلاق ليدل المرة بعد المرة على أخلاقية هذا الدين، وأن قضية الخلق الحسن هي محور دعوته، وأن الثبات على هذه الأخلاق تحت مختلف الظروف من أهم مهماته وأقوى مقوماته.
إن التمسك بهذه الأخلاق في تلك الظروف الشاقة، والأحوال العصيبة تبرهن بما لا يدع مجالاً للشك على أن الموجه لهذه الدعوة هو الله تعالى، وبالتالي يدلل ويشهد لصحة الرسالة، إنها أخلاق تخالف معهود البشر كافة، إذ لم يكن في تاريخ البشرية وإلى اليوم والغد من عامل أعداءه الذين دعاهم إلى السمو الروحي والأخلاقي والنفسي بمعرفة الله، فواجهوه بالبطش وأشد التنكيل تلك المعاملة الحسنة، التي تخالف جبلة النفوس، وما كان عليه الواقع، إذ كل الناس ينتظرون من كل قلوبهم لمن آذاهم - إذا لم يتمكنوا منهم - أياماً سوداً يشمتون بهم فيها، ويُسرون لما وقع عليهم إبانها، وأما إذا قدروا على الانتقام فالتاريخ يحدثنا بوقائع يندى لها جبين البشرية خجلاً وأسفاً، في القديم والحديث قد وقعت على أيدي هؤلاء الناقمين المنتقمين، تفيض حقداً وغلاً وظلماً وعدواناً وشططاً إلى آخر ما يذكر المعجم من ألفاظ في هذا الصدد، وتاريخ الروم والفرس ويهود طافح بمثل ذلك في القديم، وتاريخ أوربا الحديث أشد ابتلاء بتلك الأحداث الدامية فيما بين الأوربيين أنفسهم، أو فيما بينهم وبين الشعوب التي استعمروها مما يثير الإشمئزاز والتقزز من مدعي الرقي
(1) انظر الطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير"(225 - 226/ 9).
والتمدن.
كل ذلك بغير الإسلام الذي منع فيما منع الشماتة بالأعداء، حتى الشماتة منعها فما بالك بما هو أشد؟
إن هذه التعاليم ما كان ليتبعها أحد إلا أن يكون مستسلماً للقوة التي لا تقهر متبعاً لأوامر الإله الحق سبحانه وتعالى، مصدقاً بما جاءه به النبي من ربه، قد امتلأ قلبه واستولى عليه ذلك الإيمان بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم ومحبته بحيث يوطن نفسه مهما كانت الملمات والخطوب على اتباع أوامره والانتهاء عن نواهيه، إن تلك منزلة لم يبلغها أحد من البشر إلا ذلك الرسول المؤيد بالوحي الإلهي من السماء.
إن في ذلك رداً بليغاً على أولئك المستشرقين في ادعاءاتهم الباطلة حول الإسلام ورسوله (1).
ونعود إلى تحليل الآية ..
فقوله {خُذِ} مستعمل هنا مجازاً، حيث استعير بالتلبس بالوصف والفعل من بين أفعال لو شاء لتلبس بها، فكأنه يمكن أن يتلبس بالعفو أو بضده، أو بالعدل أو غير ذلك فأمره القرآن الكريم أن يأخذ العفو من بين ذلك وأن يكون ذلك اختياره، فيكون معنى {خُذِ الْعَفْوَ}: عَامِل به واجعله وصفاً ولا تتلبس بغيره (2).
والعفو: هو الصفح عن ذنب المذنب، وعدم مؤاخذته به، كقوله تعالى: {فَاعْفُوا
(1) له بقية كلام.
(2)
انظر الطاهر بن عاشور "التحرير والتنوير"(226/ 9)، وقد ذكر أن استعارة الأخذ للعفو من مبتكرات القرآن، ولذا كان البيت خذي عفوي لأبي الأسود الدؤلي، ونسبته للشعراء الجاهليين غير صحيحة.
وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة: 109].
والمراد بالعفو عنه ما يعم ويشمل العفو عن المشركين، وعدم مؤاخذتهم بجفائهم وإساءتهم للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين.
وقد عمَّت الآية صورة العفو كلها لأن التعريف في العفو تعريف للجنس فهو مفيد للاستغراق، فهو يستغرق العفو، كل العفو ومعناه أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يعفو عموماً ويصفح، ولا يؤاخذ بالجفاء وسوء الخلق، ولا يعاقب ويقابل بمثل الصنيع الواقع عليه أو على المؤمنين.
وأسبق من يتبادر إلى الذهن العفو عنه في هذه الآية هم المشركون (1).
وقوله {بِالْعُرْفِ} فالعرف اسم مرادف للمعروف من الأعمال، وهو الفعل الذي تعرفه النفوس، ولا تنكره إذا خليت وشأنها بدون غرض في ضده، وقد دل على
مرادفته للمعروف قول النابغة (2):
فلا النُّكْر معروفٌ ولا العُرفُ ضائِعُ
والمعروف مجاز في المقبول المرضي به، لأن الشيء إذا كان معروفاً كان مألوفاً مرضياً به، وأريد به هنا ما يقبل عند أهل العقول، وفي الشرائع، وهو الحق والصلاح.
وذلك ما يدلنا على أمر هذه الشريعة الرشيدة، إذا يتأكد في كل فترة من فترات دعوتها عنوانها الأصلي من كونها دعوة الحق والخير والصلاح والعفو لإبقاء المؤمنين بها على طريق
(1) وقد أورد المفسرون هنا قصة عيينة بن حصن مع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه
…
.
(2)
انظر الطاهر بن عاشور «التحرير والتنوير» (226/ 9).
جادتها، لا تثنيهم المحن ولا يحولهم عنها ما يلاقون من أذى ليخرجهم عن رسالتهم الحقة. فكانت شريعة الأخلاق العالية في كل مراحلها حتى تنتهي الدنيا.
ويدخل في الأمر بالعرف الإتسام به، والتخلق بخلقه؛ لأن شأن الآمر بشيء أن يكون متصفاً بمثله، وإلا فقد تعرض للاستخفاف، وعلى أن الآمر يبدأ بنفسه فيأمرها كما قال أبو الأسود (1):
يا أيها الرَّجُلُ المعلمُ غَيرَه
…
هَلَاّ لنفسِكَ كان ذا التعليمُ
وجاء العرف معرفاً ليفيد الاستغراق أيضاً، ليكون شاملاً لكل معروف، فما من معروف من خير وصلاح إلا ودعت إليه هذه الشريعة، ونادى به رسول الله صلى الله عليه وسلم وندب الناس كافة إليه، لأن حذف مفعول الأمر يفيد عموم المأمورين، وهكذا تكون دعوته الخالدة موجهة للعالمين، فأفادت هذه الكلمة شمولها كل عرف، شمولها لكل أحد، وبالتالي خلودها وبقاءها وصلاحيتها لكل زمان.
وإن شمولها لكل أحد يدخل فيه المشركون دخولاً أولياً، لأنهم سبب الأمر بهذا العموم، وإن إعراضهم لا يصدنك عن إعادة إرشادهم (2)، والدأب في سبيل هديتهم، وتلك ميزة أخرى من مميزات دعوة الحق، ورسالة السماء.
"والإعراض" مشتق من العارض، وهو الخد، ومعناه إدارة الوجه عن النظر للشيء، وهو هنا مستعار لعدم المؤاخذة بما يسوء من أحد، فشبه عدم المؤاخذة على العمل بعدم الالتفات إليه في كونه لا يترتب عليه أثر العلم به، لأن شأن العلم به أن تترتب عليه
(1) انظر الطاهر بن عاشور «التحرير والتنوير» (9/ 227).
(2)
انظر السابق.
المؤاخذة.
"والجهل" هنا ضد الحلم والرشد، وهو أشهر إطلاق الجهل في كلام العرب قبل الإسلام، فالمراد بالجاهلين السفهاء كلهم؛ لأن التعريف فيه الاستغراق، وأعظم الجهل هو الإشراك، إذ هو أشد السفاهة.
وهذه الآية أوقفت المرء كثيراً عن الرد على المستشرقين إذ هم بهذه الحالة من رد الحق من معانديهم وسفهائهم توجب الإعراض عنه، وكذلك من مدعي العلمية والحياد؛ لأن الإنصاف يحمل على اتباع الإسلام، فأين اتباعهم للإسلام الذي لابد أن يقودهم إليه تفكيرهم الحر، ونزاهتهم في البحث!
إن الإعراض عنهم بالترك والإهمال، والتهوين من شأن ما يجهلون به من الأقوال والأفعال، وعدم الدخول معهم في جدال لا ينتهي إلا إلى الشد والجذب، وإضاعة الوقت والجهد لهو الأولى.
على أن جمعاً من المفكرين اليوم يميلون إلى تفنيد هذه الآراء لأولئك المستشرقين إظهاراً لصورة الإسلام الصحيح، ورداً للظلم والافتراء الواقع عليه، وعلى المسلمين، ودعوة لدين الإسلام بتبيين جمال الإسلام وعظمته، وببيان عظمة رسوله وفخامته صلى الله عليه وسلم، وهي وجهة لها ما يؤيدها أيضاً من الشرع، ويساندها من الواقع.
وننوه في آخر الآية بكلام للطاهر بن عاشور حاصله أن الآية حوت مكارم الأخلاق فيقول: وقد جمعت هذه الآية مكارم الأخلاق؛ لأن فضائل الأخلاق لا تعدو أن تكون عفواً عن اعتداء فتدخل في {خُذِ الْعَفْوَ} ، أو فعل خير واتساماً بفضيلة فتدخل في {وَأْمُرْ
بِالْعُرْفِ}، وهذا معنى قول جعفر بن محمد:"في هذه الآية أمر الله نبيه بمكارم الأخلاق، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها"(1).
ومع الكلام عن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم، وأخلاقيات الإسلام يثور السؤال، وماذا عن الجهاد في الإسلام؟ مع تشعبات كثيرة تنبثق منه، أو تحيط به، خاصة من المستشرقين (2) المجاهرين بالعداوة، والسوء من القول. وشهرة ما قالوا، وما يقولون غنيٌ عن تسويد الصفحات به.
ونواصل السير مع الترتيب الزمني لنزول القرآن الكريم، لنستكشف به مواضع ثناء الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم، وليوضح تكامل هذا الثناء من عدمه، بما يدل على صدق الرسول وصحة الرسالة - أي فيما ادعاه من الوحي، ومدى تطابق هذا المدح مع الواقع الذي كان فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن ذلك لم يتخلف عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى أن لقي الله تعالى، بل على العكس، كان في ازدياد مما جبله الله عليه من كل خلق كريم إلى آخر أنفاسه الطاهرة في هذه الحياة، ثم نقارن كما هي العادة النصوص، ونبين ترابطها؛ ليظهر التناسق والاكتمال فيها. هذا الواقع الذي لم يدفعه أحد بدليل يُنظر فيه فضلاً عن أن يناقش، مما يعري - وهي عارية أصلاً - تلك الافتراءات عليه صلى الله عليه وسلم. (3)
(1) انظر السابق.
(2)
ذكرت من قبل أن ليس فيهم منصف، بل هم رأس حربة الحروب الصلبية، والغزو العسكرى والفكرى لبلاد الإسلام، فكل كلامهم، أو كلام كلهم محل ريبة وتحفظ وشك وسوء الظن.
(3)
أي في كلام المستشرقين وأذنابهم.