الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثامن
معنى الاضطهاد
نزل قوله تعالى: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94)} [الحجر: 94]، ومازالت أصداء جهره صلى الله عليه وسلم بالدعوة تموج بها جنبات مكة المكرمة، وأسرع عليه الصلاة والسلام صادعاً بالحق بعد إنذارهم، داعياً إلى هجر الأوثان، مواجهاً للمشركين بحقائق التوحيد، وبفساد الشرك، داحضاً أباطيل الجاهلية مسفهاً عقول المؤمنين بها، التى توارثوها خلفاً عن سلف، وهم مدركون تمام الإدراك لجدواها في تحقيق مصالحهم الاجتماعية والاقتصادية، الناجمة عن سدنتهم للكعبة بيت إبراهيم عليه السلام، وما يتبع ذلك من حركات البيع والشراء التى من خلالها يجنون أرباحهم ومكانتهم، ما كانوا إذن ليتركوا من الناحية العقيدية تلك الموروثات، التى هي السبب المباشر في ثرائهم وسيادتهم، ولو أدى ذلك إلى اتخاذ كل الاجراءات القاسية لوقف هذه الدعوة ووأدها.
بدأ أصحاب النفوذ والسطوة والمصالح إذن مجابهة الدعوة، والوقوف في وجهها بشتى الأساليب، سواء كان في مواجهة النبي صلى الله عليه وسلم الذى يمثل الخطر الداهم عليهم، أو في مواجهة من آمن ودخل في الإسلام. (1)
(1) د. أكرم العمرى المصدر السابق، د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية (162 - 163).
أذى الرسول صلى الله عليه وسلم
ونبدأ بما لقى الرسول صلى الله عليه وسلم من الأذى ونتبعه بما لاقى الصحابة رضي الله عنهم، كل ذلك مما جاءت به السيرة، ثم نرتب أنواع المحاربة، والمواجهات التى قام بها المشركون لإيقاف الدعوة ومجابهتها، ثم نلخص ما ورد في القرآن الكريم من هذه السيرة، وبعدها نقف مع "وات" لنذكر كلامه في هذا البحث «الاضطهاد» ، لنرى أنه لا يستحق الرد.
أتخذ الأذى صوراً شتى من السب العلنى بكل أساليبه وألفاظه، ومن الضرر المادى.
وهذا الروايات تعتضد لتثبت الوقوع التاريخى للحدث، ويجيء الاثبات القرآنى الجليل ليؤكد صحة ذلك بما لا يدع مجالاً للشك، دون التعرض لكل الجزيئات إذ ذلك ليس من مقصود القرآن الكريم ككتاب هداية ونور.
من هذه الروايات ما جاء عن أم جميل بنت حرب، امرأة أبى لهب أنها أقبلت عندما نزل قوله تعالى:{تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1)} [المسد: 1]، وهي تنشد: مُذَممٌّ أبينا، ودينه قلينا، وأمره عصيناً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد ومعه أبو بكر رضي الله عنه فسألت أبا بكر إن كان النبي قد هجاها، فنفى ذلك (1). وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفرح لأن المشركين يسبون مذمماً يقول:«ألا تعجبون كيف يصرف الله عنى شتم قريش ولعنهم، يشتمون مذمماً وأنا محمد» . (2)
ويحكى عبد الله بم مسعود رضي الله عنه وهو أحد شهود هذه القصة فيقول: «بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلى عند الكعبة، وجمع من قريش في مجالسهم إذ قال قائل منهم: ألا تنظرون إلى هذا المرائى! أيكم يقوم إلى جزور آل فلان، فيعمد إلى فرسها ودمها وسلاها، فيجيء به ثم
(1) الحميدى، المسند (1/ 153 - 154)، وأبو يعلى، المسند (1/ 153)، والحاكم، المستدرك (2/ 361)، والحديث حسن لغيره، وانظر د. أكرم العمرى، السيرة النبوية هامش (1/ 147 - 148).
(2)
البخاري، الصحيح، فتح الباري (6/).
يمهله حتى إذا سجد وضعه بين كتفيه؟ فانبعث أشقاهم، فلما سجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وضعه بين كتفيه. وثبت النبي صلى الله عليه وسلم ساجداً، فضحكوا حتى مال بعضهم إلى بعض من الضحك. فانطلق منطلق إلى فاطمة رضى الله عنها - وهي جويرية - فأقبلت تسعى، وثبت النبي صلى الله عليه وسلم حتى ألقته عنه، وأقبلت عليهم تسبهم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة قال: اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش، اللهم عليك بقريش».
ثم تسمَّى: اللهم عليك بعمرو بن هشام وعتبة بن ربيعة وشيبة بي ربيعة والوليد بن عتبة وأمية بن خلف وعقبة بن أبى معيط وعمارة بن الوليد، قال عبد الله بن مسعود: فوالله لقد رأيتهم صرعى يوم بدر، ثم سحبوا إلى القليب - قليب بدر - ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«وأتبع أصحاب القليب لعنة» . (1)
وقد بينت الروايات الصحيحة الأخرى أن الذى رمى الفرث عليه هو عقبة بن أبى معيط، بتحريض من أبى جهل، وأن المشركين تأثروا لدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم وشق عليهم الأمر لأنهم يرون أن الدعوة بمكة مستجابة. (2)
وقد ثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا على قريش لما كذبوه واستعصوا عليه فقال: «اللهم أعنى عليهم بسبع كسبع يوسف، فأخذتهم سنة فخصت كل شيء حتى أكلوا الميتة والجلود، وجعل الرجل يرى بينه وبين السماء دخاناً من الجوع» .
فأتى أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنك تأمر بطاعة الله، وبصلة الرحم، وإن قومك قد هلكوا فادع الله لهم، وقد أثبت القرآن الكريم هذا الحادث فقال تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12)
(1) رواه البخاري، الصحيح (2934)، ومسلم، الصحيح (1794)، وابن اسحاق، السيرة (211).
(2)
ابن حجر، فتح الباري (1/ 349).
أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15)} [الدخان: 10 - 15].
فلما دعا ربه لهم آملاً في توبتهم عادوا إلى كفرهم ونسوا ما أخذوا على أنفسهم من الإيمان مما حكاه القرآن الكريم عنهم قالوا: {رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12)} . (1)
ونلاحظ أن دعاءه عليهم صلى الله عليه وسلم لم يكن بسبب أذاهم له، وإنما بسبب الإمعان في التكذيب والوقوف في وجه إيمان غيرهم فطالما احتمل أذاهم، ولم يَدعُ عليهم، بل دعا لهم بالهداية بما يدل على أعلى مثل في الصبر، والاحتمال وإن أوذى في ماله ونفسه وأهله. (2)
وهو الذى تدل عليه سيرته من أنه لما قال له جبريل هذا ملك الجبال لو أردت أن يطبق عليهم الاخشبين لفعل، فأبى لعل الله أن يخرج من أصلابهم من يقول لا إله إلا الله ولئن كان ذلك في مكة فلقد كان في المدينة مثالاً أعلى لذلك أيضاً ففى غزوة أحد وقد شج وجهه الكريم وكسرت رباعيته، وهو يقول والدم يسيل على وجهه اللهم اهد قومى فإنهم لا يعلمون، وما كان ليفسر دعاؤه في الحالة السابقة، إلا بقوله هو صلى الله عليه وسلم اللهم أعنى عليهم يعنى أن دعاءه عليهم كان من باب التدليل على قوة الله ونصره، وأنه نبيه وأنه صاحب رسالة منه فكان تصديق الله له بإنزال شيء من العقوبة بهم سبيلاً لتخويفهم حتى يؤمنوا وفعلاً قالوا:{رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12)} ، فكان ذلك كالعون من الله له على دخولهم في الإسلام برؤيتهم مصداق دعائه.
ونستكمل تلك الصورة الأليمة فيما لاقاه النبي صلى الله عليه وسلم يقول ابن حجر فيما صح عن أنس رضي الله عنه قال: «لقد ضربوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة حتى غشى عليه، فقام أبو بكر فجعل ينادى: ويلكم
(1) البخاري، الصحيح ()، ومسلم ().
(2)
ابن حجر، فتح الباري (2/ 511).
أتقتلون رجلاً أن يقول ربىَ الله؟ فتركوه وأقبلوا على أبى بكر» (1).
إن حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على الصلاة في المسجد الحرام أدى إلى الاحتكاك بالمشركين مراراً، وحرصه على إظهار شعائر الإسلام، واحترام الكعبة، ولقاء الناس لأغراض الدعوة، ومن هنا حاول المشركون صده عن تحقيق ذلك بكل أنواع الأذى، ولم ينقطع التهديد باستمرار الأذى ولو وصل إلى القتل، وذلك على لسان زعماء قريش منذ أن بدأت الدعوة العلنية، وكان يشتد ذلك ويتصاعد مع الأيام، ونذكر شيئاً مما وقع له في تلك الأيام إلى أن اضطر إلى الهجرة فمن ذلك:
ما حدث من أبى جهل عندما قال: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟
فقيل: نعم.
فقال: واللات والعزى؛ لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته، أو لا عفرن وجهه في التراب، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو يصلى، زعم ليطأ على رقبته، فما فجئهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقى بيديه. فقيل له: ما لك؟
فقال: إن بينى وبينه لخندقاً من نار وهولاً وأجنحة.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو دنا منى لاختطفته الملائكة عضواً عضواً.
ولقد خلد القرآن الكريم هذا الحدث، فقال تعالى:{كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10)} [العلق: 6 - 10].
وقد ذكروا في أسباب النزول أن هذه هي المرة التى جاءه أبو جهل فقال: ألم أنهك عن
(1) الفتح (3856)، حيث رواه البزار وأبو يعلى.
هذا؟ ألم أنهك عن هذا؟ فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن نَهَرَ أبا جهل وأغلظ له القول، فقال أبو جهل: إنك لتعلم ما بها نادٍ أكثر منى، فأنزل الله تعالى:{فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18)} [العلق: 17 - 18]. (1)
وقد سأل عروة بن الزبير وعبَد الله بن عمرو بن العاص: أخبرنى بأشد ما صنع المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم: قال: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلى بفناء الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبى معيط، فأخذ بمنكب الرسول صلى الله عليه وسلم، ولوى ثوبه في عنقه، فخنقه خنقاً شديداً، فأقبل أبو بكر فأخذ بمكبه، ودفع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال:{أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} [غافر: 28].
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر شيئاً مما لاقاه من أذى قريش فيقول: «لقد أُخفتُ في الله عز وجل وما يخاف أحد، ولقد أوذيت في الله وما يؤذى أحد، ولقد أتت علىَّ ثلاثون ما بين يوم وليلة ومالى ولا لبلال طعام يأكله ذو كبد إلا شيء يواريه إبط بلال» (2)
وقد ختم المشركون أذاهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالشروع والاتفاق والإعداد والقيام بالمحاولة بالمحاولة الآثمة لقتله في أواخر المرحلة المكية مما عجل وكان سبباً مباشراً في هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة.
وإن محاولة قتله عليه الصلاة والسلام لم تقف عند ذلك الاتفاق قبل الهجرة مباشرة، بل وقع من الملأ من قريش قبل ذلك، إذ يحكى ابن عباس رضى الله عنهما تعاهداً على ذلك
(1) مسلم (2154)، وأحمد، المسند (2/ 370)، والطبرى، التفسير (30/ 256)، وانظر كذلك سنن الترمذى (5/ 443 / 444)، والالبانى، السلسلة الصحيحة (375)، وقال صحيح على شرط مسلم.
(2)
أحمد، المسند (3/ 286)، سنن الترمذى وقال: حسن صحيح، وصححه الألبانى في الجامع (5001)، ومشكاه المصابيح (3/ 1446).
ولزاماً لابد من الإشارة إلى بقية المواجهات، وأساليب الأذى التى أنزلها المشركون بالنبي صلى الله عليه وسلم وجابهوه بها، خاصة وقد ذكرها القرآن الكريم بشيء من التفصيل، كل ذلك قبل أن نبين الاضطهاد الذى حل كذلك بالمؤمنين.
وإننا نخوض بعض الشيء في تفاصيل ذلك، حتى يكون الدليل الساطع في الرد على "وات"، في منهجه وآرائه في قضية الاضطهاد.
ومن أبرز تلك الأساليب:
1 -
كان لجؤوهم إلى إبى طالب ليكف النبي صلى الله عليه وسلم عن دعوته، أو رفع يده عن حمايته ونصره حيث ذهبت مجموعة من أشرافهم إلى عمه بتلك المطالب، أو أن ينازلوه وإياه حتى يهلك أحد الفريقين، فكفى ما أتى به من سب آلهتهم، وعيب دينهم وتسفيه أحلامهم، وتضليل آبائهم وإن أبا طالب أرسل عقيلاً – ابن أبى طالب – إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما حضر قال له عمه: إن بنى عمك هؤلاء قد زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم، فانته
(1) أحمد، المسند (1/ 303 - 368)، بإسنادين صحيحين كما قال أحمد شاكر في حاشية المسند.
عن أذاهم، فحلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ببصره إلى السماء، فقال: أترون هذه الشمس؟ قالوا: نعم، قال: فما أنا بأقدر على أن أدع ذلك منكم على أن تستشعلوا منها شعلة، فقال أبو طالب: والله ما كذبنا ابن أخى فارجعوا.
وإن المتأمل في هذا الموقف ليعلم أمرين:
الأول: عدم تردد أو نكوص أصحاب الدعوة عما أمروا به، وأنهم يجب أن يمضوا في القيام بواجب البلاغ مهما تحملوا في سبيله، مستمسكين بذلك، بل إن تركهم ذلك لمن المستحيلات التى لا يمكن أن تكون إلا أن يشاء الله أمراً كان مفعولاً.
الثاني: أن تراتيب حماية ونصرة الدعوة لبيد الله جل وعلا، وتقع من حيث لا يحتسب الدعاة والمصلحون، فهذا الموقف من أبى طالب وهو كافر قد استخدمه الله فيه للذود عن النبي صلى الله عليه وسلم وإنها من حكم الله البديعة إذ لو كان مسلماً لنازله الكفار ولآذوه مع النبي صلى الله عليه وسلم، وما كان ليكون له من جاه وهيبة واحترام، وإنما كانوا سيتجرأون عليه، ويبسطوا إليه أيديهم والسنتهم بأسوأ السوء.
2 -
الاتهامات الباطلة لصد الناس عنه:
ومن هذه الاتهامات:
- الجنون، وفي ذلك نزل قول الله تعالى:{وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6)} [الحجر: 6]، وقوله تعالى:{وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51)} [القلم: 51]، وقد رد عليهم بقوله سبحانه:{مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3)} [القلم: 2 - 3]، حيث بيناه من قبل.
- السحر والكذب، وقد ذكر ذلك القرآن الكريم في ضمن ما كادوا به النبي صلى الله عليه وسلم فقال
تعالى: {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4)} [ص: 4]، {وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8)} [الفرقان: 8]، وقد قال الوليد بن المغيرة، عندما جاء موسم الحج للملأ من قريش الذين سيقومون بصد الناس عن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم:«يا معشر قريش، إنه قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأياً واحداً ولا تختلفوا فيكدب بعضكم بعضاً .....» ، ومع أنه هو نفسه قد أكد لهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم ليس ساحراً ولا مجنوناً ولا كاهناً ولا شاعراً، إلا إنه ارتضى لنفسه ولهم أن يقولوا إنه ساحر ألا ترون كيف يفرق بين المرء وزوجه والولد ووالده وتفرقوا على هذا القول، وأخذوا يتلقون الناس يحذرونهم من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك شاءت إرادة الله أن ينشر ذكره في بلاد العرب بسبب من ذلك. (1)
وأما اتهامه بالكذب فقد قال الله تعالى عنه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ} [الفرقان: 4].
- واتهموه بالإتيان بالأساطير قال تعالى: {وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5)} [الفرقان: 5].
- واتهموه بأن القرآن من عند البشر، وأن الله لم ينزل عليه شيئاً، فقال تعالى:{وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)} [النحل: 103]، وقال أيضاً:{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 91].
3 -
السخرية والاستهزاء والضحك والهمز واللمز والتعالى على المؤمنين، لم يقف
(1) ابن هشام، السيرة النبوية (1/ 172 - 173).
المشركون عند حد في سوء تعاملهم مع النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، فأخذوا في أسلوب آخر يواجهون به المؤمنين، ويثبطونهم به عن الدعوة إلى الله تعالى، وشغلهم بشحن نفوسهم بالضيق والحزن عن مواصلة البلاغ المبين، وفي ذلك يقول المولى سبحانه وتعالى:{وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَن اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)} [الأنعام: 53]، وقال ذاكراً لمزهم موبخاً لهم عليه:{إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30)} [المطففين: 29 - 30].
وثبت من طرق صحيحة أن أشراف قريش اجتمعوا يوماً في الحجر يتذاكرون أمر الرسول صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وبينما هم في ذلك إذ طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليطوف بالبيت. فلما رأوه غمزوه ببعض القول ثلاث مرات، فقال لهم:«يا معشر قريش، أما والذى نفسى بيده لقد جئتكم بالذبح .....» (1)، وقد فزعوا من هذا الموقف.
وكان من سخريتهم كذلك واستهزائهم ما قص القرآن الكريم في قوله: {وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41)} [الفرقان: 41].
وقد مَرَّ صلى الله عليه وسلم يوماً بجماعة من زعماء قريش فهمزوه، واستهزأوا به، فغاظه ذلك، فأنزل الله عز وجل:{وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10)} [الأنعام: 10]. (2)
وروى البخاري أن امرأة قالت للرسول صلى الله عليه وسلم ساخرة مستهزأة: إنى لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك، لم أره قربك منذ ليلتين أو ثلاثاً. فأنزل الله تعالى: {وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا
(1) أحمد، المسند، الفتح الباري (20/ 219 - 220)، وصحح شاكر إسناده، وابن أبى شيبة، المصنف (14/ 297)، وابن اسحاق باسناد حسن، ابن هشام (1/ 185 - 186)، وذكره الألبانى في صحيح السيرة (148 - 149).
(2)
ذكره ابن اسحاق، ابن هشام (2/ 42)، وذكره السيوطى في الدر المنثور (3/ 5).
سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3)} [الضحى: 1 - 3]. (1)
وقد نزل قوله تعالى: {إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95)} [الحجر: 95]، لتدل على وجود هؤلاء المستهزئين، وشدة استهزائهم وأذاهم، بدليل ما فعل الله تعالى بهم، وكان فعله - سبحانه - بهم تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم وتقوية لعزمه.
وكان من هؤلاء المستهزئين رؤوس الكفر وأئمة الضلال، فأرسل الله سبحانه عليهم جبريلَ عليه السلام، بأنواع العقوبات، حيث أبادهم وقطع دابرهم، بأن عاقبهم عقوبات شديدة في أبدانهم، ليكونوا عبرة لغيرهم، ويكفى نزول القرآن الكريم بذلك المعنى، وهؤلاء المجرمون هم: الأسود بن عبد المطلب بن أسد، والأسود بن عبد يغوث الزهرى، والوليد بن المغيرة المخزومى، والعاص بن وائل السهمى، والحارث ابن عيطل السهمى (2).
وكان من كبار المستهزئين أبو جهل، وروى عنه البخاري أنه قال مستهزئاً:«اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم.» (3)
واستكمالاً للسخرية والاستهزاء المنبنية على التعالى والكبر، قال المشركون
للنبى صلى الله عليه وسلم: لا نرضى بمجالسة أمثال هؤلاء، يعنون صهيباً وبلالاً وخباباً فاطردهم عنك، فهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك طمعاً في إسلامهم وإسلام قومهم، فأنزل الله تعالى: {وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ
(1) البخاري (4950)، وانظر ابن حجر، فتح الباري (18/).
(2)
أبو نعيم في الدلائل (1/ 268)، من رواية ابن اسحاق بإسناد حسن مرسلاً. وأما قصة عقوباتهم فقد رواها أبو نعيم، الدلائل (1/ 268 - 269)، وقال المحققان أخرجه ابن اسحاق في السيرة (1/ 410)، ورجاله ثقات ولكنه مرسل، وقال السيوطى، الخصائص (1/ 365)، أخرجه البيهقى وأبو نعيم عن ابن عباس رضى الله عنهما.
(3)
البخاري، الفتح (7/ 185)، (4648).
شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)} [الأنعام: 52]. (1)
سب القرآن ومنزله ومن جاء به والتشويش عليه:
ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما قوله في قوله تعالى: {وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء: 110]، أنها نزلت ورسول الله صلى الله عليه وسلم مختف بمكة، وكان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فإذا سمعه المشركون سبوا القرآن ومن أنزله ومن جاء به، فقال الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:{وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ} ، أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبوا القرآن. (2)
وزيادة على ذلك، نهى الله المسلمين أن يسبوا أصنام المشركين لئلا يكون ذريعة لهم فيسبوا الله تعالى اعتداء وجهلاً فقال:{وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الأنعام: 108].
وكان المشركون مع ذلك يتواصون بافتعال الضجة العالية، والصياح المنكر عند قراءة القرآن الكريم، منعاً لسماع الناس له، أو لوصول الهدى إلى أحدٍ عندما كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقوم بتبليغ دعوة الله تعالى، وفي ذلك نزل قوله سبحانه واصفاً تلك الحالة المنكرة والتواصى بها:
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26)} [فصلت: 26]. (3)
أسلوب المساومات والترغيب والترهيب:
وكان من أساليب قريش في صد الدعوة، ومجابهة النبي صلى الله عليه وسلم، أسلوب المساومة، ولم يكن
(1) مسلم والنسائى، من سعد بن أبو وقاص وانظر تفسير الآية في ابن كثير والقرطبى وغيرهما، وقد جمع الطبرى الآثار الواردة في أسباب النزول وحققها أحمد شاكر، وانظر د. مهدى رزق الله، السيرة (171).
(2)
البخاري (4722)، مسلم (1/ 329)، (145).
(3)
انظر ابن الجوزى، زاد المسير (7/ 252).
ذلك إلا لترك الدعوة كما ظنوا في نهاية المطاف، سواء في أن يسكت النبي صلى الله عليه وسلم عن آلهتهم، وكذلك هم يسكتون عنه، كما في قوله تعالى:{وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9)} [القلم: 9]، أو بأن يعبدوا إلاهه يوماً، ويعبد آلهتهم يوماً، كما في قوله تعالى واصفاً هذا العرض ناهياً عن ذلك:{قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)} [الكافرون: 1 - 6]. (1)
وعندما اشتكى أبوطالب وزاد ثقله، قال كفار قريش لقد أسلم حمزة وعمر، وفشا أمر محمد صلى الله عليه وسلم في القبائل، فانطلقوا بنا إلى أبى طالب، ليأخذ لنا على ابن أخيه، وليعطه منا، فإنا والله لا نأمن أن يبتزونا أمرنا، وعندما جاء وفدهم إلى أبى طالب قال للنبى صلى الله عليه وسلم:«يابن أخى هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليعطوك وليأخذوا منك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم كلمة واحدة يعطونيها يملكون بها العرب وتدين لهم بها العجم. وفي رواية: تدين لهم بها العرب وتؤدى إليهم بها العجم الجزية، ففزعوا لكلمته ولقوله. فقال القوم: كلمة واحدة؟ قال: نعم. فقال أبو جهل: نعم وأبيك عشر كلمات، قال: تقولون لا إله إلا الله وتخلعون ما تعبدون من دون الله. فصفقوا بأيديهم ثم قالوا: يا محمد تريد أن تجعل الآلهه آلهاً واحداً؟ إن أمرك لعجب. ثم قال بعضهم لبعض: ما هذا الرجل بمعطيكم شيئاً مما تريدون، فانطلقوا وامضوا على دينكم حتى يحكم الله بينكم وبينهم، ثم تفرقوا، فأنزل الله فيهم أول سورة «ص» (2). أما أسلوب الترغيب، فقد استخدمته قريش لإثناء النبي صلى الله عليه وسلم عن دعوته، ومن ذلك أنها أرسلت عتبة بن ربيعة للرسول صلى الله عليه وسلم فقال له: يا ابن أخى إنك منا حيث قد علمت من
(1) ابن كثير، التفسير (4/ 560)، وغيره.
(2)
أحمد، المسند (3/ 314 - 315)، صحح شاكر إسناده، والترمذى، السنن (3230)، قال: حسن صحيح، والحاكم، المستدرك (2/ 432)، وصححه ووافقه الذهبى، والطبرى، جامع البيان (23/ 125)، والواحدى، أسباب النزول (209)، والسيوطى، الدر المنثور (5/ 295)، وغيرهم.
المكان في النسب، وقد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم، فاسمع منى أعرض عليك أموراً لعلك تقبل بعضها: إن كنت إنما تريد بهذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً، وإن كنت تريد شرفاً سودناك علينا فلا نقطع أمراً دونك، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا، وإن كان هذا الذى يأتيك رئياً تراه لا تستطيع رده عن نفسك طلبنا لك الطب، وبذلنا فيه أموالنا حتى تبرأ.»
فلما فرغ من قوله تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم صدر سورة «فصلت» إلى قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} [فصلت: 13]، وعندها وضع عتبة يده على فيه، وقام كأن الصواعق ستلاحقه، وعاد إلى قريش مخبراً إياهم، بأن ما سمع ليس شعراً، ولا سحراً، ولا كهانة؛ واقترح على قريش أن تدع محمداً صلى الله عليه وسلم وشأنه) (1) (.
ولما لم يأت الترغيب بما اشتهت قريش، وما كان؛ - فتلك دعوة الله تعالى، لا يسألهم النبي صلى الله عليه وسلم هم ولا غيرهم عليها أجراً؛ وإنما هو يدعوهم إلى هدايتهم ونجاتهم -؛ لجأت قريش حينئذ إلى الترهيب، واستخدمت فيه كل الوسائل الصادة عن سبيل الله، وقد أشرنا إلى أساليب منها.
وقد ذكر ابن اسحاق فيما ذكر ابن هشام، أن أبا جهل إذا سمع عن رجل قد أسلم، وله شرف ومنعة، أنبه وأخزاه وقال له:«تركت دين أبيك وهوخير منك لنسفهن حلمك، ولنضعفن رأيك ولنضعن شرفك.» وإن كان تاجراً قال له: ولنكسدن تجارتك، ولنهلكن مالك. وإن كان ضعيفاً ضربه وأغرى به. (2)
(1) ابن هشام، السيرة النبوية (1/ 187 - 188)، عبد بن حميد، المنتخب من المسند بتحقيق السامرائي والصعيدي (337)، (1123)، بإسناد متصل، وحسن الألبانى الحديث، فقه السيرة للغزالى (108).
(2)
ابن اسحاق، ابن هشام، السيرة النبوية (1/ 320).
طلبهم المعجزات أو المزايا للنبى صلى الله عليه وسلم على خلاف البشر:
ومما ظنوا أنه حجر عثرة أمام دعوة النبي صلى الله عليه وسلم يكذبونه به، ويشوشون به على الناس لئلا يؤمنوا أن يظهروا الرسول صلى الله عليه وسلم بمظهر العاجز عن أن يأتى لهم بما يقدر عليه الرب من خوارق العادات، مما يدل على أنه ليس مبلغاً عن الله تعالى، مع أنه لما جاءهم بشيء من ذلك، أجراه الله تعالى على يديه، قالوا مكذبين:«إن هذا إلا سحر يؤثر» .
ورد عليهم سبحانه وتعالى في الأيه نفسها بأن يقول لهم: {قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا} [الإسراء: 93].
وسألوه أن يسير لهم جبال مكة، ويقطع لهم الأرض ليزرعوها، ويبعث لهم من مضى من الآباء الموتى أمثال قصى ليسألوه عن صدق محمد، ورد الله عليهمفى قوله:{وَلَوْ أَنَّ قُرْآَنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا} [الرعد: 31]. (1)
لقد كانت مطلوباتهم تلك على وجه المعاندة، لا الاستفسار والهداية إن هي وقعت بحيث يتم إيمانهم ودخولهم في الإسلام بتحققها، ومن ثم لم يجابوا إلى كثير منها، وما أجيبوا إليه ليس لتركهم العناد، بل لإظهار صدق النبي صلى الله عليه وسلم وقوة الله وقدرته جل وعلا من ناحية
(1) انظر الطبرى، جامع البيان (16/ 446 - 450)، أحمد شاكر إلى ابن عباس، وابن هشام، السيرة (1/ 381)، وانظر الشامى، سبل الهدى والرشاد (2/ 456 - 457)، من خبر أبى يعلى، وأبى نعيم عن الزبير بن العوام، وانظر في السبل (2/ 452)، من رواية ابن اسحاق وابن جرير والبيهقى.
ولتحذيرهم من الاستمرار في الغى والاضطهاد من ناحية أخرى، وهو المؤدى إلى إهلاكهم كإهلاك من كانوا أشد منهم قوة وبطشاً. لذلك قال تعالى:{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آَيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)} [الأنعام: 109 - 111].
{وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ} (1)[الإسراء: 59].
وقد روى الإمام أحمد كذلك من حديث ابن عباس رضي الله عنهم قال: سأل أهل مكة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً، وأن ينحى عنهم الجبال فيزدرعوا، فقيل له إن شئت أن تستأنى بهم وإن شئت أن تؤتيهم الذى سألوا فإن كفروا هلكوا كما أهلكت من قبلهم من الأمم. قال:«لا با استأنى بهم» ، فأنزل الله تعالى:{وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآَيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآَتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا} (2)[الإسراء: 59].
الاعتداء والتعذيب والاضطهاد لبقية المسلمين:
إذا كان ما مضى ذكره شيء مما حدث للنبى صلى الله عليه وسلم، فإن بقية المسلمين ذاقوا من ذلك الأمرين، وقد ذكرت السيرة شيئاً مما كان نذكر بعضه لنكمل به هذا البحث، ولننظر إلى كلام "وات"، المتهافت بعد ذلك.
(1) انظر ابن كثير، البداية والنهاية (3/ 55).
(2)
انظر أحمد، المسند وعليه الفتح الربانى للساعاتى (20/ 222 - 223)، من طريقين رواهما ابن كثير في البداية والنهاية (3/ 57)، بإسناد جيد، وهكذا رواه النسائى من حديث جرير، وأورده ابن كثير في تفسير الآية، ورواه الحاكم في المستدرك وقال صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه ووافقه الذهبى وذكر الشامى في سبل الهدى والرشاد (2/ 458)، انه رواه أيضاً الضياء في صحيحه عن ابن عباس.
روى أحمد عن ابن مسعود قال: «أول من أظهر الإسلام سبعة: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمار وأمه سمية وصهيب وبلال والمقداد، فأما رسول الله صلى الله عليه وسلم فمنعه الله بعمه، وأما أبو بكر فمنعه الله بقومه، وأما سائرهم فأخذهم المشركون فالبسوهم أدرع الحديد وصهروهم في الشمس
…
». (1)
وروى ابن اسحاق في قصة هجرة عمر وقصة عياش معه أن قريشاً منعت هشام بن العاص بن وائل السهمى من الهجرة مع عمر وعياش، وفتنته فافتتن، واحتالوا على عياش فردوه من المدينة إلى مكة مقيداً. (2)
وكان عمر بن الخطاب قبل أن يسلم يوثق سعيد بن زيد، ابن عمه، ويكرهه ليرجع عن الإسلام (3)، ولم يستطع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل لهم شيئاً، وحتى عندما استقر بالمدينة لم يملك لهؤلاء إلا الدعاء، حيث كان يقول:«اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسنى يوسف» . (4)
ونال أبا بكر نصيبُه من الأذى حتى خرج مهاجراً فأدركه الاخنس بن شريف ورده في جواره.
وذات يوم قام أبو بكر خطيباً في المسجد الحرام، فضربه المشركون ضرباً شديداً، ومن ضربه عتبة بن ربيعة حيث جعل يضربه على وجهه بنعلين مخصوفتين حتى ما يعرف وحهه من أنفه وجاء بنو تيم يتعادون، فأجلت المشركين عن أبى بكر، وحملوه في ثوب إلى منزله،
(1) انظر وصى الله على فضائل الصحابة للإمام أحمد (1/ 182)، بإسناد حسن.
(2)
ابن هشام، السيرة (1/)، عن ابن اسحاق بإسناد حسن، ورواه البزار ورجاله ثقات، مجمع الزوائد للهيثمى (6/ 62)، البيهقى، الدلائل (2/ 461 - 462)، والسنن الكبرى (9/ 13 - 14)، من طريق ابن اسحاق.
(3)
البخاري، الصحيح (ح 3862).
(4)
أحمد، المسند (ح 7259)، قال شاكر إسناده صحيح، ورواه البخاري ()، ومسلم (ح 675).
ولا يشكون في موته، وأقسموا لئن مات أبو بكر ليقتلن عتبة بن ربيعة. (1)
وكان ابن مسعود من أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة؛ على الرغم من تحذير المسلمين له من عدوان المشركين، وخشيتهم عليه، فعندما فعل ذلك، ضربوه على وجهه حتى أثروا فيه، وعندما قال له الصحابة هذا الذى خشينا عليك، قال: ما كان أعداء الله أهون منهم الآن، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غداً، قالوا: لا حسبك قد أسمعتهم ما يكرهون. (2)
وكان عم عثمان بن عفان يلفه في حصير من أوراق النخيل ثم يدخنه من تحته حتى يرجع عن دينه. (3)
ولما علمت أم مصعب بن عمير بإسلامه أجاعته وأخرجته من بيته، وكان من أنعم الناس عيشاً، فتخشف جلده تخشف الحية، وحتى حمله أصحابه على قسيهم لشدة ما به من جهه. (4)
واعتدوا عَلىَ عمر بن الخطاب عندما أسلم، وحاولوا قتله إذ سال بهم الوادى مجتمعين يقاتلونه ويقاتلهم حتى أعبا وترك نفسه لهم، وانقذه الله بالعاص بن وائل السهمى وسوف يأتى ذكر إسلام عمر بن الخطاب إن شاء الله تعالى في موضعه بعد الهجرة إلى الحبشة إن أدركه البحث. (5)
وممن أوذى عثمان بن مظعون، فقد روى أنه عندما رجع من الهجرة الأولى إلى الحبشة دخل في جوار الوليد بن المغيرة، فلما رأى المشركين يؤذون المسلمين وهو آمن، رد جوار الوليد وعندما قدم «لبيد» بن ربيعة - الشاعر – إلى مكة وكان في مجلس لقريش ينشدهم
(1) انظر ابن كثير، البداية والنهاية حيث ذكر القصة كلها (3/ 33 - 34).
(2)
ابن اسحاق بسند حسن مرسل، ابن هشام (1/ 288)، ورواه كذلك في السير والمغازى (186).
(3)
المنصورفورى، رحمة العالمين (1/ 52)، الرحيق المختوم، للمباركفورى ().
(4)
ابن اسحاق، السيرة (193)، بسند معضل، انظر د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية (183).
(5)
يأتى ذكر إسلام عمر رضي الله عنه، من رواية ابن اسحاق، ابن هشام (1/)، وإسناده حسن.
شعره، قال لبيد:«ألا كل شيء ما خلا الله باطل» ، قال عثمان بن مظعون:«صدقت» ، وعندما قال:«وكل نعيم لا محالة زائل» ، قال له عثمان:«كذبت، نعيم الجنة لا يزول» ، قال لبيد:«يا معشر قريش، والله ما كان يؤذى جليسكم فمتى حدث هذا فيكم؟» ، فقال رجل من القوم:«إن هذا أيضاً في سفهاء معه، قد فارقوا ديننا، فلا تجدن في نفسك من قوله، فرد عليه عثمان حتى تفاقم أمرهما فقام إليه ذلك الرجل، فلطم عينه فخضرها، والوليد بن المغيرة قريب يرى ما بلغ من عثمان، فقال: «أما والله يا ابن أخى إن كانت عينك عما أصابت لغنية، لقد كنت في ذمة منيعة» ، قال عثمان:«بل والله إن عينى الصحيحة لفقيرة إلى مثل ما أصاب أختها في الله، وإنى لفى جوار من هو أعز منك وأقدر يا أبا عبد شمس» ، فقال الوليد:«هلم يا ابن أخى، إن شئت فعد إلى جوارك» ، فقال:«لا» . (1)
وكان عم الزبير بن العوام يعلقه في حصير، ويدخن عليه النار، ويقول:«ارجع إلى الكفر، فيقول الزبير: لا أكفر أبداً.» (2)
ولم يقتصر هذا الاضطهاد، كما يظن الظان أو يتبادر إلى فهمه على أهل مكة فقط، بل هذا أبو ذر الغفارى رضي الله عنه لما سمع خبر الرسول صلى الله عليه وسلم، ودخل مكة وأخذ يسأل حتى عرف موضع الرسول – صلوات الله وسلامه عليه – وأسلم فخرج وأعلن إسلامه فضربه أهل مكة حتى أغشى عليه، وكاد أن يموت، فخلصه العباس رضي الله عنه منهم (3)، محذراً لهم بأن غفار يمكن أن تقطع طريق تجارتهم إلى الشام.
(1) الحديث روى من طرق ضعيفة، تدل على أن للقصة أصلاً، خاصة وقد ذكرها الإخباريون، موافقة منهجهم فقد رواها ابن اسحاق، ابن هشام (2/ 10 - 12)، والبيهقى في الدلائل (2/ 292 - 293)، والطبرانى في الكبير (9/ 21 - 24)، ونقله عنه الهيثمى في مجمع الزوائد (6/ 32 - 34).
(2)
الحاكم في المستدرك (3/ 360)، وسكتا عنه، وأبو نعيم في الحلية (1/ 89)، بإسناد مرسل رجاله ثقات.
(3)
وهذا طرف ذكره البخاري (ح 3522)، ومسلم (ح 2473 - 2474)، في إسلام إبى ذر.
ولا يحسب القارىء أن هذا التعذيب قد اقتصر على ما ذكر، وأن كل أحد أخذ قسطه وانتهى الأمر، ورجع إلى حياته ودعوته، كلا ولكن التعذيب بقى ما بقيت الدعوة في مكة، بل كان يزداد ويتنوع على نفس الأشخاص وعلى غيرهم كلما دعوا أفراداً جدداً إلى الإسلام، وكلما رأى المشركون ازدياد عدد المسلمين، حتى آل الحال بهم إلى ترك مكة والهجرة إلى الحبشة، أو التخفى أو الدخول في جوار الكفرة.
تعذيب الموالى:
لقد نال الموالى القسط الأقسى والأفظع من التعذيب علانية على رؤوس الأشهاد، حيث صب المشركون جام حقدهم كله على هؤلاء الضعفاء لعدم المنعة التى تمنعهم، أو القوة التى يقاومون بها.
وقد وصل الحال بهم في التعذيب أن عذرهم الله تعالى بالنطق بكلمة الكفر يخففون بها عن أنفسهم سوء العذاب النازل عليهم.
وقد ذكرنا حديث ابن مسعود أن أول من أظهر الإسلام سبعة إلى قوله فأما الباقون فالبسوهم أدرع الحديد وصهروهم في الشمس وتكملته، فما منهم من أحد إلا واتاهم على ما أرادوا، إلا بلالاً فإنه هانت عليه نفسه في الله تعالى، وهان على قومه، فأخذوه فأعطوه
(1) ابن اسحاق، ابن هشام، السيرة (1/)، وابن كثير، البداية والنهاية (3/ 65).
الولدان، فجعلوا يطوفون به في شعاب مكة، وهو يقول: أحد أحد. (1)
آل ياسر رضي الله عنهم:
كانت تلك الأسرة مضرب المثل فيما لاقاه المستضعفون من الأذى والابتلاء في تاريخ الإسلام، وكان بنو مخزوم يخرجون بهم إذا حميت الظهيرة فيعذبونهم برمضاء مكة، ومر بهم الرسول صلى الله عليه وسلم ذات مرة وهم يعذبون فقال لهم:«أبشروا آل عمار وآل ياسر، فإن موعدكم الجنة.» (2)
وكان أول من استشهد في سبيل الله من هذه الأسرة خاصة، وفي الإسلام عامة: أم عمار – سمية – فقد طعنها أبو جهل بحربة في قلبها فماتت من جراء هذا الاعتداء الآثم. (3)
وتفننوا في أذى عمار، حتى أجبروه على أن يتلفظ بكلمة الكفر بلسانه، وذكر جمهور المفسرين أن من أسباب نزول الآية الكريمة:{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ......} [النحل: 106]، هو موقف عمار بن ياسر. (4)
بلال رضي الله عنه:
كان مولى لبعض بنى جمح، وهو بلال ابن رباح، وأمه حمامة، ذكر أنه كان حبشياً وهو المشهور. (5)
(1) أحمد، المسند (ح 3832 / شاكر)، وقال شاكر: إسناده صحيح، وذكره الذهبى في السيرة (217 - 218)، وقال: حديث صحيح، وابن ماجه (1/ 30)، الالبانى وحسنه، وابن كثير، البداية والنهاية (3/ 64)، وغيرها من المصادر.
(2)
أخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 388)، وقال صحيح على شرط مسلم ووافقه الذهبى، وابن هشام، السيرة (1/)، وقال الالبانى: حسن صحيح، فقه السيرة للغزالى (107 - 108).
(3)
انظر د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية (186).
(4)
ذكرها ابن الجوزى، زادالمسير (4/ 495)، وصحح الالبانى سبب نزول الآية في عمار بن ياسر، فقه السيرة للغزالى (108).
(5)
وقيل كان نوبياً، وانظر ابن حجر، فتح الباري ()، فضائل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، باب مناقب بلال.
كان رضي الله عنه صادق الإسلام طاهر القلب، وكان مولاه أمية بن خلف يخرجه إذا حميت الظهيرة، فيطرحه على ظهره في بطحاء مكة، ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتوضع على صدره، ثم يقول له:«لا تزال هكذا حتى تموت، أو تكفر بمحمد، وتعبد اللات والعزى» ، فيقول وهو في ذلك البلاء:«أحد أحد» . (1)
وروى أن بلالاً قال: «أعطشونى يوماً وليلة، ثم أخرجونى فعذبونى في الرمضاء في يوم حار (2)، وعندما رأه أبو بكر رضي الله عنه في هذه الحالة ساوم سادته على شرائه، فاشتراه وأعتقه بخمس أواق، وهو مدفون بالحجارة.» (3)
وفي الصحيح أن بلالاً قال لأبى بكر: «إن كنت إنما اشتريتنى لنفسك فأمسكنى، وإن كنت اشتريتنى لعمل الله فدعنى وعمل الله.» (4)
هذا غير بلاء عريض ناله إلى أن أعتقه أبو بكر رضي الله عنه، ومازال الاضطهاد قائماً حتى بعد عتقه إذ كان البلاء نازلاً على غيره وهم أحرار.
خباب بن الأرت:
هو خباب بن الأرت
…
التميمى ويقال الخزاعى، سُبِىَ في الجاهلية، فبيع بمكة، وكان مولى لأم أنمار الخزاعية، وقيل غير ذلك، ثم حالف بنى زهرة، كان يعمل قيناً – حداداً – يصنع السيوف، وكان من السابقين الأولين إلى الإسلام.
(1) د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية (188).
(2)
البلاذرى، أنساب الاشراف (1/ 186).
(3)
ابن حجر، الفتح (4/ 228)، وابن عبد البر، الاستيعاب (2/ 34)، بسند قوى، وذكره البغوى والخازن ()، سورة الليل، والبلاذرى، أنساب الاشراف (1/ 186).
(4)
البخاري، الصحيح (ح 5537).
وعندما أظهر إسلامه وقع عليه شتى أصناف التعذيب والأذى في المال والنفس، في ضمن وكانوا يضجعونه على صخور ملتهبة، ثم يضعون عليه حجراً حتى لا يستطيع أن يقوم (1)، وأوقدوا له ناراً ووضعوه عليها فما أطفأها إلا ودك ظهره، كما ذكر خباب نفسه، وقد كشف عن ظهره لعمر بن الخطاب رضي الله عنه وذكر أيضاً أنهم كانوا يضجعونه على الرضف، ومع ذلك لم ينالوا منه ما أرادوا. (2)
وله قصة تدل على أن استباحوا منهم كل شيء، وهي في المال، مع العاصى بن وائل حيث صنع له خباب سيفاً فأتاه يتقاضاه فقال: لا أعطيك حتى تكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم، فقلت: لا أكفر بمحمد – عليه الصلاة والسلام – حتى يميتك الله ثم يحييك، قال: إذا أماتنى الله ثم بعثنى ولى مال وولد، فسأقضيك، فأنزل الله تعالى:{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآَيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78)} [مريم: 77 - 78]. (3)
ومما يطالعنا في هذا المبحث من الاضطهاد والأذى، هذا السؤال لمَ يلاقى المؤمنون هذا التعذيب وهم جنده سبحانه وعلى الحق المبين وفيهم رسوله صلى الله عليه وسلم؟
والجواب: أن المؤمنين مطالبون بعبودية السراء وعبودية الضراء قياماً بتحقيق أمره:
{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)} [الذاريات: 56]، وخاصة الرسل وأتباعهم القائمين الأوائل بدعوة التوحيد وإفراد الرب بالعبادة، وتحمل تلك المسؤلية والجهاد في سبيلها، ودفع ضريبتها من مشقة وعنت حتى يكونوا القدوة لمن بعدهم، ولا يقوم بذلك إلا الأحقاء بذلك، ومن ثم ينزل البلاء ليميز الصادقين من الكاذبين قال تعالى: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ
(1) ابن الجوزى، تلقيح فهوم الأثر (60).
(2)
أبو نعيم، الحلية (1/ 144)، بإسناد صحيح.
(3)
ابن حجر، فتح الباري (ح 4733)، ومسلم، شرح النووى (ح 2795).
الْكَاذِبِينَ (3)} [العنكبوت: 2 - 3]، وإنه لأمر من مهمات هذه الدين، وهو تنقية الصف المسلم ممن لو لم يعلم بحاله، يوشك أن يكون سبب الهزيمة والخسران والانكسار، فلا ينتصر الدين الذى وعد الله بنصره، ومن ثم يحقق فيه سبحانه أسباب النصر وينفى عنه أسباب الهزيمة، قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةَ} [الحج: 11].
وكان أعظم ما يتمايز به المؤمنون من غيرهم هو الجهاد والصبر، ولذا كانا محك الاختبار ومورد الفتنة قال تعالى:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)} [آل عمران: 142]، ولا يظن المؤمنون بعد ذلك أن ذلك الفعل من الله يمكن أن يذهب بالدين وبالمؤمنين، بل ذلك من أعظم سبب كسر الكفرة ومحقهم يقول تعالى:{وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141)} [آل عمران: 140 - 141].
ولا يعزب وإن حدث ويحدث، عن بال المؤمنين أن طول وشدة البلاء، توقف الدعوة وتؤخر النصر وتشكك في أمر الله، لأن الله يطمئنهم إلى قرب النصر على عكس الظن وتردد الشك في النفس بقوله:{أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)} [البقرة: 214].
فكان المؤمنون بعلمهم بتلك القواعد الراسخة التى تثبتهم وتقوى عزائمهم وتشد من أزرهم مستبشرين بالنصر، لا يتطرق إليهم البأس ولا الحزن ولا الضيق، ولا يستوحشون من طول الطريق وكثرة العقبات، صامدين متوكلين على ربهم واثقين في قرب نصره ونزول فَرَجهِ.
إن مما يلاحظه – كذلك – المتأمل في هذا الاضطهاد، أن شدة التعذيب جعلت بعضاً
من المؤمنين، الذين كادت أن تزهق أرواحهم مما لاقوا يوافقون الكفرة على النطق بكلمة الكفر، إبقاء على مهجهم، وقلوبهم مطمئنة بالإيمان، ولم يؤثر ذلك في إيمانهم أن أخذوا بالرخصة، ولكن آخرين كُثُر ضرب أعلى الأمثال في الثبات على دينهم، والرضا بجوار ربهم إن هم انتقلوا إليه على تلك الحال، رخيصة هينة أرواحهم فو جنب الله تعالى، متوكلين عليه أحسن التوكل، ولم ينسى التاريخ، ولن ينسى تلك المواقف البطولية الحقة لأولئك الأوائل المصطفين من الصامدين، ليصيروا بذلك القدوة لأصحاب المبادىء في كل زمان ومكان.
يقول ابن كثير في تعليقه على موقف عمار بن ياسر من التعذيب: «ولهذا اتفق العلماء على أنه يجوز أن يوالى المكره على الكفر إبقاء لمهجته، ويجوز له أن يستقتل كما كان بلال رضي الله عنه، يأبى عليهم ذلك، وهم يفعلون به الأفاعيل، وكذلك حبيب بن زيد الأنصارى، لما قال له مسيلمة الكذاب: «أتشهد أن محمداً رسول الله؟ فيقول: «نعم» ، فيقول:«أتشهد أنى رسول الله؟» ، فيقول:«لا أسمع» . فلم يزل يقطعه إرباً إرباً وهو ثابت على ذلك
…
والأفضل والأولى أن يثبت المسلم على دينه، ولو أفضى إلى قتله، كما قال الحافظ ابن عساكر، في ترجمة عبد الله بن حذافة السهمى.» (1)
ولا شك أن أعداء الإسلام في كل زمان ومكان عندما يتمكنون منهم يسومونهم سوء العذاب، وخطط الإبادة، وصنوف التعذيب، ولن يكفوا عن استخدام كل الوسائل لإطفاء نور الإسلام، ومحاربة دعاته، ولله الأمر من قبل ومن بعد، والله غالب على أمره.
(1) ابن كثير، التفسير (4/ 525 - 526).