الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث السادس
عالمية الدعوة
وقبل أن ننتقل عما سلف من نقد لـ"وات" في الدعوة، فلا بد من الإشارة إلى موضوع مهم، وهو من مواضيع "وات" والمستشرقين (1) وهو تجريد دعوة الإسلام من عالميتها، مع أنه أمر كفلق الصبح واضح لكل أعمى أن الإسلام منتشر في المشارق والمغارب من الدنيا، وأن من نشروا الإسلام في أقاصي الأرض من أوربا وآسيا وغيرهما كان كثير منهم غير عرب وهذا الواقع لا يحتاج لأدنى بيان، حتى يشكك في أصله، وأن هؤلاء جميعًا دخلوا في دين لم يأمرهم بذلك، ولم يدعهم إليه.
ونبدأ هنا بذكر الدوافع والبواعث التي جعلت "وات" وغيره يستبعد فكرة عالمية الرسالة الإسلامية.
ويمكن للباحث - وهو في غاية الإنصاف - أن يقول إن الاستشراق بحكم انتمائه للكنيسة وعمله تحت رايتها، أو المؤسسات السياسية المرتهنة للكنيسة في الغالب ليس في استطاعته أن يتقبل فكرة العالمية الإسلامية أو حتى مجرد إثباتها بحثيًا فضلاً عن الترويج لها في كتاباته، إذ معنى ذلك أن تحارب الكنيسة نفسها، وتفقد أحد مبررات وجودها، أو المبرر الأقوى (الأوحد) إن صحت الدعوة الإسلامية عند أحد منهم، وفي ذلك نهاية الوجود
(1) كبروكلمان، وفلهاوزن، الأول في تاريخ الشعوب الإسلامية، والثاني في تاريخ الدولة العربية، ترجمة عبد الهادي أبي ريدة (4 - 5)، وانظر عبد الله النعيم، "الاستشراق في السيرة النبوية"(77 - 82).
المسيحي، فلا يستطيع المستشرق ذو العقلية والثقافة المسيحية أن يتحدث إذن عن عالمية الإسلام، خاصة وأن هذه الدراسات الاستشراقية هي التي تشكل العقلية الغربية، وتحدد موقفها من الإسلام، يكفي إبراز بعض حقائق الإسلام بعد تشويهها حتى تظل الكنيسة محتفظة برعاياها. (1)
ونعود فنناقش عالمية الدعوة مع "وات" وأشباهه لأن الحديث عن إقليمية الدعوة تعني إسقاط الطابع الوضعي العلماني عليها، ولذا رأيناه يقرر أن القول بأن الرسول صلى الله عليه وسلم دعا الإمبراطور البيزنطي والفارسي وغيرهما للدخول في الإسلام قول خاطئ، لأنه من غير المعقول أن يوجه سياسي حكيم كمحمد مثل هذا النداء، وأن تقارير السفراء الذين أرسلهم مملوءة بالتناقضات. (2)
ويواصل "وات" كلامه معترضًا على كتب الرسول صلى الله عليه وسلم للملوك يدعوهم إلى الإسلام، زاعمًا بواعث أخرى لهذه الرسائل إذا قبل بوجودها فيقول: "وهذا شيء غير معقول إذا كانت الرسائل دعوة للدخول في الإسلام، والاعتراف بمحمد كزعيم ديني، لأنه لا يمكن تصور نجاشي الحبشة وإمبراطور الروم يستجيبان لمثل هذه الدعوة لكن إذا قبلنا بأن الأشخاص المذكورين حملوا فعلاً رسائل من محمد إلى أصحابها، وأنهم استقبلوا استقبالاً حسنًا فليس من المستحيل أن يكون محتوى الرسائل قد تبدل نوعًا ما خلال النقل
…
تسمح لنا هذه الفرضية أن ندعي أنه إذا كان محمد قد ألمح إلى معتقداته الدينية، فإن المشكلة الحقيقية كانت سياسية، ربما اقترح عقد محالفة حياد ربما أراد مجرد منع المكيين من الحصول على المساعدة الخارجية، لأنه يستبعد من محمد دعوة هؤلاء الحكام الأقوياء للدخول في الإسلام. (3)
(1) بتصرف من عبد الله النعيم، "الاستشراق في السيرة النبوية"(82)، مع نقله عن العقيقي، "المستشرقون"(113 - 120/ 1).
(2)
"وات"، "محمد في المدينة"().
(3)
Ibidpp4 - 42 عبد الله النعيم، "الاستشراق في السيرة النبوية"(78).
نحن مضطرون لاستكمال عرض بقية كلامه الذي يبين بوضوح موقفه لأنه وجه كل ما يمت لعالمية الدعوة من قريب أو بعيد بصلة، نافيًا ومؤولاً، ومخترعًا لفرضيات يفسر بها هذا الأمر، فيدعي فيما سنذكر أن دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم كانت خاصة بقريش، ثم يلمز ما جاء في القرآن مفيدًا غير ذلك فيقول:"اعتبر محمد نفسه أول الأمر مرسلاً إلى قومه القرشيين، ثم أخذ شيئًا فشيئًا وبدرجات لا تبدو بوضوح في القرآن يتراءى له هدف أوسع لرسالته، دعا قبل الهجرة بعض أفراد القبائل البدوية إلى الإيمان بالله عدا مفاوضة سكان المدينة، ثم احتلت فكرة الأمة القائمة على أساس ديني مكان الصدارة بحلول الهجرة."(1) ويذكر توسع النبي صلى الله عليه وسلم في الدعوة، ولكن يلبسها ثوبًا آخر فيقول:"نحن نعتقد بأن محمدًا بعد عودته من الطائف أخذ يدعو أفراد القبائل البدوية للدخول في الإسلام، وإن وراء هذا النشاط فكرة غامضة في توحيد العرب جميعًا."(2)
كلام "وات" السابق، وكلام غيره من المستشرقين في ذات المسألة مليء بالتناقض الصارخ والحشد الهائل من تعمد الخطأ، وكما ذكرنا نعزوه لانتمائه الكنسي، ولتطعيم رعايا الكنيسة بالواقي من التفكير في الإسلام أو النظرة الموضوعية له، بل لتكوين آراء رفضه ومقت نبيه صلى الله عليه وسلم ومحاربته.
ونبدأ في النظر في كلام "وات" من حيث انتهى، لأنه يوافق الترتيب التاريخي للسيرة، ونشير إلى هذه المغالطة أولاً: وهي قوله: "غير أن قول بعض المصادر، وهي ليست أقدم المصادر أنه نظر للإسلام على أنه دين شامل وعام"(3)
وهذه المغالطة المكشوفة نذكر شيئًا منها في هذا السطر من كلامه لنرى العجب:
(1)"وات"، "محمد في مكة"(138)، "وات"، "محمد في المدينة"(143).
(2)
"وات"، "محمد في مكة"(141).
(3)
"وات"، "محمد في المدينة"().
أولها: فقوله بعض المصادر، ولم يذكر شيئًا منها طبعًا، هذه واحدة أنه على العكس ليس بعض المصادر ذكرت ذلك، بل كل المصادر، إذ لا يمكن لمصدر يدعي الإسلام أن يقول إنه دين غير شامل - ناقص هو - أو غير كامل لكل أحد، وندلل على ذلك بالسؤال، لو قيل لأي أحد من هؤلاء الصحابة المقدمين فضلاً عن أبي بكر رضي الله عنه مثلاً هل الإسلام الذي تدعون إليه دين شامل وعام؟ لا يظن من ساعتها أن يقول لا، بل نعم بغير تردد ولا روية ولا تفكير ولا نظر، وهذا يجرنا إلى:
ثانيها: وهي المغالطة المفضوحة في قوله بأنها ليست أقدم المصادر، فبعد عدم ذكره إياها نعتها بأنها ليست أقدم المصادر وهذا من التشويش والشغب بالباطل على الحق الواضح بادعاءات لا أصل لها، لو سألنا "وات" نفسه دلنا على مصدر من ذلك لما استطاع، فهل ترى مصدر أقدم من أبي بكر والصحابة ومن نقلوا عنهم، ودونوا السنة من ورائهم، كلهم نقلوا أن الإسلام دين عام وشامل.
ثالثها: أن مصدر ذلك كله هو الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يأمره به ربه، وبما أرسله به إلى الناس ليبلغهم إياه، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم:"بعثت إلى الناس كافة"(1) ومصدقًا قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: 28] وسنفصل ذلك بعد قليل إن شاء الله.
نعود إلى "وات" لنكر على كلامه من آخره، فنراه يذكر أن محمدًا بعد عودته من الطائف أخذ يدعو أفراد القبائل البدوية للدخول في الإسلام، ويصعب عليه أن يقول إنه مأمور، أو مرسل إليه بدعوة غير قريش وأن الدعوة عامة لكل الناس، بل وجه ذلك بباعث لا علاقة له بالدين، أو بشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، أو بواقع الأحداث، وإنما هو اختراع من اختراعات "وات" التي لا تنتهي لتفسير التاريخ بما لا يتفق مع وقائعه وهو أن وراء
(1) البخاري (438) من رواية جابر بن عبد الله.
هذا النشاط فكرة غامضة في توحيد العرب جميعًا.
سنوافق "وات" في أن وراء ذلك ليس عالمية الدعوة ولكن ما الغموض في فكرة توحيد العرب جميعًا، وما الذي يمكن أن يكون غامضًا عندما يعرض محمد فكرة توحيد العرب، وما الذي سيثقل على قريش فهمه حينئذ، ولا يمكن إدراكه لخفائه وغموضه، بل لو عرضت هذه الفكرة على قريش – وسنستخدم ألفاظ "وات" – فما المانع أن يرحبوا بها، وتلاقي صدى عندهم في أن يتوحد العرب جميعًا وراء قريش، إنه إذًا تهويل من القول لا معنى تحته، ولا طائل من ورائه، إلا قطع الطريق على محاولة فهم الإسلام من عرب ومن عجم بصراخ ليس غير.
ونلتفت إلى ما بعد هذا الكلام، وهو قوله بأن الدعوة كانت لقريش، وأن محمدًا اعتبر نفسه في أول الأمر مرسل إليهم، وتراءى له بدرجات لا تبدو واضحة في القرآن أن له هدفًا أوسع لرسالته فدعا هذه القبائل البدوية عدا سكان المدينة ومفاوضتهم، ثم احتلت فكرة الأمة على أساس ديني الصدارة قبل الهجرة مباشرة.
وهذا كلام متناقض جدًا ينسف بعضه بعضًا، وأوله ألم تقل يا مستر "وات" أن ليس ثم وحي وأن أجزاء من القرآن سمعها النبي صلى الله عليه وسلم واستدعاها بعد ذلك، وأنه اللبيدو، وغير ذلك من تعليم ورقة وقد مات ونحوه مما زعمت وادعيت فأين ذهب ذلك كله؟ حتى تقول إنه في أول الأمر اعتبر نفسه مرسلاً لقريش فمن الذي أرسله، ثم تراءى له في القرآن هدف أوسع لرسالته وبدرجات لا تبدو بوضوح فأنى له وهو الذي يستدعي ذلك أو يقال له ثم يتراءى له بغير وضوح كيف وهو الذي قاله ويحفظه وبلغه، ثم يتراءى له عدم وضوحه، ثم يتلقى الكفار من قريش وغيرهم هذا الكلام منه ويؤمنون به، لا يجادلون فيه ولا يمارون ولا يتراءى لهم مع أنه كان الأولى بهم إذا مبلغهم يتراءى له، ويتناقض، ولا
يعلم ما يقول كاملاً واضحًا، يبلغه البلاغ المبين؛ الذي لا إبانة بعده، ولا وضوح مثله، وهو السياسي الحكيم كما تدعي في سياق الموضوع.
كيف انقلب بك الحال إذن في نظرتك للرسالة والوحي والرسول إلى هذا الحد من تهافت البحث وتناقضه وتكذيب اللاحق من قولك للسابق.
ثم تزيدنا إيمانًا بما نقول فيك، عندما تملأنا يقينًا بذكرك إن قيام الأمة على أساس ديني كان له مكان الصدارة بحلول الهجرة، فعلى أي أساس كان يدعو القبائل وأفرادها كما زعمت، وبماذا ردوا قوله، وعلى أي شيء بايعه أهل المدينة (يثرب) فهو من أول يوم - كما سنذكر شيئًا عن المسلمين الأوائل - كان يدعوهم للدين لتوحيد الرب لنبذ عبادة الأوثان للصلاة والصلة والعفاف وهذا من تكاليف الدين إلى آخره لم يتضح له ما كان يتراءى في القرآن الكريم إلا بحلول الهجرة، ترى لو لم يهاجر، فما عسى أن يكون عليه الموقف؟ وما موقف من آمنوا مبكرين برسالته قبل الهجرة بزمن طويل، ألم يبلغهم بكل وضوح وبيان أن الدعوة عامة شاملة من أول يوم ليدعوا أقوامهم كذلك إليها، وبكل وضوح وثقة.
ثم نورد الآن بعض ما تلاه النبي صلى الله عليه وسلم على العالم كافة من آيات الذكر الحكيم وأحاديثه النبوية المشرفة التي تدل على عالمية الدعوة من أول أيامها ردًا على ما سبق قبل أن نناقش "وات" في رسائل النبي صلى الله عليه وسلم للملوك والحكام يدعوهم إلى الدخول في الإسلام لا لشيء آخر.
يقول المولى جل وعلا: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ} [سبأ: 28] وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 107] وقوله تعالى: {تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا} [الفرقان: 1] وقوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الفرقان: 56] وقوله تعالى: {إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ} [التكوير: 27، 28]
وقوله تعالى: {وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [القلم: 52] وقوله تعالى: {وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} [يوسف: 104] وقوله تعالى: {قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ} [الأنعام: 90] ونقتصر على هذه الآيات إذ هي وافية تمامًا بالغرض والرد على "وات" في ذات الوقت ونلاحظ ذلك فيما يلي:
أولاً: أن هذه الآيات كلها - من سوء طالع "وات" - كلها مكية، وإن مطالعته للقرآن كمصدر أول عنده ليصادف هذه الآيات ويصطدم بمعانيها، وبدلاً من التسليم بما لا مجال في إنكار، ثم بعد ذلك إعمال الفكر والنظر والتحليل فيه إذ به يتجاهل هذه الآيات كلها، أو يؤولها هذه التأويلات المتعسفة المجافية للحقيقة المخالفة للواقع، وبكل سهولة ومن غير غضاضة، وبدون أسف على المنهج العلمي المدعى، وهو يبين في نفس الوقت المنهج الانتقائي لـ"وات"(1)، حيث يتجاهل الآيات والروايات الإسلامية، مؤلفًا تاريخًا يناقشه ويبحث له عن دوافع.
ثانيًا: إن مكية هذه الآيات ليؤكد مبدأ عالمية الدعوة منذ ظهرت، وجاءت تلك العالمية في أول سورة نزلت بعد قوله "اقرأ" على قول جمهرة من المفسرين، وهي سورة القلم حيث ذكرنا الآية الكريمة وهي قوله تعالى:{وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} وهذا له مغزاه ودلالاته العقيدية، إذ لم تظهر في العهد المدني فيكون حجة بأن عالمية الرسالة جاءت تطورًا للجماعة الإسلامية وقيام دولتها، بل لما قامت هذه الدولة بدأت تدعو لمعتقداتها التي تدرجت في الدعوة إليها، وتهيأت الظروف للقيام بأعبائها والتوسع فيها، فانفتحت على العالم الخارجي.
ثالثًا: مما نلاحظه في هذه الآيات تلك النظرة المتكاملة المتسقة للنبي صلى الله عليه وسلم ورسالته، فهي
(1) عبد الله النعيم، "الاستشراق في السيرة النبوية"(80).
للبشارة والإنذار والرحمة والذكر والذكرى، وكل ذلك متوائم مع دعوة مكة ومن حولها وأهل الكتاب والناس كافة، وجميع العالمين، وأنه النبي الخاتم به ختم النبيون صلى الله عليه وسلم.
ويدل في ذات الوقت على التدرج المناسب لقبول الدعوة وانتشارها، وأن ذلك إنما كان عن أمر الله به في أمره بما سبق كله، وما يبرهن ذلك إلا على أن هذه دعوة الله تعالى وهدايته التي أسداها إلى جميع خلقه، فكيف تكون ناقصة أو غير عامة، سواء في تفصيلاتها أو في كلياتها العامة الصالحة لكل زمان ومكان.
وآخر ذرائع "وات" التي تذرع بها ليمنع عالمية الدعوة، هي رسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحكام والملوك، ما برح "وات" أن يكون كعهدنا به كما هو ينكر الروايات الصحيحة، وينشر الضعيفة الشاذة، ويخترع تاريخًا لم يكن، ويوجه له دوافع وبواعث ما كانت ولن تكون، وهذا ما حدث لرسائل الرسول صلى الله عليه وسلم للملوك وحكام الدنيا آنئذ، فهو ينكر الرسائل أولاً، وهي ثابتة في مصادره التي لا يملك سواها، فإن قبلها فهي مليئة بالتناقضات، أو قد تبدلت هذه الرسائل قبل وصولها لمحطتها، وإلا فهي سياسية ألمح فيها محمد صلى الله عليه وسلم إلى معتقداته الدينية مجرد تلميح وسياستها أن محمداً صلى الله عليه وسلم اقترح عقد محالفة حياد، أو ربما أراد منع المكيين من الحصول على المساعدة الخارجية، لأنه لا يمكن أن يدعو هؤلاء الحكام الأقوياء لأن يكونوا من أتباعه – أي بالدخول في الإسلام – خاصة وهو السياسي الحكيم – عليه أفضل الصلاة والسلام.
ونناقشه سريعًا – ونحن حزانى ندامى – أن مثل هذا يناقش.
ونبادره القول بأن هؤلاء الحكام الأقوياء الذين لا يمكن لمحمد صلى الله عليه وسلم أن يدعوهم إلى الإسلام هزمهم أتباع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم شر هزيمة في التاريخ من أوله إلى آخره، وكما يعلم القاصي والداني، لم يهزمهم بسياسة ولا عدد ولا عدة ولكن كما هو ثابت عند "وات"
والمستشرقين أنهم هزموهم بذلك الدين الذي عرضوه عليهم فإذا كان هؤلاء الأقوياء قد هُزموا وليس أمام محمد صلى الله عليه وسلم فما بالك لو كان القائد لذلك هو صلى الله عليه وسلم إذا كانت قيادتهم لبعض أتباعه، وفعل بهم ذلك ثم يجيء منهج "وات" في البناء والهدم فيبني على كون محمد صلى الله عليه وسلم سياسيًا حكيمًا هدم عالمية الدعوة ليقول إن محمدًا السياسي الحكيم لا يمكن أن يفعل ذلك؟ لِمَ أيها العبقري وهو يدعو بدعوة الله، وبأمر الله، لا يهمه أحد لأنه يعلم تمام العلم أن النصر من عند الله تعالى، وأنه مطالب بتبليغ دعوة الله إلى الناس كافة وهي ملخصة في قوله لهم:"أسلم تسلم"(1)، ولا يستطيع إلا أن يأتمر بأمر الله جل وعلا:{بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67] وقد تحقق ذلك كله بفضل الله تعالى.
فأين أولاً بعد ما سبق عقد محالفة حياد، أو منع المكيين من وصول المساعدة الخارجية لهم، وقد ذكر أصحاب السير وقرأها "وات" أن أهل مكة كانوا في هدنة مع النبي صلى الله عليه وسلم وتركوا حربهم، بعد أن نهكتهم المعارك، وأضرت بهم الحروب بحيث انتهت الحروب بين النبي صلى الله عليه وسلم وأهل مكة، ولم يبق إلا فتح مكة كما هو معلوم بغير قتال، فما حاجته لافتراضات "وات"، أو إنها توهمات "وات" وخيالاته التي يفترض فيها أمرين:
الأول: التناقض في الرسائل، الثاني: تبدلها مع وصولها إلى المرسل إليهم.
وكلا الافتراضين لا دليل عليه إلا تشويه أمر الدعوة في عقل القارئ بدون أي برهان، لما في نفس المستشرقين من حاجات يقضونها من دين الله تعالى، وإلا فما الدليل على أي من ذلك، إلا النفث في روع المتهمين بأن الإسلام دعوة قومية، لا علاقة لها بالسماء لتناقضها، وأن الدين - أي اللبيدو - عنصر فيه.
(1) البخاري، صحيح، بدء الوحى (1/ 8).
وقد ذكر عبد الله النعيم في كتابه الاستشراق في السيرة النبوية أن الدكتور "محمد حميد الله الحيدر آبادي" قد قام بتحقيق رسائل النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب سماه "مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي"(1) ولم يتبين أو يُثِر فيها شكًا ولا تناقضًا – ليس دفاعًا عن رسائل النبي صلى الله عليه وسلم لأنه لم يرد بها على أحد، وإنما أورد الرسائل كما وردت في السنة المشرفة كبحث من بحوثها، وليس أمامنا إلا افتراض أن تلك النصوص التي نقلت هي ما قيل ما دام ذلك صحيحاً، ما لم يكن عندنا طعن في سندها أو متنها من المتخصصين في هذا العلم، فما كان إذن على "وات" إلا التسليم بصحة الرسائل، ثم بعد ذلك ينظر في فهمها وتحليلها، وهو ما لم يحدث بل ألقى القول على عواهنه، ومن غير متخصص فيه، بعد عدم نجاحه في تكذيب أو رد تلك الرسائل.
إذا نظرنا في تلك الرسائل رأيناها جميعًا ذات صبغة دعوية إسلامية: "إني أدعوك إلى الله وحده، وأن تتبعني وأن تؤمن بالذي جاءني، فإني رسول الله"(2) أو قوله فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم" وليس فيها إشارة من قريب أو من بعيد أو قول أصلاً لعقد محالفات سياسية، أو منع مكة من المساعدات الخارجية.
إن مما لا شك فيه أن تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع كل أولئك لم يكن من منطلقات سياسية، لأن الوضع السياسي للنبي صلى الله عليه وسلم وهو كما يقول "وات" السياسي الحكيم ما كان يسمح بالسياسة والتحالفات مع كل أولئك بأي حساب من حسابات القوى، ومن ثم لم تكن له إلا الوجهة
(1) مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوى، رسالة النبي إلى النجاشى (24)، انظر رد النجاشى عليها (26 - 28)، الاستشراق في السيرة النبوية، عبدالله النعيم (81).
(2)
عبد الله النعيم، "الاستشراق في السيرة النبوية"(81 - 82)، ونقل في الهامش، الحيدر آبادي، "مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي" رسالة النبي إلى النجاشي، (24)، وانظر رد النجاشي عليها (26 - 28)، ورسالة النبي إلى هرقل (29 - 30)، وانظر رد قيصر عليها (31)، وانظر رسائل النبي إلى المقوقس (50)، وكسرى (54)، والحارث بن أبي شمر، وجبلة بن الأيهم الغساني (41)، والمنذر بن ساوي (55 - 56).
الواحدة الدعوة إلى الله تعالى مخاطبًا إياهم من منطلق ديني محض، وهو قوله تعالى كما ذكرنا {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67].
ونورد في نهاية هذا المبحث شيئًا مما ورد عن الرسول صلى الله عليه وسلم يردده على مسامع الناس كافة إلى يوم القيامة بدون تردد، مبينًا لهم البيان المبين، بأنه أُرسل إلى جميع الثقلين فمن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام:"بعثت إلى الأحمر والأسود"(1)، وحديث:"بعثت إلى الناس كافة"(2)، وحديث:"أرسلت إلى الناس كافة وبي ختم النبيون"(3)، وحديث:"كان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة"(4).
وهذه الأحاديث تبين عالمية الرسالة، وهذه الأحاديث تدحض كلام المخالفين، بحيث يكون تصديق الواقع لها من أكبر دليل على صحة نسبتها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مع صدق المنبني عليها من كون هذه الرسالة عالمية شاملة عامة، ودليل على معجزة النبوة وصحتها في وقت لم يكن لرسول الله أن يقول هذا القول إلا وهو مؤيد من السماء.
بدأت الإسلامية سراً - كما ذكر من ذكر من أهل السير - يعنى يدعو الناس صلى الله عليه وسلم خفية إلى التوحيد، ونبذ مظاهر الشرك. (5)
وكان المجتمع المكى - شأن سائر الجزيرة العربية - يعتمد في تنظيمه على القبيلة، فهى الوحدة الاجتماعية، ولما كانت مكة تخضع لقبيلة واحدة هي قريش
(1) أحمد بن حنبل، "المسند"()، الطبعة اليمنية، والهيثمي، "مجمع الزوائد"(65/ 6، 58/ 8)، التقي الهندي، "كنز العمال"(32094)، وابن عبد البر، "التمهيد"(218/ 5).
(2)
أحمد بن حنبل، "المسند"(304/ 3)، ومجمع الزوائد (259، 261/ 8)، والبيهقي، "السنن الكبرى"(433/ 2).
(3)
أحمد بن حنبل، "المسند"(248، 256/ 5)، البيهقي، "السنن الكبرى"(433/ 2)، وابن سعد، "الطبقات"().
(4)
أحمد بن حنبل، "المسند"(304/ 3)، ابن أبي شيبة، "المصنف"(432/ 1)، دار الفكر.
(5)
د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية (156).
بفروعها (عشائرها) فقد بدت هذه العشائر ككيانات خاصة لكنها متحالفة داخل الكيان العام لقريش، وكان المتوقع أن ينتشر الإسلام في بنى هاشم - قبيلة الرسول صلى الله عليه وسلم إلا أن نصيب بنى هاشم لم يكن أوفر حظاً، بل كان منه أقرباء شديد والعداوة للرسول صلى الله عليه وسلم والإسلام كأبى لهب وأبى سفيان بن الحارث وغيرهم، وكان منهم المتعاطفون مع الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من سواهم وإن لم يحملهم هذا التعاطف على الإسلام، حيث مات أكبر مناصرى النبي صلى الله عليه وسلم على الكفر، وهو عمه أبو طالب.
إن الإسلام قد انتشر بصورة متوازنة بين عشائر قريش، فلم يكن لأى منها ثقل كبير في الدعوة، وهذا ما شهد به الواقع، وهو مخالف لطبيعة الحياة القبلية آنذاك.
وإذا كان هذا الوضع قد أفقد الإسلام الاستفادة الكاملة من التكوين القبلى لنشر الدعوة وحمايتها، فإن هذه الدعوة لم تؤلب عليه العشائر بحجة تحقق مصالح عشيرة على حساب يقية العشائر.
ولعل هذا التوازن أعان على انتشار الإسلام في العشائر القرشية دون تحفظات متصلة بالعصبية، فأبو بكر الصديق من «تيم» ، وعثمان بن عفان من «بنى أمية» ، والزبير بن العوام من «بنى أسد» ، ومصعب بن عمير من «بنى عبد الدار» ، وعلى بن أبى طالب من «بنى هاشم» ، وعمر بن الخطاب من «بنى عدى» ، وعبد الرحمن بن عوف من «بنى زهرة» ، وعثمان بن مظعون من «بنى جمح» ، بل إن عدداً ممن أسلموا في تلك الفترة لم يكونوا من قريش، فعبد الله بن مسعود هذلى، وعتبة بن غزوان من مازن، وعبد الله بن قيس من الأشعريين، وعمار بن ياسر من مذحج، وزيد بن حارثة من كلب، والطفيل بن عمرو من دوس، وأبو ذر من غفار، وعمرو بن عبسة من سُليم، وعامر بن ربيعة من عنز بن وائل،
وصهيب النمرى من النمر بن قاسط، كان واضحاً من الوهلة الأولى أن الإسلام ليس خاصاً بمكة وقريش. (1)
أما المسلمون الاوائل فمنهم:
1 -
السيدة خديجة – رضى الله عنها – زوج النبي صلى الله عليه وسلم فهى أول من آمنت بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم إذ يدل حديث بدء الوحى على أنها أول من عرفت خبر النبوة وتنزل وحى السماء، وأنها صدقت الرسول صلى الله عليه وسلم وواسته وآزرته وخففت عنه، وهونت عليه أمر الناس فلا غرابة أن تكون أول من آمن، وكذلك كانت أول من أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتبشيره بالجنة، حيث قال – صلوات الله وسلامه عليه -:«أمرت بأن أبشر خديجة ببيت من قصب، لا صخب فيه ولا نصب» (2)، وأخباره فضائلها جمة رضى الله عنها.
2 -
على بن أبى طالب، فقد أسلم في هذا الوقت المبكر، فقد كان في حجر النبي صلى الله عليه وسلم كما ذكرنا تخفيفاً على أبى طالب ورداً لجميله، وهو يومئذ ابن عشر سنين على أصح الأقوال فكان أول الذكور إسلاماً وقد كثرت الروايات الواهية والموضوعة حتى تحديد يوم إسلامه وصلاته، وفضائله الكثيرة الثابته لا تحتاج لهذا الكذب والمغالاة. (3)
(1) د. أكرم العمرى، السيرة النبوية الصحيحة (132 - 133).
(2)
د. أكرم العمرى، السيرة النبوية الصحيحة (133 - 134)، د. مهدى رزق الله (156 - 157)، والحديث البخاري، فتح الباري (ج3822)، ومسلم (ج 2433 - 2435)، وابن اسحاق، بإسناد حسن، وابن هشام السيرة (1/ 155 - 156)، محمد أبو شهبة، السيرة النبوية (1/ 283).
(3)
روى ابن اسحاق في السيرة خبر عفيف الكندى لصلاة النبي صلى الله عليه وسلم وخديجة وعلى في مكان واحد وقوله «فياليتنى آمنت وكنت أكون ثانياً» ، وإسناده حسن من رواية يونس بن بكير، وهي رواية البيهقى في الدلائل (2/ 162 - 163)، من طريق يونس هذا، قال الدكتور قلعة جى في تخريجه لها: حديث صحيح أخرجه البخاري في التاريخ، وابن كثير في التاريخ والحاكم في المستدرك وقال هذا صحيح الاسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبى، انظر الدلائل، وهامشة (2/ 162 - 163)، ابن هشام (1/ 157).
3 -
مولاه زيد بن حارثة، وهو الذى اختار البقاء والإقامة مع الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يرجع لأبيه وأهله عندما جاء أخوه يطلبه من النبي صلى الله عليه وسلم، فأقام عند النبي صلى الله عليه وسلم وتبناه الرسول صلى الله عليه وسلم وعرف بـ «زيد بن محمد» ، فأقام عند النبي صلى الله عليه وسلم، وصدقه وأسلم وصلى معه، فلما نزل قوله تعالى:{ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ} [الأحزاب: 5]، قال: أنا زيد بن حارثة. (1)
4 -
أبو بكر الصديق رضي الله عنه، فقد استنبط الحافظ ابن كثير أنه أول الناس إسلاماً من حديث صحيح فيه:«إن الله بعثنى إليكم، فقلتم: كذبت، وقال أبو بكر: صدق وواسانى بنفسه وماله» (2)، وقال هو عن نفسه عندما اختير خليفة للمسلمين: ألست أول من أسلم (3)، وقد أسلم أهل أبى بكر بإسلامه، قالت عائشة - رضى الله عنها - «لم أعقل أبوىّ إلا وهما يدينان الدين» . وقد ذهب الزهرى إلى أن أول الناس إسلاماً زيد بن حارثة (4)، ونظراً لأقوال الزهرى في أن أول من أسلم خديجة فقد توالت محاولات التوفيق بين الأقوال، وأول من وفق بين أقوال الزهرى هو الواقدى.
تحرك أبو بكر رضي الله عنه وسط أقاربه ومواليه وأصدقائه ومن يثق به من قومه، فاستجاب له نفر كريم منهم: طلحة بن عبيد الله وعثمان بن عفان والزبير بن العوام وسعد بن أبى وقاص وعبد الرحمن بن عوف (5) وعثمان بن مظعون وأبو عبيدة بن الجراح وأبو سلمة بن
(1) رواه ابن هشام (1/ 160 - 161)، والترمذى، صحيح الترمذى للالبانى (ج 4085)، ورواه الحاكم في المستدرك (3/ 214)، وقال:«صحيح الاسناد ولم يخرجاه» ، وقال الذهبى: صحيح، وفي كتب السيرة مثل عيون الاثر (1/ 94)، وسيرة الذهبى (137 - 138)، وانظر د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية (157).
(2)
د. أكرم العمرى، السيرة النبوية (134 - 135)، والحديث أخرجه البخاري (ج 3661)، وقال ابن كثير في البداية (3/ 30)، وهذا كالنص على أنه أول من أسلم رضي الله عنه وانظر السيرة النبوية لابن كثير (1/ 434).
(3)
رواة الترمذى وصححه، وهو في صحيح الترمذى (3/ 201)، حيث صححه الألبانى، وابن حنبل، فضائل الصحابة (1/ 223 - 231).
(4)
عبد الرزاق، المصنف (5/ 325)، من مرسل الزهرى.
(5)
إلى هنا ذكره ابن اسحاق في السيرة (140)، سيرة ابن هشام (1/ 162 - 163)، وذكر من بعدهم.
عبد الأسد، والأرقم بن أبى الأرقم.
ومن خلال هؤلاء وغيرهم أخذ الإسلام ينتشر في مكة وخارجها، ودخل فيه أناس من بطون قريش ومواليها كافة، وممن اشتهروا بين السابقين إلى الإسلام من الموالى: بلال بن رباح وصهيب بن سنان وعمار بن ياسر ووالده وأمه سُمية بنت خباط. (1)
5 -
ورقة بن نوفل، كان من المسلمين الاوائل وفقا الاحاديث التى بينت ذلك. (2)
وفي فترة وجيزة وصل عدد الذين سبقوا إلى الإسلام من بطون قريش إلى أكثر من أربعين كما عدهم ابن هشام (3)، وأكثر من خمسين كما عدهم اليعمرى (4).
ونلاحظ على السابقين الأولين إلى الإسلام ما يلى:
أولاً: من أكثر الملاحظات انتشاراً قديماً وحديثاً، ثم بعد ذلك أخذاً ورداً لتبيين الحكمة فيها، هي أن الغالب على الداخلين الأولين في الإسلام أنهم خليط من الفقراء الضعفاء العبيد الذين رأوا في الإسلام إحساساً بقيمتهم أو استعادة لحريتهم وكرامتهم.
والنظرة المدققة الفاحصة لهذا الرأى نجده مخالفاً للواقع، إذ رأينا أن السابقين إلى الإسلام عندما كان عددهم ثلاثة وستين شخصاً، فإن الفقراء والمستضعفين والموالى
(1) ابن حنبل، فضائل الصحابة (1/ 231)، عن مجاهد بسند صحيح، وعن ابن مسعود رضي الله عنه (1/ 182)، بسند حسن متصل، والحاكم، المستدرك (3/ 84)، وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبى وغير ذلك، وانظر د. مهدى رزق، السيرة النبوية (159).
(2)
روى أحاديثه أحمد، المسند، الفتح الربانى (20/ 174)، وحسن اسناده الساعاتى، وابن كثير، البداية والنهايه (3/ 10)، عن أبى يعلى وحسنه، وانظر تخريج هذه الاحاديث عند الالبانى على فقة السيرة لمحمد الغزالى (100)، وانظر مهدى رزق الله، السيرة النبوية (159).
(3)
ابن هشام، السيرة (1/ 161 - 167).
(4)
اليعمرى، عيوت الاثر (1/ 93 - 98)، وانظر ابن حزم، جوامع السيرة (44 - 51).
والأخلاط من الأعاجم ثلاثة عشر فقط لا يزيد مجموعهم على الخمس (1)، وإذا علمنا أن معظم أصحاب السير إن لم يكن كلهم كانوا مع ذلك الرأى المنتشر علمنا، أنهم لم يكن لهم قصد في تقليل العدد، وإن كانوا لا يقللون أو يكثرون لطبيعة الدين الذى اعتنقوه، والذى لم يكن ليدعو لسوى الحقيقة مع الصدق والأمانة.
ثانياً: أن سبب انتشار هذا القول هو أن الذين تحملوا القسط الأكبر من التعذيب الظاهر على ملأ من الناس هم الأرقاء والموالى، ولذلك انتشر أمرهم أما من عذب ضمن قبيلته فلم يذكروا كثيراً لينتشر أمرهم (2)، وسنشير إلى شيء من ذلك إن شاء الله تعالى.
ثالثاً: أوضح ابن حجر رحمه الله معنى كلمتى «الضعفاء» ، «الشرفاء» ، اللتين وقعتا في حديث هرقل عندما سأل أبا سفيان أيتبعه أشراف الناس أم ضعفاؤهم، فمعنى الأولى عنده أن أتباع الرسل هم أهل الاستكانة لا أهل التكبر الذين أصروا على الشقاق بغياً وحسداً كأبى جهل وأتباعه، ويكون الشرف في الثانية مرادفاً للكبر والعلو، وهذا هو التفسير الملائم إذ ما ذكرنا من أسماء المؤمنين الأولين، وهم الأغلبية ليسوا أرقاء ولا عبيداً، وإنما كانوا أهل الإنصاف وترك الكبر والمعاندة والجحود. (3)
ونشير إلى ذكر بعض هؤلاء الذين تقدم إسلامهم وما علمته بهم قبائلهم سواء كانوا من صميمها أو من مواليها وأرقائها. وكذلك لنذكر من قيل إنهم من السابقين الأولين إلى الإسلام.
(1) الشامى، من معين السيرة (37 - 39)، ود. مهدى رزق الله حيث ذكر أن كلام الشامى من أروع ما كتب في ذلك، السيرة النبوية هامش (161).
(2)
المصدر السابق، الصالحى، من معين السيرة (35 - 36).
(3)
ابن حجر، فتح الباري (1/ 35 - 36 / ج 6)، ط دار القلم ترقيم محمد فؤاد عبد الباقى، وفي هذا الرد على د. البوطى وغيره قديماً وحديثاً في هذه القضية، انظر البوطى، فقة السيرة (77 - 79).
تدل رواية صحيحة على تقدم إسلام سعد بن أبى وقاص، وأنه بقى أسبوعاً ثالث مسلم ثم أسلم آخرون. (1)
وقد نزل القرآن الكريم في خبر إسلامه كما أخبر عن نفسه قال: حلفت أم سعد أن لا تكلمه أبداً حتى يكفر بدينه، ولا تأكل ولا تشرب قالت: زعمت أن الله وصاك بوالديك، وأنا أمك وأنا آمرك بهذا. قال: مكثت ثلاثة أيام حتى غشى عليها من الجهد، فقام ابن لها يقال له عمارة فسقاها، فجعلت تدعو على سعد فأنزل الله عز وجل في القرآن هذه الآية:{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي} [العنكبوت: 8]، وفيها:{وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [لقمان: 15]، قال فإذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها بعصا ثم أو جروها.
والحادثة تدل على صلابة موقف المؤمنين الأولين أمام الفتن التى تعرضوا لها.
وأسلم عثمان بن عفان رضي الله عنه في وقت مبكر، وروى أنه قال إنه الرابع في الاسلام (2)، وأسلم طلحة بن عبيد الله التيمى وأسلم الزبير بن العوام، وكان ابن ست عشرة سنة (3)، وتشير الرواية إلى تعذيب عم الزبير له بالنار بسبب إسلامه. (4)
وممن بَكَّر في الدخول في الإسلام خالد بن سَعد بن العاص. (5)
وأمَّا قصة عبد الله بن مسعود حيث يروى أنه أسلم قبل دخول الرسول صلى الله عليه وسلم دار الأرقم فيحكيها فيقول: كنت غلاماً يافعاً أرعى غنماً لعقبة بن أبى معيط بمكة فأتى علىَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وقد فرا من المشركين، فقال: يا غلام هل عندك لبن تسقينا؟ قلت: إنى مؤتمن
(1) البخاري، الصحيح، فتح الباري (7/ 83 - 170)، ابن حنبل، فضائل الصحابة (2/ 749).
(2)
ابن أبى شيبة، المصنف (12/ 53)، واسلام طلحة عند ابن سعد، الطبقات (3/ 214 - 215).
(3)
ابن سعد، الطبقات (3/ 102).
(4)
الهيثمى، مجمع الزوائد (9/ 151).
(5)
ابن سعد، الطبقات (4/ 94 - 95)، والحاكم، المستدرك (3/ 249).
ولست بساقيكما قالا فهل عندك من جذعة لم ينز عليها الفحل بعد؟ قلت: نعم فأتيتهما بها، فاعتقلها أبو بكر وأخذ لرسول الله صلى الله عليه وسلم الضرع فدعا، فحفل الضرع، وأتاه أبوبكر بصخرة منقعرة، فحلب ثم شرب هو وأبو بكر ثم سقيانى. ثم قال للضرع: اقْلُص فقلص، فلما كان بعد أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، قلت علمنى من هذا القول الطيب – يعنى القرآن – فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«إنك غلام معلم فأخذت من فيه سبعين سورة ما ينازعنى فيها أحد» . (1)
وذكرت رواية أنه كان سادس من أسلم.
ولا شك في تقدم إسلام خباب بن الأرت، وروى أنه السادس في الاسلام (2)، وكذلك تقدم إسلام بلال الحبشى، وكان عبداً رقيقاً فاشتراه أبو بكر وأعتقه. (3)
وقد ثبت أن عمار بن ياسر أسلم مبكراً فقد قال عن نفسه: «رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وما معه إلا خمسة أعبد وامرأتان وأبو بكر» . (4)
ونذكر تكملة لذلك من غير قريش ومن خارج مكة قصة عمرو بن عبسة السلمى، فقد كان يرى نفسه رابع أربعة، هم أول المسلمين حيث يقول:«فلقد رأيتنى إذ ذاك ربع الإسلام» . (5)
(1) أحمد، المسند (1/ 379)، وابن أبى شيبة، المصنف (11/ 510)، وابن سعد، الطبقات (3/ 150)، وصحح الذهبى إسناد الحديث في سير أعلام النبلاء (1/ 460).
(2)
ابن أبى شيبة، المصنف (12/ 149).
(3)
أحمد، فضائل الصحابة (1/ 182 - 231)، بأسانيد صحيحة، وابن سعد، الطبقات (3/ 233)، والحاكم، المستدرك (3/ 284)، وصححه ووافقه الذهبى. وحديث العتق في البخاري، فتح الباري (7/ 99).
(4)
البخاري، فتح الباري (7/ 18 - 170)، أما الأعبد فهم بلال وزيد بن حارثة وعامر بن فهيرة وأبو فكيهة، ويحتمل أن الخامس شقران، وأما المرأتان فخديجة رضى الله عنها، وأم أيمن أو سمية، ابن حجر فتح الباري (7/ 18).
(5)
أحمد، المسند (4/ 112)، وطبقات ابن سعد (4/ 215)، وتاريخ الطبرى (2/ 315)، بإسناد حسن، وانظر د. أكرم العمرى لما سبق، السيرة النبوية (160).
ويبدو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يخبره بجميع من أسلم، إذ هو قد سأله عمن معه قبل أن يعلن الإسلام، وكذلك حرصاً من الرسول صلى الله عليه وسلم على سلامة من أسلم من الأذى، لذلك ذكر أنه كان رابع الإسلام، وما ذلك إلا بحسب ما بدا له، وإلا فإن أبا ذر أيضاً قد أعلن يوم أسلم أنه كان كذلك رابع الاسلام مما يدل على أن المسلمين كانوا متكتمين في أمر إسلامهم حرصاً على مصلحة الدعوة بحيث لم يكن كلاهما يعلم بإسلام الآخر. (2)
(1) مسلم، الصحيح (1/ 596).
(2)
الطبرى، التاريخ (2/ 315)، ويؤيد ابن كثير وابن حجر أن سرية الدعوة هي السبب في تعارض دعاوى السبق إلى الإسلام، إذ يخفى عليهم من سبقهم إلى الإسلام، ابن كثير، السيرة النبوية (1/ 443)، وفتح الباري لابن حجر (7/ 84)، د. أكرم العمرى، السيرة النبوية (216).
لقد أجمع الفقهاء على أن المسلمين إذا كانوا في قلة من العدد، أو الضعف في العدة بحيث يغلب على الظن أنهم سيقتلون من غير أي نكاية في أعدائهم إذا أجمعوا على حربهم أن يقدموا مصلحة بقاء النفس على مصلحة الدين الموهومة أو المنتفية، إذ ذلك أيضاً في الواقع مصلحة للدين، لأنه أن تبقى أرواح المسلمين سليمة فيمكن أن يتقدموا ليجاهدوا في الميادين الأخرى المفتوحة، وإلا فإن هلاكهم يعتبر إضراراً بالدين ذاته، وفسحاً للمجال أمام الكافرين ليقتحموا ما كان مسدوداً أمامهم من السبل. (1)
والكلام عن المسلمين الأوائل يأخذ إلى هذه الأمور، وهي:
1 -
أن الاضطهاد لم يكن ليفرق بين الأرقاء والموالى، وبين الاحرار من بيوتات مكة العالية، إلا في ظهوره في الاوائل على روءس الأشهاد.
2 -
أن أولئك الذين أسلموا قد نالهم قسط وافر من التعذيب ليرجعوا عن دينهم، ومع ذلك صبروا وثبتوا، ومنهم من هاجر فراراً بينهم إلى الحبشة، كما سنذكر في مبحث الاضطهاد إن شاء الله تعالى.
3 -
أن الإسلام لم يقف عند حد دعوة الفقراء إلى الإسلام بدليل أن الأكثرية من معتنقيه في تلك الفترة الحرجة والظروف الصعبة كما أشرنا كانوا من أشراف قريش.
وكانوا بعد ذلك القوة الضاربة في أية ملاقاة مع أية عدو، إذ لم يشهد التاريخ أن جيوش سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من بدء الجهاد كان الغالب عليهم أنهم من العبيد والموالى، بل كان القادة والفرسان والمشاة كانت أكثر يتهم من أولئك الجند الأبرار من الأشراف، لا يستطيع
(1) انظر البوطى، فقه السير (76 - 77)، وضوابط المصلحة في الشريعة الاسلامية (261)، وقواعد الاحكام في مصالح الأنام (1/ 111 - 112)، د. مهدى رزق الله، السيرة النبوية (162).
أن يمارى في هذا أحد، إذ سجلات التاريخ شاهده بذلك، مع بذلهم وتضحياتهم بأموالهم إنفاقاً في سبيل الله فجمعوا بذلك بين النفس والمال.
ومن ثم نعود إلى القرآن الكريم كمنهج للدراسة، نذكر فيه سيرة أولئك، ثم نرد على "وات" في هذا البحث.
ونذكر آية واحدة في هذا السياق كفيلة بتبين سيرتهم في الكتاب المعظم، وهي قوله تعالى:{وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)} [التوبة: 100].
يقول سيد قطب ما ملخصه مشيراً إلى مراحل بناء المجتمع المسلم، وتكون طبقاته الإيمانية: لقد ولدت الحركة الإسلامية في مكة على محك الشدة، إذ أحست قريش – ممثلة الجاهلية – بالخطر الحقيقى الذى يتهددها من دعوة:«لا إله إلا الله محمد رسول الله» ، وما تمثله من تمرد على كل طاغوت في الأرض لا يستمد سلطانه من سلطان الله، والفرار منه إلى الله، وبالخطر الجدى من هذا التجمع العضوى الذى أنشأته هذه الدعوة تحت قيادة الرسول صلى الله عليه وسلم، هذا التجمع الذى يدين منذ يومه الأول بالعبودية والطاعة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم لم تكد الجاهلية تستشعر هذا الخطر حتى شنتها حرباً شعواء على الدعوة الجديدة وتجمعها وقيادتها، وأصدرت لها كل ما في جعبتها من أذى ومن كيد ومن قتنة ومن حيلة. وهو دأب أعداء الاسلام في كل آن وزمان عندئذ تعرض كل فرد في التجمغ الإسلامي الجديد للأذى والفتنة بكل صنوفها إلى حد إهدار الدم في كثير من الأحيان. ويومئذ لم يكن يقدم على شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، والانضمام إلى التجمع الاسلامى الوليد إلا كل من نذر نفسه لله، وتهيأ لاحتمال الأذى والفتنة والجوع والغربة والعذاب، والموت في أبشع الصور في بعض الأحيان.
وبذلك تكونت للإسلام قاعدة صلبة من أصلب العناصر عوداً في المجتمع العربى، فلم يكن يقدم ابتداء على الانتقال من الجاهلية إلى الإسلام، وقطع ذلك الطريق الشائك المرهوب إلا العناصر المختارة الممتازة فريدة التكوين.
وهكذا اختار الله تعالى السابقين من المهاجرين من هذه العناصر الفريدة النادرة ليكونوا هم القاعدة الصلبة لهذا الدين في مكة، ثم ليكونوا مع السابقين من الأنصار القاعدة الصلبة لهذا الدين بعد ذلك في المدينة. (1)
لقد بايع أولئك السابقون من الأنصار النبي صلى الله عليه وسلم في العقبة وهم يعلمون عاقبتها وضريبتها وأن يحاربهم الأصفر والأحمر، وأن ليس لهم سوى الجنة إن هم وفوا بذلك، فلا جرم أن يكونوا مع السابقين من المهاجرين الذين بنوا هذا البنيان وأعدوا هذا الإعداد.
إن تلك النواة الصلبة كانت السبب المباشر في تماسك وصلابة المجتمع في وجه الاعراض والظواهر والخلخلة أحياناً التى كانت وراء تفاوت طبقات المجتمع الايمانية.
لا شك إذن أن المهاجرين - على أي تعريف كانوا - كانت خلاصتهم والكمل منهم أولئك السابقين إلى الإسلام. (2)
ونظرة أخرى تبين أنهم ما دخلوا الإسلام طمعاً في غنم يغنمونه في هذا الوقت، ولا كان ينتظرونه، ولا إلى شيء يسعون لتحصيله في هذه الدنيا الزائلة، إذ كان الواقع والدعوة والنبي صلى الله عليه وسلم وما يحيط به يمنع تصور وقوع شيء من ذلك فضلاً عن انتظاره، لم يكونوا ينتظرون إلا رضا الله عنهم وأن يجاوروه في جنته.
(1) سيد قطب، في ظلال القرآن (1702 - 1703).
(2)
سيد قطب، في ظلال القرآن (1704 - 1706).
ومن ثم جاء جزاؤهم رضى الله عنهم، وهو أعلى ما ينتظر المؤمن ربه أن يحل عليه رضوانه، فلا يسخط عليه أبداً، وأن يكون من مظاهر هذا الرضا أعظم إكرام وأجزل مثوبة في الدنيا والآخرة.
وإن من علو مقام هذه الصفوة أن يبادلوا ربهم الرضا اللائق بربهم منهم، أن يرفع الله منزلتهم ودرجتهم ليذكرهم ويمدحهم بأنهم رضوا عن ربهم، فذلك حال وشأن لا تملك الألفاظ البشرية أن تعبر عنه، ذلك حالهم الدائم مع ربهم رضي الله عنهم ورضوا عنه، أما علامة الرضا فهى:{وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} .
وبتحليل الآية يتجلى:
أولاً: أن الآية جاءت عقب ذكر الفرق المتلبسة بالنقائص على تفاوت بينهما، لتذكر القدوة الصالحة والمثل الكامل في الأيمان والفضائل والنصرة في سبيل الله ليحتذى طالب الصلاح حذوهم، ولئلا يخلو تقسيم القبائل الساكنة بالمدينة وحواليها وبواديها عن ذكر أفضل الأقسام تنويهاً به.
ثانيا: بالتالى جاءت الجملة عطفاً على جملة: {وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا} [التوبة: 98].
والمقصود بالسبق السبق في الإيمان، لأن سياق الآيات قبلها في تمييز أحوال المؤمنين الخلص، والكفلر الصرحاء، والكفار المنافقين، فكان المراد بالسابقين الذين سبقوا غيرهم من نفس صنفهم أي من المؤمنين.
ويكون من سبقوا غيرهم هم المقصودين سواء المهاجرين قبل أن يهاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، أو الأنصار الذين سبقوا غيرهم ممن آمن من الأنصار وهم أهل العقبتين الأولى والثانية.
وأن أول مقصود بهذا الخطاب القرآنى هم المسلمون الأوائل بلا دفع، وتلك قيمتهم ومنزلتهم، وهذه عاقبتهم ومآلهم.
والأنصار جمع نصير، وهو الناصر، وهو بهذا الجمع علب على الأوس والخزرج الذين آمنوا بالنبي صلى الله عليه وسلم في حياته أو بعد مماته، وعلى أبنائهم إلى آخر الزمان، ويطلق على أبناء المنافقين الذين نشأوا مسلمين حقاً.
{وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ} ..
هم الذين اتبعوا السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار في الإيمان، وأما الأحسان فهو العمل، والباء للملابسة أي اتبعوهم في الإيمان وهم متلبسون بالعمل الصالح الممدوحين عليه والذى اقتدوا فيه بالسابقين، وما بعثهم على ذلك إلا إلاخلاص، ومن ثم فهم محسنون، وما ذكر الاحسان هنا إلا لأن من أتى بعد السابقين الأولين منهم من آمن اعتزازاً بالمسلمين لما صاروا كثرة في المدينة، ومنهم من آمن وفي إيمانه ضعف وتردد كالمؤلفة قلوبهم فربما نزل بهم إلى النفاق وربما ارتقوا إلى الإيمان الكامل، ولذلك قيد الاتباع بالاحسان حتى يدخلوا في وعد الله لهم بالرضا وإعداد الجنات.
وجملة: {رضي الله عنهم} ، خبر عن {وَالسَّابِقُونَ} ، وقدم السابقون المسند إليه، على خبره الفعلى لقصد التأكيد والتقوية.
ورضوا عنه أنه أعطاهم حتى بلغوا الرضا عن الله تعالى، وهو إذ يعطيهم إنما يمدحهم، وهو من أجل الدرجات وأعلى المنازل.
وزادها بالإعداد لهم، أي التهيئة الدالة على العناية والكرامة بهم، الذى يؤذن بكمال الاهتمام حتى لا يكون ماهيأ لهم إلا أكمل نوع.
ولتقديم المسند إليه، والعناية بالمعد لهم، كانت الآية الوحيدة في نظائرها التى حذف فيها من - من تحتها الانهار - لوجود التأكيد والعناية فلا يحتاج إلى من التى ليست إلا للتأكيد مع أسماء الظروف. (1)
اتضح من الآية سيرة وتحليلاً علو الرتبة لأولئك المسلمين الأوائل في الدنيا والآخرة، وفي كل مجالات التضحية والبذل لنشرالاسلام ورفع رايته، ونقف الآن مع «وات» بما سور من صفحات في سيرتهم طمساً لكل أسس السيرة وقواعدها كما فهمنا من منهجه لنبين موقفه مع إسراع الرد وإيجازه عليه، وإن كنا بعد هذا العرض المصغر، لا نحتاج لدفعٍ، ولكن ما باليد حيلة.
ونبدأ كلام "وات" بهذه النظرية التي وضعها، حيث يقول: لما كان النُبل يكون مبدئياً في الإسلام على الإخلاص لقضية الأمة الإسلامية، فقد استغل المسلمون حقوق أجدادهم في النبل والكرامة، ولهذا يجب معالجة أخبار المسلمين الأوائل بحذر. فإذا ما وجدنا أن أحفاد شخص ما، أو المعجبين به يعلنون أنه كان من بين العشرة الأوائل، فمن الحذر الافتراض أنه كان على الأغلب الخامس والثلاثين بينهم (2).
وهذه النظرية من "وات" لا تحمل سوى التشكيك والسخرية التى حملته على التناقض والمغالطة ومخالفة الواقع والادعاء الباطل، إلخ .. ولذا صدق هذا النقد بقولنا:
أولاً: أن المسلمين يقوم إخلاصهم لقضية الإسلام على النبل، فإذا كان النبل هو الحامل على الإخلاص فلماذا لم يؤمن كفار قريش وفيهم من النبلاء كُثُر، فضلاً عن إخلاصهم للإسلام، خاصة وإن من كانوا نبلاء في الجاهلية (3)، كانوا هم النبلاء في الإسلام،
(1) انظر لما سبق ابن عاشور، التحرير والتنوير (10/ 17 - 19).
(2)
Mohammad at Mecca p. 86.
(3)
حديث خياركم في الإسلام خياركم في الجاهلية إذا فقهوا.
إن ذلك دليل من "وات" على عدم فهم قضايا دين الإسلام، ومقوماته ومبادئه، فكيف يهاجمه مدعياً العلم به، والتخصص فيه.
ثانياً: أن المسلمين استغلوا حقوق أجدادهم في النبل والكرامة، ليلحقوهم بالمسلمين الأُوَل؛ منذ متى كان المسلمون يستغلون حقوق الغير في النبل والكرامة، وكيف تُستغل؟! ولمصلحة من؟!
إن كلام "وات" يدل ابتداء على الجهل مرة أخرى بقضايا الإسلام، إذ أن إسلام شخص أو كفره، إنما هو له أو عليه، وأن المسلمين إنما يثبتون الصدق الذي أمرهم الله تعالى به، وينهون وينفون خلافه، وهو ما نهاهم الله تعالى عنه، ثم - وهي الطامة
ل"وات" - فليدلنا على واحد فقط من المؤمنين الموثقين المتقين استغل ذلك ليكذب، وينسب لأهل النبل شيئاً لم يكن.
وإن "وات" لم يأخذ حذره إذ لو قلنا ما مصلحة الحفيد أن يستغل نبل الجد وكرامته يقول "وات" ليثبت بهذا الاستغلال نبل الجد وكرامته نعم العقل إذا أو أنه من السابقين، وماذا فيها في منطقك ومنهجك أن نثبت للجد النبل بقية النبل ونعده بسبب نبله من المسلمين الأوائل دعنا من ذلك، ولنعكس القضية وهي الأهم مَنْ مِنْ الاحفاد قد استغل موقعه ومنصبه ليثبت لجده الكافر نبلاً وكرامة، أو إسلاماً وإخلاصاً وهذا ادعى وأهم، بل لقد ذكروا أجدادهم بكل ما علموا من كفر كما ذكروا أجداد غيرهم بما حازوا من إيمان.
والمعنى أن كتاب السير الاسلامية بالذات هم أجدر الناس وأحراهم بالكتابة الصحيحة المسندة، التى خضعت للنقد العلمى النزيه، سنداً ومتناً بما لم تشهد له البشرية نظيراً فكيف تتفق الروايات على الباطل وهي مختلفة الأسانيد، ثم هذا يخالف القواعد المنهجية التى وضعها المحدثون ليميزوا الصحيح المسند إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإلى غيره مما لم يصح
متنه، ولا تصح نسبته (1)، وهذه القواعد لا علاقة لها بالسياسة، ولا بالمجاملة، بل هي قواعد تعتنى بمعرفة الصحيح وغيره من حيث هو بغير علاقات أخرى، والدارسون لذلك من المستشرقين يعلمون ذلك لا يمارون فيه.
ثالثا: نرد على فكاهة "وات" كذلك وهي أن من المعجبين بشخص من يلفق له ويكذب أنه من السابقين الأوائل إلى الإسلام، والرد هو أن الأحفاد أو المعجبين بشخص لا يمكن أن يخفى كلامهم، وبالتالى لابد حسب منطق الاشياء أن يكون مجال أخذ ورد، إذ لابد أن يجد من يقول له كذبت ليس منهم أو أخطأت لم يكن سابقاً إلى الإسلام أما أن يجتمع كل هذه الالاف في كل الاقطار على ذلك، فلابد أن يكون صحيحاً، ولا نعلم من المعجبين بهم في ذلك إلا على بن أبى طالب حيث أورد له الشيعة، الصحيح والباطل، لينسبوا إليه ذلك، وهو رضي الله عنه ليس في حاجة إلى ذلك، وإن "وات" نفسه قد أثبت أنه من الأولين، وهي لطيفة من لطائف "وات" أن المعجبين والأحفاد أثبتوا له ذلك، ولم يتحفظ "وات" ولم يحذر كما يطلب منا.
أما الفكاهة الأصلية فهى أن "وات" يزعم أن كل من قيل عنه إنه من السابقين فهو الخامس والثلاثون في القائمة، ولا يدرى أي بحث هذا أم أنه يريد أن يضحكنا ولمَ الخامس والثلاثون وليس الرابع والثلاثين، حتى سخريته وفكاهته لا تحمل إلا الكذب ومخالفة الواقع إذ أن الخامس والثلاثين في القائمة ليس أياً ممن ذكر "وات".
أم أن المتقدمين الأوائل رضوان الله عليهم قد حجزوا المقعد الخامس والثلاثين لمن سيأتى من الأحفاد والمعجبين ليضعوا فيه جدهم أو محل أعجابهم!؟ فخالفوا ذلك ووضعوهم في العشرة الأوائل، أو ضاق المقعد بالمعجبين فوزعوهم على المقاعد الأولى الفارغة!!؟
(1) انظر عبد الله النعيم، الاستشراق في السيرة النبوية (83).
رابعاً: يذكر "وات": ومثلاً قول الطبرى إنه بعد هؤلاء الثلاثة، على وزيد وأبو بكر الذين كانوا أول من انتمى إلى الإسلام يأتى عدد من المسلمين الذين جاء بهم أبو بكر موضع شك؛ لأن هؤلاء الرجال المذكورين هم في الحقيقة الخمسة الذين أصبحوا القادة على حين وفاة عمر، فقد عينهم لتأمين انتخاب الخليفة. وإنه من الصعب القول بأن هؤلاء الخمسة أنفسهم قد جاؤوا معاً إلى محمد قبل عشرين سنة عند بدء الإسلام. وأسماؤهم هي عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، عبد الرحمن بن عوف، سعد بن أبى وقاص، طلحة بن عبيد الله. (1)
والرد على "وات" أين الحذر من الأحفاد والمعجبين في هذه القصة، وأين هم أصلاً ليضعوا هؤلاء الخمسة في السابقين إلى الإسلام.
إنهم كانوا من السابقين حقاً إلى إلاسلام، وإلا فأين مصادر "وات" التى تثبت خلاف ذلك وليس له إلا مصادر الإسلام، وقد انتفى حذره من الأحفاد والمعجبين، فماذا بقى له من تخوف لتكون المصادر قد نقلت الحق والواقع كما هو، أم أنه كان يريد أن يلفقوا له مصادر تنفى الحق لتكون حقاً في نظره عجيبة طريقة البحث هذه ليست بحثاً إنها تشكيك لا سند له ولا منطق ليت لهذا التشكيك - بعد كلامه هو - ذرة من دليل يؤيده والمتصور المعقول هو أن عمر رضي الله عنه قد اختار هؤلاء الخمسة لسبقهم إلى الإسلام إذ تلك عادته في تقديم الصحابة ومجلس مشورته، فإذا بفعل عمر هذا عند "وات" يصبح مادة الاشتباه في صحة سبق هؤلاء الخمسة إلى الإسلام، وتلك عجيبة العجائب في قلب الحقائق رأساً على عقب. فبدلاً من أن تكون الحادثة دليل سبقهم صارت شبهة عدم سبقهم!! (2)
(1) moh. At mecca 86 - 87 ، op. cit pp. 86 - 87.
(2)
انظر عبد الله النعيم، الاستشراق في السيرة (83 - 84).
ثم يقال ل"وات"، ما موضع الشك في الحادثة أي في اتيان هؤلاء الخمسة ليسلموا قبل عشرين سنة، وهي في الحساب خطأ من "وات" إذ لو حسبنا عُمْرَ دعوة النبي بثلاث وعشرين سنة وخلافة أبى بكر بسنتين ونصف وعمر أكثر من عشر سنين لكان الحساب الصحيح انهم أتو النبي صلى الله عليه وسلم قبل خمسة وثلاثين عاماً ما المانع في ذلك عقلاً أو عادة أو واقعاً أو على أي نحو من مناحى المنطق، لقد جاء على بن أبى طالب ليُسْلِمَ قبل ثمانية وخمسين عاماً من عند بدء خلافته رضي الله عنه، وهذه لا يمارى فيها "وات".
وما رأى "وات" - وهو يعلم ذلك - أن هؤلاء الخمسة من العشرة الذين بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة في حياته المكرمة، فليس إذن في حاجة إلى أحفاد ولا معجبين ليضعوهم في العشرة الاوائل في الإسلام بعدما وضعهم الله جل وعلا على لسان نبيه في هذا الإخبار بالغيب ضمن عشرة لا مقدم عليهم.
ثم النظرة الأخيرة - وليس للكلام مع "وات" آخر - كما ذكرنا إذ في كل سطر مما كتب ضلال تفنى الحياة ولم يستكمل المرء رده عليه، وهو من قدم على هؤلاء المكرمين أحداً أو قال لقد سبقهم فلان أو فلان إلى يومنا هذا، فلم الشغب بما يهمله الواقع ولا نتيجة له إلا الخزى والباطل بما هذا البحث لا طائل تحته من "وات"، لأنه بحث لم يؤد إلى نتيجة وفائدة، بل على العكس خالف الواقع وفهم هذا الواقع، استخرج لنا"وات"، أو اكتشف سبباً جديداً آخر لسبق هؤلاء إلى الإسلام، ألا وهو الصراع الطبقى، وهو من المناهج التى ظهرت في القرن الأخير، وطبقها "وات" بمنهج الإسقاط وهو أن يسقط هذا الجديد على ما مضى من خمسة عشر قرناً، إن البيئة القديمة لم تسمع بهذا المصطلح، فضلاً عن أن تطبقه أو أن تدعو إليه، أو أن تفسر الأحداث، أو أن يكون له واقع تفلسف به الأمور حتى عند إهمال المصطلحات والنظر إلى معانيها ومضامينها.
إن تطبيق المصطلحات الجديدة، وفي بيئاتها الجديدة، والتى هي مختلفة عن البيئات القديمة وعن البيئات العربية بالذات، لهو بحث فيما لا علاقة له بالبحث، إنه إمساك بأطراف غريبة أجنبية عن البحث تؤدى إلى نتيجة لا نسب بينها وبين ما بحثت فيه، وليست النتيجة في النهاية إلا من عمل الباحث وفي عقله، وما يريد ويهوى لا بما يقوده إليه البحث هذا إن اعتبرنا أن البحث في هذه الطريق لا علاقة بالأبحاث أصلاً.
ذلكم «وات» ، وليته جعل إسلام الطبقات الدنيا هي صاحبة المشكلة، فاصطدم بأن وجد السابقين ليسوا كلهم من الفقراء الذين لهم مآرب في مصارعة الأغنياء للحصول على فرص متكافئة.
ومن ثم ركز صراعه وهو عجيب بين الطبقة الوسطى والتى أعلى منها، وهو على حد علمنا كما بينه أصحابه المحدثون لا علاقة له بالصراع الطبقى الذى ينشأ ونشأ على بحث الغربيين في الصراع في أوربا. بعد هذه المقدمة نرجع إلى كلامه "وات" نفسه لنناقشه حيث يقول: إن الإسلام لم يستمد قوته من رجال الطبقة السفلى من السلم الاجتماعى، بل من أولئك الذين كانوا في الطبقة الوسطى، وأدركوا الفارق بينهم وبين أصحاب الامتيازات في الذروة، فأخذوا يقنعون أنفسهم بأنهم أقل امتيازاً منهم، فنشأ صراع ليس بين المالكين والمعوزين بل بين المالكين والذين أقل منهم.
وهنا نرى"وات"، يحدثنا عن متناقضات، وأمور لم تحدث، وواقع لم نسمع به مخالف على أقل تقدير لما نقله أصحاب السيرة، فضلاً عن مخالفته لدعوة الإسلام ومبادئه أما الأمور التى لم تحدث فهى أن هذه الطبقة المتوسطة أخذت تفنع نفسها بأنها أقل امتيازاً من الأعلى حتى نشأ الصراع، ولم يخبرنا "وات" كعادته بمصدر واحد استقى منه هذه المعلومات، التى لا شك في انتشارها إذ هي مبادئ الصراع وأفكاره.
ثانياً: أن شباباً من أفضل العائلات في مكة قد انتمى للإسلام، وخير مثال هو خالد بن سعيد بن العاص هذا كلام "وات" بنصه فما الذى حمل هؤلاء وهم أعلى درجات السلم الاجتماعى على الإسلام؟ وما هو الصراع الطبقى الذى أخذوا يحدثون به أنفسهم؟ بل أين حظ هذا الكلام من واقع ملموس نتشبث به في وقوع تفكير من ذلك فضلاً عن حدوثه؟ إن الواقع وانتشاره من الأدلة على أن تلك الأحداث لها حظ من الحقيقة كان على "وات" أن يبحث عن الأسباب الكامنة وراء إسلامهم، ليعطى للبحث شيئاً من القيمة والمصداقية، إن الخواء الروحى، والتطلع إلى ما يملأ القلب ويروى هذا الظمأ الروحى القلبى كان السبب المباشر، إذ لا يعقل أن يترك هؤلاء حياة الرفاهية والعلو الاجتماعى والسياسي، ثم بعد ذلك يحاربون لتحصيلها مرة أخرى هذا شيء أشبه بالخيال والعبث واللامعقول.
أما مخالفة مبادئ هذا الدين فتظهر مما يلى:
1 -
أن الإسلام جاء ليدعو الناس كافة إلى توحيد الله وعبادته، ولا يعدهم بشيء إلا الجنة كما ذكرت السيرة في مبايعات الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يفرق في الدعوة إلى الإسلام بين فئة وأخرى وهي دعوته إلى أن لقى الله عز وجل، ودخل من دخل فيها وهو يعلم تبعات ذلك ومشقاته كما أشرنا ونشير إن شاء الله تعالى.
2 -
أن تفكير المؤمنين وتحركاتهم كل ذلك مرجعه إلى أمر الله تعالى ورسوله، وأن أفكارهم وحياتهم قد صيغت على نحو جديد لا علاقة له بالموروث الجاهلى المخالف، وما كان ليأمر بذلك ويحدده، ويصير صاحبه مسلماً إلا باتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فأين ذلك في دينه وجهاده وحياته حتى انتقاله إلى الرفيق الأعلى؟ إن المسلمين لم يكونوا ليفكروا أو ينشئوا شيئاً من بنات أفكارهم أو علاقتهم دون إذنه أو أمره، إن ذلك من "وات" تفريغ الدعوة من ارتباطها بالسماء وأنها وحى يوحى من الله، كما هو دأبه في دراسة السيرة.
إن ما ظهر من دراسة السيرة في السنة النبوية والقرآن الكريم كما وضحنا لتظهر القيمة العليا لأولئك الأبرار الأُول الذين لم يكن لهم هم ولا توقع ولا انتظار لدينا حتى يشغلهم صراع طبقى مدعى، أو غيره مما لا يسير إلى نفس الاهداف وبالطريقة التى حددها لهم الله تعالى.
إنما كان شغلهم الدائم هو: {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21)} [الغاشية: 21]، مهما لاقوا في سبيل ذلك لا يثنيهم عن المضى فيه شيء، قدوتهم الرسول صلى الله عليه وسلم كل ذلك ابتغاء وجه الله الأعلى.
إن قضية الإسلام كانت تعترضها أفكار الملأ وتخوفاتهم على زعامتهم أن تنقل لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم عندما يدينون له بالطاعة لله، وهو ما رفضوه اعتباراً لدين آبائهم وتقاليدهم وخشية على مصالحهم وزعامتهم، أما الشباب فلم يكونوا على هذا الفكر، خاصة مع البحث واللهث عن الحق الذى يدينون به والذى لم يجدوه في يهودية ولا مسيحية وأصنام.
نكتفى بالرد عند هذا الحد على "وات" خاصة، وأن كلامه لن يغير من الواقع والتاريخ شيئاً، ولا هو يزيد علماً ومعرفة وتبيينا لحقائق التاريخ، فهو لا يزيد على قليل من الغبار الاسود الداكن يود أن يحجب به وجه الشمس المشرق، وأن يلوى به أعناق البحث العلمى الصلب المتأبى على التدليس.